مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/فصل في إذا علم أن بعض القرآن أفضل من بعض
فصل في إذا علم أن بعض القرآن أفضل من بعض
عدلوإذا علم ما دل عليه الشرع مع العقل واتفاق السلف من أن بعض القرآن أفضل من بعض، وكذلك بعض صفاته أفضل من بعض بقي الكلام في كون { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن، ما وجه ذلك؟ وهل ثوابها بقدر ثواب ثلث القرآن؟ وإذا قدر أن الأمر كذلك فما وجه قراءة سائر القرآن؟ فيقال: أما الأول فقد قيل فيه وجوه أحسنها والله أعلم: الجواب المنقول عن الإمام أبي العباس بن سريج، فعن أبي الوليد القرشي؛ أنه سأل العباس بن سريج عن معنى قول النبي ﷺ: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، فقال: معناه أنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات.
وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في هذا الحديث ثلاثة أوجه: بدأ بهذا الوجه، فروي قول ابن سريج هذا بإسناده عن زاهد، عن الصابوني والبيهقي، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول: سألت أبا العباس ابن سريج قلت: ما معنى قول النبي ﷺ: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، قال: إن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: فثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات. وقد جمع في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أحد الأثلاث وهو الصفات، فقيل: إنها تعدل ثلث القرآن.
الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي ذكرها أبو الفرج ابن الجوزي: أن معرفة الله هي معرفة ذاته، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة أفعاله، فهذه السورة تشتمل على معرفة ذاته؛ إذ لايوجد شيء إلا وجد من شيء ما خلا الله، فإنه ليس له كفء ولا له مثل. قال أبو الفرج: ذكره بعض فقهاء السلف.
قال: والوجه الثالث: أن المعنى: من عمل ما تضمنته من الإقرار بالتوحيد والإذعان للخالق، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولميعمل بما تضمنته، ذكره ابن عقيل. قال ابن عقيل: ولايجوز أن يكون المعنى: من قرأها فله أجر ثلث القرآن؛ لقول رسول الله ﷺ: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات».
قلت: كلا الوجهين ضعيف.
أما الأول؛ فيدل على ضعفه وجوه: الأول: أن نقول: القرآن ليس كله هو المعرفة المذكورة، بل فيه أمر بالأعمال الواجبة ونهي عن المحرمات، والمطلوب من العباد المعرفة الواجبة والعمل الواجب، والأمة كلها متفقة على وجوب الأعمال التي فرضها الله، لميقل أحد بأنها ليست من الواجبات، وإن كان طائفة من الناس نازعوا في كون الأعمال من الإيمان، فلمينازعوا في أن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } 1، وإذا كان كذلك، وقدر أن سورة من السور تضمنت ثلث المعرفة، لم يكن هذا ثلث القرآن.
الثاني: أن يقال: قول القائل: معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة أفعاله إن أراد بذلك أن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فهذا ممتنع، ولو قدر إمكان ذلك أو فرض العبد في نفسه ذاتًا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية، فليس ذاك معرفته بالله البتة، ولا هو رب العالمين ذات مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي؛ ولهذا لميقل أحد من العقلاء هذا إلا القرامطة الباطنية، يقولون: يسلب عنه كل أمر ثبوتي وعدمي، فلايقال: موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر، ولا نحو ذلك. وهؤلاء مع أن قولهم معلوم الفساد بضرورة العقل، فإنهم متناقضون، أما الأول؛ فلأن سلب النقيضين ممتنع كما أن جمعهما ممتنع، فيمتنع أن يكون شيء من الأشياء لا موجودًا ولا معدومًا، وأما تناقضهم لابد أن يذكروا ما ذكروا أنه يسلب عنه النقيضان ببعض الأمور التي يتميز بها ليخبر عنه بهذا السلب، وأي شيء قالوه، فلابد أن يتضمن نفيا أو إثباتًا، بل لابد أنيتضمن إثباتًا، وقد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع.
ولهذا كان كثير من الملاحدة لايصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما قال أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة: نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول: هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم: إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لايوجب أن يكون هو في نفسه مجردًا عن النقيضين، بليفيد هذا كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم.
ومن قال من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق كابن سبعين والصدر القُونَوي وغيرهما: إنه وجود مطلق بشرط الإطلاق عن كل وصف ثبوتي وسلبي فهو من جنس هؤلاء، لكن هؤلاءيقولون: هو وجود مطلق، فيخصونه بالوجود دون العدم. ثميقولون: هو مطلق، والمطلق بشرط الإطلاق عن كل قيد سلبي وثبوتي إنمايكون في الأذهان لا في الأعيان. وهؤلاء يقولون: الوجود الكلي المقسوم إلى واجب وممكن الذي يجعله الفلاسفة موضوع العلم الإلهي ويسمونه الحكمة العليا و الفلسفة الأولى إنمايكون كليا في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الخارج قط وجود هو بعينه واجب وهو بعينه ممكن، ولا وجود هو نفسه يتصف به الواجب وهو نفسهيتصف به الممكن، بل صفة الواجب تختص به، وصفة الممكن تختص به، ووجود الواجب يخصه لايشركه فيه غيره، ووجود الممكن يخصه لايشركه فيه غيره.
ولهذا كان كل ما وصف به الرب نفسه من صفاته، فهي صفات مختصة به يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئًا من الذوات، وصفاته مختصة به، فلا تماثل شيئًا من الصفات، بل هو سبحانه أحد صمد، لميلد ولميولد، ولميكن له كفوًا أحد، فاسمه الأحد دل على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه الصمد دل على أنه مستحق لجميع صفات الكمال، كما بسط الكلام على ذلك في الشرح الكبير المصنف في تفسير هذه السورة. وصفات التنزيه كلها بل وصفات الإثبات يجمعها هذان المعنيان. وقد بسط الكلام في التوحيد وأنه نوعان: علمي قولي، وعملي قصدي. ف { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } اشتملت على التوحيد العملي نصًا، وهي دالة على العلمي لزومًا، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، اشتملت على التوحيد العلمي القولي نصًا، وهي دالة على التوحيد العملي لزومًا؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقرأ بهما في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك، وقد ثبت أنه كان يقرأ أيضا في ركعتي الفجر بآية الإيمان التي في البقرة: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ } 2 في الركعة الأولى، وآية الإسلام التي في آل عمران: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شيئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } 3.
