مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد
الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد
عدلوقد روى الترمذي حديثا صحيحًا عن النبي ﷺ أنه علم رجلا أن يدعو فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتى ليقضيها لي، اللهم شفعه في). وروى النسائي نحو هذا الدعاء.
وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضريرًا أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: (إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك). فقال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه لتقضى، اللهم فشفعه في) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه: أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصرى. قال: (فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصرى، اللهم فشفعه في) قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره.
وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرًا أتى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يعافيني، فقال: (إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك) قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلى ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى، اللهم فشفعني فيه وشفعه في). قال: ففعل الرجل فبرأ.
فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء.
فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقًا حيا وميتا. وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله، أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضى حوائجهم، ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم، ولا إلى أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله تعالى يقضى حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول، كما يقضى حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول ﷺ؛ إذ كلاهما متوسل به عندهم، ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي ﷺ فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم. وقول هؤلاء باطل شرعًا وقدرًا، فلا هم موافقون لشرع الله، ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله.
ومن الناس من يقولون: هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعًا وقدرًا بين من دعا له النبي ﷺ وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر.
وهذا الأعمى شفع له النبي ﷺ، فلهذا قال في دعائه: (اللهم فشفعه في). فعلم أنه شفيع فيه، ولفظه: (إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك)، فقال: ادع لي؛ فهو طلب من النبي ﷺ أن يدعو له، فأمره النبي ﷺ أن يصلى، ويدعو هو أيضا لنفسه ويقول في دعائه: (اللهم فشفعه في)، فدل ذلك على أن معنى قوله: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد) أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا.
فالحديثان معناهما واحد، فهو ﷺ علم رجلا أن يتوسل به في حياته، كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه.
فلو كان التوسل به حيًا وميتًا سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول، كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله.
وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع، وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه.
ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًا هو الطلب لدعائه وشفاعته وهو من جنس مسألته أن يدعو لهم، وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله ﷺ في حياته أن يدعو لهم.
وأما بعد موته، فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء، لا عند قبره ولا عند غير قبره، كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم الميت حاجته، أو يقسم على الله به ونحو ذلك، وإن كان قد روى في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين، بل طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن، حتى قال رسول الله ﷺ لعمر لما استأذنه في العمرة: (لا تنسنا يا أخي من دعائك) إن صح الحديث وحتى أمر النبي ﷺ أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر للطالب، وإن كان الطالب أفضل من أويس بكثير.
وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول: ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة) مع أن طلبه من أمته الدعاء ليس هو طلب حاجة من المخلوق، بل هو تعليم لأمته ما ينتفعون به في دينهم، وبسبب ذلك التعليم والعمل بما علمهم يعظم الله أجره.
فإنا إذا صلينا عليه مرة صلى الله علينا عشرًا، وإذا سألنا الله له الوسيلة، حلت علينا شفاعته يوم القيامة، وكل ثواب يحصل لنا على أعمالنا فله مثل أجرنا من غير أن ينقص من أجرنا شيء، فإنه ﷺ قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا) وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، وكل خير تعمله أمته له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
ولهذا لم يكن الصحابة والسلف يهدون إليه ثواب أعمالهم ولا يحجون عنه ولا يتصدقون ولا يقرؤون القرآن ويهدون له؛ لأن كل ما يعمله المسلمون من صلاة وصيام وحج وصدقة وقراءة له ﷺ مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء؛ بخلاف الوالدين، فليس كل ما عمله المسلم من الخير يكون لوالديه مثل أجره، ولهذا يهدى الثواب لوالديه وغيرهما.
ومعلوم أن الرسول ﷺ مطيع لربه عز وجل في قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1. فهو ﷺ لا يرغب إلى غير الله، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).
فهؤلاء من أمته وقد مدحهم بأنهم لا يسترقون، والاسترقاء: أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية من نوع الدعاء، وكان ﷺ يرقى نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه، ورواية من روى في هذا: (لا يُرقون) ضعيفة غلط؛ فهذا مما يبين حقيقة أمره لأمته بالدعاء أنه ليس من باب سؤال المخلوق للمخلوق الذي غيره أفضل منه، فإن من لا يسأل الناس بل لا يسأل إلا الله أفضل ممن يسأل الناس، ومحمد ﷺ سيد ولد آدم.
ودعاء الغائب للغائب، أعظم إجابة من دعاء الحاضر؛ لأنه أكمل إخلاصًا وأبعد عن الشرك، فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه، إلى دعاء من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر؟ وفي الحديث: (أعظم إجابة دعاء غائب لغائب)، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله).
وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فلهذا كان طلب الدعاء جائزًا، كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه والأفعال التي يقدر عليها. فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لا يطلب ذلك لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا، ونحو ذلك؛ ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق: قوموا بنا نستغث برسول الله ﷺ من هذا المنافق، فجاؤوا إليه فقال: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) وهذا في الاستعانة مثل ذلك.
فأما ما يقدر عليه البشر، فليس من هذا الباب، وقد قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 2، وفي دعاء موسى عليه السلام: (اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وإليك المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك) وقال أبو يزيد البسطامى: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.
هامش
عدل