مجموعة الرسائل والمسائل/حقيقة مذهب الاتحاديين/رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله
رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله
وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق العالم الرباني الغوث السابع في الشمعة من أنه قال: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام الخ، فالكلام عليه من وجوه:
أحدها: أن تسمية قائل مثل هذا المقال محققا وعالما وربانيا عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود ولا النصارى ولا عباد الأوثان، فإن كان الذي قاله مسلوب العقل كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلا فجرأة على الله الذي يقول (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا أدا، تكاد السموات يتفطرن منه) إلى آخر الآيات وقال (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول) إلى قوله (الظالمين) وقال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم) إلى قوله (وإليه المصير) فإذا كان هذا قوله فيمن يقول إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول إنهم أهداب جفنه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الوجه الثاني: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين مشترك بين الشيء وبين العضو المبصر وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر.
ثم قال في آخر كلامه: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه. فهذا من العين بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال نبعت العين وفاضت وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان فوجدتا عشرة مثاقيل وذهبها خالص، وسبب هذا أنه كثيرا ما كان يتصرف في حروف بلا معان.
الوجه الثالث: أنه تناقض من وجه آخر فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه: والله هو نور العين، كان الله جزءا من العين أو صفة له، فقد جعل في أول كلامه العالم جزءا من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزء من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين، أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءا فكيف من جعل عباده تارة جزءا منه تارة جعله هو جزءا منهم؟ فلعن الله أرباب هذه المقالات وانتصر لنفسه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم.
الوجه الرابع: إنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال العين: ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعينا في جميع العالم، فإذا قال بعدها وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين من الأجفان والأهداب والسواد والبياض لم يتعين فيها، فقد جعله متعينا فيها غير متعين فيها.
الوجه الخامس: أن نور العين مفتقر إلى العين محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين وجب أن يكون محتاجا إلى العالم.
واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية الذين يقولون هو في العالم كالماء في الصوفة وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية الذين كفرهم أئمة الإسلام. وحكى عن الجهم أنه كان يقول هو مثل هذا الهواء، أو قال هو هذا الهواء.
وقوله أولا: هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية فإن الاتحادية يقولون هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة، ولهذا كان صاحب هذه المقالات متخبطا لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين. فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة وفيهم المتخلي عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
الوجه السادس: قوله من العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا. وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون إن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، واللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين فإن هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية، وأولئك إنما يصل إلى البلاغ الأكبر الذي هو آخر المراتب خواصهم. ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة أنه كان يقول ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف، فقلت له: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد. وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل قوله أن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء.
فيقال له: إذا ارتفعت العلويات والسفليات فما تعني بانبساطه؟ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان؟ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود؟ وما الذي ينبسط حينئذ؟ هو نفس الله أم صفة من صفاته؟ وعلى أي شيء ينبسط؟ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر؟
فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت: وإنما قلنا أن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان لتفرق نور عينه وانتشر بحيث لا يرى شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسلفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا.
وقد قلت: إن الله هو نور العين والروح الأعظم بياضها والنفس الكلية سوادها. ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطا في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتا غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية، فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها. وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع، وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلونه وجودا قائما بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضا وجود المخلوقات بمعنى أنه فاض عليها. وهذا أقل كفرا من الأول، وأن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه.
وفي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول. وكذلك كلام هذا فإنه قد يشير إلى هذا المعنى.
ثم مع ذلك هل يجعلون وجوده مشروطا بوجود العالم فيكون محتاجا إلى العالم أو لا يجعلون؟ قد يقولون هذا وقد يقولون هذا.
مدحهم للكفر والضلال وجعلهم الكفار أعلم بالله من الأنبياء
السابع: أنهم يمدحون الضلال والحيرة والظلم والخطأ والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلبا يعلم فساده بضرورات العقول، مثل قول صاحب الفصوص: لو أن نوحا ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا - إلى أن قال: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبيوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه.
فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه ونهى عنه، ويأتون من الأفك والفرية على الله الإلحاد في أسماء الله وآياته بما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، كقول صاحب "الفصوص" في فص نوح: " مما خطيئاتهم أغرقوا " فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العالم بالله وهو الحيرة (فادخلوا نارا) في عين الماء في المحمدتين، (فإذا البحار سجرت - سجرت التنور إذا أوقدته (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين) الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلبا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر (ديارا) أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة (إنك إن تذرهم) أي تدعهم وتتركهم (يضلوا عبادك) أي يحيروهم ويخرجوهم من العبودية، إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أربابا، بعدما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب (ولا يلدوا) أي ما ينتجون ولا يظهرون (إلا فاجرا) أي مظهر ما ستر (كفارا) أي ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فينظرون ما سترهم ثم يسترون بعد ظهوره. فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره، والشخص وحد (رب اغفر لي) أي استرني واستر مراحلي، فيجعل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك " وما قدروا لله حق قدره " (ولوالدي) أي من كنت تنتجه عنهما وهما العقل والطبيعة (ولمن دخل بيتي) أي قلبي (مؤمنا) مصدقا بما يكون فيه من الأخبار الإلهية، وهو ما حدثت به أنفسها (وللمؤمنين) من العقول (والمؤمنات) من النفوس (ولا تزد الظالمين) من الظلمات أهل العنت المكتنفين داخل الحجب الظلمانية (إلا تبارا) أي هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم. اهـ.
زعمهم أن كلامهم وحي من الله لهم أو من النبي مناما
وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وأنهم (يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم وزعموا أنها من عند الله، تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكون فوق النبي بدرجة، وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في عمله بنفسه بمنزله علم الله به، لأن الأخذ من معدن واحد، وتارة يزعم أحدهم أن النبي ﷺ أعطاه في منامه هذا النفاق العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه كما حد له رسول الله ﷺ من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء - حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له - يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال كان يتعمد الكذب، وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر. وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب غير واحد من عقلاء الناس وفضلائهم من المشايخ والعلماء.
ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله وأنه من أحق الناس بقوله (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) وكثير من المتنبئين الكذابين كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد، بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي ﷺ ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعي أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب وأشركوا به كل شيء وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي ﷺ من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولياء.
زعمهم أن القرآن كله شرك، وذمهم للصراط المستقيم
وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا.
وأما الضلال والحيرة فما مدح لله ذلك قط ولا قول النبي ﷺ " زدني فيك تحيرا " ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استوته الشياطين في الأرض حيران) الآية.
وهكذا يريد هؤلاء الضالون المتحيرون أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان والأصنام وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا وقال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - إلى قوله - يعمهون) أي يحارون ويترددون وقال تعالى (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فأمر بأن نسأله هداية الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين. وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة، مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب.
فصل في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه، فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه
قال في فص يوسف - بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص، وتناقض في التشبيه: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق، فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق، لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك. وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفس الأمر. ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال، لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك؟ وما نسبتك إلى الحق وبما أنت حق وبما أنت عالم وسوى وغير؟ وماشا كل هذه الألفاظ.
وقال في أول الفصوص بعد (فص حكمة إلهية في كلمة آدمية) وهو (فص حكمة نفثية، في كلمة شيئية): "وقد قسم العطاء بأمر الله، وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال وذكر القسم الذي لإنسان لأن شيئا هو هبة الله - إلى أن قال - ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلا وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر، وهم على قسمين: منهم من يعلم ذلك مجملا، ومنهم من يعلم ذلك مفصلا، والذي يعلمه مفصلا أعلا وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه، إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وغن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلا، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به، لأن الأخذ من معدن واحد، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك (أي على أحوال عينه) فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها، لأنها نسب ذاتية لا صورة لها، فبهذا القدر نقول: أن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول (الله حتى نعلم) وهي كلمة محققة المعنى، ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب، وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق، وهو أعلا وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة، لولا أنه أثبت العلم زائدا على الذات فجعل التعلق له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود".
قول ابن عربي في الأعطيات الذاتية والأسمائية
"ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو اسمائية، فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدا إلا عن تجلي إلهي، والتجلي من الذات لا يكون أبدا إلا لصورة استعداد العبد المتجلى به، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه، كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها، فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذتي، ليعلم المتجلى له أنه ما رآه، وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا، وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدا البتة، حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرئي ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة، هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه. وقد بينا هذا في "الفتوحات المكية"، وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلا من هذا الدرج فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه فاختلط الأمر وانبهم، فمنا من جهل في علمه فقال والعجز عن درك الإدراك إدراك ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول وهو أعلا القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلا عالم بالله.
تفضيل ابن عربي نفسه على الصديق مطلقا، وعلى النبي ﷺ مقيدا
"وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا. والمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء، وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلا. وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أساري بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة. وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم، وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه".
