مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/فصل في أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل في أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين


فصل في أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين عدل

والمقصود أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين، ومن انفصال جزء من الأصل. وإذا قيل في الشِّبَع والرِّي: إنه متولد، أو في زهوق الروح ونحو ذلك من الأعراض: إنه متولد، فلابد في جميع ما يستعمل فيه هذا اللفظ من أصلين، لكن العَرَضَ يحتاج إلى محل، لا يحتاج إلى مادة تنقلب عَرَضًا، بخلاف الأجسام، فإنها إنما تخلق من مواد تنقلب أجسامًا، كما تنقلب إلى نوع آخر، كانقلاب المني علقة، ثم مضغة، وغير ذلك من خلق الحيوان والنبات.

وأما ما كان من أصل واحد، كخلق حواء من الضلع القُصَيري لآدم، وهو وإن كان مخلوقًا من مادة أخذت من آدم فلا يسمى هذا تولدًا؛ ولهذا لا يقال: إن آدم وَلَدَ حواء، ولا يقال: إنه أبو حواء، بل خلق الله حواء من آدم، كما خلق آدم من الطين.

وأما المسيح، فيقال: إنه ولدته مريم، ويقال: المسيح ابن مريم، فكان المسيح جزءًا من مريم، وخلق بعد نفخ الروح في فرج مريم، كما قال تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } 1، وفي الأخرى: { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } 2.

وأما حواء، فخلقها الله من مادة أخذت من آدم، كما خلق آدم من المادة الأرضية، وهي الماء والتراب والريح الذي أيبسته حتى صار صلصالًا، فلهذا لا يقال: إن آدم وَلَدَ حواء، ولا آدم وَلَدَهُ الترابُ، ويقال في المسيح: ولدته مريم، فإنه كان من أصلين: من مريم ومن النفخ الذي نفخ فيها جبريل. قال الله تعالى: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ على هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } 3، إلى آخر القصة، فهي إنما حملت به بعد النفخ، لم تحمل به مدة بلا نفخ، ثم نفخت فيه روح الحياة كسائر الآدميين، ففرق بين النفخ للحمل، وبين النفخ لروح الحياة.

فتبين أن ما يقال: إنه متولد من غيره من الأعيان القائمة بنفسها، فلا يكون إلا من مادة تخرج من ذلك الوالد، ولا يكون إلا من أصلين، والرب تعالى صمد، فيمتنع أن يخرج منه شيء، وهو سبحانه لم يكن له صاحبة، فيمتنع أن يكون له ولد.

وأما ما يستعمل من تولد الأعراض، كما يقال: تولد الشعاع، وتولد العلم عن الفكر، وتولد الشبع عن الأكل، وتولدت الحرارة عن الحركة، ونحو ذلك فهذا ليس من تولد الأعيان، مع أن هذا لابد له من محل، ولابد له من أصلين؛ ولهذا كان قول النصارى: إن المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك مستلزمًا لأن يقولوا: إن مريم صاحبة الله، فيجعلون له زوجة وصاحبة، كما جعلوا له ولدًا، وبأي معنى فسروا كونه ابنه، فإنه يفسر الزوجة بذلك المعنى، والأدلة الموجبة تنزيهه عن الصاحبة، توجب تنزيهه عن الولد، فإذا كانوا يصفونه بما هو أبعد عن اتصافه به؛ كان اتصافه بما هو أقل بعدًا لازمًا لهم، وقد بسط هذا في الرد على النصارى.


هامش

  1. [التحريم: 12]
  2. [الأنبياء: 91]
  3. [مريم: 17: 22]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السابع عشر
سورة الإخلاص | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عما ورد في سورة قل هو الله أحد أنها تعدل ثلث القرآن | فصل في بيان هل كلام الله بعضه أفضل من بعض أو لا | أسماء المصادر | فصل في دلالة النصوص النبوية والآثار على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض | فصل في النصوص والآثار في تفضيل كلام الله | فصل في إذا علم أن بعض القرآن أفضل من بعض | فصل في مسألة التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدا | تنازع الذين قالوا كلام الله غير مخلوق | فصل في أصناف الناس في مقام حكمة الأمر والنهي | سئل شيخ الإسلام في تفسير قول النبي في سورة الإخلاص إنها تعدل ثلث القرآن | سئل عمن يقرأ القرآن، هل يقرأ سورة الإخلاص مرة أو ثلاثا وما السنة في ذلك | فصل في تفسير قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد | فصل في قول الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد | فصل في أن التولد لابد له من أصلين | فصل في أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين | فصل فيما يبين أن ما نزه الله نفسه ونفاه عنه بقوله لم يلد ولم يولد | فصل في الذين كانوا يقولون من العرب إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن | فصل في ما يقوله الفلاسفة القائلون بأن العالم قديم صدر عن علة موجبة بذاته | فصل في الاحتجاج بسورة الإخلاص من أهل الكلام | مسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة | فصل في الألفاظ المحدثة المجملة النافية مثل لفظ المركب ونحو ذلك | كلام للإمام أحمد في رده على الجهمية | زعم الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم | فصل في بيان أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة | فصل في المعنى الصحيح الذي هو نفي المثل والشريك والند | من أسس دين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدا فقط | سورة الفلق | فصل في تفسير قوله تعالى قل أعوذ برب الفلق | سورة الناس | فصل في تفسير قوله تعالى قل أعوذ برب الناس | فصل في بيان بعض الاستعاذة كما جاءت بذلك الأحاديث | فصل في تفسير سورة الفلق والناس | فصل في ظهور المناسبة بين السورتين