مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر

مجموع فتاوى ابن تيمية المؤلف ابن تيمية
فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر


فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر عدل

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.

فصل

في قوله : «فحج آدم موسى» لما احتج عليه بالقدر.

وبيان أن ذلك في المصائب لا في الذنوب، وأن الله أمر بالصبر والتقوى فهذا في الصبر لا في التقوى، وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1، فأمر بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب.

وذلك أن بني آدم اضطربوا في هذا المقام مقام تعارض الأمر والقدر وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع.

والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحيحين حديث أبي هريرة، عن النبي ، قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم؟ أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا وكتب لك التوراة. فبكم تجد فيها مكتوبًا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 2، قبل أن أخلق، قال: بأربعين سنة، قال فحج آدم موسى».

وهو مروي أيضا من طريق عمر بن الخطاب بإسناد حسن، وقد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب:

فريق كذبوا بهذا الحديث: كأبي على الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله.

وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد: كقول بعضهم: إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم: لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.

وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بد في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضر نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كما قيل في مثل هؤلاء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء ظالمون معتدون.

ومنهم من يقول: هذا في حق أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبية وفنوا عما سوي الله، فيرون ألا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلا، بل لا يرون فاعلا إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلا فإنه يذم ويعاقب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفية المدعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم.

قال أبو المظفر السمعاني: وأما الكلام فيما جرى بين آدم وموسى من المحاجة في هذا الشأن، فإنما ساغ لهما الحجاج في ذلك؛ لأنهما نبيان جليلان خصا بعلم الحقائق، وأذن لهما في استكشاف السرائر، وليس سبيل الخلق الذين أمروا بالوقوف عند ما حد لهم والسكوت عما طوي عنهم سبيلها، وليس قوله: «فحج آدم موسى» إبطال حكم الطاعة، ولا إسقاط العمل الواجب، ولكن معناه ترجيح أحد الأمرين، وتقديم رتبة العلة على السبب، فقد تقع الحكمة بترجيح معني أحد الأمرين، فسبيل قوله: «فحج آدم موسى»، هذا السبيل، وقد ظهر هذا في قضية آدم، قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 3.

إلى أن قال: فجاء من هذا أن آدم لم يتهيأ له أن يستديم سكنى الجنة إلا بألا يقرب الشجرة؛ لسابق القضاء المكتوب عليه في الخروج منها، وبهذا صال على موسى عند المحاجة، وبهذا المعنى قضى له على موسى فقال: فحج آدم موسى.

قلت: ولهذا يقول الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: كثير من الرجال إذا وصلوا إلي القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر لا موافقًا له، وهو رضي الله عنه كان يعظم الأمر والنهي، ويوصي باتباع ذلك، وينهي عن الاحتجاج بالقدر، وكذلك شيخه حماد الدباس وذلك لما رأوه في كثير من السالكين من الوقوف عند القدر المعارض للأمر والنهي، والعبد مأمور بأن يجاهد في سبيل الله ويدفع ما قدر من المعاصي بما يقدر من الطاعة، فهو منازع للمقدور المحظور بالمقدور المأمور لله تعالى وهذا هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين.

وممن يشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة: كقول ابن سينا بأن يشهد سر القدر، والرازي يقرر ذلك؛ لأنه كان جبريًا محضًا.

وفي الجملة، فهذا المعني دائر في نفوس كثير من الخاصة من أهل العلم والعبادة فضلا عن العامة، وهو مناقض لدين الإسلام.

ومن هؤلاء من يقول: الخضر إنما سقط عنه الملام؛ لأنه كان مشاهدًا لحقيقة القدر، ومن شيوخ هؤلاء من كان يقول: لو قتلت سبعين نبيًا لما كنت مخطئًا، ومنهم من يقول بطرد قوله بحسب الإمكان فيقول: كل من قدر على فعل شيء وفعله فلا ملام عليه، فإن قدر أنه خالف غرض غيره فذلك ينازعه، والأقوى منهما يقمر الآخر، فأيهما أعانه القدر فهو المصيب، باعتبار أنه غالب وإلا فما ثم خطأ.

