مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/فصل في مسألة التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدا
فصل في مسألة التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدا
عدلوأصل هذه المسألة أن يعلم أن التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدًا، إذ الواحد من كل وجه لا يعقل فيه شيء أفضل من شيء، فالتفاضل في صفاته تعالى إنما يعقل إذا أثبت له صفات متعددة: كالعلم، والقدرة، والإرادة، والمحبة، والبغض، والرضا، والغضب. وكإثبات أسماء له متعددة تدل على معان متعددة، وأثبت له كلمات متعددة تقوم بذاته حتى يقال: هل بعضها أفضل من بعض أم لا؟ وكل قول سوى قول السلف والأئمة في هذا الباب فهو خطأ متناقض، وأي شيء قاله في جواب هذه المسألة كان خطأ لا يمكنه أن يجيب فيه بجواب صحيح. فمن قال: إنه ليس له صفة ثبوتية، بل ليس له صفة إلا سلبية أو إضافية كما يقول ذلك الجهمية المحضة من المتفلسفة والمتكلمة أتباع جهم بن صفوان فهذا إذا قيل له: أيهما أفضل: نسبته التي هي الخلق إلى السموات والأرض أم إلى بعوضة، أم أيما أفضل: نفي الجهل بكل شيء عنه والعجز عن كل شيء، أم نفي الجهل بالكليات؟ لم يمكنه أن يجيب بجواب صحيح على أصله الفاسد.
فإنه إن قال: خلق السموات مماثل خلق البعوضة؛ كان هذا مكابرة للعقل والشرع، قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } 1، وإن قال: بل ذلك أعظم وأكبر كما في القرآن، قيل له: ليس عندك أمران وجوديان يفضل أحدهما الآخر، إذ الخلق على قولك لا يزيد على المخلوق فلم يبق إلا العدم المحض، فكيف يعقل في المعدومين من كل وجه أن يكون أحدهما أفضل من صاحبه إذا لم يكن هناك وجود يحصل فيه التفاضل؟! وكذلك إذا قيل: نفي الجهل والعجز عن بعض الأشياء مثل نفي ذلك عن بعض الأشياء كان هذا مكابرة، وإن قال: بل نفي الجهل العام أكمل من نفي الجهل الخاص، قيل له: إذا لم يلزم من نفي الجهل ثبوت علم بشيء من الأشياء، بل كان النفيان عدمين محضين فكيف يعقل التفاضل في الشيء الواحد من كل وجه؟ فإنه لا يعقل في العدم المحض والنفي الصرف، فإن ذلك ليس بشيء أصلًا، ولا حقيقة له في الوجود ولا فيه كمال ولا مدح، وإنما يكون التفاضل بصفات الكمال، والكمال لابد أن يكون وجودًا قائمًا بنفسه أو صفة موجودة قائمة بغيرها، فأما العدم المحض فلا كمال فيه أصلًا.
ولهذا إنما يصف الله نفسه بصفات التنزيه، لا السلبية العدمية؛ لتضمنها أمورًا وجودية تكون كمالًا يتمدح سبحانه بها، كما قد بسط في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } 2، فنفي ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية، وكذلك قوله: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 3، يتضمن كمال الملك والربوبية وانفراده بذلك، ونفس انفراده بالملك والهداية والتعليم وسائر صفات الكمال هو من صفات الكمال؛ ولهذا كانت السورة فيها الاسمان الأحد الصمد، وكل منهما يدل على الكمال. فقوله: { أَحَدٌ } يدل على نفي النظير، وقوله: { الصَّمَدُ } بالتعريف يدل على اختصاصه بالصمدية.
ولهذا جاء التعريف في اسمه الصمد دون الأحد؛ لأن أحدًا لا يوصف به في الإثبات غيره، بخلاف الصمد، فإن العرب تسمى السيد صمدًا. قال يحيي بن أبي كثير: الملائكة تسمى صمدًا والآدمي أجوف، فقوله: { الصَّمَدُ } بيان لاختصاصه بكمال الصمدية. وقد ذكرنا تفسير { الصَّمَدُ } واشتماله على جميع صفات الكمال، كما رواه العلماء من تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم في قوله: { الصَّمَدُ } يقول: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ وليس كمثله شيء سبحانه الواحد القهار.
وكذلك قد ثبت من حديث الأعمش عن أبي وائل، وقد ذكره البخاري في صحيحه، ورواه كثير من أهل العلم في كتبهم قال: الصمد: السيد الذي انتهي سؤدده. وقد قال غير واحد من السلف كابن مسعود وابن عباس وغيرهما: الصمد: الذي لا جوف له. وكلا القولين حق موافق للغة، كما قد بسط في موضعه. أما كون الصمد هو السيد، فهذا مشهور، وأما الآخر فهو أيضا معروف في اللغة. وقد ذكر الجوهري وغيره أن الصمد لغة في الصمت. وليس هذا من إبدال الدال بالتاء كما ظنه بعضهم، بل لفظ صمد يصمد صمدًا يدل على ذلك.
