مجموع الفتاوى/المجلد التاسع عشر/فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه


فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه عدل

قال شيخ الإِسلام رَحِمهُ الله:

في الاكتفاء بالرسالة، والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه اتباعًا عامًا، وأقام الله الحجة على خلقه برسله فقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } إلى قوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } 1.

فدلت هذه الآية على أنه لا حجة لهم بعد الرسل بحال، وأنه قد يكون لهم حجة قبل الرسل.

فالأول يبطل قول من أَحْوَج الخلق إلى غير الرسل حاجة عامة كالأئمة.

والثأني يبطل قول من أقام الحجة عليهم قبل الرسل من المتفلسفة والمتكلمة.

وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } 2، فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء إذا لم يتنازعوا، وهو يقتضى أن اتفاقهم حجة، وأمرهم بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فأبطل الرد إلى إمام مقلد أو قياس عقلي فاضل.

وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } 3، فبين أنه بالكتاب يحكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه.

وقال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } 4، وقال تعالى: { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ } 5، ففرض اتباع ما أنزله من الكتاب والحكمة، وحظر اتباع أحد من دونه. وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } 6، فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل. وقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الآيات 7، وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 8، وقال تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا } الآيات 9، وقال تعالى: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } الآيتين 10. فدلت هذه الآيات على أن من أتاه الرسول فخالفه فقد وجب عليه العذاب، وإن لم يأته إمام ولا قياس. وأنه لا يعذب أحد حتى يأتيه الرسول وإن أتاه إمام أو قياس.

وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } 11، { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ } الآية 12. وقد ذكر سبحانه هذا المعنى في غير موضع، فبين أن طاعة الله ورسوله موجبة للسعادة، وأن معصية الله موجبة للشقاوة، وهذا يبين أن مع طاعة الله ورسوله لا يحتاج إلى طاعة إمام أو قياس، ومع معصية الله ورسوله لا ينفع طاعة إمام أو قياس.

ودليل هذا الأصل كثير في الكتاب والسنة، وهو أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله وهو متفق عليه بين الذين أوتوا العلم والإيمان قولًا واعتقادًا؛ وإن خالفه بعضهم عملًا وحالًا. فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة الله ورسوله، وأن ماسواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها الله ورسوله.

وفي الحقيقة، فالواجب في الأصل إنما هو طاعة الله، لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل، والمبلغ عنه إما مبلغ أمره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه في جميع ما أمر وأخبر، وأما ما سوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال، كالأمراء الذين تجب طاعتهم في محل ولايتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتى والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن الله، أو مجتهدين اجتهادًا تجب طاعتهم فيه على المقلد، ويدخل في ذلك مشائخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم، كاتباع أئمة الصلاة فيها، واتباع أئمة الحج فيه، واتباع أمراء الغزو فيه، واتباع الحكام في أحكامهم، واتباع المشايخ المهتدين في هديهم، ونحو ذلك.

والمقصود بهذا الأصل أن من نَصَّبَ إمامًا، فأوجب طاعته مطلقًا اعتقادًا أو حالًا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية؛ حيث جعلوا في كل وقت إمامًا معصومًا تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشدًا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو على. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين؛ كعلى بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، ومنهم دون ذلك.

وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء، وأفرده عن نظرائه؛ كالشيخ عدى، والشيخ أحمد، والشيخ عبد القادر، والشيخ حَيْوَة، ونحوهم.

وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقًا، كالأئمة الأربعة.

وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة والولاة في كل ما يأمرون وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء، لكن هؤلاء لا يدعون العصمة لمتبوعيهم إلا غإلىة أتباع المشايخ؛ كالشيخ عَدِىّ وسعد المَدِينى بن حَمَوَيْه، ونحوهما؛ فإنهم يدعون فيهم نحوًا مما تدعيه الغإلىة في أئمة بنى هاشم من العصمة، ثم من الترجيح على النبوة، ثم من دعوى الإلهية.

وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم يضاهي حال من يوجب اتباع متبوعه، لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علمًا، فحاله يخالف اعتقاده، بمنزلة العصاة أهل الشهوات، وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده. وكذلك أتباع الملوك والرؤساء هم كما أخبر الله عنهم بقوله: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } 13 فهم مطيعون حالًا وعملًا وانقيادًا، وأكثرهم من غير عقيدة دينية، وفيهم من يقرن بذلك عقيدة دينية. ولكن طاعة الرسول إنما تمكن مع العلم بما جاء به والقدرة على العمل به، فإذا ضعف العلم والقدرة صار الوقت وقت فترة في ذلك الأمر، فكان وقت دعوة ونبوة في غيره، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع جدًا. والله أعلم.

وكذا من نصَّب القياس أو العقل أو الذوق مطلقًا من أهل الفلسفة والكلام والتصوف، أو قدمه بين يدى الرسول من أهل الكلام والرأى والفلسفة والتصوف؛ فإنه بمنزلة من نَصَّبَ شخصًا، فالاتباع المطلق دائر مع الرسول وجودًا وعدمًا.


هامش

  1. [النساء: 163 165]
  2. [النساء: 59]
  3. [البقرة: 213]
  4. [الشورى: 10]
  5. [الأعراف: 2، 3]
  6. [العنكبوت: 51]
  7. [الأنعام: 130]
  8. [الإسراء: 51]
  9. [الزمر: 71]
  10. [الملك: 8]
  11. [النساء: 69]
  12. [النساء: 13، 14]
  13. [الأحزاب: 67]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع عشر - أصول الفقه
فصل الكتاب والسنة والإجماع واجبة الاتباع | فصل في عموم رسالة الرسول للثقلين | فصل في استعمال الدعوة إلى الله مع الجن | فصل في تصور الشيطان في صورة المدعو المستغاث به | فصل في الذب عن المظلوم ونصرته | فصل في جواز أن يكتب للمصاب شيئا من كتاب الله ويغسل به ويسقى | فصل في الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه | فصل في أول البدع ظهورا في الإسلام | أصل جامع في الاعتصام بكتاب الله ووجوب اتباعه | فصل في الأمر باتباع الكتاب والحكمة | قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة | فصل في أن الرسالة ضرورية لإصلاح العبد في معاشه ومعاده | فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع | فصل في قوله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون | فصل في الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف | فصل فيما تنازع فيه العلماء | قاعدة في العلوم والاعتقادات | فصل في غلط من قال أن الحقائق تابعة للعقائد | فصل ما لا تؤثر فيه الاعتقادات | فصل في تأثير الاعتقادات في رفع العذاب | فصل في تأثير الاعتقادات في الأدلة الشرعية | فصل مذاهب الأئمة تؤخذ من أقوالهم | معارج الوصول | فصل في أن الرسول بين جميع أصول الدين وفروعه | فصل في العمليات أو الفروع | قاعدة في تصويب المجتهدين وتخطئتهم | فصل في العلوم الشرعية والعقلية | فصل في حدود الأسماء التي علق الله بها الأحكام | فصل في اسم الحيض | فصل في المسح على الخفين | فصل في القصر والفطر في السفر | فصل في مقادير الدراهم والدنانير والمكاييل | فصل في مقدار الإطعام شرعا | فصل في الاستبراء | فصل في العاقلة ومقدار ما تحمله من الدية | فصل في خمس الغنيمة وتقسيمه | فصل في التقليد الذي حرمه الله ورسوله | سئل عمن يقول أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة | فصل أحوال العبد في العبادات المأمور بها | فصل في اسم الشريعة والشرع والسنة