مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى رب السجن أحب إلي


فصل في تفسير قوله تعالى رب السجن أحب إلي عدل

وفى قول يوسف: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } 1 عبرتان:

إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصى.

والثانية: طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه، ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلب، وإلا صَبَا إلى الآمرين بالذنوب، وصار من الجاهلين.

ففى هذا توكل على الله، واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة، وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة.

إذا كقول موسى عليه السلام لقومه: { اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } ؛ لما قال فرعون: { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } 2.

وكذلك قوله: { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } 3.

ومنه قول يوسف عليه السلام: { فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } 4، وهو نظير قوله: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } 5، وقوله: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } 6، وقوله: { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } 7.

فلابد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور، كما فعل يوسف عليه السلام: اتقى الله بالعفة عن الفاحشة، وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس، واستعان الله ودعاه، حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس.

وهذا كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } 8، وكما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } 9، فإنه لابد من أذى لكل من كان في الدنيا، فإن لم يصبر على الأذى في طاعة الله، بل اختار المعصية، كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير. { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } 10.

ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة الله على الكرامة والعز في معصية الله، كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين، كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيمًا وسرورًا، كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنًا وثبورًا.

فيوسف خاف الله من الذنوب، ولم يخف من أذى الخلق وحَبْسِهِم إذ أطاع الله، بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات، ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة، وأكرمته المرأة بالمال والرياسة، وزوجها في طاعتها، فاختار يوسف الذل والحبس، وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة، مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية.

بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق، وإن آذاه بالحبس والكذب فإنها كذبت عليه؛ فزعمت أنه راودها ثم حبسته بعد ذلك.

وقد قيل: إنها قالت لزوجها: إنه هتك عرضى لم يمكنها أن تقول له: راودنى، فإن زوجها قد عرف القصة، بل كذبت عليه كذبة تروج على زوجها، وهو أنه قد هتك عرضها بإشاعة فعلها، وكانت كاذبة على يوسف لم يذكر عنها شىئًا، بل كذبت أولا وآخرًا، كذبت عليه بأنه طلب الفاحشة، وكذبت عليه بأنه أشاعها، وهى التي طالبت وأشاعت، فإنها قالت للنسوة: { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } 11، فهذا غاية الإشاعة لفاحشتها لم تستر نفسها.

والنساء أعظم الناس إخبارًا بمثل ذلك، وهن قبل أن يَسْمَعْنَ قولها قد قُلْنَ في المدينة: { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } 12، فكيف إذا اعترفت بذلك وطلبت رفع الملام عنها؟

وقد قيل: إنهن أعنَّها في المراودة، وعذلنه على الامتناع، ويدل على ذلك قوله: { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } 13، وقوله { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } 14، فدل على أن هناك كيدًا مَنْهُنَّ، وقد قال لَهُنَّ الملك: { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } 15، فهن لم يراودنه لأنفسهن، إذ كان ذلك غير ممكن، وهو عند المرأة في بيتها وتحت حجرها، لكن قد يكنَّ أعنَّ المرأة على مطلوبها.

وإذا كان هذا في فعل الفاحشة؛ فغيرها من الذنوب أعظم، مثل الظلم العظيم للخلق، كقتل النفس المعصومة، ومثل الإشراك بالله، ومثل القول على الله بلا علم. قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 16، فهذه أجناس المحرمات التي لا تباح بحال، ولا في شريعة، وما سواها وإن حرم في حال فقد يباح في حال.


هامش

  1. [يوسف: 33]
  2. [الأعراف: 127، 128]
  3. [النحل: 41، 42]
  4. [يوسف: 90]
  5. [آل عمران: 120]
  6. [آل عمران: 186]
  7. [آل عمران: 125]
  8. [العنكبوت: 10]
  9. [الحج: 10 13]
  10. [التوبة: 49]
  11. [يوسف: 32]
  12. [يوسف: 30]
  13. [يوسف: 33]
  14. [يوسف: 50]
  15. [يوسف: 51]
  16. [الأعراف: 33]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس عشر
سورة الأعراف | فصل في حجة إبليس | تفسير قوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله | تفسير قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا | تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية | تفسير قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة الأعراف | تفسير قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون | فصل في تفسير قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة | سورة الأنفال | فصل في تفسير قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم | فصل في تفسير قوله تعالى فلم تقتلوهم | فصل في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم | سورة التوبة | تفسير في قوله لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان | تفسير قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله | تفسير قوله تعالى قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون | تفسير قوله تعالى لقد تاب الله على النبي | سورة يونس | فصل تفسير قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء | تفسير آيات مشكلة في سورة يونس | سورة هود | فصل تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في أن المؤمن على أمر من الله | فصل في تفسير قوله تعالى كتاب أحكمت آياته | سئل عن تفسير قوله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة | سورة يوسف | فصل في تفسير قوله تعالى هيت لك قال معاذ الله | فصل في تفسير قوله تعالى رب السجن أحب إلي | فصل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد | قال شيخ الإسلام لم يفعل يوسف ذنبا الذي نسي ذكر ربه هو الفتى | سئل عن قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله | فصل في تفسير قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل | سورة الرعد | فصل في تفسير قوله تعالى وجعلو لله شركاء قل سموهم | سورة الحجر | فصل في تفسير ثلاث آيات متشابهة اللفظ والمعنى | سورة النحل | فصل في منافع اللباس | تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق | سورة الإسراء | تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | سورة الكهف | فصل في تفسير قوله تعالى وكان الإنسان أكثر شيء جدلا | سورة مريم | فصل في بيان مضمون سورة مريم | سئل عن تفسير قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف | سورة طه | فصل في بيان مضمون سورة طه | فصل في طريقتي العلم والعمل | فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران | فصل في نكتة الإعراب في قوله تعالى إن هذان لساحران | سورة الأنبياء | فصل في بيان منزلة سورة الأنبياء | سورة الحج | فصل في بيان المكي والمدني من السورة | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف | سورة المؤمنون | تفسير قوله تعالى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما | سورة النور | فصل في معاني مستنبطة من سورة النور | فصل في ضرورة امتحان من يراد الزواج منه وغيره | فصل في تعظيم الفاحشة بالباطل | فصل في تفسير قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء | تفسير قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم | فصل في تفسير قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون | سئل عن تفسير قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم | سورة الفرقان | فصل في بيان أكبر الكبائر | فصل في تقسيم الأمم | فصل في تقسيم الفضائل | فصل في تفضيل الإسلام على سائر الأديان الأخرى | فصل في بيا ن أجناس الناس | فصل في أن فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية | سورة النمل | تفسير بعض الآيات المشكلة في سورة النمل | سورة الأحزاب | تفسير قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم | فصل في لفظ الطلاق