والمقصود هنا أن صفات التنزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة:
أحدهما: نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصمد.
والثاني: أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأحد: فهذان الاسمان العظيمان الأحد الصمد يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب، وتنزيهه في صفات الكمال ألا يكون له مماثل في شيء منها. واسمه الصمد يتضمن إثبات جميع صفات الكمال، فتضمن ذلك إثبات جميع صفات الكمال ونفي جميع صفات النقص، فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت أيضا كل ما يجب إثباته من وجهين: من اسمه الصمد، ومن جهة أن ما نفي عنه من الأصول والفروع والنظراء مستلزم ثبوت صفات الكمال أيضا، فإن كل مايمدح به الرب من النفي؛ فلابد أن يتضمن ثبوتًا، بل وكذلك كل مايمدح به شيء من الموجودات من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتًا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون صفة كمال.
وهذا كما يذكره سبحانه في آية الكرسي مثل قوله: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } 4، فنفي أَخْذ السِّنَة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النوم ينافي القيومية، والنوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لاينامون، ثم قال: { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 5، فَنَفْي الشفاعة بدون إذنه مستلزم لكمال ملكه؛ إذ كل من شفع إليه شافع بلا إذنه فقبل شفاعته، كان منفعلًا عن ذلك الشافع، فقد أثرت شفاعته فيه فصيرته فاعلًا بعد أن لميكن، وكان ذلك الشافع شريكًا للمشفوع إليه في ذلك الأمر المطلوب بالشفاعة، إذ كانت بدون إذنه، لا سيما والمخلوق إذا شفع إليه بغير إذنه فقبل الشفاعة؛ فإنما يقبلها لرغبة أو لرهبة، إما من الشافع أو من غيره، وإلا فلو كانت داعيته من تلقاء نفسه تامة مع القدرة، لميحتج إلى شفاعة، والله تعالى منزه عن ذلك كله، كما قال في الحديث الإلهي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني»؛ ولهذا كان النبي ﷺيأمر أصحابه بالشفاعة إليه، فكان إذا أتاه طالب حاجة يقول: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» أخرجاه في الصحيحين، وكان مقصوده أنهم يؤجرون على الشفاعة، وهو إنما يفعل ما أمره الله به.
وكذلك قوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } 6 بين أنهم لايعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } 7، فكان في هذا النفي إثبات أن عباده لايعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي علمهم، لا ينالون العلم إلا منه، فإنه { الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } 8، و { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 9
ثم قال: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } 10 أي: لايكرثه ولايثقله. وهذا النفي تضمن كمال قدرته، فإنه مع حفظه للسموات والأرض لايثقل ذلك عليه كمايثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } 11، فنزه نفسه عن مس اللغوب. قال أهل اللغة: اللغوب: الإعياء والتعب. وكذلك قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } 12، الإدراك عند السلف والأكثرين هو: الإحاطة. وقال طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية عنه لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصفيشترك فيه الوجود والعدم لايستلزم أمرًا ثبوتيا، فلايكون فيه مدح؛ إذ هو عدم محض، بخلاف ما إذا قيل: لايحاط به، فإنهيدل على عظمة الرب جل جلاله، وإن العباد مع رؤيتهم له لايحيطون به رؤية، كما أنهم مع معرفته لايحيطون به علمًا، وكما أنهم مع مدحه والثناء عليه لايحيطون ثناء عليه، بل هو كما أثني على نفسه المقدسة؛ ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود هنا الكلام على معنى كون: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، تعدل ثلث القرآن، وبيان أن الصواب القول الأول.
الوجه الثالث الذي يدل على فساد القول الثاني أن يقال: قول القائل: معرفة أفعاله، إن أراد بذلك معرفة آياته الدالة عليه، فهذه من تمام معرفته، ويبقي معرفة وعده ووعيده، وقصص الأمم المؤمنة والكافرة لميذكره، وهو القسم الثاني من أقسام معاني القرآن، كما لميذكر أمره ونهيه. وإن جعل هذه من مفعولاته، فمعلوم أن معرفة الوعد والوعيد والقصص المطلوب فيها الإيمان باليوم الآخر وجزاء الأعمال، كما أن المطلوب بالأمر والنهي طاعته، فإنه لابد من الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن العمل الصالح لكل أمة كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } 13.
الوجه الرابع: أن يقال: ما ذكره من نفي المثل عنه ومن نفي الولادة مذكور في غير هذه السورة، فلم يختص بهذا المعنى.
الوجه الخامس: أن يقال: هب أنها تضمنت التنزيه كما ذكره الله فمعرفة الله ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات كما أشرنا إليه من أن كل تنزيه مدح به الرب ففيه إثبات؛ ولهذا كان قول: سبحان الله متضمنا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيها تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيها تعظيمه سبحانه وتعالى كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع.
وأما القول الثالث وهو المراد به أن من عمل بما تضمنته، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولميعمل بما تضمنته، فهذا أيضا ضعيف، وما نفاه من المعادلة فهو مبني على قول من اعتبر في مقدار الأجر كثرة الحروف وهو قول باطل كما قد بين في موضعه وذلك أن العمل بها إن أراد به العمل الواجب من التصديق بمضمونها وتوحيد الله، فهذا أجره أعظم من أجر من قرأ القرآن جملة ولميعمل بذلك، فإنه إن خلا عن الإيمان بمضمون القرآن، فهو منافق، وإن خلا عما يجب عليه من العمل، فهو فاسق. ومعلوم أن هذا لو قرأ القرآن عشر مرات، لميكن أجره مثل أجر المؤمن المتقي. وأيضا، فإن هذا الأجر على الإيمان بمضمونها سواء قرأها أو لم يقرأها، والأجر المذكور في الحديث هو لمن قرأها، فلابد أن يكون قد قرأها مع الإيمان بما تضمنته. وأيضا، فالنبي ﷺ جعل قراءتها تعدل ثلث القرآن، وقرأها على أصحابه، وأخبرهم أنه قرأ عليهم ثلث القرآن، فكانت قراءته لها تعدل قراءته هو للثلث، وكذلك الرجل الذي جعل يرددها، وكذلك إخباره لهم بأنها تعدل ثلث القرآن، وإنمايراد به ثلثه إذا قرؤوه هم، لميرد به الثلث إذا قرأها منافق لايؤمن بمعنى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . ثم إن كون المراد بذلك من قرأ الثلث بلا إيمان بها معنى ليس في اللفظ مايدل عليه، وإنما يدل اللفظ على نقيضه، وهذا التأويل وأمثاله هو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذم الله عليه من فعل ذلك من أهل الكتاب، وهو نوع من الإلحاد في كلام الله ورسوله.
