مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور
قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور
عدلوأما قوله:
والجبر إن صح يكن مكرهًا ** وعندك المكره معذور
فيقال: قد تقدم بيان معنى الجبر وأن الجبر إذا أريد به الإكراه، كما يجبر الإنسان غيره، ويكرهه على خلاف مراده، فالله تعالى أجل وأعلا وأقدر من أن يحتاج إلى مثل هذا الجبر والإكراه، فإن هذا إنما يكون من عاجز يعجز عن جعل غيره مريدًا لفعله مختارًا له محبًا له راضيا به، والله سبحانه على كل شيء قدير، فإذا شاء أن يجعل العبد محبًا لما يفعله، مختارًا له جعله كذلك، وإن شاء أن يجعله مريدًا له بلا محبة بل مع كراهة فيفعله كارهًا له جعله كذلك.
وليس هذا كإكراه المخلوق للمخلوق، فإن المخلوق لا يقدر أن يجعل في قلب غيره لا إرادة وحبا، ولا كراهة وبغضًا، بل غايته أن يفعل ما يكون سببًا لرغبته أو رهبته، فإذا أكرهه فعل به من العقاب أو الوعيد ما يكون سببًا لرهبته وخوفه، فيفعل ما لا يختار فعله، ولا يفعله راضيًا بفعله، ويكون مراده دفع الشر عنه، فهو مريد للفعل، لكن المقصود دفع الشر عنه، لا نفس الفعل، ولهذا قد يسمى مختارًا، ويسمى غير مختار باعتبار، ويسمى مريدًا، ويسمى غير مريد باعتبار.
ولكن اللغة العربية لا يسمى فيها مختارًا بل مكرهًا، وهي لغة الفقهاء. كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له». فبين النبي ﷺ أن من يفعل بمشيئته لا يكون مكرهًا، والمكره يفعل بمشيئة غيره، وهو المكره له، فإنه وإن كان قاصدًا لما يفعله ليس هو بمنزلة المفعول به الذي لا قدرة له، ولا إرادة له في الفعل بحال، فإن مقصوده بالقصد الأول دفع الشيء لا نفس الفعل، فالمراتب ثلاثة:
أحدها: من يفعل به الفعل من غير قدرة له على الامتناع، كالذي يحمل بغير اختياره ويدخل إلى مكان أو يضرب به غيره، أو تضجع المرأة وتفعل بها الفاحشة بغير اختيارها، من غير قدرة على الامتناع، فهذا ليس له فعل اختياري، ولا قدرة ولا إرادة. ومثل هذا الفعل ليس فيه أمر ولا نهي، ولا عقاب باتفاق العقلاء، وإنما يعاقب إذا أمكنه الامتناع فتركه؛ لأنه إذا لم يمتنع كان مطاوعًا لا مكرها، ولهذا فرق بين المرأة المطاوعة على الزنا والمكرهة عليه.
والثانية: أن يكره بضرب أو حبس، أو غير ذلك حتى يفعل، فهذا الفعل يتعلق به التكليف، فإنه يمكنه ألا يفعل، وإن قتل؛ ولهذا قال الفقهاء: إذا أكره علي قتل المعصوم، لم يحل له قتله، وإن قتل فقد اختلفوا في القود. فقال أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه: يجب القود على المكره والمكرَه لأنهما جميعا يشتركان فى القتل، وقال أبو حنيفة: يجب على المكره الظالم؛ لأن المكره قد صار كالآلة، وقال زفر: بل على المكره المباشر؛ لأنه مباشر وذاك متسبب. وقال: لو كان كالآلة لما كان آثما، وقد اتفقوا على أنه آثم، وقال أبو يوسف: لا تجب على واحد منهما.
وأما إن أكره على الشرب للخمر، ونحوه من الأفعال، فأكثرهم يجوز ذلك له، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ الله مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وأما إن أكره الرجل على الزنا، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: لا يكون مكرها عليه، كقول أبي حنيفة، وهو منصوص أحمد.
والثاني: قد يكون مكرها عليه، كقول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد.
وإذا أكره على كلمة الكفر جاز له التكلم بها، مع طمأنينة قلبه بالإيمان.