والمقصود هنا أن صفات الكمال إنما هي في الأمور الموجودة، والصفات السلبية إنما تكون كمالًا إذا تضمنت أمورًا وجودية؛ ولهذا كان تسبيح الرب يتضمن تنزيهه وتعظيمه جميعًا، فقول العبد: سبحان الله يتضمن تنزيه الله وبراءته من السوء. وهذا المعنى يتضمن عظمته في نفسه، ليس هو عدمًا محضًا لا يتضمن وجودًا، فإن هذا لا مدح فيه ولا تعظيم. وكذلك سائر ما تنزه الرب عنه من الشركاء والأولاد وغير ذلك، كقوله تعالى: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } إلى قوله: { إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } 4، وقوله تعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } 5، وغير ذلك.
فنفي العيوب والنقائص يستلزم ثبوت الكمال، ونفي الشركاء يقتضي الوحدانية، وهو من تمام الكمال، فإن ما له نظير قد انقسمت صفات الكمال وأفعال الكمال فيه وفي نظيره، فحصل له بعض صفات الكمال لا كلها. فالمنفرد بجميع صفات الكمال أكمل ممن له شريك يقاسمه إياها؛ ولهذا كان أهل التوحيد والإخلاص أكمل حبًا لله من المشركين الذين يحبون غيره، الذين اتخذوا من دونه أندادًا يحبونهم كحبه. قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } 6، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، قد بين فيه أن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يارسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدّا وهو خلقك». قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطْعَم معك». قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك». وأنزل الله تعالى تصديق ذلك: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الآية 7، فمن جعل لله ندًا يحبه كحب الله، فهو ممن دعا مع الله إلهًا آخر، وهذا من الشرك الأكبر.
والمقصود هنا أن الشيء إذا انقسم ووقعت فيه الشركة نقص ما يحصل لكل واحد، فإذا كان جميعه لواحد كان أكمل؛ فلهذا كان حب المؤمنين الموحدين المخلصين لله أكمل، وكذلك سائر ما نهوا عنه من كبائر الإثم والفواحش يوجب كمال الأمور الوجودية في عبادتهم وطاعتهم ومعرفتهم ومحبتهم، وذلك من زكاهم، كما أن الزرع كلما نقي عنه الدغَل كان أزكي له وأكمل لصفات الكمال الوجودية فيه. قال تعالى: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } 8، وأصل الزكاة التوحيد والإخلاص، كما فسرها بذلك أكابر السلف. وقال تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } 9، وقال: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } 10. وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من نفي عن الله النقائص، كالموت والجهل والعجز والصمم والعمي والبكم، ولم يثبت له صفات وجودية، كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، بل زعم أن صفاته ليست إلا عدمية محضة، وأنه لا يوصف بأمر وجودي، فهذا لم يثبت له صفة كمال أصلًا، فضلًا عن أن يقال: أي الصفتين أفضل؟ فإن التفضيل بين الشيئين فرع كون كل منهما له كمال ما، ثم ينظر أيهما أكمل، فأما إذا قدر أن كلًا منهما عدم محض، فلا كمال ولا فضيلة هناك أصلًا.
وكذلك من أثبت له الأسماء دون الصفات فقال: إنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير، عزيز، حكيم ولكن هذه الأسماء لا تتضمن اتصافه بحياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا عزة، ولا حكمة فإذا قيل له: أي الاسمين أفضل؟ لم يجب بجواب صحيح، فإنه إن قال: العليم أعظم من السميع؛ لعموم تعلقه مثلًا، أو قال: العزيز أكمل من القدير؛ لأنه مستلزم للقدرة من غير عكس، قيل: إذا لم يكن للأسماء عندك معان موجودة تقوم به، لم يكن هناك لا علم، ولا سمع، ولا بصر، ولا عزة، ولا قدرة، ليس إلا ذات مجردة عن صفات ومخلوقات، والذات المجردة ليس فيها ما يمكن أن يقع فيه تفاضل ولا تماثل، والمخلوقات لم يكن السؤال عن تفضيل بعضها على بعض، فإن ذلك مما يعلمه كل واحد ولا يشتبه على عاقل.
وكذلك من جعل بعض صفاته بعضًا، أو جعل الصفة هي الموصوف، مثل من قال: العلم هو القدرة، والعلم والقدرة هما العالم القادر، كما يقول ذلك من يقوله من جهمية الفلاسفة ونحوهم.
