مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق


فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق عدل

جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملا لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه، أو تكذيبه، فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم.

والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب والحساب والفلاحة والتجارة.

وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية، فهذه العلم فيها مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة. وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، ومن سوى الرسول إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما ألا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك، فلم يبينه إما لرغبة، وإما لرهبة، وإما لغرض آخر، وإما أن يكون بيانه ناقصًا ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان.

وبيان الرسول على وجهين:

تارة يبين الأدلة العقلية الدالة عليها، والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الإلهية والمطالب الدينية.

وتارة يخبر بها خبرًا مجردًا لما قد أقامه من الآيات البينات، والدلائل اليقينيات على أنه رسول الله المبلغ عن الله، وأنه لا يقول عليه إلا الحق، وأن الله شهد له بذلك، وأعلم عباده وأخبرهم أنه صادق مصدوق فيما بلغه عنه، والأدلة التي بها نعلم أنه رسول الله كثيرة متنوعة، وهي أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي أيضا شرعية سمعية، لكن الرسول بينها ودل عليها وأرشد إليها، وجميع طوائف النظار متفقون على أن القرآن اشتمل على الأدلة العقلية في المطالب الدينية، وهم يذكرون ذلك في كتبهم الأصولية، وفي كتب التفسير، وعامة النظار أيضا يحتجون بالأدلة السمعية الخبرية المجردة في المطالب الدينية، فإنه إذا ثبت صدق الرسول وجب تصديقه فيما يخبر به.

والعلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالأدلة العقلية، وأحسن الأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يعرف أن أجلَّ الأدلة العقلية وأكملها وأفضلها مأخوذ عن الرسول؛ فإن من الناس من يذهل عن هذا، فمنهم من يقدح في الدلائل العقلية مطلقًا؛ لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه من أحدثه من المتكلمين، ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدلائل اليقينية العقلية منه؛ لأنه قد صار في ذهنه أن القرآن إنما يدل بطريق الخبر فقط، فلابد أن يعلم بالعقل قبل ذلك ثبوت النبوة وصدق الخبر، حتى يستدل بعد ذلك بخبر من ثبت بالعقل صدقه، ومنها ما لا يعلمه غير الأنبياء إلا بخبر الأنبياء، وخبرهم المجرد هو دليل سمعي، مثل تفاصيل ما أخبروا به من الأمور الإلهية، والملائكة والعرش، والجنة والنار، وتفاصيل ما يؤمر به وينهى عنه.

فأما نفس إثبات الصانع ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ورحمته ونحو ذلك فهذا لا يعلم بالأدلة العقلية، وإن كانت الأدلة والآيات التي يأتي بها الأنبياء هي أكمل الأدلة العقلية، لكن معرفة هذه ليست مقصورة على الخبر المجرد، وإن كانت أخبار الأنبياء المجردة تفيد العلم اليقيني أيضا، فيعلم بالأدلة العقلية التي أرشدوا إليها، ويعلم بمجرد خبرهم لما علم صدقهم بالأدلة والآيات والبراهين التي دلت على صدقهم.

وقد تنازع الناس في العلم بالمعاد، وبحسن الأفعال وقبحها. فأكثر الناس يقولون: إنه يعلم بالعقل مع السمع، والقائلون بأن العقل يعلم به الحسن والقبح أكثر من القائلين بأن المعاد يعلم بالعقل، قال أبو الخطاب: هو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، ومنهم من يقول: المعاد والحسن والقبح لا يعلم إلا بمجرد الخبر، وهو قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من أتباع الأئمة كالقاضي أبي يعلي، وأبى المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، وكلهم متفقون على أن من العلوم ما يعلم بالعقل والسمع الذي هو مجرد الخبر، مثل كون أفعال العباد مخلوقة للّه أو غير مخلوقة، وكون رؤيته ممكنة أو ممتنعة ونحو ذلك.