وإذا أكره على العقود كالبيع، والنكاح، والطلاق، والظهار، والإيلاء، والعتق، ونحو ذلك، فمذهب الجمهور، كمالك، والشافعي، وأحمد أن كل قول أكره عليه بغيرحق فهو باطل، فلا يقع به طلاق ولا عتاق، ولا يلزمه نذر، ولا يمين، ولا غير ذلك، وأما أبو حنيفة فيفرق بين ما يقبل الفسخ عنده، ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه، فلا يلزم مع الإكراه، وما ليس كذلك كالنكاح والطلاق والعتاق فيلزم مع الإكراه.
وأما المكره بحق كالحربي على الإسلام، فهذا يلزمه ما أكره عليه باتفاق العلماء.
فقول الناظم:
والجبر إن صح يكن مكرها ** وعندك المكره معذور
قول مؤلف من مقدمتين باطلتين:
الأولى: إن صح الجبر كان مكرها، وقد عرف أن لفظ الجبر، إذا أريد به الجبر المعروف من إجبار الإنسان غيره على ما لا يريده، فهذا الجبر لم يصح، وإن أريد به أن الله يخلق إرادته، فهذا الجبر إذا صح لم يكن مكرها.
والمقدمة الثانية قوله: والمكره عندك معذور، فليس الأمر كذلك، بل المكره نوعان:
نوع أكرهه المكره بحق، فهذا ليس بمعذور، والله تعالى لا يكره أحدًا إلا بحق، سواء قدر الإكراه بخلقه وقدره، أو شرعه وأمره، وإنما المكره المعذور هو المظلوم المكره بغير حق، والله تعالى لا يظلم أحدًا مثقال ذرة، بل هو الحكم العدل القائم بالقسط، كما قال تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2.
وقد اتفق المسلمون وغيرهم، على أن الله منزه عن الظلم، لكن تنازع الناس في معنى الظلم الذي يجب تنزيه الرب عنه، فجعلت القدرية من المعتزلة وغيرهم الظلم الذي ينزه عنه الخالق من جنس الظلم الذي ينهي عنه المخلوق، وشبهوا الله تعالى بخلقه، فأوجبوا عليه من جنس ما يجب على المخلوق، وتكلموا في التعديل والتجويز بكلام متناقض، كما هو معروف عنهم وألزموا الناس إلزامات كثيرة.
منها: أن قالوا: إن العبد لو رأى رفقة يظلم بعضهم بعضًا، وهو يقدر على منعهم من الظلم ولم يمنعم لكان ظالمًا ومثل هذا ليس ظلما من الله فقالوا: هو قد نهاهم عن ذلك، وعرضهم للثواب إذا أطاعوه، وللعقاب إذا عصوه، وهم قد ظلموا باختيارهم، ولم يمكن منعهم من ذلك إلا بإلجائهم إلى الترك، والإلجاء يزيل التكليف الذي عرضهم به للثواب.
فقال لهم الجمهور: الواحد منا لو فعل ذلك مع علمه بأن عباده لا يطيعون أمره، ولا يمتنعون عن الظلم، بل يزدادون عصيانًا وظلما، لم يكن ذلك حكمة ولا عدلا، وإنما يحمد ذلك من الواحد منا لعدم علمه بالعاقبة، أو لعجزه عن المنع، والله عليم بالعواقب، وهو على كل شيء قدير، وإلا فإذا كان الواحد منا يعلم أنه إذا أمرهم، ليعرضهم للثواب عصوة وظلم بعضهم بعضًا، وجب عليه أن يمنعهم من الظلم بالإلجاء.
وتمام الكلام في ذلك مبسوط في موضع آخر. فإن هذا الجواب لا يحتمل إلا التنبيه.
وقالت طائفة من مثبتة القدر من المتقدمين، والمتأخرين، من الجهمية وأهل الكلام، والفقهاء وأهل الحديث: الظلم منه ممتنع لذاته، فكل ممكن يدخل تحت القدرة ليس فعله ظلمًا، وقالوا: الظلم التصرف في ملك الغير، أو الخروج عن طاعة من تجب طاعته، وكل من هذين ممتنع في حق الله.
وقال كثير من أهل السنة والحديث والنظار: بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ومن ذلك أن يبخس المحسن شيئًا من حسناته، أو يحمل عليه من سيئات غيره، وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} 3. قال غير واحد من السلف: الهضم أن يهضم من حسناته، والظلم أن يزاد في سيئاته، وقد قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 4 وقال: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 5.
