مجموع الفتاوى/المجلد الأول/ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل
ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل
عدلومن السؤال ما لا يكون مأمورا به، والمسؤول مأمور بإجابة السائل، قال تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } 1، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } 2، وقال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} 3، ومنه الحديث: (إن أحدكم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارا)، وقوله: (اقطعوا عني لسان هذا).
وقد يكون السؤال منهيا عنه نهى تحريم أو تنزيه، وإن كان المسؤول مأمورا بإجابة سؤاله، فالنبي ﷺ كان من كماله أن يعطى السائل، وهذا في حقه من فضائله ومناقبه، وهو واجب أو مستحب، وإن كان نفس سؤال السائل منهيا عنه. ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئا من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم، فقال عمر: يا رسول الله، كيف بنا إذا لقينا العدو غدًا رجالا جياعًا ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها، ثم تدعو الله بالبركة، فإن الله يبارك لنا في دعوتك. وفي رواية: فإن الله سيغيثنا بدعائك. وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى أن يدعو الله له ليرد عليه بصره، وكما سألته أم سليم أن يدعو الله لخادمه أنس، وكما سأله أبو هريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، ونحو ذلك.
وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي مثله: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } 4، وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال ﷺ: (إن أمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) فلم يكن في الصحابة أعظم مِنَّة من الصديق في نفسه وماله.
وكان أبو بكر يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } 5، فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنيا بكسبه وماله عن كل أحد، والنبي ﷺ كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله، كما قال تعالى: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } 6.
وأما على وزيد وغيرهما، فإن النبي ﷺ كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيدًا كان مولاه فأعتقه، قال تعالى: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} 7، وعلىّ كان في عيال النبي ﷺ لجدب أصاب أهل مكة، فأراد النبي ﷺ والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله، فأخذ النبي ﷺ عليا إلى عياله، وأخذ العباس جعفرا إلى عياله، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن الصديق كان أمنَّ الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله ﷺ؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين. ولم يكن النبي ﷺ محتاجا في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما، فقال النبي ﷺ: (بالثمن) فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم.
ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا } 8، والدعاء جزاء كما في الحديث: (من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه). وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله.
وقال بعض السلف: إذا قال لك السائل: بارك الله فيك، فقل: وفيك بارك الله، فمن عمل خيرًا مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبيا أو رجلا صالحا أو ملكا من الملوك أو غنيا من الأغنياء، فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصا لله يبتغى به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاءً ولا دعاءً ولا غيره، لا من نبي ولا رجل صالح ولا من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين.
وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، فلا يقبل من أحد دينا غيره، قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } 9، وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام، قال نوح: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } 10، وقال عن إبراهيم: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } 11، وقال موسى: { يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } 12، وقالت السَّحَرَةُ: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } 13، وقال يوسف: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } 14، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } 15، وقال عن الحواريين: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } 16.
هامش
عدل- ↑ [الضحى: 10]
- ↑ [المعارج: 24، 25]
- ↑ [الحج: 63]
- ↑ [الليل: 17: 21]
- ↑ [الليل: 17: 21]
- ↑ [الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180]
- ↑ [الأحزاب: 37]
- ↑ [الإنسان: 9]
- ↑ [آل عمران: 85]
- ↑ [يونس: 72]
- ↑ [البقرة: 130: 132]
- ↑ [يونس: 84]
- ↑ [الأعراف: 126]
- ↑ [يوسف: 101]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [المائدة: 111]