أو قال: كلامه كله هو معنى واحد قائم بذاته، هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبَر به، إن عُبِّرَ عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن معنى آية الكرسي وآية الدَّين واحد، وإن الأمر والنهي صفات نسبية للكلام ليست أنواعًا، بل ذات الكلام الذي هو أمر هو ذات الكلام الذي هو نهى، وإنما تنوعت الإضافة. فهذا الكلام الذي تقوله الكُلاَّبية، وإن كان جمهور العقلاء يقولون: إن مجرد تصوره كاف في العلم بفساده، فلا يمكن على هذا القول الجواب بتفضيل كلام الله بعضه على بعض، ولا مماثلة بعضه لبعض؛ لأن الكلام على قولهم شيء واحد بالعين لا يتعدد ولا يتبعض، فكيف يمكن أن يقال: هل بعضه أفضل من بعض؟ أم بعضه مثل بعض ولا بعض له عندهم؟ وإن قالوا: التماثل والتفاضل يقع في العبارة الدالة عليه، قيل: تلك ليست كلامًا لله على أصله، ولا عند أئمتهم، بل هي مخلوق من مخلوقاته، والتفاضل في المخلوقات لا إشكال فيه.
ومن قال من أتباعهم: إنها تسمى كلام الله حقيقة، وإن اسم الكلام يقع عليها وعلى معنى ذلك المعنى القائم بالنفس بالاشتراك اللفظي، فإنه لم يعقل حقيقة قولهم، بل قوله هذا يفسد أصلهم؛ لأن أصل قولهم: إن الكلام لا يقوم إلا بالمتكلم لا يقوم بغيره، إذ لو جاز قيام الكلام بغير المتكلم، لجاز أن يكون كلام الله مخلوقًا قائمًا بغيره مع كونه كلام الله. وهذا أصل الجهمية المحضة والمعتزلة الذي خالفهم فيه الكلابية وسائر المثبتة. وقالوا: إن المتكلم لا يكون متكلمًا حتى يقوم به الكلام، وكذلك في سائر الصفات قالوا: لا يكون العالم عالمًا حتى يقوم به العلم، ولا يكون المريد مريدًا حتى تقوم به الإرادة، فلو جوزوا أن يكون لله ما هو كلام له وهو مخلوق منفصل عنه، بطل هذا الأصل.
وأصل النفاة المعطلة من الجهمية والمعتزلة: أنهم يصفون الله بما لم يقم به، بل بما قام بغيره، أو بما لم يوجد، ويقولون: هذه إضافات لا صفات، فيقولون: هو رحيم ويرحم، والرحمة لا تقوم به بل هي مخلوقة، وهي نعمته. ويقولون: هو يرضي ويغضب، والرضا والغضب لا يقوم به، بل هو مخلوق وهو ثوابه وعقابه. ويقولون: هو متكلم ويتكلم، والكلام لا يقوم به، بل هو مخلوق قائم بغيره. وقد يقولون: هو مريد ويريد، ثم قد يقولون: ليست الإرادة شيئًا موجودًا، وقد يقولون: إنها هي المخلوقات والأمر المخلوق. وقد يقولون: أحدث إرادة لا في محل.
وهذا الأصل الباطل الذي أصله نفاة الصفات الجهمية المحضة من المعتزلة وغيرهم هو الذي فارقهم به جميع المثبتة للصفات من السلف والأئمة وأهل الفقه والحديث والتصوف والتفسير وأصناف نظار المثبتة، كالكُلاَّبية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم، وكالهشامية والكرامية وغيرهما من طوائف النظار المثبتة للصفات، وعلى هذا أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة وأئمة الفقهاء من أتباعهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
فقول من قال: إن الكلام يقع حقيقة على العبارة وهي مع ذلك مخلوقة، يناقض الأصل الفارق بين المثبتة والمعطلة، إلا أن يسمى متعلق الصفة باسم الصفة، كما يسمى المأمور به أمرًا، والمرحوم به رحمة، والمخلوق خلقًا، والقدر قدرة، والمعلوم علمًا، لكن يقال له: هذا كله ليس هو الحقيقة عند الإطلاق.
وأيضا، فهذه الأمور أعيان قائمة بأنفسها، فإذا أضيفت إلى الله علم أنها إضافة ملك لا إضافة وصف، بخلاف العبارة، فإنها لا تقوم بنفسها كما لا يقوم المعنى بنفسه، وهذا هو الأصل الفارق بين إضافة الصفات وإضافة المخلوقات، فإن المعطلة النفاة من الصابئة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم من الجهمية ومن اتبعهم كابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما في بعض مصنفاتهما وإن كانا في موضع آخر يقولان بخلاف ذلك يقولون: ليس في النصوص إلا إضافة هذه الأمور إلى الله، وهذه الأمور تسمى نصوص الإضافات لا نصوص الصفات. ويقولون: نصوص الإضافات وأحاديث الإضافات، لا آيات الصفات وأحاديث الصفات. والإضافة تكون إضافة مخلوق، لاختصاصه ببعض الوجوه كإضافة البيت والناقة والروح في قوله: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } 11، وقوله: { نَاقَةُ اللهِ } 12، وقوله: { فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سويا } 13.
