مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة


فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة عدل

ومما ينبغي أن يعلم: أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة؛ فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: «الأسماء ثلاثة أنواع» نوع يعرف حَدّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } 1.

وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجْده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قَبْلَهم، وخبر ما بعدهم، وحُكْم ما بينهم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمَهُ اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يحرف به لسانه، ولا يَخْلَق 2 عن كثرة الترداد، فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضى عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صَدَق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.

فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول: فيجب تقديم العقل. والنقل يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين إما أن يُفوَّض وإما أن يُؤوَّل. ولا فيهم من يقول: إن له ذوقًا أو وَجْدًا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلا عن أن يَدَّعِي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول، وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد، والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته. أو يقول: الولي أفضل من النبي، ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد؛ فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بَعْدُ في المسلمين، وإنما يعرف مثل هذه إما عن ملاحدة اليهود والنصارى؛ فإن فيهم من يجوز أن غير النبي أفضل من النبي، كما قد يقوله في الحواريين؛ فإنهم عندهم رسل، وهم يقولون: أفضل من داود وسليمان، بل ومن إبراهيم وموسى، وإن سموهم أنبياء، إلى أمثال هذه الأمور.

ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها أو بسنة الرسول تفسرها، فإن سنة رسول الله تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه، وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخًا لها، فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل. وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية، بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخًا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم.

وأصل ذلك من إلقاء الشيطان، ثم يحكم الله آياته، فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه، سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخًا، كما سموا قوله: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 3 ناسخًا لقوله: { اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } 4 وقوله: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } 5 ناسخًا لقوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ

يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } 6. وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه.

إذ المقصود أنهم كانوا متفقين على أن القرآن لا يعارضه إلا قرآن، لا رأي ومعقول وقياس، ولا ذوق ووَجْد وإلهام ومكاشفة.

وكانت البدع الأولى مثل بدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي. قالوا: فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار. ثم قالوا: وعثمانوعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:

الواحدة: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر.

والثانية: أن عثمان وعليا ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبت عن النبي أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم. قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: صح فيهم الحديث من عشرة أوجه؛ ولهذا قد أخرجها مسلم في صحيحه، وأفرد البخاري قطعة منها، وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه، وهو مع ذلك يكفر المسلمين، كالجهمية؟ ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين، بل كان غرضه فاسدًا، وقد قيل: إنه كان منافقًا زنديقًا، فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول الله ، وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم، بخلاف الخوارج فإنه لا يعرف فيهم من يكذب.

والشيعة لا يكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم لكثرة الكذب فيهم؛ ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح، فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علىّ إلا عن أهل بيته كأولاده، مثل الحسن، والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع، أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم؛ إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم.

وهاتان الطائفتان الخوارج والشيعة حَدثوا بعد مقتل عثمان، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان في السنة الأولي من ولايته متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعًا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه، وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء، فكف عنهم أمير المؤمنين، وقال: لكم علينا ألا نمنعكم حقكم من الفىء، ولا نمنعكم المساجد، إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، فقتلوا عبد الله بن خباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ فعلم عليّ أنهم الطائفة التي ذكرها رسول الله حيث قال: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم فيهم رجل مخدج 7 اليد عليها بضعة شعرات» وفي رواية: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، فخطب الناس وأخبرهم بما سمع من رسول الله وقال: هم هؤلاء القوم، قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس فقاتلهم، ووجد العلامة بعد أن كاد لا يوجد، فسجد للّه شكرًا.

وحدث في أيامه الشيعة لكن كانوا مختفين بقولهم، لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف:

طائفة تقول: إنه إله، وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنار، وخَدَّ لهم أخاديد عند باب مسجد بني كندة، وقيل: إنه أنشد:

لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا ** أجَّجْت ناري ودعوت قنْبَرًا

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: أتى عَلِيٌّ بزنادقة فحرقهم بالنار، ولو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهى النبي أن يعذب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم لقوله: «من بدل دينه فاقتلوه».