وقد ذكر أبو حامد الغزالي وجها آخر غير هذه الثلاثة، فقال في كتابه جواهر القرآن ودرره: أما قوله: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» ما أراك تفهم وجه ذلك، فتارة تقول: ذكر هذا للترغيب في التلاوة وليس المعنى به التقدير وحاشا منصب النبوة عن ذلك وتارة تقول: هذا بعيد عن الفهم والتأويل، فإن آيات القرآن تزيد على ستة آلاف آية، فهذا القدر كيف يكون ثلثها؟ وهذا لقلة معرفتك بحقائق القرآن ونظرك إلى ظاهر ألفاظه، فتظن أنها تعظم وتكثر بطول الألفاظ وتقصر بقصرها، وذلك كظن من يؤثر الدراهم الكثيرة على الجوهرة الواحدة؛ نظرًا إلى كثرتها. فاعلم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن قطعًا، وترجع إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في مهمات القرآن، وهي: معرفة الله، ومعرفة الآخرة، ومعرفة الصراط المستقيم. فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة، والباقي توابع. وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث، وهي: معرفة الله، وتقديسه، وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفء، والوصف بالصمديشعر بأنه السيد الذي لايقصد في الوجود للحوائج سواه. نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم؛ فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي: ثلث الأصول من القرآن كما قال: «الحج عرفة» أي: هو الأصل والباقي تبع.
قلت: آيات القرآن نوعان: علمية وعملية، وفي الآيات مايجمع الأمرين، وأبو حامد جمع العلميات المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله دون مايتعلق باليوم الآخر والقصص، وسماها جواهر القرآن وجمع العمليات وسماها درر القرآن. وجعل الشطر الأول من الفاتحة من الجواهر، والثاني من الدرر، والآيات التي تجمع المعنيين يذكرها في أغلب النوعين عليها. ومجموع ما ذكره من القسمين ربع آيات القرآن نحو ألف وخمسمائة آية، وجعل معاني القرآن ستة أصناف: ثلاثة أصول، وثلاثة توابع. فذكر أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، وقال: سر القرآن ولبابه الأصفي ومقصده الأقصى دعوة العباد إلى الجبار الأعلى رب الآخرة والأولى، وخالق السموات العلى والأرضين السفلى. فالثلاثة المهمة: تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، وتعريف الحال عند الأصول إليه. وأما الثلاثة المعنية: فأحدها: أحوال المجيبين للدعوة، ولطائف صنع الله فيهم، وسره ومقصوده التشويق والترغيب، وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة، وكيفية قمع الله لهم وتنكيله بهم، وسره ومقصوده الاعتبار والترهيب. وثانيها: حكاية أقوال الجاحدين، وكشف فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق، ومقصوده وسره في جنبة الباطل الإفصاح والتحذير والتنفير، وفي جنبة الحق الإيضاح والتثبيت والتقرير. وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والراحلة والأهبة للاستعداد.
قلت: ما ذكره من أن أصول الإيمان ثلاثة، فهو حق كما ذكره، ولابد من الثلاثة في كل ملة ودين، كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } 14 ونحو ذلك في سورة المائدة. فذكر هذه الأصول الثلاثة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح. وأما الثلاثة الأخر التابعة، فهي داخلة في هذه الثلاثة، فإن ما في القرآن من ذكر أحوال السعداء والأشقياء في الآخرة فهو من تفصيل الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عمارة الطريق فهو من العمل الصالح، وما فيه من المجادلة والمحاجة فذاك من تمام الأخبار بالثلاثة، فإنه إذا أخبر بالثلاثة، ذكر الآيات والأدلة المثبتة لذلك، وذكر شبه الجاحدين وبين فسادها. وقد ذكر أبو حامد ذلك فقال: القسم الجائي لمحاجة الكفار ومجادلتهم وإيضاح مخازيهم بالبرهان الواضح وكشف أباطيلهم وتخاييلهم. وأباطيلهم ثلاثة أنواع: الأول: ذكر الله بما لا يليق به من أن الملائكة بناته، وأن له ولدًا شريكًا، وأنه ثالث ثلاثة. الثاني: ذكر رسول الله ﷺ بأنه ساحر وكاهن وشاعر، وإنكار نبوته. وثالثها: إنكار اليوم الآخر، وجحد البعث والنشور والجنة والنار، وإنكار عاقبة الطاعة والمعصية.
وأما ما فيه من الأخبار بأحوال المؤمنين والكفار في الدنيا وهو الذي أراده أبو حامد بذكر أحوال المستجيبين والناكبين فهذا من تمام الأدلة والآيات، فإن هذا أمر شوهد في الدنيا ورؤيت آثاره وتواترت أخباره، ليس هو مما بعد الموت الذي هو غيب عن العباد؛ ولهذا يذكر سبحانه هذا في معرض الاحتجاج والاستدلال، مع مافي ذلك من الموعظة، كقوله: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب } 15، { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأولى الأَبْصَار } 16، وقوله: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الْأَبْصَارِ } 17، وقوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } 18، وقوله: { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } 19، وقوله: { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } الآيات 20.
وقوله تعالى لما ذكر قصة قوم لوط: { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عليهمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسمينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ } 21، والمتوسم: المستدل بالسمة والسيما، وهي العلامة، قال تعالى: { وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } 22. فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مقسم عليها، لكن هذايكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فموقوف على مشيئة الله، فإن ذلك أخفي. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال: «اتقوا فرَاسة المؤمن، فإنهينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسمينَ } . قال مجاهد وابن قتيبة: للمتفرسين. قال ابن قتيبة: يقال: توسمت في فلان الخير، أي: تبينته. وقال الزجاج: المتوسمون في اللغة: النظار المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء، يقال: توسمت في فلان كذا، أي: عرفت. وقوله: المثبتون في نظرهم، أي: في نظر أعينهم حتى يعرفوا السيما، بخلاف الذين قيل فيهم: { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عليها وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } 23. وقال الضحاك: الناظرون. وقال ابن زيد: المنتقدون. وقال قتادة: المعتبرون. وكل هذا صحيح؛ فإن المتوسمين جمع هذا كله. ثم قال تعالى: { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ } 24 ثم ذكر قصة أصحاب الأيكة. ثم قال: { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } 25، أي: بطريق متبين للناس واضح.
