مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني
فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني
عدلوأما قوله عز وجل: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فإنه هو بين بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض بذلك منهم جلب منفعة أو دفع مضرة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا؛ ليتقي بذلك ضرره، فقال: «إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني»، فلست إذا أخصكم بهداية المستهدي وكفاية المستكفي المستطعم والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني، ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني، فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ إذ هم عاجزون عن ذلك، بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره، فكيف بما لا يقدرون عليه؟ فكيف بالغني الصمد، الذي يمتنع عليه أن يستحق من غيره نفعًا أو ضرًا؟ وهذا الكلام كما بين أن ما يفعله بهم من جلب المنافع ودفع المضار فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك، فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات وما ينهاهم عنه من السيئات فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم، كأمر السيد لعبده، أو الوالد لولده، والأمير لرعيته، ونحو ذلك. ولا دفع مضرتهم، كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرتهم.
فإن المخلوقين يبلغ بعضهم نفع بعض ومضرة بعض، وكانوا في أمرهم ونهيهم قد يكونون كذلك، والخالق سبحانه مقدس عن ذلك، فبين تنزيهه عن لحوق نفعهم وضرهم في إحسانه إليهم بما يكون من أفعاله بهم وأوامره لهم، قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
فصل
عدلولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدني نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية. وإذا أعطي الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي لرجاء المنفعة وخوف المضرة. فقال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، إذ ملكه هو قدرته على التصرف. فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم، كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلق بنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله. وبكلٍّ حال، فليس بر الأبرار وفجور الفجار موجبًا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء ألا يخلق مع بر الأبرار شيئًا مما خلقه لم يكن برهم محوجًا له إلى ذلك، ولا معينًا له كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين.
هامش