وقالت الحلولية من النصارى، وغلاة الشيعة، والصوفية ومن اتبعهم ممن يقول بقدم الروح أرواح العباد وينتسب إلى أئمة المسلمين كالشافعي وأحمد وغيرهما مثل طائفة من أهل جِيلان وغيرهم بل إضافة الروح إلى الله كإضافة الكلام والقدرة، والكلام والقدرة صفاته فكذلك الروح. وقالوا في قوله: { فَإِذَا سويتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } 14، دليل على أن روح العبد صفة لله قديمة. وقالت النصارى: عيسى كلمة الله، وكلام الله غير مخلوق، فعيسى غير مخلوق. وقالت الصابئة والجهمية: عيسى كلمة الله وهو مخلوق، والقرآن كلام الله فهو أيضا مخلوق.
وهذه المواضع اشتبهت على كثير من الناس، وقد تكلم فيها الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وتكلموا في إضافة الكلام والروح ومناظرة الجهمية والنصارى. وقد سئلت عن ذلك من جهة الحلولية تارة ومن جهة المعطلة تارة. والسائلون تارة من أهل القبلة وتارة من غير أهلها. وقد بسط جواب ذلك في غير موضع. لكن المقصود هنا أن الفارق بين المضافين: أن المضاف إن كان شيئًا قائمًا بنفسه أو حالًا في ذلك القائم بنفسه، فهذا لا يكون صفة لله؛ لأن الصفة قائمة بالموصوف. فالأعيان التي خلقها الله قائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها تمتنع أن تكون صفات الله، فإضافتها إليه تتضمن كونها مخلوقة مملوكة، لكن أضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة لا لكونها صفة. والروح الذي هو جبريل من هذا الباب، كما أن الكعبة والناقة من هذا الباب، ومال الله من هذا الباب، وروح بني آدم من هذا، وذلك كقوله: { فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سويا } 15، { فَإِذَا سويتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } 16، { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } 17، { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } 18، { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } 19.
وأما إن كان المضاف إليه لا يقوم بنفسه، بل لا يكون إلا صفة كالعلم والقدرة والكلام والرضا والغضب، فهذا لا يكون إلا إضافة صفة إليه، فتكون قائمة به سبحانه فإذا قيل: «أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك»، فعلمه صفة قائمة به، وقدرته صفة قائمة به. وكذلك إذا قيل: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»، فرضاه وسخطه قائم به، وكذلك عفوه وعقوبته.
وأما أثر ذلك وهو ما يحصل للعبد من النعمة واندفاع النقمة، فذاك مخلوق منفصل عنه ليس صفة له، وقد يسمى هذا باسم ذاك كما في الحديث الصحيح: «يقول الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي». فالرحمة هنا عين قائمة بنفسها لا يمكن أن تكون صفة لغيرها، فهذا هو الفارق بين ما يضاف إضافة وصف وإضافة ملك. وإذا قيل: المسيح كلمة الله، فمعناه: أنه مخلوق بالكلمة؛ إذ المسيح نفسه ليس كلامًا. وهذا بخلاف القرآن فإنه نفسه كلام، والكلام لا يقوم بنفسه إلا بالمتكلم، فإضافته إلى المتكلم إضافة صفة إلى موصوفها وإن كان يتكلم بقدرته ومشيئته، وإن سمى فعلًا بهذا الاعتبار، فهو صفة باعتبار قيامه بالمتكلم.
وإذا كان كذلك، فمن قال: إن الكلام معنى واحد قائم بذات المتكلم، لم يمكنه أن يجيب عن هذه المسألة بجواب صحيح، فإذا قيل له: كلام الله هل بعضه أفضل من بعض؟ امتنع الجواب على أصله بنعم أو لا؛ لامتناع تبعضه عنده، ولكون العبارة ليست كلامًا لله، لكن إذا أريد بالكلام العبارة، أو قيل له: هل بعض القرآن أفضل من بعض وأريد بالقرآن: الكلام العربي الذي نزل به جبريل فهو عنده مخلوق لم يتكلم الله به، بل هو عنده إنشاء جبريل أو غيره، أو قيل: هل بعض كتب الله أفضل من بعض وكتاب الله عنده هو القرآن العربي المخلوق عنده فهذا السؤال يتوجه على قوله في الظاهر، وأما في نفس الأمر فكلاهما ممتنع على قوله؛ لأن العبارة تدل على المعاني، فإن المعاني القائمة في النفس تدل عليها العبارات، وقد علم أن العبارات تدل على معان متنوعة، وعلى أصله ليس المعنى إلا واحدًا، فيمتنع بالضرورة العقلية أن يكون القرآن العربي كله والتوراة والإنجيل وسائر ما يضاف إلى الله من العبارات، إنما يدل على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، وحينئذ فتبعض العبارات الدالة على المعاني بدون تبعض تلك المعاني ممتنع.