وكذلك في موضع آخر لما قال: { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } 26، وقال في سفينة نوح: { وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } 27، فأخبر أنه أبقى آيات، وهي العلامات والدلالات، فدل ذلك على أن مايخصه من أخبار المؤمنين وحسن عاقبتهم في الدنيا، وأخبار الكفار وسوء عاقبتهم في الدنيا، هو من باب الآيات والدلالات التي يستدل بها ويعتبر بها علمًا ووعظًا، فيفيد معرفة صحة ما أخبرت به الرسل، ويفيد الترغيب والترهيب، ويدل ذلك على أن الله يرضي عن أهل طاعته ويكرمهم، ويغضب على أهل معصيته ويعاقبهم، كما يستدل بمخلوقاته العامة على قدرته، فإن الفعل يستلزم قدرة الفاعل، ويستدل بأحكام الأفعال على علمه؛ لأن الفعل المحكم يستلزم علم الفاعل، وبالتخصيص على مشيئته؛ لأن التخصيص مستلزم لإرادته، فكذلك يستدل بالتخصيص بما هو أحمد عاقبة على حكمته؛ لأن تخصيص الفعل بما هو محمود في العاقبة مستلزم للحكمة، ويستدل بتخصيص الأنبياء وأتباعهم بالنصر وحسن العاقبة وتخصيص مكذبيهم بالخزي وسوء العاقبة على أنه يأمر ويحب ويرضى ما جاءت به الأنبياء، ويكره ويسخط ما كان عليه مكذبوهم؛ لأن تخصيص أحد النوعين بالإكرام والنجاة والذكر الحسن والدعاء، وتخصيص الآخر بالعذاب والهلاك وقبح الذكر واللعنة، يستلزم محبة ما فعله الصنف الأول، وبغض ما فعله الصنف الثاني.
وأما الإرادة التي يقال فيها: إنها تخص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب، فتلك هليوصف الله بها؟ فيه نزاع. فإن قيل: إنه لايوصف بها فلا كلام، وإن قيل: إنه يوصف بها، فمعلوم أن تخصيص الأنبياء عليهم السلام بهذا، وتخصيص أعدائهم بهذا لميصدر عن تخصيص بلا مخصص، بل يعلم أنه قصد تخصيص هؤلاء بالإكرام وهؤلاء بالعقاب، وإن إيمان هؤلاء سبب تخصيصهم بهذا، وكفر هؤلاء سبب تخصيصهم بهذا. ولبسط هذه الأمور موضع آخر.
لكن المقصود هنا أن هذه الثلاثة داخلة في الثلاثة الأول، ولكن أبو حامد يجعلُ الحِجَاجَ صنعة الكلام، ويجعل عمارة الطريق علم الفقه، ويجعل أخبار الأنبياء علم القصص. ويقول: إن الكلام والجدل ليس فيه بيان حق بدليل، بل إنما فيه دفع البدع ببيان تناقضها، ويجعل أهله من جنس خفراء الحجيج، ويجعل علم الفقه ليس غايته إلا مصلحة الدنيا، وهذا مما نازعه فيه أكثر الناس وتكلموا فيه بكلام ليس هذا موضعه، كما تكلموا على ما ذكره في هذا الكتاب جواهر القرآن وغيره من كتبه من معاني الفلسفة وجعل ذلك هو باطن القرآن، وكلام علماء المسلمين على رد هذا أكثر من كلامهم على رد ذلك؛ فإن هذا فيه ممايناقض مقصود الرسول أمور عظيمة، كما تكلموا على ما ذكره في النبوة بما يشبه كلام الفلاسفة فيها.
والمقصود أن هذا الذي ذكره في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أحسن من قول كثير من الناس فيها، وهو أقرب إلى القول الذي ذكرناه عن ابن سُرَيج ونصرناه، لكن ذلك القول هو الصواب بلا ريب؛ فإن النبي ﷺ أخبر بأن الله جَزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء. فجعل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جزءًا من أجزاء القرآن، وهذا يقتضي أن مجموع القرآن ثلاثة أجزاء، ليس هو ستة: ثلاثة أصول، وثلاثة فروع. وكذلك أخبر أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن، لميقل: ثلث المهم منه، ولا ثلث أكثره، ولا أصوله، فوجب أن يكون القرآن كله ثلاثة أصناف، وعلى ما ذكره أبو حامد هو ستة: ثلاثة مهمة، وثلاثة توابع، والسورة أحد الثلاثة المهمة، وهذا خلاف الحديث. وأيضا، فإن تقسيم القرآن إلى ثلاثة أقسام تقسيم بالدليل؛ فإن القرآن كلام، والكلام إما إخبار وإما إنشاء، والإخبار إما عن الخالق وإما عن المخلوق، فهذا تقسيم بين. وأما جعل علم الفقه خارجًا عن الصراط المستقيم والعمل الصالح، وجعل علم الأدلة والحجج خارجًا عن الإيمان والمعرفة بالله واليوم الآخر، فهذا مردود عند جماهير السلف والخلف.
وأبو حامد إنما ذكر هذا؛ لأنه يقول: إنما يعرف معاني ذلك بطريق التصفية فقط، لا بطريق الخبر النبوي، ولا بطريق النظر الاستدلالي، فلا يعرف ذلك بالسمع ولا بالعقل. وهذا مما أنكره عليه الناس وصنفوا كتبًا في رد ذلك كما فعل جماعات من العلماء ولكن عذر أبي حامد أنه لميجد فيما علمه من طريق الفلاسفة وأهل الكلام مايبين الحق في ذلك، ولم يعلم طرقًا عقلية غير ذلك، فنفي أن يعلم بطريق النظر فيه. وأما الطرق الخبرية النبوية، فلميكن له خبرة بما صح من ألفاظ الرسول، وبطريق دلالة ألفاظه على مقاصده، وظن بما شارك به بعض أهل الكلام والفلسفة أن الرسول لميبين مراده بألفاظه، فتركب من هذا وهذا سد باب الطريق العقلي والسمعي، وظن أن المطلوب يحصل له بطريق التصفية والعمل، فسلك ذلك، فلم يحصل له المقصود أيضا، فرجع في آخر عمره إلى قراءة البخاري ومسلم.