ومن هؤلاء الاتحادية الذين يقولون: الوجود واحد، ثم يقولون: بعضه أفضل من بعض والأفضل يستحق أن يكون ربًا للمفضول، ويقولون: إن فرعون كان صادقًا في قوله: {أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى} 4، وهذا قول طائفة من ملاحدة المتصوفة المتفلسفة الاتحادية، كالتلمساني، والقول بالاتحاد العام المسمى وحدة الوجود، هو قول ابن عربي الطائي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم، لكن لهم في المعاد والجزاء نزاع، كما أن لهم نزاعًا في أن الوجود هل هو شيء غير الذوات أم لا؟ وهؤلاء ضلوا من وجوه: منها جهة عدم الفرق بين الوجود الخالق والمخلوق.

وأما شهود القدر فيقال: لا ريب أن الله تعالى خالق كل شيء ومليكه، والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد: وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه، فيحصل له به نعيم، ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، فنحن لا ننكر اشتراك الجميع من جهة المشيئة والربوبية وابتداء الأمور، لكن نثبت فرقًا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، فإن العاقبة للتقوى، لا لغير المتقين، وقد قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 5، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} 6.

وإذا كان كذلك فحقيقة الفرق: أن من الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له فيحصل له به اللذة، ومنها ما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم، فرجع الفرق إلى الفرق بين اللذة والألم، وأسباب هذا وهذا، وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل، والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات، وإذا أثبتنا الفرق بين الحسنات والسيئات، وهو الفرق بين الحسن والقبيح، فالفرق يرجع إلى هذا.

والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائمًا للإنسان، وبعضها منافيًا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء. وتنازعوا في الحسن والقبح، بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي.

يبقى الكلام في بعض أنواع الحسن والقبيح لا في جميعه، ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك.

والنزاع في أمور:

منها: هل للفعل صفة صار بها حسنًا وقبيحًا، وأن الحسن العقلي هو كونه موافقا لمصلحة العالم، والقبح العقلي بخلافه، فهل في الشرع زيادة على ذلك؟ وفي أن العقاب في الدنيا والآخرة هل يعلم بمجرد العقل؟ وبسط هذا له موضع آخر.

ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين: كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة.

والتحقيق: أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص فيعود الكمال، والنقص إلى الملائم والمنافي، وهذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أن الفرق بين الأفعال الحسنة التي يحصل لصاحبها بها لذة، وبين السيئة التي يحصل له بها ألم أمر حسي يعرفه جميع الحيوان، فمن قال من المدعين للحقيقة القدرية، والفناء في توحيد الربوبية، والاصطلام: إنه يبقي في عين الجمع بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ، ، كان هذا مما يعلم كذبه فيه، إن كان يفهم ما يقول، وإلا كان ضالا يتكلم بما لايعرف حقيقته، وهو الغالب على من يتكلم في هذا.

فإن القوم قد يحصل لأحدهم هذا المشهد مشهد الفناء في توحيد الربوبية فلا يشهد فرقًا ما دام فى هذا المشهد، وقد يغيب عنه الإحساس بما يوجب الفرق مدة من الزمان، فيظن هذا الفناء مقامًا محمودًا، ويجعله إما غاية، وإما لازمًا للسالكين، وهذا غلط، فإن عدم الفرق بين ما ينعم ويعذب أحيانًا هو مثل عدم الفرق بين النوم والنسيان، والغفلة والاشتغال بشيء عن آخر وهو لا يزيل الفرق الثابت في نفس الأمر، ولا يزيل الإحساس به إذا وجد سببه.

والواحد من هؤلاء لابد أن يجوع أو يعطش، فلا يسوى بين الخبز والشراب، وبين الملح الأجاج، والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول: هذا طيب وهذا ليس بطيب، وهذا هو الفرق بين كل ما أمر الله ورسوله به ونهى عنه، فإنه أمر بالطيب من القول والعمل، ونهى عن الخبيث.