ولهذا قيل لهم: موسى عليه السلام لما سمع كلام الله أَسَمِعَهُ كله، أم سمع بعضه؟ إن قلتم: كله، فقد علم كل ما أخبر الله به وما أمر به. وقد ثبت في الصحيح أن الخضر قال له: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر». وقد قال تعالى: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } 20. وإن قلتم: سمع بعضه فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض. وأيضا، فقد فرق الله بين تكليمه لموسى عليه الصلاة والسلام وبين إيحائه إلى غيره من النبيين، وفرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء حجاب، فلو كان المعنى واحدًا، لكان الجميع إيحاء ولم يكن هناك تكليم يتميز على ذلك. ولا يمتنع أن يكون الرب تعالى مناديا لأحد؛ إذ المعنى القائم بالنفس لا يكون نداء، وقد أخبر الله تعالى بندائه في القرآن في عدة مواضع.
وعلى هذا، فمن قال من هؤلاء: إن كلام الله لا يفضل بعضه بعضًا، فحقيقة قوله أن هذه المسألة ممتنعة، فليس هناك أمران حتى يقال: إن أحدهما يكون مثل الآخر أو أفضل منه، والتماثل والتفاضل إنما يعقل بين اثنين فصاعدًا، وهكذا عند هؤلاء في إرادته وعلمه وسمعه وبصره، فكل من جعل الصفة واحدة بالعين، امتنع على قوله أن يقال: هل بعضها أفضل من بعض أم لا؛ إذ لا بعض لها عنده. وكذلك من وافق هؤلاء على وحدة هذه الصفات بالعين وقال: إن كلام الله حروف قديمة الأعيان، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان، سواء قال مع ذلك: إنها أعيان الأصوات المسموعة من القراء، أو قال: إنها بعض الأصوات المسموعة من القراء، وإن كان فساد ذلك معلومًا بالاضطرار، وقال: إن هذه الأصوات غير تلك.
فمن قال بأن الكلام حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلًا وأبدًا وهي مع ذلك شيء واحد فقوله معلوم الفساد عند جمهور العقلاء. كما أن من جعلها قولًا واحدًا، فقوله معلوم الفساد عند جمهور العقلاء على كل تقدير، فيمتنع مع القول بوحدة شيء أن يقال: هل بعضه أفضل من بعض أم لا؟ وأما من أثبت ما يتعدد من المعاني والحروف أو أحدهما، فهذا يعقل على قوله: السؤال عن التماثل والتفاضل. ثم حينئذ يقع السؤال: هل يتفاضل كلام الله وصفاته وأسماؤه، أم لا يقع التفاضل إلا في المخلوق؟
وعلى هذا، فما ذكره ابن بطال في شرح البخاري لَمَّا تكلم على هذا الحديث حيث قال: قال الملهب وحكاه عن الأصيلي: ومذهب الأشعري وأبي بكر بن الطيب وابن أبي زيد والداودي وأبي الحسن القابسي وجماعة علماء السنة: إن القرآن لا يفضل بعضه بعضًا؛ إذ كله كلام الله تعالى وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا في المخلوقات، هو نقل لأقوال هؤلاء بحسب ما ظنه لازمًا لهم حيث اعتقد أن التفاضل لا يكون إلا في المخلوق، والقرآن عند هؤلاء ليس بمخلوق. لكن قدمنا أن السلف الذين قالوا: إنه غير مخلوق لم ينقل عن أحد منهم أنه قال: ليس بعضه أفضل من بعض، بل المنقول عنهم خلاف ذلك. وأما نقل هذا القول عن الأشعري وموافقيه فغلط عليهم، إذ كلام الله عندهم ليس له كل ولا بعض، ولا يجوز أن يقال: هل يفضل بعضه بعضًا أو لا يفضل، فامتناع التفاضل فيه عنده كامتناع التماثل، ولا يجوز أن يقال: إنه متماثل ولا متفاضل؛ إذ ذلك لا يكون إلا بين شيئين.
ولكن هذا السؤال يتصور عنده في الصفات المتعددة كالعلم والقدوة، فيقال: أيها أفضل؟ فإن كان قال: إن صفات الرب لا تتفاضل؛ لأن مقتضي الأفضل نقص المفضول عنه، فإنما يستقيم هذا الجواب في هذه الصفات المتعددة لا في نفس الكلام، مع أن هذا النقل عن الأشعري في نفي تفاضل الصفات غير محرر، فإن الأشعري لم يقل: إن الصفات لا تتفاضل، بل هذا خطأ عليه، ولكن هو يقول: إن الكلام لا يدخله التفاضل كما لا يدخله التماثل؛ لأنه واحد عنده، لا لما ذكر. وأما الصفات المتعددة؛ فإنه قد صرح بأنها ليست متماثلة، ومذهبه أن الذات ليست مثل الصفات، ولا كل صفة مثل الأخرى، فهو لا يثبت تماثل المعاني القديمة عنده فكيف يقال على أصله ما يوجب تماثلها، وإذا امتنع من إطلاق التفاضل، فهو كامتناعه من إطلاق لفظ التماثل، وكامتناعه من إطلاق لفظ التغاير؟!وفي الجملة، فمن نقل عنه أنه نفي التفاضل وأثبت التماثل، فقد أخطأ، لكن قد لا يطلق لفظ التفاضل كما لا يطلق لفظ التماثل، لا لأن الصفات متماثلة عنده، بل هو ينفي التماثل لعدم التعدد، ولعدم إطلاق التغاير، كما يقال: هل يقال: الصفات مختلفة أم لا؟ وهل هي متغايرة أم لا؟ وهل يقال في كل صفة: إنها الذات أو غيرها، أو لا يجمع بين نفيهما، وإنما يفرد كل نفي منهما، أو لا يطلق شيء من ذلك؟ فهذه الأمور لا اختصاص لها بهذه المسألة مسألة التفضيل.
