مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل: لفظ الإسلام يستعمل على وحهين


فصل: لفظ الإسلام يستعمل على وحهين عدل

وقال رحمه الله تعالى:

لفظ الإسلام يستعمل على وحهين:

متعديا كقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1، وقوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} الآية 2، وقوله في دعاء المنام. «أسلمت نفسي إليك».

ويستعمل لازمًا كقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3، وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4، وقوله عن بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5. وهو يجمع معنيين:

أحدهما: الانقياد والاستسلام.

والثاني: إخلاص ذلك وإفراده، كقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ} 6، وعنوانه قول: لا إله إلا الله. وله معنيان:

أحدهما: الدين المشترك، وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي بعث به جميع الأنبياء، كما دل على اتحاد دينهم نصوص الكتاب والسنة.

والثاني: ما اختص به محمد من الدين والشرعة والمنهاج وهو الشريعة والطريقة والحقيقة وله مرتبتان:

أحدهما: الظاهر من القول والعمل، وهي المباني الخمس.

والثاني: أن يكون ذلك الظاهر مطابقًا للباطن: فبالتفسير الأول جاءت الآيتان في كتاب الله، والحديثان عن رسول الله وهو أعم من الإيمان، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا. وبالتفسير الثاني يقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ ٍ} 7، وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 8، وقوله: «آمركم بالإيمان بالله»، وفسره بخصال الإسلام. وعلى هذا التفسير فالإيمان التام والدين والإسلام سواء، وهو الذي لم يفهم المعتزلة غيره. وقد يراد به معنى ثالث هو كماله وهو قوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» فيكون أسلم غيره، أي جعله سالمًا منه.

ولفظ الإيمان قيل: أصله التصديق وليس مطابقًا له، بل لابد أن يكون تصديقًا عن غيب، وإلا فالخبر عن مشهود ليس تصديقه إيمانًا؛ لأنه من الأمن الذي هو الطمأنينة، وهذا إنما يكون في المخبر الذي قد يقع فيه ريب، والمشهودات لا ريب فيها إلا على هذا فإما تصديق القلب فقط كما تقول الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية، وإما القلب واللسان كما تقوله المرجئة، أو باللسان كما تقوله الكَرَّامِيَّة، وأما التصديق بالقلب والقول والعمل فإن الجميع يدخل في مسمى التصديق على مذهب أهل الحديث، كما فسره شيخ الإسلام وغيره. وقيل: بل هو الإقرار؛ لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر، كقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا} 9 ؛ ولأن قر وآمن متقاربان، فالإيمان دخول في الأمن، والإقرار دخول في الإقرار، وعلى هذا فالكلمة إقرار، والعمل بها إقرار أيضا.

ثم هو في الكتاب بمعنيين: أصل، وفرع واجب، فالأصل الذي في القلب وراء العمل؛ فلهذا يفرق بينهما بقوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 10 والذي يجمعهما كما في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} 11، و{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} 12. وحديث الحياء، ووفد عبد القيس، وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصًا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه ومقتصد وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرهما من الأعيان، والأعمال والصفات، فمن سواء أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل ومنه ما نقص عن الكمال، وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول، الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط، وبهذا تزول شبهات الفرق، وأصله القلب وكماله العمل الظاهر، بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر، وكماله القلب.


هامش

  1. [النساء: 125]
  2. [آل عمران: 20]
  3. [البقرة: 131]
  4. [آل عمران: 83]
  5. [النمل: 44]
  6. [الزمر: 29]
  7. [آل عمران: 19]
  8. [البينة: 5]
  9. [آل عمران: 81]
  10. [البينة: 7]
  11. [الأنفال: 2]
  12. [التوبة: 44]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السابع
كتاب الإيمان الكبير | الفرق بين الإيمان والإسلام | تفسير الإيمان في حديث وفد عبد القيس | تفسير قوله: ألم يأن للذين آمنوا | تفسير قوله: ثم قست قلوبكم | تفسير قوله: إن الذين اتقوا إذا مسهم | فصل: جاءت أحاديث تنازع الناس في صحة الإيمان لأجل ترك واجب | كلام محمد بن نصر المروزي على آية حبب إليكم الإيمان | تفسير آيات فيما أحل وما حرم من الأطعمة | معنى: وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل | فصل: في لفظ الكفر والنفاق | فصل: في لفظ الصالح والشهيد والصديق | فصل: في لفظ المعصية والفسوق والكفر | فصل: في ظلم النفس | فصل: في لفظ الصلاح والفساد | فصل: فإن قيل تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد لا يمكن دفعه | بحث في الإطلاق والتقييد والكليات والجزئيات في الأمور العقلية | ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن | فإن قيل: الصلاة والحج ونحوهما لو ترك بعضها بطلت بخلاف الإيمان | فصل في أن أبا الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان | فصل: الذين نصروا مذهب جهم جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام | فصل: ومما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال | فصل: فيما إذا قرن الإسلام بالإيمان | فصل: عطف الشيء على الشيء في القرآن يقتضي المغايرة | فصل: لفظ الإيمان إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر | فصل:هذا النوع من نمط أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء رسوله وأسماء دينه | فصل: الوجه الثاني ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط | فصل: فإن قيل فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله | فصل: زيادة الإيمان تعرف من وجوه | فصل: أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان | فصل: الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها | فصل: ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس | فصل: قال محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها | من يختصه الله بفضله | سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص | الذين نفى عنهم الرسول الإيمان | اسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان | وقول القائل: أصل الاستسلام هو الإسلام الظاهر | وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن | تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان | جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة | دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين | صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال | فصل: الاستثناء في الإيمان | كتاب الإيمان الأوسط | فصل: حديث سؤال النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان | فصل: قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار | فصل: تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا | الأصل الثاني: أن شعب الإيمان قد تتلازم | فصل: الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية | فصل: التفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة | فصل: إذا علم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة | فصل: في الجمع بين الأحاديث التي ذكرت فيها أركان الإسلام الخمسة | فصل: في الإحسان وقوله أن تعبد الله كأنك تراه | فصل: فيما تقدم من القواعد | فصل: لفظ الإسلام يستعمل على وحهين | فصل: أصل الإيمان هو الإيمان بالله ورسوله | سئل: عن الإيمان بالله ورسوله هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال | فصل: في قول القائل: هل تكون صفة الإيمان نورا يوقعه الله في قلب العبد | فصل: في قوله: هل يكون لأول حصوله سبب | فصل: قوله: الأسباب التي يقوى بها الإيمان | فصل: في طريق الوصول إلى ذلك | فصل: الإيمان: هل هو مخلوق أو غير مخلوق | فصل: الاستثناء في الإيمان سنة | فصل: سئل عن معنى حديث إذا زنى العبد خرج منه الإيمان | فصل: سئل عن معنى قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر | سئل شيخ الإسلام عن بدعة المرازقة