وكتب أصول الدين لجميع الطوائف مملوءة بالاحتجاج بالأدلة السمعية الخبرية، لكن الرازي طعن في ذلك في المطالب العالية قال: لأن الاستدلال بالسمع مشروط بألا يعارضه قاطع عقلي، فإذا عارضه العقلي وجب تقديمه عليه. قال: والعلم بانتفاء المعارض العقلي متعذر، وهو إنما يثبت بالسمع ما علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به كالمعاد، وقد يظن أن هذه طريقة أئمته الواقفة في الوعيد، كالأشعري، والقاضي أبي بكر وغيرهما، وليس كذلك؛ فإن هؤلاء إنما وقفوا في أخبار الوعيد خاصة؛ لأن العموم عندهم لا يفيد القطع، أو لأنهم لا يقولون بصيغ العموم، وقد تعارضت عندهم الأدلة، وإلا فهم يثبتون الصفات الخبرية للّه، كالوجه واليد بمجرد السمع والخبر، ولم يختلف قول الأشعري في ذلك، وهو قول أئمة أصحابه، لكن أبو المعالي وأتباعه لا يثبتون الصفات الخبرية، بل فيهم من ينفيها ومنهم من يقف فيها كالرازي والآمدي، فيمكن أن يقال: قول الأشعري ينتزع من قول هؤلاء بأن يقال: لا يعرف أنهم اعتمدوا في الأصول على دليل سمعي، لكن يقال: المعاد يحتجون عليه بالقرآن والأحاديث، ولكن الرازي هو الذي سلك فيه طريق العلم الضروري أن الرسول جاء به.

وفي الحقيقة، فجميع الأدلة اليقينية توجب علمًا ضروريًا، والأدلة السمعية الخبرية توجب علمًا ضروريًا بأخبار الرسول، لكن منها ما تكثر أدلته كخبر الأخبار المتواترة، ويحصل به علم ضروري من غير تعيين دليل، وقد يعين الأدلة ويستدل بها، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أن يؤخذ من الرسول العلوم الإلهية الدينية سمعيها وعقليها، ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة الأدلة اليقينية البرهانية على أن ما قاله حق جملة وتفصيلا، فدلائل النبوة عامتها تدل على ذلك جملة، وتفاصيل الأدلة العقلية الموجودة في القرآن والحديث تدل على ذلك تفصيلا.

وأيضا، فإن الأنبياء والرسل إنما بعثوا بتعريف هذا، فهم أعلم الناس به وأحقهم بقيامه وأولاهم بالحق فيه.

وأيضا، فمن جرب ما يقولونه ويقوله غيرهم وجد الصواب معهم، والخطأ مع مخالفيهم، كما قال الرازي مع أنه من أعظم الناس طعنًا في الأدلة السمعية، حتى ابتدع قولا ما عرف به قائل مشهور غيره، وهو أنها لا تفيد اليقين، ومع هذا فإنه يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروى غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } 1، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 2، واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 3، { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } 4، قال: ومن جَرَّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.

وأيضا، فمن اعتبر ما عند الطوائف الذين لم يعتصموا بتعليم الأنبياء وإرشادهم وإخبارهم وجدهم كلهم حائرين، ضالين شاكين مرتابين، أو جاهلين جهلا مركبًا، فهم لا يخرجون عن المثلين اللذين في القرآن: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } 5.


هامش

  1. [فاطر: 10]
  2. [طه: 5]
  3. [الشورى: 11]
  4. [طه: 110]
  5. [النور: 39، 40]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثالث عشر
فصل في الفرقان بين الحق والباطل | فصل في أن الله يجمع بين الأمور المتماثلة | فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة | فصل فيمن خالف ما جاء به النبي | فصل في تحريف الإنجيل | فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم | فصل في تأويل حججهم الباطلة | فصل في اشتراك الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات | فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق | فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | فصل من أعظم أسباب ضلالهم مشاركتهم للفلاسفة | فصل في أول التفرق والابتداع في الإسلام | فصل في ظهور القدرية في آخر عهد الصحابة | سئل عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا | فصل في ماهية العلم الباطن | فصل في قول من قال إن النبي خص كل قوم بما يصلح لهم | فصل في أقسام القلوب | فصل في حكم إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه | فصل في أقسام القرآن | فصل في قسمه تعالى بالصافات والذاريات والمرسلات | مقدمة في التفسير وعلوم القرأن | فصل في أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه | فصل في ذكر خلاف السلف في التفسير | فصل في الاختلاف في التفسير | فصل في ذكر النوع الثاني من الاختلاف في التفسير | فصل في قول القائل ما أحسن طرق التفسير | فصل في تفسير التابعين للقرآن الكريم | فصل في ذكر من انحرف عن القرآن الكريم | فصل في حكم إجراء القرآن على الظاهر | سئل عمن فسر القرآن برأيه | سئل عمن نسخ القرآن والحديث بيده | سئل عن قول النبي أنزل القرآن على سبعة أحرف | سئل عن جمع القراءات السبع | فصل في تحزيب القرآن | سئل عمن يقرؤون القرآن في ختمة إلى سورة الضحى ولم يهللوا ولم يكبروا | وسئل عن قول الإمام مالك من كتب مصحف بغير الرسم العثماني فقد أثم | سئل عن قوم يقرؤون القرآن ويلحنون فيه | سئل عن رجل يتلو القرآن مخافة النسيان