وهذا الذي قاله ابن عباس هو مذهب أكثر الفقهاء، وقد روى أنه أجَّلَهم ثلاثًا.

والثانية: السابة: وكان قد بلغه عن ابن السوداء أنه كان يسب أبا بكر وعمر فطلبه، قيل: إنه طلبه ليقتله فهرب منه.

والثالثة: المفضلة: الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فتواتر عنه أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر»، وروى ذلك البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية أنه سأل أباه: مَنْ خير الناس بعد رسول الله ؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر.

وكانت الشيعة الأولى لا يتنازعون في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان النزاع في علي وعثمان؛ ولهذا قال شريك بن عبد الله 8: إن أفضل الناس بعد رسول الّله أبو بكر وعمر. فقيل له: تقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: كل الشيعة كانوا على هذا، وهو الذي قال هذا على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال؟ ولهذا قال سفيان الثوري: من فضل عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى 9 بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى الله عز وجل عمل وهو كذلك. رواه أبو داود في سننه، وكأنه يعرض بالحسن بن صالح بن حيى، فإن الزيدية الصالحة وهم أصلح طوائف الزيدية ينسبون إليه.

ولكن الشيعة لم يكن لهم في ذلك الزمان جماعة ولا إمام، ولا دار ولا سيف يقاتلون به المسلمين، وإنما كان هذا للخوارج، تميزوا بالإمام والجماعة والدار، وسموا دارهم دار الهجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب.

وكلا الطائفتين تطعن بل تكفر ولاة المسلمين، وجمهور الخوارج يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما، والرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم، ولكن الفساد الظاهر كان في الخوارج، من سفك الدماء، وأخذ الأموال، والخروج بالسيف؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بقتالهم، والأحاديث في ذمهم والأمر بقتالهم كثيرة جدًا، وهي متواترة عند أهل الحديث مثل أحاديث الرؤية، وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والحوض.

وقد رويت أحاديث في ذم القدرية والمرجئة، روى بعضها أهل السنن، كأبي داود وابن ماجه، وبعض الناس يثبتها ويقويها، ومن العلماء من طعن فيها وضعفها، ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونحوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس.

وأما لفظ الرافضة، فهذا اللفظ أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي ابن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قوم، فقال: رفضتموني رفضتموني، فسموا الرافضة؛ فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيدًا وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى: زيدية، ورافضة إمامية.

ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين الله، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصى؛ لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم بإنكار القدر السابق الصحابة أنكروا إنكارًا عظيمًا وتبرؤوا منهم، حتى قال عبد الله بن عمر: أخبر أولئك أني برىء منهم، وأنهم منى برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، وذكر عن أبيه حديث جبريل وهذا أول حديث في صحيح مسلم، وقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أيضا مختصرًا.

ثم كثر الخوض في القدر، وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام وبعضه في المدينة، فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في الإرادة وخلق أفعال العباد فصاروا في ذلك حزبين:

النفاة يقولون: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد.

وقابلهم الخائضون في القدر من المجبرة مثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فقالوا: ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا: العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل الله هو الفاعل القادر فقط، وكان جهم مع ذلك ينفي الأسماء والصفات، يذكر عنه أنه قال: لا يسمى الله شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي تسمى بها العباد إلا القادر فقط؛ لأن العبد ليس بقادر.

وكانت الخوارج قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا: إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك، وخاض في ذلك القدرية بعد موت الحسن البصري، فقال عمرو بن عبيد وأصحابه: لا هم مسلمون ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شيء، ولكن لم يسموهم كفارًا، واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما.

فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن. وقيل: إن قتادة كان يقول: أولئك المعتزلة.

وتنازع الناس في الأسماء والأحكام أي في أسماء الدين، مثل مسلم ومؤمن، وكافر وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة. فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج، وفي الأسماء أحدثوا المنزلة بين المنزلتين، وهذه خاصة المعتزلة التي انفردوا بها، وسائر أقوالهم قد شاركهم فيها غيرهم.

وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبد الله من المرجئة ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرًا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه. وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي؛ فإن الإيمان إذا أطلق دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي : «الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، وإذا عطف عليه العمل كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } 10، فقد ذكر مقيدًا بالعطف، فهنا قد يقال: الأعمال دخلت فيه وعطفت عطف الخاص على العام، وقد يقال: لم تدخل فيه ولكن مع العطف كما في اسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان كما في آية الصدقات، كقوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } 11، وكما في آية الكفارة، كقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } 12، وفي قوله: { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } 13، فالفقير والمسكين شيء واحد.

وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر والتقوى والمعروف وفي الإثم والعدوان والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن، وقد بسط هذا بسطًا كبيرًا في الكلام على الإيمان، وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب؛ وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما في المسند عن النبي أنه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب»، وقد قال في الحديث الصحيح: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»، فإذا كان الإيمان في القلب فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد؛ فلذلك هو ثمرة ما في القلب؛ فلهذا قال بعضهم: الأعمال ثمرة الإيمان. وصحته لما كانت لازمة لصلاح القلب دخلت في الاسم، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع.

وفي الجملة، الذين رموا بالإرجاء من الأكابر، مثل طلق بن حبيب 14، وإبراهيم التيمي ونحوهما: كان إرجاؤهم من هذا النوع، وكانوا أيضا لا يستثنون في الإيمان، وكانوا يقولون: الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، ويَرَوْن الاستثناء شَكا، وكان عبد الله بن مسعود وأصحابه يستثنون، وقد روى في حديث أنه رجع عن ذلك لما قال له بعض أصحاب معاذ ما قال، لكن أحمد أنكر هذا وضعف هذا الحديث، وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال:

قول: إنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعًا.

وقول: إن الاستثناء محظور؛ فإنه يقتضى الشك في الإيمان.

والقول الثالث أوسطها وأعدلها: أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار؛ فإذا كان مقصوده أنى لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب الله علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده ألا يزكي نفسه، وألا يقطع بأنه عمل عملا كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس.

قال ابن أبي مُلَيْكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، لا يقول واحد منهم: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل. والبخاري في أول صحيحه بوب أبوابًا في الإيمان والرد على المرجئة، وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال: وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل قال محمد: لأنهم أفضل يقينًا أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيمان أبي بكر، أو كإيمان هذا، ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر.

وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان، وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله: أنت طالق إن شاء الله. فإذا علق الإيمان بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط. قالوا: وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله.

قلت: فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له: آمن. فيقول: أنا أومن إن شاء الله، أو آمنت إن شاء، أو أسلمت إن شاء الله، أو أشهد إن شاء الله أن لا إله إلا الله، وأشهد إن شاء الله أن محمدا رسول الله، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضى دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل: أنت مؤمن. قيل له: أنت عند الله مؤمن من أهل الجنة، فيقول: أنا كذلك إن شاء الله. أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب.

ولهذا كان من جواب بعضهم إذا قيل له: أنت مؤمن: آمنت بالله وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول: إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حقًا } 15، وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 16، فأنا مؤمن إن شاء الله، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزمًا بلا تعليق.

فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيًا، فإن الذي حرمه هؤلاء غير الذي استحسنه وأمر به أولئك، ومن جزم جزم بما في قلبه من الحال، وهذا حق لا ينافى تعليق الكمال والعاقبة، ولكن هؤلاء عندهم الأعمال ليست من الإيمان، فصار الإيمان هو الإسلام عند أولئك.

والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام. وهو المشهور عن أحمد رضي الله عنه وقد روى عنه فيه الاستثناء، كما قد بسط هذا في شرح حديث جبريل وغيره من نصوص الإيمان التي في الكتاب والسنة.

ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان: يراد به إيقاع الطلاق تارة، ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ، فقوله: إن شاء الله مثل قوله: بمشيئة الله، وقد شاء الله الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع، وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء الله أن تطلق.