وقد ذكر القاضي عياض أقوالا في كون { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن، وكذلك المازري قبله. قال: قال الإمام يعني أبا عبد الله المازري قيل معنى ذلك: أن القرآن على ثلاثة أنحاء: قصص وأحكام، وأوصاف للّه جلت قدرته و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تشتمل على ذكر الصفات، فكانت ثلثًا من هذه الجهة، قال: وربما أسعد هذا التأويل ظاهر الحديث الذي ذكر أن الله جَزَّأ القرآن. قلت: هذا هو قول ابن سُرَيج وهو الذي نصرناه ذكره المازري في كلام ابن بَطَّال كما سيأتي. قال: وقيل معنى ثلث القرآن: لشخص بعينه قصده رسول الله ﷺ. وذكره ابن بطال أيضا، قال: وقيل معناه: أن الله يتفضل بتضعيف الثواب لقارئها ويكون منتهى التضعيف إلى مقدار ثلث مايستحق من الأجر على قراءة القرآن من دون تضعيف أجر. قال: وفي بعض روايات هذا الحديث أن رسول الله ﷺ حشد الناس، وقال: «سأقرأ عليكم ثلث القرآن» فقرأ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . قال المازري: وهذه الرواية تقدح في تأويل من جعل ذلك لشخص بعينه.
قال القاضي عياض: قال بعضهم: قال الله تعالى: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } 28، ثم بين التفصيل فقال: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ } 29، فهذا فصل الألوهية، ثم قال: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ } 30، وهذا فصل النبوة، ثم قال: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } 31، فهذا فصل التكليف، وما وراءه من الوعد والوعيد وعامة أجزاء القرآن مما فيه من القصص فمن فصل النبوة؛ لأنها من أدلتها وفهمها أيضا، وهذا يدل على أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جمعت الفصل الأول.
قلت: مضمون هذا القول، أن معاني القرآن ثلاثة أصناف: الإلهيات، والنبوات، والشرائع. وأن هذه السورة منها الإلهيات، وجعل صاحب هذا القول الوعد والوعيد والقصص من قسم النبوة؛ لأن ذلك مما أخبر به النبي ﷺ أو ممايدل على نبوته. وهذا القول ضعيف أيضا؛ فإنه يقال: والأمر والنهي أيضا مما جاء به النبي، كما جاء بالوعد والوعيد.
ويقال أيضا: القصص تدل على الأمر والنهي كما تدل على النبوة، فإنها تدل على إكرامه لمن أطاعه وعقوبته لمن عصاه، وهذا تقرير للأمر والنهي كما تقدم.
وأيضا، فإن مقصود النبوة هو الإخبار بما أمر الله به وبما أخبر به، وما دل على إثبات النبوة من القصصيدل على إثبات ما جاء به النبي، وما دل على إثبات ما جاء به النبي يدل على الأمر والنهي الذي جاء به النبي، فهما متلازمان.
ثم الإلهيات أيضا هي مما جاء به النبي ﷺ، فبين الدلائل العقلية على ما يمكن أن يعرف بالعقل، وأخبر عن الغيب المطلق الذي تعجز العقول عن معرفته، فلا معنى لجعل القصص داخلة في النبوة دون الإلهيات، فإنه إن عني أن القصص تدل على نبوته، فهي تدل من جهة إخباره بها كإخباره بغيرها من الغيب، وفيما أخبر به من الإلهيات والأمور المستقبلات ما هو كالقصص في ذلك وأبلغ. وإن عني أن تعذيب المكذبين يدل على النبوة، فهي تدل على جنس النبوة، وعلى نبوة من عذب قومه، لا تدل على نبوة المتأخر، إلا أن يكون ما أخبر به من جنس ما أخبر به الأول. وهذه الأمور كلها موجودة في الإلهيات وزيادة، فإنه قد أخبر فيها بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، قد ذكر الله ذلك في غير موضع كقوله: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون } 32، وقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } 33، وقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } 34.
وقد أخبر الله عن الأنبياء الذين قص أخبارهم كنوح وهود وصالح وشعيب صلوات الله عليهم أجمعين أن كلا منهم يقول لقومه: { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } 35، بل يفتتح دعوته بذلك، وذكر تعالى عن الأنبياء وأممهم من نوح إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين، كما قد بسط في غير موضع.
وأيضا، فالإلهيات التي تعلم منها قدرة الرب وإرادته وحكمته وأفعاله، منها يعلم النبي من المتنبئ، ومنهايعلم صدق النبي، فهي أدل على صدق النبي من مجرد القصص، وما في القصص من الدلالة على صدقه إنمايدل مع الإلهيات، وإلا فلو تجرد لميدل على شيء، فالنبوة مرتبطة بالإلهيات أعظم من ارتباطها بغيرها، والأنبياء إنما بعثوا بالدعوة إلى الله وحده، وقد يذكرون المعاد مجملًا ومفصلًا، والقصص قديذكر بعضهم بعضها مجملًا. وأما الإلهيات فهي الأصل، ولابد من تفصيل الأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه، فلابد لكل نبي من الأصول الثلاثة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح. والأصول الكلية التي يشترك فيها الأنبياء يذكرها الله في السور المكية مثل الأنعام والأعراف وذوات الر و طسم و حم وأكثر المفصل، ونحو ذلك. والمدنيات تتضمن خطاب من آمن بجنس الرسل من أهل الكتاب من المؤمنين بالشرائع التي بعث بها خاتم الرسل.
