مجموع الفتاوى/المجلد الأول/نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا
نهي النبى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا
عدلولهذا نهى النبي ﷺ أن يتخذ قبره مسجدًا، وأن يُتخذ عيدًا، وقال في مرض موته: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا، أخرجاه في الصحيحين. وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه مالك في موطئه، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) متفق عليه.
وقال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد. بل ما شاء الله ثم شاء محمد). وقال له بعض الأعراب: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده). وقد قال الله تعالى له: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 1، وقال تعالى: {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} 2، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاء} 3، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4. وهذا تحقيق التوحيد مع أنه ﷺ أكرم الخلق على الله، وأعلاهم منزلة عند الله.
وقد روى الطبراني في معجمه الكبير أن منافقًا كان يؤذى المؤمنين، فقال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق. فقال له النبي ﷺ: (لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله).
وفي صحيح مسلم في آخره أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي صحيح مسلم أيضا وغيره أنه قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وله طرق متعددة عن غيرهما أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدى هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتى قبر النبي ﷺ فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته، وإن أراد المسجد فليأته. ثم ذكر الحديث: (لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد). ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه.
ولو حلف حالف بحق المخلوقين لم تنعقد يمينه، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والملائكة وغيرهم، ولله تبارك وتعالى حق لا يشركه فيه أحد لا الأنبياء ولا غيرهم، وللأنبياء حق، وللمؤمنين حق، ولبعضهم على بعض حق.
فحقه تبارك وتعالى أن يعبدوه لا يشركوا به، كما تقدم في حديث معاذ، ومن عبادته تعالى أن يخلصوا له الدين، ويتوكلوا عليه، ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله ندًا: لا في محبته ولا خشيته ولا دعائه ولا الاستعانة به، كما في الصحيحين أنه قال ﷺ: (من مات وهو يدعو ندا من دون الله دخل النار) وسئل: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك). وقيل له: ما شاء الله وشئت. فقال: (أجعلتني لله ندًا! بل ما شاء الله وحده). وقد قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} 5، وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 6، {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} 7، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 8، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 9، وقال تعالى في فاتحة الكتاب التي هى أم القرآن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 10، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله} 11، وقال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 12، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا الله} 13.
ولهذا لما كان المشركون يخوفون إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شيئا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} 14.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم النبي ﷺ: (إنما ذاك الشرك، كما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 15.
وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 16 فجعل الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وجعل الخشية والتقوى لله وحده، فلا يخشى إلا الله، ولا يتقى إلا الله، وقال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} 17، وقال تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 18.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله رَاغِبُونَ} 19. فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول في أول الكلام وآخره، كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} 20 مع جعله الفضل لله وحده، والرغبة إلى الله وحده.
وهو تعالى وحده حسبهم لا شريك له في ذلك. وروى البخاري عن ابن عباس في قوله: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، قال: قالها إبراهيم حين ألقى في النار، وقالها محمد حين {لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 21. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 22.
ومعنى ذلك عند جماهير السلف والخلف: أن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة، وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسائط بيننا وبين الله في أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله.
فعلينا أن نحب الله ورسوله ونطيع الله ورسوله ونرضى الله ورسوله، قال تعالى: {وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} 23، وقال تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} 24، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} 25، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} 26.
وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار(. وقد قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 27.
فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله، والعبادة هى لله وحده: فلا يصلى إلا لله ولا يصام إلا لله، ولا يحج إلا إلى بيت الله، ولا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة؛ لكون هذه المساجد بناها أنبياء الله بإذن الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله.
وأما ما خلقه الله سبحانه من الحيوان، والنبات، والمطر، والسحاب، وسائر المخلوقات فلم يجعل غيره من العباد واسطة في ذلك الخلق، كما جعل الرسل واسطة في التبليغ، بل يخلق ما يشاء بما يشاء من الأسباب، وليس في المخلوقات شيء يستقل بإبداع شيء، بل لا بد للسبب من أسباب أخر تعاونه، ولا بد من دفع المعارض عنه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بخلاف الرسالة فإن الرسول وحده كان واسطة في تبليغ رسالته إلى عباده.
وأما جعل الهدى في قلوب العباد فهو إلى الله تعالى لا إلى الرسول كما قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاء} 28، وقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} 29. وكذلك دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع إذا جعل الله تعالى المحل قابلا له، وإلا فلو استغفر النبي للكفار والمنافقين لم يغفر لهم، قال الله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} 30.
وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل في أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سب واحدًا منهم كان كافرا مرتدًا مباح الدم.
وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد بَيّنَّا أن الأنبياء وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحقه الله تبارك وتعالى من خصائص: فلا يشرك بهم ولا يتوكل عليهم، ولا يستغاث بهم كما يستغاث بالله، ولا يقسم على الله بهم، ولا يتوسل بذواتهم، وإنما يتوسل بالإيمان بهم، وبمحبتهم، وطاعتهم، وموالاتهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حللوه، وتحريم ما حرموه.
والتوسل بذلك على وجهين:
أحدهما: أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم، ويفرج كربتهم، وقد تقدم بيان ذلك.
والثاني: التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول ﷺ هى الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ومثل هذا كقول المؤمنين: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} 31، فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء، ومثل ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 32 وأمثال ذلك كثير.
هامش
عدل- ↑ [الأعراف: 188]
- ↑ [يونس: 49]
- ↑ [القصص: 56]
- ↑ [آل عمران: 128]
- ↑ [النساء: 48، 116]
- ↑ [البقرة: 22]
- ↑ [النحل: 51]
- ↑ [العنكبوت: 56]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [الأحزاب: 39]
- ↑ [الأنعام: 80: 82]
- ↑ [لقمان: 13]
- ↑ [النور: 52]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [آل عمران: 175]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [الأنفال: 64]
- ↑ [التوبة: 62]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [الفتح: 8، 9]
- ↑ [القصص: 56]
- ↑ [النحل: 37]
- ↑ [المنافقون: 6]
- ↑ [آل عمران: 193]
- ↑ [المؤمنون: 109]