وقول من قال: المشيئة تنجزه، ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعًا أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة، بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن. وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيدًا وتحقيقًا، فهذا يقع به الطلاق.

وما أعرف أحدًا أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده: أنا مؤمن إن شاء الله، أنا أومن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنًا، مثل الذي يقال له: هل تصير من أهل دين الإسلام؟ فقال: أصير إن شاء الله، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر. وإن كان قصده: إني قد آمنت وإيماني بمشيئة الله صار مؤمنًا، لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضا فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا، فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا: { آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } 17، وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } 18، فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعًا بلا استثناء.

وعلى كل أحد أن يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا كما أمر الله بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي. فقول القائل له: أنت مؤمن هو عندهم كقوله: هل أنت بَرٌّ تقي؟ فإذا قال: أنا بر تقي، فقد زكى نفسه. فيقول: إن شاء الله، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك أن الإيمان التام يتعقبه قبول الله له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر، فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال: هذا حاصل بمشيئة الله وفضله وإحسانه، وقوله فيه: إن شاء الله بمعني إذا شاء الله، وذلك تحقيق لا تعليق.

والرجل قد يقول: والله ليكونن كذا إن شاء الله، وهو جازم بأنه يكون. فالمعلق هو الفعل، كقوله: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ } 19 والله عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي: لأفعلن كذا إن شاء الله وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول: يكون إن شاء الله، ثم عزمه عليه قد يكون جازمًا، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم مترددًا معلقًا بالمشيئة أيضا، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقًا لزم تعليق بقاء العزم، فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداء أو دوامًا في مثل ذلك؛ ولهذا لم يَحْنَثْ المطلق المعلق وحرف إن لا يبقى العزم، فلابد إذا دخل على الماضي صار مستقبلا، تقول: إن جاء زيد كان كذلك { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } 20 وإذا أريد الماضي دخل حرف إن كقوله: { ن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي } 21 فيفرق بين قوله: أنا مؤمن إن شاء الله، وبين قوله: إن كان الله شاء إيماني.

وكذلك إذا كان مقصوده: إني لا أعلم بماذا يختم لي، كما قيل لابن مسعود: إن فلانًا يشهد أنه مؤمن. قال: فليشهد أنه من أهل الجنة، فهذا مراده إذا شهد أنه مؤمن عند الله يموت على الإيمان، وكذلك إن كان مقصوده: إن إيماني حاصل بمشيئة الله.

ومن لم يستثن قال: أنا لا أشك في إيمان قلبي، فلا جناح عليه إذا لم يُزَكِّ نفسه ويقطع بأنه عامل كما أمر، وقد تقبل الله عمله، وإن لم يقل: إن إيمانه كإيمان جبريل وأبي بكر وعمر ونحو ذلك من أقوال المرجئة، كما كان مِسْعَر بن كِدَام يقول: أنا لا أشك في إيماني، قال أحمد: ولم يكن من المرجئة، فإن المرجئة الذين يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، وهو كان يقول: هي من الإيمان، لكن أنا لا أشك في إيماني.

وكان الثوري يقول لسفيان بن عيينة: ألا تنهاه عن هذا، فإنهم من قبيلة واحدة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن.

وأما جَهْم، فكان يقول: إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووَكِيع وغيرهما كفَّروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك: إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة، وقد بسط الكلام على أقوالهم وأقوال غيرهم في الإيمان.

والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنًا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء، كما كان أصل القدر عجزهم عن الإيمان بالشرع والقدر جميعًا، فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين. قالت الخوارج والمعتزلة: قد علمنا يقينًا أن الأعمال من الإيمان، فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار؛ إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء.

وقالت المرجئة مقتصدتهم وغلاتهم كالجهمية: قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث. وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفارًا مرتدين؛ فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارًا مرتدين لوجب قتلهم؛ وبهذا ظهر للمعتزلة ضعف قول الخوارج فخالفوهم في أحكامهم في الدنيا.

والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها، دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم، فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة نصابًا، وحينئذ فقد يقولون: ليس في القرآن قتل المرتد، فقد يكون المرتد عندهم نوعين.

وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة، والزيدية والكرّامية والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء.

وقد بسط الكلام على تفصيل القول في أقوال هؤلاء في غير هذا الموضع.

وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام:

منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج.

ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة، ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه كعبد الله ابنه ونحوه، وكالخلال، وأبي عبد الله بن بطة، وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسي، وكلا الطائفتين تختم بالجهمية؛ لأنهم أغلظ البدع، وكالبخاري في صحيحه فإنه بدأ ب كتاب الإيمان والرد على المرجئة، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية.

ولما صنف الكتاب في الكلام صاروا يقدمون التوحيد والصفات، فيكون الكلام أولا مع الجهمية، وكذلك رتب أبو القاسم الطبري كتابه في أصول السنة، والبيهقي أفرد لكل صنف مصنفًا، فله مصنف في الصفات، ومصنف في القدر، ومصنف في شعب الإيمان، ومصنف في دلائل النبوة، ومصنف في البعث والنشور، وبسط هذه الأمور له موضع آخر.

والمقصود هنا أن منشأ النزاع في الأسماء والأحكام في الإيمان والإسلام أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض، قال أولئك: فإذا فعل ذنبًا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار، فقالت الجهمية والمرجئة: قد علمنا أنه ليس يخلد في النار، وأنه ليس كافرًا مرتدًا، بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم لا يتبعض، فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئًا واحدًا يشترك فيه جميع أهل القبلة، فقال فقهاء المرجئة: هو التصديق بالقلب والقول باللسان، فقالت الجهمية بعد تصديق اللسان قد لا يجب إذا كان الرجل أخرس أو كان مكرهًا فالذي لابد منه تصديق القلب، وقالت المرجئة: الرجل إذا أسلم كان مؤمنًا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال.

وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقص، والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، وكان ابن المبارك يقول: هو يتفاضل ويتزايد ويمسك عن لفظ ينقص، وعن مالك في كونه لا ينقص روايتان، والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله: «لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن» ونحو ذلك، لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء: «ناقصات عقل ودين»، وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص.

وذلك أن أصل أهل السنة: أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد.

أما الأول: فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان من الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة.

وأيضا، فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة؛ فإنهم ظنوا أنه شيء واحد وأنه يستوى فيه جميع المكلفين، فقالوا: إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء؛ كما أنه إذا تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس.

فيقال لهم: قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل ويتباينون فيه تباينًا عظيمًا، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر، ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار.

فإن الناس وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلا، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر الله به من الزكاة، ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فيجب عليه من العلم والإيمان والعمل مالا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان، وإن جعل جميع ذلك داخلا في مسمى الإيمان كان أبلغ، فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره.

ولهذا كان من الناس من قد يؤمن بالرسول مجملا، فإذا جاءت أمور أخرى لم يؤمن بها فيصير منافقًا مثل طائفة نافقت لما حولت القبلة إلى الكعبة، وطائفة نافقت لما انهزم المسلمون يوم أحد، ونحو ذلك.

ولهذا وصف الله المنافقين في القرآن بأنهم آمنوا ثم كفروا، كما ذكر ذلك في سورة المنافقين، وذكر مثل ذلك في سورة البقرة، فقال: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } 22، وقال طائفة من السلف عرفوا ثم أنكروا وأبصروا ثم عموا.

فمن هؤلاء من كان يؤمن أولا إيمانًا مجملا، ثم يأتي أمورًا لا يؤمن بها فينافق في الباطن، وما يمكنه إظهار الردة بل يتكلم بالنفاق مع خاصته، وهذا كما ذكر الله عنهم في الجهاد فقال: { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } 23.

