مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها
سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها
عدلسئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله ﷺ أحاديث لا سند لهم بها. فيقولون: قال رسول الله ﷺ: «أنا من الله، والمؤمنون مني يتسمون بالأهوية منه»، فهل هذا صحيح أم لا؟ ويقرءون بينهم أحاديث، ويزعمون أن عمر رضي الله عنه قال: كان أبو بكر ورسول الله ﷺ يتحدثان بحديث أبقى بينهما كأني زنجي، لا أفقه، فهل يصح هذا أم لا؟
ويتحدثون عن أصحاب الصفة بأحاديث كثيرة: منها أنهم يقولون: إن رسول الله ﷺ وجدهم على الإسلام من قبل أن يبعث فوجدهم على الطريق، وأنهم لم يكونوا يغزون معه حقيقة، وأنه ألزمهم النبي ﷺ مرة، فلما فر المسلمون منهزمين ضربوا بسيوفهم في عسكر النبي ﷺ. وقالوا: نحن حزب الله الغالبون، وزعموا أنهم لم يقتلوا إلا منافقين في تلك المرة، فهل يصح ذلك أم لا؟
والمسؤول تعيين أصحاب الصفة كم هم من رجل؟ ومن كانوا من الصحابة رضي الله عنهم ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى لما عرج بنبيه ﷺ أوحى الله إليه مائة ألف سر، وأمره ألا يظهرها على أحد من البشر. فلما نزل إلى الأرض وجد أصحاب الصفة يتحدثون بها. فقال: يارب، إنني لم أظهر على هذا السر أحدًا، فأوحى الله إليه أنهم كانوا شهودًا بيني وبينك، فهل لهذه الأشياء صحة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار. لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أهل المعرفة وغيرهم أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وليس لشيء من هذه الأحاديث أصل البتة. ولا توجد في كتاب، ولا رواها قط أحد ممن يعرف الله ورسوله.
فأما الحديث الأول قوله: «أنا من الله والمؤمنون مني» فلا يحفظ هذا اللفظ عن رسول الله ﷺ. لكن قال النبي ﷺ لعلي: «أنت مني وأنا منك» كما قال الله سبحانه: { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } 1 أي: أنتم نوع واحد، متفقون في القصد والهدى، كالروحين اللتين تتفقان في صفاتهما؛ وهي الجنود المجندة التي قال النبى ﷺ: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وأما أن يكون الخلق جزءًا من الخالق تعالى، فهذا كفر صريح يقوله أعداء الله النصارى، ومن غلا من الرافضة؛ وجهال المتصوفة ومن اعتقده فهو كافر. نعم! للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد؛ ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته؛ وليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به.
وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية؛ الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية.
والذي يصح منه عن الشيوخ له معان صحيحة؛ ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه، ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه والسكران الذي سكر بغير سبب محرم؛ مثل من يسقى الخمر وهو لا يعرفها أو أوجرها حتى سكر أو أطعم البنج وهو لا يعرفه، فكذلك.
وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أمورا عظيمة، تصادف قلوبًا رقيقة، فتحدث غشيًا وإغماءً. ومنها ما يوجب الموت. ومنها ما يخل العقل. وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم؛ لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود عليه، فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالًا مضلًا.
وإنما الأحوال الصحيحة مثل ما دل عليه ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي ﷺ فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه».
فانظر كيف قال في تمام الحديث: «فبي يسمع، وبي يبصر، ولئن سألني، ولئن استعاذني» فميز بين الرب وبين العبد، ألا تسمع إلى قوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } 2، وقال: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلى قوله: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } 3، وقال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } إلى قوله: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } 4.
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يقول الله تعالى: يابن آدم ! مرضت فلم تعدني فيقول: رب ! كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلوعدته لوجدتني عنده».
وذكر في الجوع والعري مثل ذلك. فانظر كيف عبر في أول الحديث بلفظ مرضت ثم فسره في تمامه؛ بأن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده، فميز بين الرب والعبد، والعبد العارف بالله تتحد إرادته بإرادة الله، بحيث لا يريد إلا مايريده الله أمرًا به ورضا، ولا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله، ولا يلتفت إلى عذل العاذلين، ولوم اللائمين، كما قال سبحانه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } 5.
والكلام في مقامات العارفين طويل.
وإنما الغرض أن يتفطن المؤمن للفرق بين هؤلاء الزنادقة الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل الحلول، والاتحاد وكذبوا على الله ورسوله. وكذبوا الله ورسوله، وبين العالمين بالله والمحبين له أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء، كما اشتبه على كثير من الضالين حال مسيلمة الكذاب المتنبي بمحمد ابن عبد الله رسول الله حقًا، حتى صدقوا الكاذب وكذبوا الصادق. والله قد جعل على الحق آيات وعلامات وبراهين. { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } 6.
