مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/كلام للإمام أحمد في رده على الجهمية
كلام للإمام أحمد في رده على الجهمية
عدلوكلام الإمام أحمد وغيره من السلف يحتمل أن يراد به هذا، فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية: أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه: قوله تعالى: { وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } 1، وقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 2، وقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } 3، وقد فسر أحمد قوله: { وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } . فإذا كانت هذه الآيات مما علمنا معناها لم تكن متشابهة عندنا، وهي متشابهة عند من احتج بها، وكان عليه أن يردها هو إلى ما يعرفه من المحكم، وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس، وهو الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، ثم فسر أحمد تلك الآيات آية آية، فبين أنها ليست متشابهة عنده بل قد عُرِفَ معناها. وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه، الذي هو تفسيره، وأما التأويل الذي هو الحقيقة الموجودة في الخارج فتلك لا يعلمها إلا الله، ولكن قد يقال: هذا المتشابه الإضافي ليس هو المتشابه المذكور في القرآن، فإن ذلك قد أخبر الله أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما هذا كما يشكل على كثير من الناس آيات لا يفهمون معناها، وغيرهم من الناس يعرف معناها وعلى هذا فقد يجاب بجوابين:
أحدهما: أن يكون في الآية قراءتان: قراءة من يقف على قوله: إلا الله، وقراءة من يقف عند قوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى: المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية: المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله، ومثل هذا يقع في القرآن كقوله: { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } 4، و { لِتَزُولَ } فيه قراءتان مشهورتان بالنفي والإثبات، وكل قراءة لها معنى صحيح.
وكذلك القراءة المشهورة: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } 5، وقرأ طائفة من السلف: لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وكلا القراءتين حق، فإن الذي يتعدى حدود الله هو الظالم وتارك الإنكار عليه قد يجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه، وقد يجعل ظالمًا باعتبار ما ترك من الإنكار الواجب، وعلى هذا قوله: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } 6، فأنجى الله الناهين. وأما أولئك الكارهون للذنب الذين قالوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا } 7، فالأكثرون على أنهم نجوا؛ لأنهم كانوا كارهين، فأنكروا بحسب قدرتهم.
وأما من ترك الإنكار مطلقًا فهو ظالم يعذب، كما قال النبي ﷺ: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه». وهذا الحديث موافق للآية.
والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين، كما أن قوله: { لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } أي: لا تختص بالمعتدين، بل يتناول من رأي المنكر فلم يغيره، ومن قرأ: { لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أدخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه، وقد يراد بذلك أنهم يعذبون في الدنيا، ويبعثون على نياتهم، كالجيش الذين يغزون البيت فيخسف بهم كلهم، ويحشر المكره على نيته.
والجواب الثاني: القطع بأن المتشابه المذكور في القرآن هو تشابهها في نفسها اللازم لها، وذاك الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وأما الإضافي الموجود في كلام من أراد به التشابه الإضافي، فمرادهم أنهم تكلموا فيما اشتبه معناه وأشكل معناه على بعض الناس، وأن الجهمية استدلوا بما اشتبه عليهم وأشكل، وإن لم يكن هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وكثيرًا ما يشتبه على الرجل ما لا يشتبه على غيره.
ويحتمل كلام الإمام أحمد أنه لم يرد إلا المتشابه في نفسه، الذي يلزمه التشابه، لم يرد بشيء منه التشابه الإضافي، وقال: تأولته على غير تأويله، أي: غير تأويله الذي هو تأويله في نفس الأمر، وإن كان ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله، وأهل العلم يعلمون أن المراد به ذلك التأويل، فلا يبقى مشكلًا عندهم محتملًا لغيره؛ ولهذا كان المتشابه في الخبريات إما عن الله، وإما عن الآخرة، وتأويل هذا كله لا يعلمه إلا الله، بل المحكم من القرآن قد يقال: له تأويل كما للمتشابه تأويل، كما قال: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } 8، ومع هذا فذلك التأويل لا يعلم وقته وكيفيته إلا الله. وقد يقال: بل التأويل للمتشابه؛ لأنه في الوعد والوعيد، وكله متشابه. وأيضا، فلا يلزم في كل آية ظنها بعض الناس متشابهًا أن تكون من المتشابه.