وفي حديث البطاقة، الذي رواه الترمذي وغيره وحسنه، ورواه الحاكم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال: «يجاء يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تعالى له: أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يارب. فيقول الله عز وجل: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يارب. فيقول الله تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فيقول: يارب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة».
وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ} 6، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ} 7، وقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} 8، ومثل هذه النصوص كثيرة، ومعلوم أن الله تعالى لم ينف بها الممتنع الذي لا يقبل الوجود، كالجمع بين الضدين، فإن هذا لم يتوهم أحد وجوده، وليس في مجرد نفيه ما يحصل به مقصود الخطاب، فإن المراد بيان عدل الله، وأنه لا يظلم أحدًا، كما قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 9 بل يجازيهم بأعمالهم، ولا يعاقبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 10، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 11، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} 12.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل، وأنزل الكتب».
ومثل هذه النصوص كثيرة، وهي تبين أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه ليس هو ما تقوله القدرية، ولا ما تقوله الجبرية، ومن وافقهم، وقد بسط الكلام على تحقيق هذا المقام في مواضع أخر، وبين فيها حكمة الله وعدلة، فإن هذا المقام هو من أعظم المقامات التي اضطرب فيها كثير من الأولين والآخرين. والبسط الكثير الذي ينتهي به إلى تفصيل أقوال الناس، وحقيقة الأمر في ذلك ببيان الدلائل، والجواب عن المعارضات لا يناسب جواب هذا النظم، وهو مذكور في موضع آخر.
وفي الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن النبي ﷺ: فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، ياعبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، ياعبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. ياعبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه». قال سعيد: كان أبو أدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
فذكر في أول هذا الحديث الإلهي، الذي قال فيه الإمام أحمد: هو أشرف حديث لأهل الشام، أنه حرم الظلم على نفسه. والتحريم ضد الإيجاب، وبين في القرآن أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا علي قول الطائفة الثانية المراد به مجرد خبره بمجرد الوعد والوعيد، وعلى قول الآخرين: بل هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم كما أخبر عن نفسه، فقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 13، فهو حق أحقه سبحانه على نفسه، لا أن أحدًا من الخلق يوجب عليه حقًا، ولا يحرم عليه شيئًا.
وختم الحديث، بقوله: «إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه»، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ أنه قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة».
وفي هذا الحديث قوله: «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي»، ومن نعمه على عبده المؤمن، ما ييسره له من الإيمان والحسنات فإنها من فضله وإحسانه ورحمته وحكمته، وسيئات العبد من عدله وحكمته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو لا يسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقوله جهم وأتباعه، وقد بسط الكلام على هذا وبين حقيقة قوله: «والخير بيديك، والشر ليس إليك» وإن كان خالق كل شيء، وبين أن الشر لم يضف إلى الله في الكتاب والسنة، إلا على أحد وجوه ثلاثة:
إما بطريق العموم، كقوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 14، وإما بطريقة إضافته إلى السبب، كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 15.
وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} 16.
وقد جمع في الفاتحة الأصناف الثلاثة، فقال: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 17، وهذا عام. وقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} 18، فحذف فاعل الغضب. وقال: {وَلَا الضَّالِّينَ} 19، فأضاف الضلال إلى المخلوق، ومن هذا قول الخليل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 20، وقول الخضر: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} 21، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} 22، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} 23.
وقد بسط الكلام على حقائق هذه الأمور، وبين أن الله لم يخلق شيئًا إلا لحكمة، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 24، وقال: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 25، فالمخلوق باعتبار الحكمة التي خلق لأجلها خير وحكمة، وإن كان فيه شر من جهة أخري، فذلك أمر عارض جزئي ليس شرًا محضًا، بل الشر الذي يقصد به الخير الأرجح هوخير من الفاعل الحكيم، وإن كان شرا لمن قام به.
وظن الظان أن الحكمة المطلوبة التامة قد تحصل مع عدمه، إنما يقوله لعدم علمه بحقائق الأمور، وارتباط بعضها ببعض، فإن الخالق إذا خلق الشيء، فلابد من خلق لوازمه، فإن وجود الملزوم بدون وجود اللازم ممتنع، ولابد من ترك خلق أضداده التي تنافيه، فإن اجتماع الضدين المتنافيين في وقت واحد ممتنع.
