مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/قياس الشبه


قياس الشبه

عدل

وأما قياس الشبه، فإذا قيل به لم يخرج عن أحدهما، فإن الجامع المشترك بين الأصل والفرع إما أن يكون هو العلة أو ما يستلزم العلة، وما استلزمها لم يكن الاشتراك فيه مقتضيًا للاشتراك في الحكم، بل كان المشترك قد تكون معه العلة، وقد لا تكون، فلا نعلم صحة القياس، بل لا يكون صحيحًا إلا إذا اشتركا فيها. ونحن لا نعلم الاشتراك فيها. إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها أو في ملزومها. فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فإذا قدرنا أنهما لم يشتركا في الملزوم ولا فيها، كان القياس باطلا قطعًا؛ لأنه حينئذ تكون العلة مختصة بالأصل. وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس، وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع، وإن لم تعلم عين العلة ولا دليلها، فإنه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق. أو بإبداء جامع، وهو كلي يجمعهما يستلزم الحكم، وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول. وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلي لجزئياته، وهذا حقيقة قياس الشمول، ليس ذلك استدلالًا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر.

فأما إذا قيل: بم يعلم أن المشترك مستلزم للحكم؟ قيل: بما تعلم به القضية الكبرى في القياس، فبيان الحد الأوسط هو المشترك الجامع، ولزوم الحد الأكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك، كما تقدم التنبيه على هذا. وقد يستدل بجزئي على جزئي، إذا كانا متلازمين، أو كان أحدهما ملزوم الآخر من غير عكس، فإن كان اللزوم عن الذات، كانت الدلالة على الذات، وإن كان في صفة أو حكم، كانت الدلالة على الصفة أو الحكم، فقد تبين ما في حصرهم من الخلل.

وأما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة، فكلها تعود إلى ما ذكر في استلزام الدليل للمدلول، وما ذكروه في الاقتراني يمكن تصويره بصورة الاستثنائي، وكذلك الاستثنائي يمكن تصويره بصورة الاقتراني، فيعود الأمر إلى معنى واحد، وهو مادة الدليل، والمادة لا تعلم من صورة القياس الذي ذكروه، بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة، سواء صورت بصورة قياس أو لم تصور، وسواء عبر عنها بعباراتهم أو بغيرها، بل العبارات التي صقلتها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير.

والاقتراني كله يعود إلى لزوم هذا لهذا، وهذا لهذا كما ذكر، وهذا بعينه هو الاستثنائي المؤلف من المتصل والمنفصل، فإن الشرطي المتصل استدلال باللزوم، بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم الذي هو التالي، وهو الجزاء، أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط.

وأما الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الأصوليون السبر والتقسيم، وقد يسميه أيضا الجدليون التقسيم والترديد فمضمونه الاستدلال بثبوت أحد النقيضين على انتفاء الآخر، وبانتفائه على ثبوته. وأقسامه أربعة، ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذا الآخر، وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذا الآخر، ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر، والأمران متنافيان، ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم، والنقيضان لا يرتفعان، فمنعت الخلو منهما، ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر، ليس هو وجود الشيء وعدمه، ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازمًا للآخر، وإن كانا لا يرتفعان؛ لأن ارتفاعهما يقتضي ارتفاع وجود شيء وعدمه معا.

وبالجملة، ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه، وله مناف مضاد لوجوده، فيستدل عليه بثبوت ملزومه، وعلى انتفائه بانتفاء لازمه، ويستدل على انتفائه بوجود منافيه، ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده؛ إذا انحصر الأمر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعًا، كما لم يمكن وجودهما جميعًا، وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولازمها، وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع صور الأدلة، لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس، فضلا عما سموه البرهان، فإن البرهان شرطوا له مادة معينة، وهي القضايا التي ذكروها، وأخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات، وما سموه مشهورات، وحكم الفطرة بهما لاسيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان.

وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم، وأن ما أخرجوه يخرج به ما ينال به أشرف العلوم من العلوم النظرية والعلوم العملية، ولا يبقى بأيديهم إلا أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان. ولولا أن هذا الموضع لا يتسع لحكاية ألفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته، فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والإلهية، فإنها هي المطلوبة.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع - المنطق
سئل شيخ الإسلام عن المنطق | فصل في وصف جنس كلام المناطقة | مسألة في القياس | قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني | الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين | المقام الأول | المقام الثاني | فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس | تنازع العلماء في مسمى القياس | العلوم ثلاثة | تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات | الفرق بين الآيات وبين القياس | قياس الأولى | فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء | فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين | قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية | ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا | التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه | قياس الشبه | الزعم بأن المنطق آلة قانونية | فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن | قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل | تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل | قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني | ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل | فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات | علم الفرائض نوعان | لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع | ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر | اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق | اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات | من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف | فصل في ضبط كليات المنطق | فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس | فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد | فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين | سئل عن كتب المنطق | سئل شيخ الإسلام عن العقل | تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا | فصل اسم العقل صفة | فصل عن الروح المدبرة للبدن | فصل عن معاني الروح والنفس | النفوس ثلاثة أنواع | فصل كيفية تعلم النفس | فصل عن الجوهر | سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل | فصل في حكمة خلق القلب