وبالجملة، فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك؛ ولهذا قال النبي في النساء: «ناقصات عقل ودين» وقال في نقصان دينهن: «إنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي»، وهذا مما أمر الله به، فليس هذا النقص دينا لها تعاقب عليه، لكن هو نقص، حيث لم تؤمر بالعبادة في هذا الحال، والرجل كامل حيث أمر بالعبادة في كل حال، فدل ذلك على أن من أمر بطاعة يفعلها كان أفضل ممن لم يؤمر بها وإن لم يكن عاصيًا، فهذا أفضل دينًا وإيمانًا، وهذا المفضول ليس بمعاقب ومذموم، فهذه زيادة كزيادة الإيمان بالتطوعات، لكن هذه زيادة بواجب في حق شخص، وليس بواجب في حق شخص غيره، فهذه الزيادة لو تركها بهذا لا يستحق العقاب بتركها، وذاك لا يستحق العقاب بتركها، ولكن إيمان ذلك أكمل، قال النبي : «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا».

فهذا يبين تفاضل الإيمان في نفس الأمر به، وفي نفس الأخبار التي يجب التصديق بها.

والنوع الثاني: هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا هو الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع. وهذا أيضا يتفاضلون فيه، فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل دينًا وبرًا وتقوى، فهو كذلك أفضل إيمانًا، كما قال النبي : «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»، وقد يجتمع في العبد إيمان ونفاق، كما في الصحيحين عن النبي قال: «أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا حَدَّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر».

وأصل هؤلاء: أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع العباد فيما أوجبه الرب من الإيمان، وفيما يفعله العبد من الأعمال، فغلطوا في هذا وهذا ثم تفرقوا، كما تقدم.

وصارت المرجئة على ثلاثة أقوال: فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم قولا؛ وهو أن قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان.

وقالت الجهمية: هو تصديق القلب فقط.

وقالت الكرامية: هو القول فقط، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقرًا بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذبًا بقلبه كان منافقًا مؤمنا من أهل النار. وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان. وبعض الناس يحكي عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون: إنه مؤمن كامل الإيمان، وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذبًا في النار، بل يكون مخلدًا فيها. وقد تواتر عن النبي أنه: «يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان».

وإن قالوا: لا يخلد وهو منافق، لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، والمنافقون قد قال الله فيهم: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } 24، وقد نهى الله نبيه عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم، وقال له: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ } 25، وقال: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } 26، وقد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله.

فإن قالوا: هؤلاء قد كانوا يتكلمون بألسنتهم سرًا فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمنا إذا تكلم بلسانه ولم يتكلم بما ينقضه، فإن ذلك ردة عن الإيمان، قيل لهم: ولو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، قال تعالى: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } 27.

وأيضا، قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم كاذبون، فقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } 28، وقال تعالى: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 29. وقد قال النبي : «الإسلام علانية، والإيمان في القلب»، وقد قال الله تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } 30، وفي الصحيحين عن سعد؛ أن النبي أعطى رجالا ولم يعط رجلا. فقلت: يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وهو مؤمن؟ فقال: «أو مسلم» مرتين أو ثلاثًا. وبسط الكلام في هذا له مواضع أخر، وقد صنفت في ذلك مجلدًا غير ما صنفت فيه غير ذلك.

وكلام الناس في هذا الاسم ومسماه كثير؛ لأنه قطب الدين الذي يدور عليه، وليس في القول اسم علق به السعادة والشقاء، والمدح والذم، والثواب والعقاب، أعظم من اسم الإيمان والكفر؛ ولهذا سمى هذا الأصل: مسائل الأسماء والأحكام، وقد رأيت لابن الهيصم فيه مصنفًا في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لابن الباقلاني فيه مصنفًا أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة.

والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان. فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا. صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن؛ ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها.

ولهذا قال كثير منهم كأبي الحسين البصري ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب: إن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين. فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون الله أنزل الآية وأراد بها معنىً لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر، وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا؛ فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يقولون قولين كلاهما خطأ والصواب قول ثالث لم يقولوه، لكن قد اعتادوا أن يتأولوا ما خالفهم، والتأويل عندهم مقصوده بيان احتمال في لفظ الآية بجواز أن يراد ذلك المعنى بذلك اللفظ، ولم يستشعروا أن المتأول هو مبين لمراد الآية، مخبر عن الله تعالى أنه أراد هذا المعنى إذا حملها على معنى.