وأما قول من قال: إن هذا في شخص بعينه، ففي غاية الفساد لفظًا ومعنى، ثم إن الله إنما يخص الشيء المعين بحكم يخصه لمعنى يختص به كما قال لأبي بُرْدَة بن نِيارٍ وكان قد ذبح في العيد قبل الصلاة قبل أن يشرع لهم النبي ﷺ أن الذبح يكون بعد الصلاة، فلما قال النبي ﷺ: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نذبح، فمن ذبح قبل الصلاة فليعد، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله» ذكر له أبو بردة أنه ذبح قبل الصلاة، ولم يكن يعرف أن ذلك لايجوز، وذكر له أن عنده عناقًا خيرًا من جذعة فقال: «تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك»، فخصه بهذا الحكم؛ لأنه كان معذورًا في ذبحه قبل الصلاة، إذ فعل ذلك قبل شرع الحكم، فلميكن ذلك الذبح منهيًا عنه بعد، مع أنه لميكن عنده إلا هذا السن. وأما أمره لامرأة أبي حذيفة بن عتبة أن ترضع سالمًا مولاه خمس رضعات ليصير لها محرمًا، فهذا مما تنازع فيه السلف: هل هو مختص، أو مشترك، وإذا قيل: هذا لمن يحتاج إلى ذلك كما احتاجت هي إليه كان في ذلك جمع بين الأدلة.
وبالجملة، فالشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين إلا لاختصاص أحدهما بما يوجب الاختصاص، ولايسوي بين مختلفين غير متساويين، بل قد أنكر سبحانه على من نسبه إلى ذلك وقبح منيحكم بذلك، فقال تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } 36، وقال تعالى: { امْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } 37، وقال تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } 38، وقال تعالى: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ } 39، وقال تعالى: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الْأَبْصَارِ } 40، وإنما يكون الاعتبار إذا سوى بين المتماثلين، وأما إذا قيل: ليس الواقع كذلك، فلا اعتبار.
وقد تنازع الناس في هذا الأصل، وهو أنه هل يخص بالأمر والنهي مايخصه لا لسبب ولا لحكمة قط، بل مجرد تخصيص أحد المتماثلين على الآخر؟ فقال بذلك جهم بن صفوان ومن وافقه من الجبرية، ووافقهم كثير من المتكلمين المثبتين للقدر. وأما السلف وأئمة الفقه والحديث والتصوف وأكثر طوائف الكلام المثبتين للقدر كالكرَّامية وغيرهم ونفاته كالمعتزلة وغيرهم فلا يقولون بهذا الأصل، بل يقولون: هو سبحانه يخص مايخص من خلقه وأمره لأسباب ولحكمة له في التخصيص، كما بسط الكلام على هذا الأصل في مواضع.
وكذلك قول من قال: يضعف لقارئها مقدار ما يعطاه قارئ ثلث القرآن بلا تضعيف، قول لايدل عليه الحديث، ولا في العقل مايدل عليه، وليس فيه مناسبة ولا حكمة، فإن النص أخبر أن قراءتها تعدل ثلث القرآن، وأن من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن، فإن كان في هذا تضعيف، ففي هذا تضعيف، وإن لميكن في هذا تضعيف لميكن في الآخر، فتخصيص أحدهما بالتضعيف تحكم. ثم جعل التضعيف بقدر ثلث القرآن إنما هو لما اختصت به السورة من الفضل، وحينئذ ففضلها هو سبب هذا التقدير من غير حاجة إلى نقص ثواب سائر القرآن. وأيضا، فهذا تحكم محض لا دليل عليه ولا سبب يقتضيه ولا حكمة فيه. والناس كثيرًا ما يغلطون من جهة نقص علمهم وإيمانهم بكلام الله ورسوله وقدر ذلك، وما اشتمل عليه ذلك من العلم الذي يفوق علم الأولين والآخرين.
ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق وأفصح الخلق في البيان وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه كمال العلم بالحق وكمال القدرة على بيانه وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ مايكون، وأتم مايكون، وأعظم مايكون بيانًا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك، فمن وقر هذا في قلبه، لميقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك، فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } 41. فنسأل الله أنيجعلنا وإخواتنا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان.
وإذ قد تبين ضعف هذه الأقوال غير القول الأول الذي نصرناه وهو قول ابن سُرَيج وغيره كالمهلب والأصيلي وغيرهما فنقول: قد علم أن تفاضل القرآن وغيره من كلام الله ليس باعتبار نسبته إلى المتكلم؛ فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه. والذي قد صح عن النبي ﷺ؛ أنه فَضَّل من السور سورة الفاتحة وقال: «إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها». والأحكام الشرعية تدل على ذلك، وقد بسط الكلام على معانيها في غير هذا الموضع. وفَضَّل من الآيات آية الكرسي، وقال في الحديث الصحيح لأبي بن كعب: «أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ » قال: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } 42، فضرب بيده في صدره وقال «ليهنك العلم أبا المنذر»، وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر الله في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة.
وسنبين إن شاء الله أنه إذا كانت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، تعدل ثلث القرآن لم يلزم من ذلك أنها أفضل من الفاتحة، ولا أنها يكتفي بتلاوتها ثلاث مرات عن تلاوة القرآن، بل قد كره السلف أن تقرأ إذا قرئ القرآن كله إلا مرة واحدة كما كتبت في المصحف، فإن القرآن يقرأ كما كتب في المصحف، لايزاد على ذلك ولاينقص منه، والتكبير المأثور عن ابن كثير ليس هو مسندًا عن النبي ﷺ، ولم يسنده أحد إلى النبي ﷺ إلا البَزِّي، وخالف بذلك سائر من نقله فإنهم إنما نقلوه اختيارًا ممن هو دون النبي ﷺ وانفرد هو برفعه، وضعفه نقلة أهل العلم بالحديث والرجال من علماء القراءة وعلماء الحديث، كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء. فالمقصود أن من السنة في القرآن أن يقرأ كما في المصاحف، ولكن إذا قرئت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، مفردة تقرأ ثلاث مرات وأكثر من ذلك، ومن قرأها فله من الأجر مايعدل ثلث أجر القرآن، لكن عدل الشيء بالفتح يكون من غير جنسه كما سنذكره إن شاء الله.
