مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه


تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه عدل

وقال شيخ الإسلام رَحِمَهُ الله:

في الكلام علي قوله تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ } الآيتين 1، لما ذكر أن من السلف من ذكر أنهم من الملائكة، ومنهم من ذكر أنهم من الإنس، ومنهم من ذكر أنهم من الجن.

لفظ السلف يذكرون جنس المراد من الآية علي التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله عن الخبز: فيريه رغيفًا، والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعي من دون الله، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين. سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهي عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلي موضع، أو من حال إلي حال، كتغيير صفته أو قدره؛ ولهذا قال: { وَلاَ تَحْوِيلا } فذكر نكرة تعم أنواع التحويل.

وقال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } 2، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فقالت الجن: الإنس تستعيذ بنا، فزادوهم رهقًا، وقد نص الأئمة كأحمد وغيره علي أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به علي أن كلام الله غير مخلوق، لما ثبت عنه : أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك، فإذا كان لا يجوز ذلك؛ فلأن لا يجوز أن يقول: أنت خير مستعاذ يستعاذ به أولي. فالاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة: كلها من نوع الدعاء، أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة.

ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعي ويذكر عنده، فإنه سبحانه يستجار به هناك، وقد يستمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، كما قال عمرو بن سعيد: إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارًا بدم، ولا فارًا بخربة. وفي الصحيح: «يعوذ عائذ بهذا البيت».

والمقصود أن كثيرًا من الضالين يستغيثون بمن يحسنون به الظن، ولا يتصور أن يقضي لهم أكثر مطالبهم، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة يكذبون في أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، يكذبون فيما أخبروا به وأعانوا عليه، لإفساد حال الرجال في الدين والدنيا، ويكون فيه شبهة للمشركين، كما يخبر الكاهن ونحوه.

والله سبحانه جعل الرسول مبلغًا لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وهؤلاء يجعلون الرسل والمشائخ يدبرون العالم بقضاء الحاجات وكشف الكربات، وليس هذا من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول؛ ولهذا لم يقولوه في إبراهيم وموسى وغيرهم، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان هذا ممكنًا لم يكن للمسيح خاصية به، بل موسى أحق.

ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصارى إلي أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية فلا يجدون فرقًا، بل أبين لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم، فإن كان حجة في دعوي الإلهية فموسى أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل علي قدرة الخالق، لا علي أن المخلوق أفضل من غيره.


هامش

  1. [الإسراء: 56، 57]
  2. [الجن: 6]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس عشر
سورة الأعراف | فصل في حجة إبليس | تفسير قوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله | تفسير قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا | تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية | تفسير قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة الأعراف | تفسير قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون | فصل في تفسير قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة | سورة الأنفال | فصل في تفسير قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم | فصل في تفسير قوله تعالى فلم تقتلوهم | فصل في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم | سورة التوبة | تفسير في قوله لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان | تفسير قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله | تفسير قوله تعالى قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون | تفسير قوله تعالى لقد تاب الله على النبي | سورة يونس | فصل تفسير قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء | تفسير آيات مشكلة في سورة يونس | سورة هود | فصل تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في أن المؤمن على أمر من الله | فصل في تفسير قوله تعالى كتاب أحكمت آياته | سئل عن تفسير قوله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة | سورة يوسف | فصل في تفسير قوله تعالى هيت لك قال معاذ الله | فصل في تفسير قوله تعالى رب السجن أحب إلي | فصل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد | قال شيخ الإسلام لم يفعل يوسف ذنبا الذي نسي ذكر ربه هو الفتى | سئل عن قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله | فصل في تفسير قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل | سورة الرعد | فصل في تفسير قوله تعالى وجعلو لله شركاء قل سموهم | سورة الحجر | فصل في تفسير ثلاث آيات متشابهة اللفظ والمعنى | سورة النحل | فصل في منافع اللباس | تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق | سورة الإسراء | تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | سورة الكهف | فصل في تفسير قوله تعالى وكان الإنسان أكثر شيء جدلا | سورة مريم | فصل في بيان مضمون سورة مريم | سئل عن تفسير قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف | سورة طه | فصل في بيان مضمون سورة طه | فصل في طريقتي العلم والعمل | فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران | فصل في نكتة الإعراب في قوله تعالى إن هذان لساحران | سورة الأنبياء | فصل في بيان منزلة سورة الأنبياء | سورة الحج | فصل في بيان المكي والمدني من السورة | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف | سورة المؤمنون | تفسير قوله تعالى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما | سورة النور | فصل في معاني مستنبطة من سورة النور | فصل في ضرورة امتحان من يراد الزواج منه وغيره | فصل في تعظيم الفاحشة بالباطل | فصل في تفسير قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء | تفسير قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم | فصل في تفسير قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون | سئل عن تفسير قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم | سورة الفرقان | فصل في بيان أكبر الكبائر | فصل في تقسيم الأمم | فصل في تقسيم الفضائل | فصل في تفضيل الإسلام على سائر الأديان الأخرى | فصل في بيا ن أجناس الناس | فصل في أن فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية | سورة النمل | تفسير بعض الآيات المشكلة في سورة النمل | سورة الأحزاب | تفسير قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم | فصل في لفظ الطلاق