وهو سبحانه على كل شيء قدير، لا يستثنى من هذا العموم شيء، لكن مسمي الشيء، ما تصور وجوده، فأما الممتنع لذاته فليس شيئًا باتفاق العقلاء.
والقدرة على خلق المتضادات قدرة على خلقها على البدل، فهو سبحانه إذا شاء أن يجعل العبد متحركا جعله، وإن شاء أن يجعله ساكنًا جعله، وكذلك في الإيمان والكفر وغيرهما، لكن لا يتصور أن يكون العبد في الوقت الواحد متصفًا بالمتضادات، فيكون مؤمنا صديقًا من أولياء الله المتقين، كافرًا منافقًا من أعداء الله، وإن كان يمكن أن يجتمع فيه شعبة من الإيمان وشعبة من النفاق.
والذي يجب على العبد أن يعلم أن علم الله، وقدرته، وحكمته، ورحمته في غاية الكمال الذي لا يتصور زيادة عليها، بل كلما أمكن من الكمال الذي لا نقص فيه، فهو واجب للرب تعالى، وقد يعلم بعض العباد بعض حكمته، وقد يخفى عليهم منها ما يخفى.
والناس يتفاضلون في العلم بحكمته، ورحمته، وعدله، وكلما ازداد العبد علمًا بحقائق الأمور ازداد علمًا بحكمة الله، وعدله، ورحمته، وقدرته، وعلم أن الله منعم عليه بالحسنات عملها وثوابها، وإن ما يصيبه من عقوبات ذنوبة فبعدل الله تعالى وإن نفس صدور الذنوب منه وإن كان من جملة مقدورات الرب فهو لنقص نفسه وعجزها وجهلها الذي هو من لوازمها، وإن ما في نفسه من الحسنات فهو من فعل الله، وإحسانه وجوده، وإن الرب، مع أنه قد خلق النفس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فإلهام الفجور والتقوى وقع بحكمة بالغة، لو اجتمع الأولون والآخرون من عقلاء الآدميين على أن يروا حكمة أبلغ منها لم يروا حكمة أبلغ منها.
لكن تفصيل حكمة الرب، مما يعجز كثير من الناس عن معرفتها، ومنها ما يعجز عن معرفته جميع الخلق حتى الملائكة، ولهذا قالت الملائكة لما قال الله تعالى لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 26، فتكفيهم المعرفة المجملة، والإيمان العام.
والله سبحانه قد أمرهم أن يطلبوا منه جميع ما يحتاجون إليه من هدى، ورشاد، وصلاح في المعاش والمعاد، ومغفرة ورحمة، وكان النبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح: «اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفة، والغنى» ويقول: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها». ويقول: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر» وكل هذا في الأحاديث التي في الصحيح.
وفي صحيح مسلم أنه كان يقول: إذا قام من الليل: «اللهم رب جبريل، وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} 27 وهذا أفضل الأدعية وأوجبها على العباد.
ومن تحقق بهذا الدعاء جعله الله من أهل الهدى والرشاد، فإنه سميع الدعاء لا يخلف الميعاد، والله أعلم.
هامش
- ↑ [النور: 33]
- ↑ [آل عمران: 18]
- ↑ [طه: 112]
- ↑ [النجم: 3639]
- ↑ [ق: 28، 29]
- ↑ [غافر: 17]
- ↑ [الزخرف: 76]
- ↑ [هود: 101]
- ↑ [الكهف: 49]
- ↑ [الإسراء: 15]
- ↑ [النساء: 165]
- ↑ [القصص: 59]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [الرعد: 16، الزمر: 62]
- ↑ [الفلق: 2]
- ↑ [الجن: 10]
- ↑ [الفاتحة: 2]
- ↑ [الفاتحة: 7]
- ↑ [الفاتحة: 7]
- ↑ [الشعراء: 80]
- ↑ [الكهف: 79]
- ↑ [الكهف: 81]
- ↑ [الكهف: 82]
- ↑ [السجدة: 7]
- ↑ [النمل: 88]
- ↑ [البقرة: 30]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]