وكذلك إذا قالوا: يجوز أن يراد بها هذا المعنى، والأمة قبلهم لم يقولوا: أريد بها إلا هذا أو هذا، فقد جوزوا أن يكون ما أراده الله لم يخبر به الأمة، وأخبرت أن مراده غير ما أراده، لكن الذي قاله هؤلاء يتمشى إذا كان التأويل أنه يجوز أن يراد هذا المعنى من غير حكم بأنه مراد، وتكون الأمة قبلهم كلها كانت جاهلة بمراد الله، ضالة عن معرفته، وانقرض عصر الصحابة والتابعين وهم لم يعلموا معنى الآية، ولكن طائفة قالت: يجوز أن يريد هذا المعنى، وطائفة قالت: يجوز أن يريد هذا المعنى، وليس فيهم من علم المراد. فجاء الثالث وقال: هاهنا معنى يجوز أن يكون هو المراد. فإذا كانت الأمة من الجهل بمعاني القرآن والضلال عن مراد الرب بهذه الحال توجه ما قالوه، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف؛ فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا، وخطؤهم أخف، وصوابهم أكثر كما قدمناه.

وكان الأصل الذي أسسوه هو ما أمرهم الله به في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } 31، فإن هذا أمر للمؤمنين بما وصف به الملائكة، كما قال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } 32، فوصفهم سبحانه بأنهم لا يسبقونه بالقول، وأنهم بأمره يعملون، فلا يخبرون عن شيء من صفاته ولا غير صفاته إلا بعد أن يخبر سبحانه بما يخبر به؛ فيكون خبرهم وقولهم تبعًا لخبره وقوله، كما قال: { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } وأعمالهم تابعة لأمره، فلا يعملون إلا ما أمرهم هو أن يعملوا به، فهم مطيعون لأمره سبحانه.

وقد وصف - سبحانه- بذلك ملائكة النار، فقال: { قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } 33، وقد ظن بعضهم أن هذا توكيل، وقال بعضهم: بل لا يعصونه في الماضي، ويفعلون ما أمروا به في المستقبل. وأحسن من هذا وهذا أن العاصي هو الممتنع من طاعة الأمر مع قدرته على الامتثال، فلو لم يفعل ما أمر به لعجزه لم يكن عاصيًا، فإذا قال: { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } لم يكن في هذا بيان أنهم يفعلون ما يؤمرون، فإن العاجز ليس بِعاصٍ ولا فاعل لما أمر به، وقال: { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ليبين أنهم قادرون على فعل ما أمروا به، فهم لا يتركونه لا عجزًا ولا معصية. والمأمور إنما يترك ما أمر به لأحد هذين، إما ألا يكون قادرًا، وإما أن يكون عاصيًا لا يريد الطاعة، فإذا كان مطيعًا يريد طاعة الآمر وهو قادر، وجب وجود فعل ما أمر به، فكذلك الملائكة المذكورون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وقد وصف الملائكة بأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } .

فالملائكة مصدقون بخبر ربهم، مطيعون لأمره، ولا يخبرون حتي يخبر، ولا يعملون حتى يأمر، كما قال تعالى: { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } ، وقد أمر الله المؤمنين أن يكونوا مع الله ورسوله كذلك، فإن البشر لم يسمعوا كلام الله منه، بل بينهم وبينه رسول من البشر، فعليهم ألا يقولوا حتى يقول الرسول ما بلغهم عن الله، ولا يعملون إلا بما أمرهم به، كما قال تعالى: { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } 34.

قال مجاهد: لا تفتاتوا عليه بشيء حتى يقضيه الله على لسانه، { تُقَدِّمُوا } معناه: تتقدموا، وهو فعل لازم، وقد قرئ { تُقَدِّمُوا }، يقال: قدم وتقدم، كما يقال: بين وتبين، وقد يستعمل قدم متعديًا، أي قدم غيره، لكن هنا هو فعل لازم، فلا تقدموا معناه: لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله.