بيان ما في هذا الفص من الكفر بالألوهية والربوبية والإزراء بالرسالة
"ولما مثل النبي ﷺ النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي ﷺ تلك اللبنة، غير أنه ﷺ لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية ما مثل به رسول الله ﷺ فيرى في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة ذهب ولبنة فضة، فلا بد من أن يري نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك للبنتين، ليكمل الحائط.
"والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه رأى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول.
"فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله ﷺ " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلى حين بعث. وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد.
"فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية مثل نسبة الأنبياء والرسل معه، وأنه الولي الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد المراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد ﷺ، مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين بشفاعته حالا خاصا ما عمم. وفي هذا لحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية. فإن الرحمن ما شفع عند المتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص.
"فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام ". اهـ.
رد مذهب ابن عربي من وجوه
فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبنى عليها سائر كلامه فتدبر ما فيه من الكفر الذي (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) وما فيه من جحد خلق الله وأمره، وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه،، وما فيه من الإزراء برسله وصديقيه والتقدم عليهم بالدعاوي الكاذبة، التي ليس عليها حجة، بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان، وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن، وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه.
أحدها: أنه أثبت له عينا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجودا من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده. وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم.
الثاني: أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد، لا من نفسه المقدسة، وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك، وأن هذا هو سر القدر. فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه، ونفى ما استحقه بنفسه من كمال علمه وقدرته، ولزوم التجهيل والتعجيز، وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية، فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها، وجعل الرب مفتقرا إليه في علمه بها، فما استفاد علمه بها إلا منها، كما يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غنى تلك المدركات عن المدرك. والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي الذي هو من لوازم نفسه المقدسة لم يستفد علمه بها منها (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) فقد دلت هذه الآية على وجوب علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياسي العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم.
أحدها: أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل كونها في الخارج.
الثاني: أن ذلك مستلزم للإرادة والمشيئة، والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام.
الثالث: أنها صادرة عنه وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه.
الرابع: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها كما هو غني بنفسه في جميع صفاته. ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها وسمع كلام عباده ونحو ذلك فإنما يدرك ما أبدع وما خلق وما هو مفتقر إليه ومحتاج من جميع وجوهه، لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة. فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة الغنية في ثبوتها عنه.
ما تضمنه كلامه من جحود قدرة الرب وتسميته بسر القدر
وأما جحود قدرته فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم الغنية عنه، فقدرته محدودة بها مقصورة عليها مع غناها وثبوت حقائقها بدونه. وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق، فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة ولا ينقص منه ذرة، ولا يزيد في المطر قطرة ولا ينقص منه قطرة، ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه، ولا يغير شيئا من صفاته ولا حركاته ولا سكناته، ولا ينقل حجرا عن مقره، ولا يحول ماء عن ممره، ولا يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، ولا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا. ففي الحملة لا يقدر إلا على ما وجد، لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان.
ما انفرد به ابن عربي من الكفر الذي لم يسبق إليه
وهذا التجلي والتعجيز الذي ذكره وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين. فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن، ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفادا من الأشياء قبل أن يكون وجودها، ولا خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها، فإنه يعلم أنواعا من الممكنات لم يخلقها. فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه، ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود، بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى، هي أيضا من الممكن الثابت في العدم. فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل ولا إلى تعجيز من هذا الوجه. وإنما قد يقولون المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها، فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته فيجعلون المانع أمرا يعود إلى نفسه المقدسة حتى لا يجعلونه ممنوعا من غيره، فأين من لا يجعل له مانعا من غيره ولا راد لقضائه ممن يجعله ممنوعا مصدودا؟ وأين من يجعله عالما بنفسه ممن يجعله مستفيدا للعلم من غيره؟ وممن هو عني عنه؟ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم.
الثالث: أنه زعم أن من الصنف الذي جعله أعلا أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله، لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم فيعلمها من حيث علمها الله، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد.
الرابع: أنه جعل الله عالما بها بعد أن لم يكن عالما واتبع المتشابه الذي هو قوله: "حتى يعلم" وزعم أنها كلمة محققة المعنى بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب، فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه فهو الله علم ما لم يكن علمه وهذا الفكر ما سبقه إليه كافر، فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول إن الله علم ما لم يكن عالما، أما أنه يجعل كل ما تجد لمخلوق من العلم فإنما تجدد لله، وأن الله لم يكن عالما بما علمه كل مخلوق حتى علمه ذلك المخلوق.