والثواب أجناس مختلفة، كما أن الأموال أجناس مختلفة من مطعوم ومشروب وملبوس ومسكون ونقد وغير ذلك. وإذا ملك الرجل من أحد أجناس المال مايعدل ألف دينار مثلا لميلزم من ذلك أن يستغني عن سائر أجناس المال، بل إذا كان عنده مال وهو طعام، فهو محتاج إلى لباس ومسكن وغير ذلك. وكذلك إن كان من جنس غير النقد، فهو محتاج إلى غيره، وإن لم يكن معه إلا النقد، فهو محتاج إلى جميع الأنواع التي يحتاج إلى أنواعها ومنافعها. والفاتحة فيها من المنافع ثناء ودعاء ممايحتاج الناس إليه ما لا تقوم { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مقامه في ذلك، وإن كان أجرها عظيمًا، فذلك الأجر العظيم إنماينتفع به صاحبه مع أجر فاتحة الكتاب؛ ولهذا لو صلى بها وحدها بدون الفاتحة، لم تصح صلاته، ولو قدر أنه قرأ القرآن كله إلا الفاتحة لم تصح صلاته؛ لأن معاني الفاتحة فيها الحوائج الأصلية التي لابد للعباد منها. وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبين أن ما في الفاتحة من الثناء والدعاء وهو قول: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } 43، هو أفضل دعاء دعا به العبد ربه، وهو أوجب دعاء دعا به العبد ربه، وأنفع دعاء دعا به العبد ربه، فإنه يجمع مصالح الدين والدنيا والآخرة، والعبد دائما محتاج إليه لايقوم غيره مقامه، فلو حصل له أجر تسعة أعشار القرآن دع ثلثه ولم يحصل له مقصود هذا الدعاء، لم يقم مقامه ولم يسد مسده.
وهذا كما لو قدر أن الرجل تصدق بصدقات عظيمة، وجاهد جهادًا عظيمًا، يكون أفضل من قراءة القرآن مرات، وهو لم يصل ذلك اليوم الصلوات الخمس لم يقم ثواب هذه الأعمال مقام هذه، كما لو كان عند الرجل من الذهب والفضة والرقيق والحيوان والعقار أموال عظيمة، وليس عنده ما يتغدى به ويتعشى من الطعام، فإنه يكون جائعًا متألمًا فاسد الحال، ولايقوم مقام الطعام الذي يحتاج إليه تلك الأموال العظيمة؛ ولهذا قال الشيخ أبو مدين رحمه الله: أشرف العلوم علم التوحيد، وأنفع العلم أحكام العبيد. فليس الأفضل الأشرف هو الذي ينفع في وقت، بل الأنفع في كل وقت مايحتاج إليه العبد في ذلك الوقت، وهو فعل ما أمر الله به وترك ما نهي الله عنه؛ ولهذا يقال: المفضول في مكانه وزمانه أفضل من الفاضل؛ إذ دل الشرع على أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، فهذا أمر مطلق.
وقد تحرم الصلاة في أوقات، فتكون القراءة أفضل منها في ذلك الوقت. والتسبيح في الركوع والسجود هو المأمور به، والقراءة منهي عنها، ونظائر هذا كثيرة. فهكذا يعلم الأمر في فضل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وغيرها، فقراءة الفاتحة في أول الصلاة أفضل من قراءتها، بل هو الواجب، والاجتزاء بها وحدها لايمكن، بل تبطل معه الصلاة؛ ولهذا وجب التقرب بالفرائض، قبل النوافل، والتقرب بالنوافل إنما يكون تقربًا إذا فعلت الفرائض لا كما ظنه بعض الاتحادية كصاحب الفتوحات المكية ونحوه، من أن قرب الفرائض تكون بعد قرب النوافل! والنوافل تجعل الحق غطاءه، وتلك تجعل الحق عينه، فهذا بناء على أصله الفاسد من الاتحاد، كما بين.
وبين أن الحديث يناقض مذهبه من وجوه، كما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: «يقول الله: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه».
وقد بين في هذا الحديث أن المتقرب ليس هو المتقرَّب إليه، بل هو غيره، وأنه ما تقرب إليه عبده بمثل أداء المفروض، وأنه لايزال بعد ذلك يتقرب بالنوافل حتى يصير محبوبًا للّه، فيسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به، ثم قال: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». ففرق بين السائل والمسؤول، والمستعيذ والمستعاذ به، وجعل العبد سائلًا لربه مستعيذًا به. وهذا حديث شريف جامع لمقاصد عظيمة ليس هذا موضعها، بل المقصود هنا الكلام على { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
وقد بينا أن أحسن الوجوه أن معاني القرآن ثلاثة أنواع: توحيد، وقصص، وأحكام. وهذه السورة صفة الرحمن فيها التوحيد وحده؛ وذلك لأن القرآن كلام الله. والكلام نوعان: إما إنشاء، وإما إخبار، والإخبار إما خبر عن الخالق، وإما خبر عن المخلوق. فالإنشاء هو الأحكام كالأمر والنهي. والخبر عن المخلوق هو القصص. والخبر عن الخالق هو ذكر أسمائه وصفاته. وليس في القرآن سورة هي وصف الرحمن محضًا إلا هذه السورة. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله ﷺ بعث رجلًا على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «سلوه: لأي شيء يصنع ذلك» فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله ﷺ: «أخبروه أن الله يحبه».
وقال البخاري في باب الجمع بين السورتين في ركعة: وقال عبيد الله، عن ثابت، عن أنس: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم بها في الصلاة مما يقرأ به، افتتح ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه وقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بأخرى. فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم ذلك تركتكم. وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي ﷺ أخبروه الخبر، فقال: «يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ ». قال: إني أحبها. قال: «حبك إياها أدخلك الجنة». وقول النبي ﷺ: «إنها تعدل ثلث القرآن» حق كما أخبر به، فإنه ﷺ الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لم يخرج من بين شفتيه إلا حق.
والذين أشكل عليهم هذا القول لهم مأخذان:
أحدهما: منع تفاضل كلام الله بعضه على بعض، وقد تبين ضعفه.
الثاني: اعتقادهم أن الأجر يتبع كثرة الحروف، فما كثرت حروفه من الكلام يكون أجره أعظم. قالوا: لأن النبي ﷺ قال: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». قال الترمذي: حديث صحيح. قالوا: ومعلوم أن ثلث القرآن حروفه أكثر بكثير، فتكون حسناته أكثر.