وإذا عرف أن المراد بالفرق هو أن من الأمور ما ينفع، ويوجب اللذة والنعيم، ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب، فبعض هذه الأمور تدرك بالحس، وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا، فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة، وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان، فإنه يدرك من عواقب الأفعال مالا يدركه الحس، ولفظ العقل في القرآن يتضمن ما يجلب به المنفعة وما يدفع به المضرة.

والله تعالى بعث الرسل بتكميل الفطرة، فدلوهم على ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون من عذاب الآخرة، فالفرق بين المأمور والمحظور هو كالفرق بين الجنة والنار، واللذة والألم، والنعيم والعذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق، فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبًا بما فعله من الشر وتركه من الخير.

ولا ريب أن في الناس من قد يزول عقله في بعض الأحوال، ومن الناس من يتعاطى ما يزيل العقل؛ كالخمر وكسماع الأصوات المطربة، فإن ذلك قد يقوى حتى يسكر أصحابها، ويقترن بهم شياطين، فيقتل بعضهم بعضًا في السماع المسكر، كما يقتل شراب الخمر بعضهم بعضا إذا سكروا، وهذا مما يعرفه كثير من أهل الأحوال، لكن منهم من يقول: المقتول شهيد، والتحقيق: أن المقتول يشبه المقتول في شرب الخمر، فإنهم سكروا سكرًا غير مشروع، لكن غالبهم يظن أن هذا من أحوال أولياء الله المتقين، فيبقى القتيل فيهم كالقتيل في الفتنة، وليس هو كالذي تعمد قتله، ولا هو كالمقتول ظلمًا من كل وجه.

فإن قيل: فهل هذا الفناء يزول به التكليف؟

قيل: إن حصل للإنسان سبب يعذر فيه، زال به عقله الذي يميز به، فكان بمنزلة النائم والمغمي عليه، والسكران سكرًا لا يأثم به، كمن سكر قبل التحريم أو أوجر الخمر، أو أكره على شربها عند الجمهور، وأما إن كان السكر لسبب محرم، فهذا فيه نزاع معروف بين العلماء.

والذين يذكرون عن أبي يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص، ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون: إنه غاب عقله حتى قال: أنا الحق وسبحاني وما في الجبة إلا الله، ويقولون: إن الحب إذا قوى على صاحبه وكان قلبه ضعيفًا يغيب بمحبوبه عن حبه وبموجوده عن وجده، وبمذكوره عن ذكره حتي يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ويحكون أن شخصًا ألقى بنفسه في الماء فألقى محبة نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت، فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني. فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا.

وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقًا وتوحيدًا، كما فعله صاحب منازل السائرين، وابن العريف وغيرهما، كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقًا وتوحيدًا، كابن عربي الطائي.

وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء ثم صاروا حزبين:

حزب يقول: وقع في ذلك الفناء فكان معذورًا في الباطن، ولكن قتله واجب في الظاهر، ويقولون: القاتل مجاهد، والمقتول شهيد، ويحكون عن بعض الشيوخ أنه قال: عثر عثرة لو كنت في زمنه لأخذت بيده، ويجعلون حاله من جنس حال أهل الاصطلام والفناء.

وحزب ثان: وهم الذين يصوبون حال أهل الفناء في توحيد الربوبية، ويقولون: هو الغاية، يقولون: بل الحلاج كان في غاية التحقيق والتوحيد.

ثم هؤلاء في قتله فريقان:

فريق يقول: قتل مظلومًا وما كان يجوز قتله، ويعادون الشرع وأهل الشرع لقتلهم الحلاج، ومنهم من يعادي جنس الفقهاء وأهل العلم، ويقولون: هم قتلوا الحلاج، وهؤلاء من جنس الذين يقولون: لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة، والذين يتكلمون بهذا الكلام لا يميزون ما المراد بلفظ الشريعة في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، ولا المراد بلفظ الحقيقة أو الحق أو الذوق أو الوجد أو التوحيد في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، بل فيهم من يظن الشرع عبارة عما يحكم به القاضي.