ولا ريب أن التماثل أو التفاضل لا يعقل إلا مع التعدد، وتعدد أسماء الله وصفاته وكلماته هو القول الذي عليه جمهور المسلمين، وهو الذي كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لفطرة الله التي فطر عليها عباده؛ فلهذا كان الناس يتخاطبون بموجب الفطرة والشرعة، وإن كانت لبعضهم أقوال أخر تنافي الفطرة والشرعة، وتستلزم بطلان ما يقوله بمقتضي الفطرة والشرعة، فإن القرآن والسنة قد دلا على تعدد كلمات الله في غير موضع، وقد قال تعالى: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } 21، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } 22.
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع قول السلف، وأنهم كانوا يثبتون لله كلمات لا نهاية لها، وبينا النزاع في تعدد العلوم والإرادات، وأن كثيرًا من أهل الكلام يقول ما عليه جمهور الناس من تعدد ذلك. وأن الذين قالوا: يريد جميع المرادات بإرادة واحدة إنما أخذوه عن ابن كُلاب، وجمهور العقلاء قالوا: هذا معلوم الفساد بالضرورة، حتى إن من فضلاء النظار من ينكر أن يذهب إلى هذا عاقل من الناس؛ لأنه رآه ظاهر الفساد في العقل، ولم يعلم أنه قاله طائفة من النظار.
وكذلك من جعل نفس إرادته هي رحمته وهي غضبه يكون قوله ﷺ: «أعوذ برضاك من سخطك» معناه يكون مستعيذًا عنده بنفس الإرادة من نفس الإرادة، وهذا ممتنع، فإنه ليس عنده للإرادة صفة ثبوتية يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة عنده لها مجرد تعلق بالمخلوقات والتعلق أمر عدمي. وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له سبحانه صفات متنوعة فيستعاذ به باعتبار، ومنه باعتبار. ومن قال: إنه ذات لا صفة لها، أو موجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية، فهذا يمتنع تحققه في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تقدر الممتنعات، فضلًا عن أن يكون ربًا خالقًا للمخلوقات، كما قد بسط في موضعه.
وهؤلاء ألجأهم إلى هذه الأمور مضايقات الجهمية والمعتزلة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون لهم: كلام الله هو الله أو غير الله؟ إن قلتم: هو غيره. فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم: هو هو، فهو مكابرة. وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد في المحنة، فإن المعتصم لما قال لهم: ناظروه، قال له عبد الرحمن بن إسحاق: يا أبا عبد الله، ما تقول في القرآن أو قال: في كلام الله يعني أهو الله أو غيره؟ فقال له أحمد: ما تقول في علم الله أهو الله أو غيره؟ فعارضه أحمد بالعلم، فسكت عبد الرحمن. وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله بالمناظرة رحمه الله فإن المبتدع الذي بني مذهبه على أصل فاسد متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء، أخذ يعارضك فيه؛ لما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعيًا أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فاعطه إياه، وإلا فما دام معتقدًا نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل امحه أولا، ثم اكتب فيه الحق، وهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم الإمام أحمد رحمه الله من المعارضة والنقض ما يبطلها.
وقد تكلم الإمام أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبين أن لفظ الغير لم ينطق به الشرع لا نفيًا ولا إثباتًا، وحينئذ فلا يلزم أن يكون داخلًا لفظ الغير في كلام الشارع ولا غير داخل، فلا يقوم دليل شرعي على أنه مخلوق. وأيضا، فهو لفظ مجمل يراد بالغير: ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير: ما ليس هو الشيء؛ فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلم الله ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل. ولا يطلق أنه غيره، لئلا يفهم أنه بائن عنه منفصل عنه. وهذا الذي ذكره الإمام أحمد عليه الحذاق من أئمة السنة، فهؤلاء لا يطلقون أنه هو، ولا يطلقون أنه غيره، ولا يقولون ليس هو هو ولا غيره، فإن هذا أيضا إثبات قسم ثالث وهو خطأ، ففرق بين ترك إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقًا وإثبات معنى ثالث خارج عن مسمى اللفظين.