فقول أحمد: احتجوا بثلاث آيات من المتشابه، وقوله: ما شكت فيه من متشابه القرآن، قد يقال: إن هؤلاء أو أن أحمد جعل بعض ذلك من المتشابه وليس منه، فإن قول الله تعالى: { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } 9، لم يرد به هنا الإحكام العام والتشابه العام الذي يشترك فيه جميع آيات القرآن، وهو المذكور في قوله: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ } 10، وفي قوله: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } 11، فوصفه هنا كله بأنه متشابه، أي: متفق غير مختلف، يصدق بعضه بعضًا، وهو عكس المتضاد المختلف المذكور في قوله: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } 12، وقوله: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } 13، فإن هذا التشابه يعم القرآن، كما أن إحكام آياته تعمه كله، وهنا قد قال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ، فجعل بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا، فصار التشابه له معنيان، وله معنى ثالث وهو الإضافي. يقال: قد اشتبه علينا هذا، كقول بنى إسرائيل: { إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } 14، وإن كان في نفسه متميزًا منفصلًا بعضه عن بعض. وهذا من باب اشتباه الحق بالباطل، كقوله ﷺ في الحديث: «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس»، فدل ذلك على أن من الناس من يعرفها، فليست مشتبهة على جميع الناس، بل على بعضهم، بخلاف ما لا يعلم تأويله إلا الله، فإن الناس كلهم مشتركون في عدم العلم بتأويله، ومن هذا ما يروي عن المسيح عليه السلام أنه قال: الأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه.
فهذا المشتبه على بعض الناس يمكن الآخرين أن يعرفوا الحق فيه ويبينوا الفرق بين المشتبهين، وهذا هو الذي أراده من جعل الراسخين يعلمون التأويل، فإنه جعل المشتبهات في القرآن من هذا الباب الذي يشتبه على بعض الناس دون بعض، ويكون بينهما من الفروق المانعة للتشابه ما يعرفه بعض الناس. وهذا المعنى صحيح في نفسه لا ينكر. ولا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون ما اشتبه على غيرهم. وقد يكون هذا قراءة في الآية كما تقدم، من أنه يكون فيها قراءتان؛ لكن لفظ التأويل على هذا يراد به التفسير. ووجه ذلك أنهم يعلمون تأويله من حيث الجملة، كما يعلمون تأويل المحكم، فيعرفون الحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب، وغير ذلك مما أخبر الله به ورسوله معرفة مجملة، فيكونون عالمين بالتأويل، وهو ما يقع في الخارج على هذا الوجه، ولا يعلمونه مفصلًا، إذ هم لا يعرفون كيفيته وحقيقته، إذ ذلك ليس مثل الذي علموه في الدنيا وشاهدوه، وعلى هذا يصح أن يقال: علموا تأويله، وهو معرفة تفسيره، ويصح أن يقال: لم يعلموا تأويله، وكلا القراءتين حق.
وعلى قراءة النفي هل يقال أيضا: إن المحكم له تأويل لا يعلمون تفصيله؟ فإن قوله: وما يعلم تأويل ما تشابه منه إلا الله لا يدل على أن غيره يعلم تأويل المحكم، بل قد يقال: إن من المحكم أيضا ما لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما خص المتشابه بالذكر؛ لأن أولئك طلبوا علم تأويله، أو يقال: بل المحكم يعلمون تأويله لكن لا يعلمون وقت تأويله ومكانه وصفته.
وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به، ولا يعمل به، كما يجىء في كثير من الآثار، ونعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه، وكما جاء عن ابن مسعود وغيره في قوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } 15، قال: يحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه. وكلام السلف في ذلك يدل على أن التشابه أمر إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على هذا، فعلى كل أحد أن يعمل بما استبان له، وَيَكِلُ ما اشتبه عليه إلى الله، كقول أبي بن كعب رضي الله عنه في الحديث الذي رواه الثورى عن مغيرة وليس بشيء عن أبي العالية، قال: قيل لأبي بن كعب: أوصنى، فقال: اتخذ كتاب الله إمامًا، ارض به قاضيًا، وحاكمًا، هو الذي استخلف فيكم رسوله شفيع مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه خبر ما قبلكم، وخبر ما بينكم، وذكر ما قبلكم، وذكر ما فيكم. وقال سفيان، عن رجل سماه، عن ابن أبزى، عن أبي قال: فما استبان لك فاعمل به، وما شبه عليك فآمن به، وكِلْهُ إلى عالمه.
فمنهم من قال: المتشابه هو المنسوخ، ومنهم من جعله الخبريات مطلقًا، فعن قتادة والربيع والضحاك والسدى: المحكم: الناسخ الذي يعمل به، والمتشابه: المنسوخ يؤمن به ولا يعمل به. وكذلك في تفسير العوفي عن ابن عباس. وأما تفسير الوالبى عن ابن عباس فقال: محكمات: القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به. والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به.
أما القول الأول، فهو والله أعلم مأخوذ من قوله: { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } 16 فقابل بين المنسوخ وبين المحكم، وهو سبحانه إنما أراد نسخ ما ألقاه الشيطان، لم يرد نسخ ما أنزله، لكن هم جعلوا جنس المنسوخ متشابهًا؛ لأنه يشبه غيره في التلاوة والنظم، وأنه كلام الله وقرآن ومعجز وغير ذلك من المعانى، مع أن معناه قد نسخ.
ومن جعل المتشابه كل ما لا يعمل به من المنسوخ، والأقسام، والأمثال؛ فلأن ذلك متشابه، ولم يؤمر الناس بتفصيله، بل يكفيهم الإيمان المجمل به، بخلاف المعمول به فإنه لابد فيه من العلم المفصل. وهذا بيان لما يلزم كل الأمة، فإنهم يلزمهم معرفة ما يعمل به تفصيلًا ليعملوا به، وما أخبروا به فليس عليهم معرفته، بل عليهم الإيمان به، وإن كان العلم به حسنًا أو فرضًا على الكفاية فليس فرضًا على الأعيان، بخلاف ما يعمل به، ففرض على كل إنسان معرفة ما يلزمه من العمل مفصلًا، وليس عليه معرفة العلميات مفصلًا.
وقد روي عن مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه يصدق بعضه بعضًا. فعلى هذا القول يكون المتشابه هو المذكور في قوله: { كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } 17، والحلال مخالف للحرام، وهذا على قول مجاهد: إن العلماء يعلمون تأويله، لكن تفسير المتشابه بهذا مع أن كل القرآن متشابه، وهنا خص البعض به فيستدل به على ضعف هذا القول.
وكذلك قوله: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } 18، لو أريد بالمتشابه تصديق بعضه بعضًا، لكان اتباع ذلك غير محذور، وليس في كونه يصدق بعضه بعضًا ما يمنع ابتغاء تأويله، وقد يحتج لهذا القول بقوله: { مُتَشَابِهَاتٌ } فجعلها أنفسها متشابهات، وهذا يقتضي أن بعضها يشبه بعضًا ليست مشابهة لغيرها.
ويجاب عن هذا بأن اللفظ إذا ذكر في موضعين بمعنيين صار من المتشابه، كقوله: إنا و نحن المذكور في سبب نزول الآية. وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر ابن الزبير لما ذكر قصة أهل نجران ونزول الآية قال: المحكم: ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه: ما احتمل في التأويل أوجهًا. ومعنى هذا: أن ذلك اللفظ المحكم لا يكون تأويله في الخارج إلا شيئا واحدًا، وأما المتشابه فيكون له تأويلات متعددة، لكن لم يرد الله إلا واحدًا منها، وسياق الآية يدل على المراد. وحينئذ، فالراسخون في العلم يعلمون المراد من هذا، كما يعلمون المراد من المحكم؛ لكن نفس التأويل الذي هو الحقيقة ووقت الحوادث ونحو ذلك لا يعلمونه لا من هذا ولا من هذا.