فعلى كل مؤمن ألا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعلمه تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة. وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلا.

فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة، وأهل النفاق والبدعة، وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة، لكن فيهم من النفاق والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي الله ورسوله، وخالفوا الله ورسوله، ثم إن لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول، ولو علموا لما قالوه لم يكونوا منافقين، بل ناقصى الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه وإن نقصوا به.


هامش

  1. [النساء: 19]
  2. [أي: يبلى. انظر: القاموس، مادة: خلق]
  3. [التغابن: 16]
  4. [آل عمران: 102]
  5. [البقرة: 286]
  6. [البقرة: 284]
  7. [أي: ناقص. انظر: القاموس، مادة: خدج]
  8. [هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي، وثقه ابن سعد، وقال يحيى بن معين والنسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي سنة 140ه. وقيل: 144ه]
  9. [أي: حطَّ من شأنهم. انظر: القاموس، مادة: زري]
  10. [الكهف: 107]
  11. [التوبة: 60]
  12. [المائدة: 89]
  13. [البقرة: 271]
  14. [هو طلق بن حبيب العنزي البصري، من الزهاد والعلماء العاملين، قال أبو حاتم: صدوق، يرى الإرجاء، ووثقه أبو زرعة وابن حبان، ذكره البخاري فيمن مات بين التسعين إلى المائة]
  15. [الأنفال: 2 4]
  16. [الحجرات: 15]
  17. [البقرة: 136]
  18. [البقرة: 285]
  19. [الفتح: 27]
  20. [البقرة: 137]
  21. [آل عمران: 31]
  22. [البقرة: 17، 18]
  23. [محمد: 20، 21]
  24. [النساء: 145]
  25. [التوبة: 80]
  26. [التوبة: 84]
  27. [التوبة: 64]
  28. [البقرة: 8]
  29. [المنافقون: 1]
  30. [الحجرات: 14]
  31. [الحجرات: 1]
  32. [الأنبياء: 26 29]
  33. [التحريم: 6]
  34. [الحجرات: 1]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثالث عشر
فصل في الفرقان بين الحق والباطل | فصل في أن الله يجمع بين الأمور المتماثلة | فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة | فصل فيمن خالف ما جاء به النبي | فصل في تحريف الإنجيل | فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم | فصل في تأويل حججهم الباطلة | فصل في اشتراك الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات | فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق | فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | فصل من أعظم أسباب ضلالهم مشاركتهم للفلاسفة | فصل في أول التفرق والابتداع في الإسلام | فصل في ظهور القدرية في آخر عهد الصحابة | سئل عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا | فصل في ماهية العلم الباطن | فصل في قول من قال إن النبي خص كل قوم بما يصلح لهم | فصل في أقسام القلوب | فصل في حكم إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه | فصل في أقسام القرآن | فصل في قسمه تعالى بالصافات والذاريات والمرسلات | مقدمة في التفسير وعلوم القرأن | فصل في أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه | فصل في ذكر خلاف السلف في التفسير | فصل في الاختلاف في التفسير | فصل في ذكر النوع الثاني من الاختلاف في التفسير | فصل في قول القائل ما أحسن طرق التفسير | فصل في تفسير التابعين للقرآن الكريم | فصل في ذكر من انحرف عن القرآن الكريم | فصل في حكم إجراء القرآن على الظاهر | سئل عمن فسر القرآن برأيه | سئل عمن نسخ القرآن والحديث بيده | سئل عن قول النبي أنزل القرآن على سبعة أحرف | سئل عن جمع القراءات السبع | فصل في تحزيب القرآن | سئل عمن يقرؤون القرآن في ختمة إلى سورة الضحى ولم يهللوا ولم يكبروا | وسئل عن قول الإمام مالك من كتب مصحف بغير الرسم العثماني فقد أثم | سئل عن قوم يقرؤون القرآن ويلحنون فيه | سئل عن رجل يتلو القرآن مخافة النسيان