فجاء بعد هؤلاء أبو الحسن وكان أحذق ممن بعده فقال: تنفي مفردًا لا مجموعًا. فنقول: مفردًا: ليست الصفة هي الموصوف، ونقول: مفردًا: ليست غيره، ولا يجمع بينهما فيقال: لا هي هو ولا هي غيره؛ لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق. وجاء بعده أقوام فقالوا: بل ننفي مجموعا. فنقول: لا هي هو ولا هي غيره. ثم كثير من هؤلاء إذا بحثوا يقولون هذا المعنى، أما أن يكون غيره فيتناقضون.
وسبب ذلك: أن لفظ الغير مجمل، يراد بالغير: المباين المنفصل، ويراد بالغير: ما ليس هو عين الشيء. وقد يعبر عن الأول بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود، ويعبر عن الثاني بأنه ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر. وبين هذا وهذا فرق ظاهر؛ فصفات الرب اللازمة له لا تفارقه البتة، فلا تكون غيرًا بالمعنى الأول، ويجوز أن تعلم بعض الصفات دون بعض، وتعلم الذات دون الصفة، فتكون غيرًا باعتبار الثاني؛ ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أغيارًا للذات. ومنهم من قال: نقول: إنها غير الذات، ولا نقول: إنها غير الله؛ فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات؛ ولهذا كان الصواب على قول أهل السنة ألا يقال في الصفات: إنها زائدة على مسمى اسم الله، بل من قال ذلك، فقد غلط عليهم.
وإذا قيل: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ كان الجواب: أن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات، فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردًا عن جميع الصفات، بل لفظ الذات تأنيث ذو ولفظ ذو مستلزم للإضافة. وهذا اللفظ مولد، وأصله أن يقال: ذات علم، ذات قدرة، ذات سمع، كما قال تعالى: { فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } 23، ويقال: فلانة ذات مال، ذات جمال. ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة وسمع وبصر ردًا على من نفي صفاتها عرَّفوا لفظ الذات، وصار التعريف يقوم مقام الإضافة، فحيث قيل لفظ الذات فهو ذات كذا، فالذات لا تكون إلا ذات علم وقدرة ونحو ذلك من الصفات لفظًا ومعنى. وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم: الصفات زائدة على الذات أنها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتًا مجردة لا صفات لها، فأثبت أهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها، فلا توجد الصفات بدون الذات ولا الذات بدون الصفات. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود أن الأشعري وغيره من الصفاتية الذين سلكوا مسلك ابن كُلاب إذا قال أحدهم في الصفات: إنها متماثلة، فإن هذا لا يقوله عاقل؛ إذ المثلان ما سد أحدهما مسد الآخر وقام مقامه، والعلم ليس مثلا للقدرة، ولا القدرة مثلا للإرادة، وأما الكلام فإنه عنده شيء واحد، والواحد يمتنع فيه تفاضل أو تماثل.
وفي الجملة، فالذين يمنعون أن يكون كلام الله بعضه أفضل من بعض، لهم مأخذان:
أحدهما: أن صفات الرب لا يكون بعضها أفضل من بعض، وقد يعبرون عن ذلك بأن القديم لا يتفاضل.
والثاني: أنه واحد، والواحد لا يتصور فيه تفاضل ولا تماثل. وهذا على قول من يقول: إنه واحد بالعين، وهؤلاء الذين يقولون: إنه واحد بالعين منهم من يجعله مع ذلك حروفًا أو حروفا وأصواتًا قديمة الأعيان، ويقول: هو مع ذلك شيء واحد، كما يوجد في كلام طائفة من المتأخرين الذين أخذوا عن الكلابية أنه ليس له إلا إرادة واحدة وعلم واحد وقدرة واحدة وكلام واحد وأن القرآن قديم. وأخذوا عن المعتزلة وغيرهم أنه مجرد الحروف والأصوات. والتزموا أن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، مع أنها مترتبة في نفسها ترتبًا ذاتيًا في الوجود، أزلية لم يزل بعضها مقارنًا لبعض، وفرقوا بين ذات الشيء وبين وجوده في الخارج موافقة لمن يقول ذلك من المعتزلة وكثير من القائلين بقدمه، وأنه حروف وأصوات، لا يقولون: إنه شيء واحد، بل يجعلونه متعددًا مع قدم القرآن، وقدم أعيان الحروف والأصوات.
والقول الآخر لمن يقول: إنه واحد بالعين: أن القديم هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، كما قد بين حقيقة قولهم. وهذا هو القول المنسوب إلى ابن كُلاَّب والأشعري. وهذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام ابن كلاب، لم يسبقه إليه أحد من الصحابة ولا التابعين ولا غيرهم من أئمة المسلمين، مع كثرة ما تكلم الصحابة والتابعون في كلام الله تعالى ومع أنه من أعظم وأهم أمور الدين الذي تتوفر الهمم على معرفته وذكره، ومع تواتر نص الكتاب والسنة وآثار الصحابة على خلاف هذا القول. وكل من هذه الأقوال مما يدل الكتاب والسنة وآثار السلف على خلافه. وكل منها مما اتفق جمهور العقلاء الذين يتصورونه على أن فساده معلوم بضرورة العقل، ويجوز اتفاق طائفة من العقلاء على قول يعلم فساده بضرورة العقل إذا كان عن تواطؤ، كما يجوز اتفاقهم على الكذب تواطؤًا، وأما بدون ذلك، فلا يجوز.