وقد قيل: إن نصارى نجران احتجوا بقوله: { بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ } 19، { وَرُوحٌ مِّنْهُ } 20، ولفظ: كلمة الله، يراد به الكلام، ويراد به المخلوق بالكلام، { وَرُوحٌ مِّنْهُ } يراد به ابتداء الغاية، ويراد به التبعيض. فعلى هذا إذا قيل: تأويله لا يعلمه إلا الله، المراد به الحقيقة، أي: لا يعلمون كيف خلق عيسى بالكلمة، ولا كيف أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرًا سويًا، ونفخ فيها من روحه. وفي صحيح البخاري، عن عائشة، عن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».
والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول ﷺ وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين. وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر. وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيرًا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم: إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد مع جلالة قدره والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله.
وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، وقوله عن الجهمية: إنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره المطابق لمعناه، فهذا محمود ليس بمذموم، وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف: إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها، بل يتلون لفظًا لا يعرفون معناه. وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما.
وابن قتيبة هو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة. قال فيه صاحب كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفًا، وأحسنهم ترصيفًا، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد، وإسحاق، وكان معاصرًا لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه. قلت: ويقال: هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة.
وقد نقل عن ابن عباس أيضا القول الآخر، ونقل ذلك عن غيره من الصحابة، وطائفة من التابعين، ولم يذكر هؤلاء على قولهم نصًا عن رسول الله ﷺ، فصارت مسألة نزاع، فترد إلى الله وإلى الرسول، وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله، وبأن النبي ﷺ ذم مبتغى المتشابه، وقال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم»، ولهذا ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه، ولأنه قال: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ } 21، ولو كانت الواو واو عطف مفرد على مفرد لا واو الاستئناف التي تعطف جملة على جملة، لقال: ويقولون.
فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } 22، ثم قال: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ } 23، ثم قال: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } 24، قالوا: فهذا عطف مفرد على مفرد، والفعل حال من المعطوف فقط، وهو نظير قوله: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ، قالوا: ولأنه لو كان المراد مجرد الوصف بالإيمان لم يخص الراسخين، بل قال: والمؤمنون يقولون: آمنا به، فإن كل مؤمن يجب عليه أن يؤمن به، فلما خص الراسخين في العلم بالذكر علم أنهم امتازوا بعلم تأويله، فعلموه لأنهم عالمون، وآمنوا به لأنهم يؤمنون، وكان إيمانهم به مع العلم أكمل في الوصف، وقد قال عقيب ذلك: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْباب } 25، وهذا يدل على أن هنا تذكرًا يختص به أولو الألباب، فإن كان ما ثم إلا الإيمان بألفاظ فلا يذكر لما يدلهم على ما أريد بالمتشابه.
ونظير هذا قوله في الآية الأخرى: { لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } 26، فلما وصفهم بالرسوخ في العلم، وأنهم يؤمنون، قرن بهم المؤمنين، فلو أريد هنا مجرد الإيمان لقال: والراسخون في العلم والمؤمنون يقولون: آمنا به، كما قال في تلك الآية لما كان مراده مجرد الإخبار بالإيمان جمع بين الطائفتين.
قالوا: وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب، وهي فتنتها به، ويطلبون تأويله وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء، بل هذا لأجل الفتنة، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة، وهذا كمن يورد أسئلة وإشكالات على كلام الغير، ويقول: ماذا أريد بكذا؟ وغرضه التشكيك والطعن فيه، ليس غرضه معرفة الحق، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي ﷺ بقوله: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه»؛ ولهذا { يَتَّبِعُونَ } أي: يطلبون المتشابه ويقصدونه دون المحكم، مثل المتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده. وهذا فعل من قصده الفتنة، وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبه وهو عالم بالمحكم متبع له، مؤمن بالمتشابه، لا يقصد فتنة فهذا لم يذمه الله. وهكذا كان الصحابة يقولون رضي الله عنهم: مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وقد ذكره الطلمنكي: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا بقية، ثنا عتبة بن أبي حكيم، ثنى عمارة بن راشد الكناني، عن زياد، عن معاذ بن جبل قال: يقرأ القرآن رجلان: فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرًا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى. ورجل يقرؤه ليس فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به، وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن فيه فقهًا ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة، فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه. قال بقية: أشهدني ابن عيينة حديث عتبة هذا.
فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة، وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لابد أن يفقهه بفهمه المتشابه فقهًا ما فقهه قوم قط: قالوا: والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك، كما سأله عمر فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به؟ وسأله أيضا عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ ولما نزل قوله: { وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } 27، شق عليهم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه حتى بين لهم، ولما نزل قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ } 28، شق عليهم حتى بين لهم الحكمة في ذلك، ولما قال النبي ﷺ: «من نوقش الحساب عذب» قالت عائشة: ألم يقل الله: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } 29 قال: «إنما ذلك العرض».
قالوا: والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وتلقوا ذلك عن النبي ﷺ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن، إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه.
وأيضا، فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال: لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره.
وهذا أيضا مما يحتجون به، ويقولون: المتشابه: أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره، قالوا: ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونور، ولم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا: ولأن من العظيم أن يقال: إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي ﷺ يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس.
وأيضا، فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك، كان عبثًا وباطلًا، والله تعالى قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم؟! وهذا من أقوى حجج الملحدين.
وأيضا، فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها، وبينوا ذلك. وإذا قيل: فقد يختلفون في بعض ذلك، قيل: كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها. وهذا أيضا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي.
وأيضا، فلفظ التأويل يكون للمحكم، كما يكون للمتشابه، كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم فكذلك معنى المتشابه. وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه وقد بين معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه، وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل به خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة! ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله، وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره، ثم يقال: إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه؛ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه، ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران، وقد احتجوا بقوله: { إنَّا } { نَحْنُ } وبقوله: { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } 30، { وَرُوحٌ مِّنْهُ } 31، وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه، فكيف يقال: إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا أحد من السلف، وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا، وأمرنا أن نتدبره ونعقله، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور، وليس المراد من الكلام إلا معانيه، ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له.
وقد قال الحسن: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها.
ومن قال: إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في { الم } 32، بحساب الجمل، فهذا نقل باطل.
أما أولًا: فلأنه من رواية الكلبي.
وأما ثانيًا: فهذا قد قيل: إنهم قالوه في أول مَقدم النبي ﷺ إلى المدينة، وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخرًا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج، وإنما فرض سنة تسع أو عشر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين.
وأما ثالثًا: فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة، ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه، بل إما أن يقال: إنه ليس مما أراده الله بكلامه، فلا يقال: إنه انفرد بعلمه، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطل، وإما أن يقال: بل يدل عليه، فقد علم بعض الناس ما يدل عليه، وحينئذ فقد علم الناس ذلك، أما دعوى دلالة القرآن على ذلك، وأن أحدًا لا يعلمه فهذا هو الباطل.
وأيضا، فإذا كانت الأمور العلمية التي أخبر الله بها في القرآن لا يعرفها الرسول، كان هذا من أعظم قدح الملاحدة فيه، وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية، أو أنه كان يعرفها ولم يبينها، بل هذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها، فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره.
وبالجملة، فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره.
نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء، فضلًا عن غيرهم، وليس ذلك في آية معينة، بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا، وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق، وتارة لعدم التدبر التام، وتارة لغير ذلك من الأسباب، فيجب القطع بأن قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } 33، أن الصواب قول من يجعله معطوفًا، ويجعل الواو لعطف مفرد على مفرد، أو يكون كلا القولين حقًا، وهي قراءتان، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، وإن كان الصواب هو قول من يجعلها واو استئناف، فيكون التأويل المنفي علمه عن غير الله هو الكيفيات التي لا يعلمها غيره، وهذا فيه نظر، وابن عباس جاء عنه أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله، وجاء عنه: أن الراسخين لا يعلمون تأويله.
