مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل في قول القائل لمن أنكر عليه أنت شرعي
فصل في قول القائل لمن أنكر عليه أنت شرعي
عدلوأما قول القائل لمن أنكر عليه: أنت شرعي، فكلام صحيح، فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه، أو لا يجب عليه اتباعه، وأنا خارج عن اتباعه، فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس «ثلاث معان»: الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل.
فأما الشرع المنزل: فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين.
وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة، والتفاسير المقلوبة، والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله. فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه.
وإنما حكم الحكام بالظاهر. والله تعالى يتولى السرائر، وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها. فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فهذا قول إمام الحكام، وسيد ولد آدم.
وقال ﷺ: «إذا اجتهد الحاكم: فإن أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». وقال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار».
ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدا ﷺ ظانًا أنه متبع للحقيقة. فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل، ولفظ الحقيقة يقال: على حقيقة كونية وحقيقة بدعية وحقيقة شرعية.
ف الحقيقة الكونية مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه. وهذا مما يجب أن يؤمن به، ولا يجوز أن يحتج به، بل لله علينا الحجة البالغة. فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول.
وأما الحقيقة البدعية فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى، مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد، والمحبة والهوى، من غير اتباع الكتاب والسنة، كطريق النصارى، فهم تارة يعبدون غير الله، وتارة يعبدون بغير أمر الله. كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانًا، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله. وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } 1، وقال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 2، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: وما أخلصه وأصوبه؟. قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل. وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».
وأما الحقيقة الدينية وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله، مثل الإخلاص لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والشكرلله، والصبر لحكم الله، والحب لله ورسوله، والبغض في الله ورسوله، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فهذا حقائق أهل الإيمان، وطريق أهل العرفان.
هامش