مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها


فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها

عدل

إذا عرف هذا فنقول:

أما قول القائل كيف يكون العبد مختارًا لأفعاله وهو مجبور عليها؟ إنما يتوجه على الجهمية الذين يقولون: بإطلاق الجبر، ونفي قدرة العبد واختياره، وتأثير قدرته في الفعل، وقد بينا أن إطلاق الجبر مما أنكره أئمة السنة، كالأوزاعي والزبيدي والثوري وعبد الرحمن ابن مهدي، وأحمد بن حنبل وغيرهم، وما علمت أحدًا من الأئمة أطلقه، بل ما علمت أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أطلقوه في مسائل القدر والجبر.

ولا قال أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، لا مالك، ولا أبو حنيفة، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء إن الله يكلف العباد ما لا يطيقونه، ولا قال أحد منهم: إن العبد ليس بفاعل لفعله حقيقة، بل هو فاعل مجازًا، ولا قال أحد منهم: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم: إن العبد لا يكون قادرًا إلى حين الفعل، وأن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه، وأن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله.

بل نصوصهم مستفيضة بما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل. كقوله تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 1، وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} 2، وقول النبي لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب».

واتفقوا على أن العبادات لا تجب إلا على مستطيع، وأن المستطيع يكون مستطيعًا مع معصيته وعدم فعله، كمن استطاع ما أمر به من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يفعله. فإنه مستطيع باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وهو مستحق للعقاب على ترك المأمور الذي استطاعه ولم يفعله، لا على ترك ما لم يستطعه.

وصرحوا بما صرح به أبو حنيفة، وأبو العباس بن سريج، وغيرهما من أن الاستطاعة المتقدمة على الفعل تصلح للضدين، وإن كان العبد حين الفعل مستطيعًا أيضا عندهم. فهو مستطيع عندهم قبل الفعل ومع الفعل، وهو حين الفعل لا يمكنه أن يكون فاعلا تاركًا، فلا يقولون: إن الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل. كقول المعتزلة، ولا بأنها لا تكون إلا مع الفعل كقول المجبرة، بل يكون مستطيعًا قبل الفعل، وحين الفعل.

وأما قوله: العلماء قد صرحوا بأن العبد يفعلها قسرًا. يقال له: لم يصرح بهذا أحد من علماء السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، ولا أحد من أكابر أتباع الأئمة الأربعة، وإنما يصرح بهذا بعض المتأخرين الذين سلكوا مسلك جهم ومن وافقه وليس هو لأهل علماء السنة، بل ولا جمهورهم ولا أئمتهم، بل هم عند أئمة السلف من أهل البدع المنكرة.


هامش

  1. [آل عمران: 97]
  2. [المجادلة: 4]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن
كتاب القدر | فصل في قدرة الرب عز وجل | سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك | سئل عن أقوام يقولون المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل | سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين | سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي | سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | سئل هل أراد الله تعالى المعصية من خلقه | سئل عن قول علي: لا يرجون عبد إلا ربه | سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون | فصل في اللام التي في قوله: ليعبدون | فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله | فصل في قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة | قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس | سئل عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان | سئل عن الخير والشر والقدر الكوني، والأمر والنهي الشرعي | قوله في معنى قول علي: إنما أنفسنا بأيديينا | سئل عن القصيدة التائية في القدر | فصل في أصناف القدرية | سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر | فصل احتجاجهم بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | فصل قول القائل: ما لنا في جميع أفعالنا قدرة | فصل قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا | فصل من قال: إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن | فصل احتجاجهم بحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة | سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة | لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير | فصل تكليف ما لا يطاق | فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر | فصل الصواب في قصة آدم وموسى | فصل آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببا في مصيبتهم | فصل الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو | فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله | فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله | فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها | سئل عن أفعال العبد الاختيارية | سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن | فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه | سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا | سئل عن أبيات في الجبر | فصل السلف على أن العباد مأمورون منهيون | فصل أن العباد لهم مشيئة وقدرة وفعل | فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله | فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها | فصل قول الناظم السائل لأنهم قد صرحوا أنه على الإرادات لمقسور | قول السائل ولم يكن فاعل أفعاله حقيقة والحكم مشهور | قول السائل ومن هنا لم يكن للفعل في ما يلحق الفاعل تأثير | فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله | قول السائل وكل شيء ثم لو سلمت لم يك للخالق تقدير | قول السائل أو كان فاللازم من كونه حدوثه والقول مهجور | قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور | قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور | سئل عن المقتول هل مات بأجله أم قطع القاتل أجله | سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى | سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم | فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب | فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا | سئل عن الرزق هل يزيد أو ينقص وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد | فصل والرزق يراد به شيئان | سئل عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له | سئل عن الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال | سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق | سئل عن قول: أبرأ من الحول والقوة إلا إليه