وأما حديث عمر: أنه كان كالزنجي بين النبي ﷺ وبين أبي بكر، فكذب مختلق، نعم! كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ، وأولاهم به، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه، فكان النبي ﷺ يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة رضي الله عنهم.
ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه، ويزيد عليهم ولا يخالفه؛ مثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد: أن رسول الله ﷺ خطب الناس فقال: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله». فبكى أبو بكر. وقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا. فجعل بعض الناس يعجب ويقول: عجبًا لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله ﷺ عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة. قال: فكان رسول الله ﷺ هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به.
فالنبي ﷺ ذكر عبدًا مطلقًا، وهذا كلام عربي لا لغز فيه، ففهم الصديق لقوة معرفته بمقاصد النبي ﷺ أنه هو العبد المخير، ومعرفة أن المطلق هذا المعين خارج عن دلالة اللفظ، لكن يوافقه ولا يخالفه؛ ولهذا قال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا به.
ومن هذا أن الصديق - رضي الله عنه - لما عزم على قتال مانعي الزكاة قال له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل»؟. فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها.
فرجع عمر وغيره إلى قول أبي بكر. وكان هو أفهم لمعنى كلام رسول الله ﷺ؛ وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام». فهذا النص الصريح موافق لفهم أبي بكر.
وكذلك قوله في صلح الحديبية لعمر مثل ما كان النبي ﷺ قال له، وأمثال ذلك كثير. فأما أن النبي ﷺ كان يتكلم بكلام لا يفهمه عمر وأمثاله، بل يكون عندهم ككلام الزنجي. فمن اعتقد هذا فهو جاهل ضال، عليه من الله ما يستحقه.
وأما كون أهل الصفة كانوا قبل المبعث مهتدين. فعلى من قال هذا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا جاهلين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا كافرين جاهلين بالله وبدينه؛ وإنما هداهم الله بكتابه؛ وبرسوله محمد ﷺ ولم يكن بين أهل الصفة وسائر الصحابة فرق في الكفر والضلالة قبل إيمانهم برسول الله ﷺ. ولقد كان بعد الإسلام كثير ممن لم يكن من أهل الصفة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أعلم بالله؛ وأعظم يقينًا من عامة أهل الصفة.
وأما ما ذكر من تخلفهم عنه في الجهاد فقول جاهل ضال؛ بل هم الذين كانوا أعظم الناس قتالًا وجهادًا؛ كما وصفهم القرآن في قوله: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 7.
وقال في صفتهم: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } 8، ولقد قتل منهم في يوم واحد يوم بئر معونة سبعون؛ حتى وجد عليهم النبي ﷺ موجدة، وقنت شهرًا يدعوا على الذين قتلوهم؛ وأخبر عنهم: «أنهم بهم تتقي المكاره، وتسد بهم الثغور، وأنهم أول الناس ورودًا على الحوض، وأنهم الشعث رؤوسًا، الدنّس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك».
وأما عددهم فقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخهم: وهم نحو من ستمائة، أو سبعمائة، أو نحو ذلك. ولم يكونوا مجتمعين في وقت واحد، بل كان في شمال المسجد صفة يأوي إليها فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم، أو سافر، أو خرج غازيًا خرج منها، وقد كان يكون في الوقت الواحد فيها السبعون، أو أقل، أو أكثر ومنهم: سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، وأبو هريرة، وخبيب، وسلمان وغيرهم.
وأما ما ذكر من أنهم عرفوا ما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج فكذب، ملعون قائله. وكيف يكون ذلك والمعراج كان بمكة قبل الهجرة؟ وأهل الصفة إنما كانوا بالمدينة بعد الهجرة، وبناء مسجد الرسول ﷺ بالمدينة: الطيبة، وهذا كله واضح عند من عرف الله ورسوله وكان مسلمًا حنيفًا أو كان عالما بسيرة رسول الله ﷺ، وسيرة أصحابه معه.
وإنما يقع في هذه الجالهات أقوام نقص إيمانهم وقل علمهم، واستكبرت أنفسهم، حتى صاروا بمنزلة فرعون، وصاروا أسوأ حالًا من النصارى.
والله يتوب علينا وعليهم، وعلى سائر إخواننا المسلمين، ويهدينا وإياهم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم. غير المغضوب عليهم. ولا الضالين. والله تعالى أعلم.
هامش
- ↑ [آل عمران: 195]
- ↑ [المائدة: 72]
- ↑ [المائدة: 75]
- ↑ [النساء: 171-172]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [النور: 40]
- ↑ [الحشر: 8]
- ↑ [البقرة: 273]