مجموع الفتاوى/المجلد الأول/سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين
سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين
عدلوكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استفتيت عن التوسل بالنبي ﷺ، فكتبت في ذلك جوابا مبسوطا، وقد أحببت إيراده هنا لما في ذلك من مزيد الفائدة، فإن هذه القواعد المتعلقة بتقرير التوحيد وحسم مادة الشرك والغلو كلما تنوع بيانها ووضحت عباراتها كان ذلك نورًا على نور. والله المستعان.
وصورة السؤال:
المسؤول من السادة العلماء أئمة الدين أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين.
وصورة الجواب:
الحمد لله رب العالمين، أجمع المسلمون على أن النبي ﷺ يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين واستفاضت به السنن من أنه ﷺ يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضا لعموم الخلق.
فله ﷺ شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه ﷺ أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه، ومن ذلك المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمساند مما يكثر عدده. وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن الشفاعة إنما هى للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقا.
وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون.
وفي البخاري أيضا عن ابن عمر أنه قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي ﷺ يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه**ثمال اليتامى عصمة للأرامل.
والتوسل بالنبي ﷺ الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسرًا في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته، ونحن نقدمه بين أيدينا شافعًا وسائلا لنا، بأبي هو وأمي ﷺ. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناس بالشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشى فقال: اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا. يا يزيد، ارفع يديك. فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا. ولهذا قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله ﷺ فهو أحسن.
وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه؛ فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه، كما أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي ﷺ دخل عليه أعرابى فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا. فرفع النبي ﷺ يديه وقال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) وما في السماء قَزْعَة؛ فنشأت سحابة من جهة البحر فمطروا أسبوعًا لا يرون فيه الشمس؛ حتى دخل عليهم الأعرابى أو غيره فقال: يا رسول الله، انقطعت السبل، وتهدم البنيان، فادع الله يكشفها عنا. فرفع يديه وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام 1 والظِّراب ومنابت الشجر وبطون الأودية) فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب. والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما.
وفي حديث آخر في سنن أبي داود وغيره أن رجلا قال له: إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله ﷺ حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه وقال: (ويحك، أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك).
وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص في كلام النبي ﷺ وأصحابه وهو استشفاع بدعائه وشفاعته، ليس هو السؤال بذاته؛ فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق، ولكن لما كان معناه هو الأول، أنكر النبي ﷺ قوله: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضى حاجة الطالب والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن يقضى حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى في مثل قوله:
شفيعي إليك الله لا رب غيره**وليس إلى رد الشفيع سبيل
فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم. وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبي ﷺ وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسؤول المدعو الذي يسأله كل من في السموات والأرض، ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه، وكل من وجبت طاعته من المخلوقين فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى، فالرسل يبلغون عن الله أمره؛ فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن بايعهم فقد بايع الله. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} 2، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} 3. وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، قال ﷺ في الحديث الصحيح: (على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه)، (... ما لم يؤمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة) وقال ﷺ: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته في الشفاعة وإن كان عظيما، وفي الحديث الصحيح: أن النبي سأل بَرِيرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي ﷺ فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها فجعل يبكى، فسألها النبي ﷺ أن تمسكه فقالت: أتأمرني؟ فقال: (لا، إنما أنا شافع). وإنما قالت: (أتأمرني؟) وقال: (إنما أنا شافع) لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته، فإنه لا يجب قبول شفاعته، ولهذا لم يلمها النبي ﷺ على ترك قبول شفاعته، فشفاعة غيره من الخلق أولى ألا يجب قبولها.
والخالق جل جلاله أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعًا إلى مخلوق، بل هو سبحانه أعلى شأنًا من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 4.
ودل الحديث المتقدم على أن الرسول ﷺ يستشفع به إلى الله عز وجل، أي يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الدنيا والآخرة؛ فأما في الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضى الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار ألا يدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها.
هامش
عدل- ↑ [الآكام: الروابى وهى الأماكن المرتفعة، والظراب: الجبال الصغار. انظر: النهاية في غريب الحديث 3651. ولسان العرب، مادة " أكم "]
- ↑ [النساء: 64]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [الأنبياء: 26: 29]