مجلة الرسالة/العدد 730/الفلاسفة الإسلاميون

مجلة الرسالة/العدد 730/الفلاسفة الإسلاميون

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1947



بين المعتزلة والآشاعرة

للأستاذ علي مصطفى الغرابي

هذه هي المدارس الثلاث (مدرسة المعتزلة والفلاسفة الإسلاميون والأشاعرة) التي حملت لواء التفكير العقلي للثقافة الإسلامية تحت ظل الإسلام وفي كنفه، ثلاث مدارس كبرى لها مجهود جبار أخرج لنا هذا الكنز الثمين للثقافة العقلية الإسلامية. وكانت غاية هذه المدارس الثلاث واحدة، وهي الوصول إلى معرفة موجد هذا الكون، وعلاقة موجده به، وإلى تعليل وقوع الخير والشر فيه، وكذا علاقة الإنسان بهذا الموجد، وإلى أي مدى تمتد قدرة الإنسان، وهل للإنسان استقلال بأفعاله أو هو مظهر من مظاهر قدرة الله لا غير، ولا شأن له في نفسه.

هذه هي المشاكل التي تعرضت لها هذه المدارس، واختلفت حلولها لها تبعاً لاختلاف مناهجها في الوصول إلى هذه الغاية. وبمقدار قرب المنهج الذي سلكته كل واحدة للوصول إلى غايتها أو بعده من منهج الأخرى كانت أوجه الشبه بينهم قرباً وبعداً.

ولأجل أن يكون حكمنا صحيحاً يجب أن نتعرف نشأة كل واحدة باختصار لنكشف عن بيئاتها التي كان لها التأثير على ثقافتها، لهذا سنضطر إلى الكلام على نشأة كل واحدة باختصار ولنبدأ أولاً بمدرستي المتكلمين لاتصال حياتهما الثقافية اتصالاً وثيقاً.

نشأة المعتزلة:

في درس الحسن البصري الذي جلس يلقي دروسه الشفوية الجامعة بين أصول الدين وفروعه، وبين الدين من جانب، والسياسة من جانب آخر وفي مسجد البصرة، ومن بين تلامذته، وفي أواخر القرن الأول الهجري وأوائل الثاني منه، نشأت فكرة الاعتزال، أو بذرت أول بذرة لهذه الدوحة العظيمة التي صارت فيما بعد مدرسة كبرى من مدارس الثقافة الإسلامية.

كانت هذه الفكرة في أول أمرها بسيطة، خلاف قام بين الأستاذ وتلميذه (واصل بين عطاء) على مرتكب الكبيرة من المسلمين حين جاءه رجل يسأله عن شأن مرتكبها - حيث كانت هناك طائفة تقول (بكفره) وهم الخوارج وأخرى تقول بإيمانه - وهم جمهور المسلمين - وثالثة تركت أمره إلى الله سبحانه ولم تحكم عليه بإيمان ولا كفر، وقبل أن يجيب الحسن البصري أستاذ واصل والذي كان يسمى صاحب الكبيرة (منافقاً) أجاب واصل بأنه (في منزلة بين المنزلتين، فليس بمؤمن ولا كافر، لأنه لم يجمع كل أجزاء الإيمان حتى يكون مؤمناً، ولم يفقد كل أجزائه حتى يكون كافراً، فالأولى أن يسمى (فاسقاً) لا مؤمناً، ولا كافراً، ولا منافقاً، - وسيبقى هذا الرأي أصلاً من أصولهم المجمع عليها. وعندئذ قام واصل إلى اسطوانة من مسجد البصرة وأخذ يقرر على بعض زملائه من تلامذة الحسن بعض أفكاره، ويقال إن لحسن لما رأى منه ذلك قال. (اعتزلنا واصل) فسموا (معتزلة) لهذا، وهناك آراء أخرى في تعليل إطلاق هذا الاسم عليهم، في هذا الوقت لم يكن واصل يفكر أن خلافه هذا مع أستاذه سيكون مدرسة من مدارس الإسلام الكبرى وأنه سيتفرع منها مدارس أخرى - على حسب التأثير الذي تأثرت به كل مدرسة من الثقافات الأجنبية المختلفة، حتى أصبحت طبقات هذه الطائفة (المعتزلة) عشرين طبقة بينها خلاف في بعض الفروع هو أساس تفرقها، وإن كانوا جميعاً على أصول سنذكرها فيما بعد.

وإذا بحثنا عن منشأ هذه الفكرة - فكرة مرتكب الكبيرة - نجد أن الخلاف السياسي الذي قام بين المسلمين بعد قتل (عثمان رضي الله عنه) هو السبب في وجودها حيث أخذت كل طائفة تخطئ الأخرى معتقدة أن الحق في جانبها. . .

إذن كانت مهمة هذه المدرسة في أول نشأتها الدفاع عن رأي سياسي سببه الخلاف بين المسلمين، ولما مرنت هذه المدرسة - وبعبارة أخرى مرن أصحابها - وآنست من نفسها القدرة عليه، وعلى الجدل ضد الخصوم - وإن كانوا من طوائف أخرى لا تدين بدين المسلمين - لما مرنت على هذه قامت بواجبها بجانب الجيش الذي يدافع عن هذه الدعوة الإسلامية بالسيف، ولكن كان دفاع هذه الطائفة بالحجة والدليل، دخلت أمم كثيرة تحت لواء الإسلام، وكانت هذه الأمم أصحاب عقائد دينية وثقافات فكرية ولهم شبه: إما نشأت في دينهم الجديد وبقيت معهم بعد إسلامهم، وإما نشأت من مقارنة دينهم الجديد بدياناتهم التي وروثها عن أسلافهم. ومن يقوم بالدفاع والإجابة على هذه الشبه؟

قام بهذا المعتزلة، وأبلوا في هذا بلاء حسناً، ولهذا سنجد من أصولهم التي لابد منها لمن يستحق أن يلقب بلقب بـ (معتزلي) (مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وأظن إن هذا المبدأ لم تكن له هذه القيمة وهذا الشأن عندهم إلا من وظيفتهم هذه! ولكن متى يكون الجيش المدافع قوياً أمام من يهاجمه؟

حينما يكون مسلحاً - طبعاً - بسلاح خصمه، ولقد كان هذا الخصم مزوداً بالفلسفة الإغريقية التي كانت قائمة على الجدل المنطقي المنظم والعقل الحر، والتي انتفعت بها جميع الأمم على اختلاف أجناسها وعقائدها، فبينما نجد اليهود (من عهد فيلون - الذي عاش ما بين سنة أربعين قبل الميلاد وأربعين بعده، قد مزجوا الدين بالفلسفة حتى ادعوا أن الفلسفة الإغريقية والديانة الموسوية من أصل واحد، إذ بنا نرى الأفلاطونية الحديثة التي بدأت بتاريخ أفلوطين المتوفى سنة 270م، تمزجها بالدين المسيحي مزجاً، وإذا بالنساطرة واليعاقبة الذين ورثوا نظريات هذه المدرسة (الأفلاطونية الحديثة) والذين كانوا يقيمون في بلاد فارس والعراق وسوريا حين الفتح الإسلامي ينكبون على دراسة الفلسفة حتى كانوا واسطة في نقلها للمسلمين. وسنتكلم في مقال آخر عن موقف المعتزلة من هذه الفلسفة.

علي مصطفى الغزالي

أستاذ في الفلسفة وعلم الكلام ومدرس بكلية أصول الدين