فالمذهب الذي تقلده بعض الناس عن بعض كقول النصارى والرافضة والجهمية والدهرية ونحو ذلك يجوز أن يكون فيه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وإن كان طائفة من العقلاء قالوه على هذا الوجه، فأما أن يقولوه من غير تواطؤ، فهذا لا يقع، وأكثر المتقلدين للأقوال الفاسدة لا يتصورونها تصورًا تامًا حتى يكون تصورها التام موجبًا للعلم بفسادها. ثم إذا اشتهر القول عند طائفة لم يعلموا غيره عن أهل السنة، ظنوا أنه قول أهل السنة.
ولما كان المشهور عند المسلمين أن أهل السنة لا يقولون: القرآن مخلوق، صار كل من رأي طائفة تنكر قول من يقول: القرآن مخلوق يظن أن كل ما قالته في هذا الباب هو قول السلف وأئمة السنة والذين قالوا: إن القرآن غير مخلوق بل قائم بذات الله، ووافقوا السلف والأئمة في هذا لما ظهرت محنة الجهمية وثبت فيها الإمام أحمد الذي أيد الله به السنة ونصر السنة صار شعار أهل السنة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرَى في الآخرة، فكل من أنكر ذلك، فهو من أهل البدعة في اللسان العام فكثر حينئذ من يوافق أهل السنة والحديث على ذلك، وإن كان لا يعرف حقيقة قولهم، بل معه أصول من أصول أهل البدع الجهمية يريد أن يجمع بينها وبين قول أهل السنة، كما يريد المتفلسف أن يجمع بين أقوال المتفلسفة المخالفين للرسل وبين ما جاءت به الرسل.
فلهذا صار المنتسبون إلى السنة الذين يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق لهم أقوال:
أحدها: قول من يقول: إنه قديم العين، وإن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بكلام بعد كلام. ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: ذلك القديم هو معنى واحد لازم لذات الله أبدًا، أو خمسة معان. ومنهم من يقول: بل هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله أبدًا.
الثالث: قول من يقول: بل الرب في أزله لم يكن الكلام ممكنًا له، كما لم يكن الفعل ممكنًا له عندهم؛ لأن وجود الكلام والفعل لا يكون إلا بمشيئته واختياره، ووجود ما يكون بالمشيئة والاختيار محال عندهم دوامه. ثم المشهور عن هؤلاء قول من يقول: تكلم فيما لا يزال بحروف وأصوات تقوم بذاته، كما يقوله طوائف متعددة منهم الكَرَّامية. وبعض الناس يذكر ما يقتضي أن الكلام الذي قام به شيئا بعد شيء إنما هو علوم وإرادات، وأبو عبد الله الرازي يميل إلى هذا في بعض كتبه.
والخامس: قول من يقول: لم يزل متكلمًا كيف شاء. وهذا هو المعروف عن السلف وأئمة السنة مثل عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وسائر أهل الحديث والسنة.
ثم هؤلاء منهم من يقول: لم يزل متكلمًا لا يسكت، بل لا يزال متكلمًا بمشيئته وقدرته. وهذا هو الذي جعله ابن حامد المشهور من مذهب أحمد وأصحابه، مع أنه حكي أنه لا يختلف قول أحمد أنه لم يزل متكلما كيف شاء وكما شاء. والقول الثاني: أنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء. وهذا القول حكاه أبو بكر عبد العزيز عن طائفة من أصحاب أحمد، وكذلك خرجه ابن حامد قولًا في المذهب، مع ذكره أنه لم يختلف مذهبه في أنه لم يزل متكلمًا كيف شاء وكما شاء، وأنه لا يجوز أن يكون لم يزل ساكتًا ثم صار متكلمًا كما يقوله الكَرَّامية وهذه الأقوال وتوابعها مبسوطة في موضع آخر.
هامش
- ↑ [غافر: 57]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الإسراء: 40: 44]
- ↑ [الصافات180، 181]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [الفرقان: 68]
- ↑ [فصلت6، 7]
- ↑ [النور: 30]
- ↑ [التوبة: 103]
- ↑ [الحج: 26]
- ↑ [الأعراف: 73]
- ↑ [مريم: 17]
- ↑ [الحجر: 29]
- ↑ [مريم: 17]
- ↑ [الحجر: 29]
- ↑ [الحج: 26]
- ↑ [الشمس: 13]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [لقمان: 27]
- ↑ [الأنفال: 1]