وجاء عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب. وهذا القول يجمع القولين، ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم، وأن فيه ما لا يعلمه إلا الله، فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله: إلا الله وجعل التأويل بمعنى التفسير، فهذا خطأ قطعًا.
وأما التأويل بالمعنى الثالث، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فهذا الاصطلاح لم يكن بَعْدُ عُرِفَ في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمة الأربعة، ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفًا في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحدًا منهم خص لفظ التأويل بهذا، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعًا في عرف كثير من المتأخرين، فظنوا أن التأويل في الآية هذا معناه، صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معانٍ تخالف ما يفهم منه، وفرقوا دينهم بعد ذلك، وصاروا شيعًا، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد، وإنما الخطأ في فهم السامع. نعم قد يقال: إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلوب، ولكن فرق بين عدم دلالته على المطلوب، وبين دلالته على نقيض المطلوب. فهذا الثاني هو المنفي، بل وليس في القرآن ما يدل على الباطل البتة، كما قد بسط في موضعه.
وَلَكِنْ كثيرٌ من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى، إما معنى يعتقده، وإما معنى باطلًا فيحتاج إلى تأويله، ويكون ما قاله باطلًا لا تدل الآية على معتقده، ولا على المعنى الباطل. وهذا كثير جدًا. وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرًا ما يحتاج إلى التأويل المحدث، وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله.
ومما يحتج به من قال: الراسخون في العلم يعلمون التأويل، ما ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن ابن عباس؛ أن النبي ﷺ دعا له وقال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»، فقد دعا له بعلم التأويل مطلقًا، وابن عباس فسر القرآن كله. قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وكان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
وأيضا، فالنقول متواترة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تكلم في جميع معاني القرآن من الأمر والخبر، فله من الكلام في الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقصص، ومن الكلام في الأمر والنهي والأحكام ما يبين أنه كان يتكلم في جميع معاني القرآن.
وأيضا، قد قال ابن مسعود: ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت.
وأيضا، فإنهم متفقون على أن آيات الأحكام يعلم تأويلها، وهي نحو خمسمائة آية، وسائر القرآن خبر عن الله وأسمائه وصفاته، أو عن اليوم الآخر والجنة والنار، أو عن القصص، وعاقبة أهل الإيمان، وعاقبة أهل الكفر، فإن كان هذا هو المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، فجمهور القرآن لا يعرف أحد معناه، لا الرسول ولا أحد من الأمة، ومعلوم أن هذا مكابرة ظاهرة.
وأيضا، فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به؛ فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة لا يهتدي لها جمهور الناس، بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه، فإذا كان الله قد عَلَّم عباده تأويل الأحاديث التي يَرَوْنها في المنام، فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربى المبين الذي ينزله على أنبيائه بطريق الأولى والأحرى، قال يعقوب ليوسف: { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } 34، وقال يوسف: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } 35، وقال: { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } 36.
وأيضا، فقد ذم الله الكفار بقوله: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } 37، وقال: { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 38، وهذا ذم لمن كذب بما لم يحط بعلمه.
فما قاله الناس من الأقوال المختلفة في تفسير القرآن وتأويله ليس لأحد أن يصدق بقول دون قول بلا علم، ولا يكذب بشيء منها، إلا أن يحيط بعلمه. وهذا لا يمكن إلا إذا عرف الحق الذي أريد بالآية، فيعلم أن ما سواه باطل، فيكذب بالباطل الذي أحاط بعلمه، وأما إذا لم يعرف معناها، ولم يحط بشيء منها علمًا، فلا يجوز له التكذيب بشيء منها، مع أن الأقوال المتناقضة بعضها باطل قطعًا، ويكون حينئذ المكذب بالقرآن كالمكذب بالأقوال المتناقضة، والمكذب بالحق كالمكذب بالباطل، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
وأيضا، فإنه إن بنى على ما يعتقده من أنه لا يعلم معانى الآيات الخبرية إلا الله، لزمه أن يكذب كل من احتج بآية من القرآن خبرية على شيء من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن تكلم في تفسير ذلك. وكذلك يلزم مثل ذلك في أحاديث الرسول ﷺ. وإن قال: المتشابه هو بعض الخبريات، لزمه أن يبين فصلًا يتبين به ما يجوز أن يعلم معناه من آيات القرآن، وما لا يجوز أن يعلم معناه، بحيث لا يجوز أن يعلم معناه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا أحد من الصحابة، ولا غيرهم. ومعلوم أنه لا يمكن أحدًا ذكر حد فاصل بين ما يجوز أن يعلم معناه بعض الناس، وبين ما لا يجوز أن يعلم معناه أحد، ولو ذكر ما ذكر انتقض عليه، فعلم أن المتشابه ليس هو الذي لا يمكن أحدًا معرفة معناه، وهذا دليل مستقل في المسألة.