ومن هؤلاء من لا يميز بين القاضي العالم العادل والقاضي الجاهل والقاضي الظالم، بل ما حكم به حاكم سماه شريعة، ولا ريب أنه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر التي يحبها الله ورسوله خلاف ماحكم به الحاكم، كما قال النبي : «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار». فالحاكم يحكم بما يسمعه من البينة والإقرار، وقد يكون للآخر حجج لم يبينها، وأمثال هذا.

فالشريعة في نفس الأمر هي الأمر الباطن، وما قضى به القاضي ينفذ ظاهرًا، وكثير من الأمور قد يكون باطنها بخلاف ما يظهر لبعض الناس، ومن هذا قصة موسى والخضر فإنه كان الذي فعله مصلحة، وهو شريعة أمره الله بها، ولم يكن مخالفًا لشرع الله، لكن لما لم يعرف موسى الباطن، كان في الظاهر عنده أن هذا لا يجوز، فلما بين له الخضر الأمور وافقه، فلم يكن ذلك مخالفًا للشرع.

وهذا الباب يقال فيه: قد يكون الأمر في الباطن بخلاف ما يظهر، وهذا صحيح، لكن تسمية الباطن حقيقة، والظاهر شريعة، أمر اصطلاحي.

ومن الناس من يجعل الحقيقة هي الأمر الباطن مطلقا، والشريعة الأمور الظاهرة.

وهذا كما أن لفظ الإسلام إذا قرن بالإيمان أريد به الأعمال الظاهرة، ولفظ الإيمان يراد به الإيمان الذي في القلب، كما في حديث جبريل، فإذا جمع بينهما فقيل: شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، كان هذا كلامًا صحيحًا، لكن متى أفرد أحدهما تناول الآخر، فكل شريعة ليس لها حقيقة باطنة، فليس صاحبها من المؤمنين حقًا، وكل حقيقة لا توافق الشريعة التي بعث الله بها محمدا فصاحبها ليس بمسلم، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين.

وقد يراد بلفظ الشريعة ما يقوله فقهاء الشريعة باجتهادهم، وبالحقيقة ما يذوقه ويجده الصوفية بقلوبهم، ولا ريب أن كلا من هؤلاء مجتهدون: تارة مصيبون، وتارة مخطئون، وليس لواحد منهما تعمد مخالفة الرسول ، ثم إن اتفق اجتهاد الطائفتين، وإلا فليس على واحدة أن تقلد الأخرى إلا أن تأتي بحجة شرعية توجب موافقتها.

فمن الناس من يظهر أن الحلاج قتل باجتهاد فقهى يخالف الحقيقة الذوقية التي عليها هؤلاء، وهذا ظن كثير من الناس، وليس كذلك، بل الذي قتل عليه إنما هو الكفر، وقتل باتفاق الطائفتين، مثل دعواه أنه يقدر أن يعارض القرآن بخير منه، ودعواه أنه من فاته الحج أنه يبني بيتًا يطوف به، ويتصدق بشيء قدره، وذلك يسقط الحج عنه، إلى أمور أخرى توجب الكفر باتفاق المسلمين الذين يشهدون أن محمدا رسول الله، علماؤهم وعبادهم وفقهاؤهم وفقراؤهم وصوفيتهم.

وفريق يقولون: قتل لأنه باح بسر التوحيد والتحقيق الذي ما كان ينبغي أن يبوح به، فإن هذا من الأسرار التي لا يتكلم بها إلا مع خواص الناس، وهي مما تطوى ولا تروى وينشدون:

من باح بالسر كان القتل شيمته ** من الرجال ولم يأخذ له ثار

باحوا بالسر تباح دماؤهم ** وكذا دماء البائحين تباح

وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل: إن ما قاله النصارى في المسيح حق، وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء، لكن ما يمكن التصريح به؛ لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا، وتوحيده الذي قال فيه:

ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحد

توحيد من يخبر عن نعته ** عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ** ونعت من ينعته لا حد

فإن حقيقة قول هؤلاء: أن الموحد هو الموحد، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد، ويفرقون بين قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى} 7، وبين قول الحلاج: أنا الحق وسبحاني، فإن فرعون قال ذلك وهو يشهد نفسه، فقال عن نفسه، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم، وكان الناطق على لسانهم غيرهم.

وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين، ولهذا رد الجنيد رحمه الله على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال: هو الفرق بين القديم والمحدث، فبين الجنيد سيد الطائفة أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم، والعبد المحدث، لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا، وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد، وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق، فأولئك هم الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، أو أنه وجود المخلوقات، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع.

والمقصود هنا أن الحلاج لم يكن مقيدًا بصنف من هذه الأصناف، بل كان قد قال من الأقوال التي توجب الكفر والقتل باتفاق طوائف المسلمين ما قد ذكر في غير هذا الموضع، وكذلك أنكره أكثر المشايخ، وذموه: كالجنيد، وعمر بن عثمان المكي، وأبي يعقوب النهرجوري.

ومن التبس عليه حاله منهم فلم يعرف حقيقة ما قاله إلا من كان يقول بالحلول والاتحاد مطلقًا أو معينًا فإنه يظن أن هذا كان قول الحلاج وينصر ذلك؛ ولهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج، وعند جماهير المشايخ الصوفية، وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين، بل كان زنديقًا وزهده لأسباب متعددة يطول وصفها، ولم يكن من أهل الفناء في توحيد الربوبية، بل كان قد تعلم السحر وكان له شياطين تخدمه إلى أمور أخرى مبسوطة في غير هذا الموضع.

وبكل حال آدم لما أكل هو وحواء من الشجرة، لم يكن زائل العقل ولا فانيا في شهود القدر العام، ولا احتج على موسى بذلك، بل قال: لم تلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق؟ فاحتج بالقدر السابق لا بعدم تمييزه بين المأمور والمحظور.


هامش

  1. [غافر: 55]
  2. [طه: 121]
  3. [البقرة: 30]
  4. [النازعات: 24]
  5. [ص: 28]
  6. [القلم: 35]
  7. [النازعات: 24]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن
كتاب القدر | فصل في قدرة الرب عز وجل | سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك | سئل عن أقوام يقولون المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل | سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين | سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي | سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | سئل هل أراد الله تعالى المعصية من خلقه | سئل عن قول علي: لا يرجون عبد إلا ربه | سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون | فصل في اللام التي في قوله: ليعبدون | فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله | فصل في قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة | قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس | سئل عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان | سئل عن الخير والشر والقدر الكوني، والأمر والنهي الشرعي | قوله في معنى قول علي: إنما أنفسنا بأيديينا | سئل عن القصيدة التائية في القدر | فصل في أصناف القدرية | سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر | فصل احتجاجهم بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | فصل قول القائل: ما لنا في جميع أفعالنا قدرة | فصل قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا | فصل من قال: إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن | فصل احتجاجهم بحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة | سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة | لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير | فصل تكليف ما لا يطاق | فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر | فصل الصواب في قصة آدم وموسى | فصل آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببا في مصيبتهم | فصل الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو | فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله | فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله | فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها | سئل عن أفعال العبد الاختيارية | سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن | فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه | سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا | سئل عن أبيات في الجبر | فصل السلف على أن العباد مأمورون منهيون | فصل أن العباد لهم مشيئة وقدرة وفعل | فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله | فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها | فصل قول الناظم السائل لأنهم قد صرحوا أنه على الإرادات لمقسور | قول السائل ولم يكن فاعل أفعاله حقيقة والحكم مشهور | قول السائل ومن هنا لم يكن للفعل في ما يلحق الفاعل تأثير | فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله | قول السائل وكل شيء ثم لو سلمت لم يك للخالق تقدير | قول السائل أو كان فاللازم من كونه حدوثه والقول مهجور | قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور | قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور | سئل عن المقتول هل مات بأجله أم قطع القاتل أجله | سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى | سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم | فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب | فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا | سئل عن الرزق هل يزيد أو ينقص وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد | فصل والرزق يراد به شيئان | سئل عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له | سئل عن الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال | سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق | سئل عن قول: أبرأ من الحول والقوة إلا إليه