مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل كيفية تعلم النفس


فصل كيفية تعلم النفس عدل

وأما قول السائل: هل لها كيفية تعلم؟ فهذا سؤال مجمل، إن أراد أنه يعلم ما يعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يعلم، وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يشهده من الأجسام، أو هل لها من جنس شيء من ذلك؟ فإن أراد ذلك فليس كذلك، فإنها ليست من جنس العناصر: الماء والهواء والنار والتراب، ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعدن، ولا من جنس الأفلاك والكواكب، فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود؛ ولهذا يقال: إنه لا يعلم كيفيتها، ويقال: إنه "من عرف نفسه عرف ربه" من جهة الاعتبار، ومن جهة المقابلة، ومن جهة الامتناع.

فأما الاعتبار، فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا: من العسل، واللبن، والماء، والخمر، والحرير، والذهب، والفضة، لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.

فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة، ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا، بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع عليها ما يمتنع عليها، وتكون مادتها مادتها وتستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ويأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب، ولا نازلا من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا، وأمثال ذلك، فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا.

فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه؛ إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان لها حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين.

والله سبحانه وتعالى سمى نفسه وصفاته بأسماء، وسمى بها بعض المخلوقات، فسمى نفسه حيًا عليما سميعًا بصيرًا عزيزًا جبارًا متكبرًا ملكا رؤوفًا رحيما؛ وسمى بعض عباده: عليما، وبعضهم: حليما، وبعضهم: رؤوفًا رحيما، وبعضهم: سميعًا بصيرًا، وبعضهم: ملكا، وبعضهم: عزيزًا، وبعضهم: جبارًا متكبرًا، ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، وهكذا في سائر الأسماء، قال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } 1 وقال: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } 2 وقال: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } 3 وقال: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } 4 وقال: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } 5 وقال: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } 6 وقال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } 7 وقال تعالى: { أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } 8 وكذلك سائر ما ذكر، لكن الإنسان يعتبر بما عرفه ما لم يعرفه، ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة.

وأما من جهة المقابلة فيقال: من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وهكذا أمثال ذلك؛ لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم، وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم، وأما الرب تعالى: فله صفات الكمال، وهي من لوازم ذاته، يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلًا وأبدًا، ويمتنع عدمها؛ لأنه واجب الوجود أزلًا وأبدًا، وصفات كماله من لوازم ذاته، ويمتنع ارتفاع اللازم إلا بارتفاع الملزوم، فلا يعد شيء من صفات كماله إلا بعدم ذاته، وذاته يمتنع عليها العدم، فميتنع على شيء من صفات كماله العدم.

وأما من جهة العجز والامتناع، فإنه يقال: إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه، بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها - فالخالق جل جلاله أولى ألا يعلم العبد كيفيته، ولا يحيط علما بحقيقته؛ ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه : «اللهم إني أْعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، وثبت في صحيح مسلم وغيره: أنه كان يقول هذا في سجوده. وقد روى الترمذي وغيره: أنه كان يقوله في قنوت الوتر، وإن كان في هذا الحديث نظر، فالأول صحيح ثابت.


هامش

  1. [النساء: 11]
  2. [الذاريات: 28]
  3. [ فاطر: 41]
  4. [الصافات: 101]
  5. [البقرة: 143]
  6. [التوبة: 128]
  7. [النساء: 58]
  8. [الإنسان: 2]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع - المنطق
سئل شيخ الإسلام عن المنطق | فصل في وصف جنس كلام المناطقة | مسألة في القياس | قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني | الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين | المقام الأول | المقام الثاني | فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس | تنازع العلماء في مسمى القياس | العلوم ثلاثة | تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات | الفرق بين الآيات وبين القياس | قياس الأولى | فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء | فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين | قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية | ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا | التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه | قياس الشبه | الزعم بأن المنطق آلة قانونية | فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن | قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل | تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل | قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني | ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل | فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات | علم الفرائض نوعان | لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع | ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر | اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق | اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات | من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف | فصل في ضبط كليات المنطق | فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس | فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد | فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين | سئل عن كتب المنطق | سئل شيخ الإسلام عن العقل | تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا | فصل اسم العقل صفة | فصل عن الروح المدبرة للبدن | فصل عن معاني الروح والنفس | النفوس ثلاثة أنواع | فصل كيفية تعلم النفس | فصل عن الجوهر | سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل | فصل في حكمة خلق القلب