فيقال لهم: هذا حق كما أخبر به النبي ﷺ، ولكن الحسنات فيها كبار وصغار، والنبي ﷺ مقصوده أن الله يعطي العبد بكل حسنة عشر أمثالها، كما قال تعالى: { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } 44، فإذا قرأ حرفًا، كان ذلك حسنة، فيعطيه بقدر تلك الحسنة عشر مرات، لكن لم يقل: إن الحسنات في الحروف متماثلة. كما أن من تصدق بدينار يعطي بتلك الحسنة عشر أمثالها. والواحد من بعد السابقين الأولين لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي ﷺ، فهو إذا أنفق مدًا كان له بهذه الحسنة عشر أمثالها، ولكن لا تكون تلك الحسنة بقدر حسنة من أنفق مدًا من الصحابة السابقين. ونظائر هذا كثيرة. فكذلك حروف القرآن تتفاضل لتفاضل المعاني وغير ذلك. فحروف الفاتحة له بكل حرف منها حسنة أعظم من حسنات حروف من { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } ، وإذا كان الشيء يعدل غيره، فعدل الشيء بالفتح هو مساويه، وإن كان من غير جنسه، كما قال تعالى: { أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } 45، والصيام ليس من جنس الطعام والجزاء ولكنه يعادله في القدر. وكذلك قوله ﷺ: «لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا»، وقوله تعالى: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } 46، أي: فدية. والفدية ما يعدل بالمفدي وإن كان من غير جنسه { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } 47 أي: يجعلون له عدلًا، أي: ندًا في الإلهية، وإن كانوا يعلمون أنه ليس من جنس الرب سبحانه.
ولو كان لرجل أموال من أصناف متنوعة، ولآخر ذهب بقدر ذلك، لكان مال هذا يعدل مال هذا وإن لم يكن من جنسه، ولهذا قد يكون عند الرجل من الذهب وغيره من الأموال ما يعدل شيئا عظيمًا، وإذا احتاج إلى دواء أو مركب أو مسكن أو نحو ذلك ولم يكن قادرًا على اشترائه، لم تنفعه تلك الأموال العظيمة. فالقرآن يحتاج الناس إلى ما فيه من الأمر والنهي والقصص، وإن كان التوحيد أعظم من ذلك. وإذا احتاج الإنسان إلى معرفة ما أمر به وما نهى عنه من الأفعال، أو احتاج إلى ما يؤمر به ويعتبر به من القصص والوعد والوعيد لم يسد غيره مسده، فلا يسد التوحيد مسد هذا، ولا تسد القصص مسد الأمر والنهي، ولا الأمر والنهي مسد القصص، بل كل ما أنزل الله ينتفع به الناس ويحتاجون إليه.
فإذا قرأ الإنسان: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص، فلا تسد { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، مسد ذلك، ولا تقوم مقامه، فلهذا لو لم يقرأ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، فإنه وإن حصل له أجر عظيم، لكن جنس الأجر الذي يحصل بقراءة غيرها لا يحصل له بقراءتها، بل يبقي فقيرًا محتاجًا إلى ما يتم به إيمانه من معرفة الأمر والنهي والوعد والوعيد ولو قام بالواجب عليه. فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة، فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة لتنوع الثواب، وإن كان قارئ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، ثلاثًا يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب، لكنه جنس واحد ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد، كمن معه ثلاثة آلاف دينار وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار، فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره، وذاك محتاج إلى ما مع هذا، وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا، وكذلك لو كان معه طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار، فإنه محتاج إلى لباس ومساكن، وما يدفع به الضرر من السلاح والأدوية وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام.
ومما ينبغي أن يعلم: أن فضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك قد يختلف باختلاف حال الرجل، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك. وفي الأثر: «إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض». وكان بعض الشيوخ يرقي ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وكان لها بركة عظيمة، فيرقي بها غيره فلا يحصل ذلك فيقول: ليس { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } من كل أحد تنفع كل أحد.
وإذا عرف ذلك، فقد يكون تسبيح بعض الناس أفضل من قراءة غيره، ويكون قراءة بعض السور من بعض الناس أفضل من قراءة غيره ل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وغيرها. والإنسان الواحد يختلف أيضا حاله، فقد يفعل العمل المفضول على وجه كامل، فيكون به أفضل من سائر أعماله الفاضلة. وقد غفر الله لبغي لسَقْيها الكلب، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وهذا لِمَا حصل لها في ذلك العمل من الأعمال القلبية وغيرها. وقد ينفق الرجل أضعاف ذلك فلا يغفر له؛ لعدم الأسباب المزكية للعمل، فإن الله إنما يتقبل من المتقين. وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» يقوله عن أصحابه السابقين الأولين رضي الله عنهم.
فإذا قيل: إن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، يعدل ثوابها ثواب ثلث القرآن، فلابد من اعتبار التماثل في سائر الصفات، وإلا فإذا اعتبر قراءة غيرها مع التدبر والخشوع بقراءتها مع الغفلة والجهل، لم يكن الأمر كذلك، بل قد يكون قول العبد: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» مع حضور القلب واتصافه بمعانيها أفضل من قراءة هذه السورة مع الجهل والغفلة، والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما أنهم متفاضلون في فهم سائر القرآن.
هامش
- ↑ [الأعراف: 33]
- ↑ [البقرة: 136]
- ↑ [آل عمران: 64]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [البقرة: 32]
- ↑ [العلق: 1، 2]
- ↑ [العلق: 4، 5]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [ق: 38]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [يوسف: 111]
- ↑ [آل عمران: 13]
- ↑ [الحشر: 2]
- ↑ [الأنعام: 11]
- ↑ [الحج 45: 46]
- ↑ [الروم: 9]
- ↑ [الحجر 74: 76]
- ↑ [محمد: 30]
- ↑ [يوسف: 105]
- ↑ [الحجر: 76]
- ↑ [الحجر: 79]
- ↑ [الذاريات 35: 37]
- ↑ [القمر: 15]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [هود: 2]
- ↑ [هود: 2]
- ↑ [هود: 3]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [الأعراف: 59]
- ↑ [ص: 28]
- ↑ [الجاثية: 21]
- ↑ [القلم: 35: 36]
- ↑ [القمر: 43]
- ↑ [الحشر: 2]
- ↑ [المجادلة: 11]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الفاتحة: 6: 7]
- ↑ [الأنعام: 160]
- ↑ [المائدة: 95]
- ↑ [البقرة: 123]
- ↑ [الأنعام: 1]