الخامس: أنه زعم أن التجلي الذاتي بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه، وضرب المثل بالمرآة فجعل الحق هو المرآة والصورة في المرآة هي صورته.
ملخص مذهب ابن عربي مع بيان كفره وبطلانه
وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق، والأعيان كانت ثابتة في العدم، فظهر فيها وجود الحق بالمتجلى له، والعبد لا يرى الوجود مجردا عن الذوات، ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود، فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبدا، وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها. وذلك لأن العبد لا يري نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق الذي هو وجوده، والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات التي بين الأعيان وبين وجود الحق، وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم، وظهور هذه الأحكام يتجلى الحق في الأعيان، والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق التي بها يرى أسماءه وظهور أحكامها، فإنه إذا ظهر في الأعيان حصلت النسبة التي بين الوجود والأعيان وهي الأسماء، وظهرت أحكامها وهي الأعيان، ووجود هذه الأعيان هو الحق، فلهذا قال وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم.
فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه، وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات، وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان، وأحكامها هي الأعيان. لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود لله ولأسمائه ولصفاته وخلقه وأمره، وعلى الإلحاد في أسماء الله وآياته، فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته الآيات المخلوقة والآيات المتلوة، فإنه لم يثبت له اسما ولا آية، إذ ليس إلا وجودا واحدا وذاك ليس هو اسما ولا آية، والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته، ولما أثبتت شيئين فرق بينها الوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم.
دعوى ابن عربي أن المرسلين يأخذون من مشكاته
وهذه حقيقة قوله وسر مذهبه الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق الذي جهل فقال: العجز عن الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين الذين علموا ذلك من مشاكته وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها. (منها) الكفر بذات الله إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق (ومنها) الكفر بأسماء الله وأنها ليست عنده إلا أمور عدميه فإذا قلنا الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فليس الرب إلا نسبة إلى...
السادس: أنه قال واختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال.
كذب الجاهلين على آل البيت والصحابة في النقل
قال: فمنا من جهل علمه فقال العجز عن درك الإدراك إدراك. وهذا الكلام مشهور عندهم ونسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلا وإن كان هذا اللفظ لم ينقل عن أبي بكر ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى وإنما يرسل إرسالا من جهة من يكثر الخطأ في مراسليهم، كما يحكون عن عمر أنه قال: كان النبي ﷺ وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما ". وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة، وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله ﷺ على المنبر " فقال إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله " فبكى أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال، فجعل الناس يقولون: عجبا لهذا الشيخ يبكي إن ذكر رسول الله ﷺ عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة. فكان رسول الله ﷺ هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله ﷺ ومقاصده في كلامه. وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه.
وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلي عليه السلام: هل ترك عندكم رسول الله ﷺ شيئا؟ وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس؟ فقال " لا والذي فلق الحبة وبرا النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة " وبهذا ونحوه من الأحاديث الصحيحة استدل العلماء على أن ما ذكر عن علي وأهل البيت من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي ﷺ دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر من الجفر والبطاقة والجدول، وغير ذلك وما أثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره. وكذلك كذب على عليه السلام وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم، كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع.
وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره وأن النبي ﷺ كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره. ثم قد يدعون أنهم عرفوها وتكون حقيقتها زندقة وإلحادا. وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة " حفظت عن رسول الله ﷺ جرابين أحدهما فبثثته فيكم. وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم " وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده ومعرفة الله وتوحيده الذي يختص به أولياؤه، ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به، بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين، فإن النبي ﷺ أخبرهم بما سيكون من الفتن بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار.
ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت وغير ذلك لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم. وكذلك يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كان كانوا في غزوة تبوك. ويقال إنهم كانوا أهموا بالفتك بالنبي ﷺ فأوحى إلى النبي ﷺ أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم. ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة، لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها.
كان سر النبي ﷺ كعلانيته، وما أخبر به حذيفة
وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة أنه لما ذكر الفتن وأنه أعلم الناس بها بين أن النبي ﷺ لم يخصه بحديثها ولكن حدث الناس كلهم، قال " وكنا أعلمنا أحفظنا ".
ومما بين هذا أن في السنن أن النبي ﷺ كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي ﷺ ليبايعه، فتوقف عنه النبي ﷺ ساعة، ثم بايعه وقال " أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه " فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، هلا أومأت إلي؟ فقال " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " فهذا ونحوه مما يبين أن النبي ﷺ يستوي ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنكسة ونحوهم.