وأيضا، فقوله: { لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } 39، { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا } 40، ذم لهم على عدم الإحاطة مع التكذيب، ولو كان الناس كلهم مشتركين في عدم الإحاطة بعلم المتشابه، لم يكن في ذمهم بهذا الوصف فائدة، ولكان الذم على مجرد التكذيب، فإن هذا بمنزلة أن يقال: أكذبتم بما لم تحيطوا به علمًا ولا يحيط به علمًا إلا الله؟ ومن كذب بما لا يعلمه إلا الله؛ كان أقرب إلى العذر من أن يكذب بما يعلمه الناس، فلو لم يحط بها علمًا الراسخون؛ كان ترك هذا الوصف أقوى في ذمهم من ذكره.
ويتبين هذا بوجه آخر هو دليل في المسألة، وهو أن الله ذم الزائغين بالجهل وسوء القصد، فإنهم يقصدون المتشابه يبتغون تأويله، ولا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم، وليسوا منهم، وهم يقصدون الفتنة لا يقصدون العلم والحق، وهذا كقوله تعالى: { وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } 41، فإن المعنى بقوله: { لَّأسْمَعَهُمْ } فهم القرآن؛ يقول: لو علم الله فيهم حسن قصد وقبولًا للحق لأفهمهم القرآن، لكن لو أفهمهم لتولوا عن الإيمان وقبول الحق لسوء قصدهم، فهم جاهلون ظالمون، كذلك الذين في قلوبهم زيغ هم مذمومون بسوء القصد، مع طلب علم ما ليسوا من أهله، وليس إذا عيب هؤلاء على العلم ومنعوه يعاب من حسن قصده وجعله الله من الراسخين في العلم.
فإن قيل: فأكثر السلف على أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل، وكذلك أكثر أهل اللغة يروى هذا عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعُرْوَة، وقتادة، وعمر ابن عبد العزيز، والفراء، وأبي عبيد، وثعلب، وابن الأنباري. قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم. وفي قراءة أبي وابن عباس: ويقول الراسخون في العلم، قال: وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها، كقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ } 42، وقوله: { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } 43، فأنزل المحكم ليؤمن به المؤمن فيسعد، ويكفر به الكافر فيشقى. قال ابن الأنباري: والذي روى القول الآخر عن مجاهد هو ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد.
فيقال: قول القائل: إن أكثر السلف على هذا قول بلا علم، فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه. وعن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه وبمتشابهه ولا يعلمونه. فقد روى البخاري عن ابن أبي مُلَىْكَة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها الحديث المرفوع في هذا، وليس فيه هذه الزيادة، ولم يذكر أنه سمعها من القاسم، بل الثابت عن الصحابة أن المتشابه يعلمه الراسخون كما تقدم حديث معاذ بن جبل في ذلك، وكذلك نحوه عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم، وما ذكر من قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ليس لها إسناد يعرف حتى يحتج بها، والمعروف عن ابن مسعود أنه كان يقول: ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان ابن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. وهذا أمر مشهور رواه الناس عن عامة أهل الحديث والتفسير، وله إسناد معروف، بخلاف ما ذكر من قراءتهما. وكذلك ابن عباس قد عرف عنه أنه كان يقول: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقد صح عن النبي ﷺ أنه دعا له بعلم تأويل الكتاب، فكيف لا يعلم التأويل مع أن قراءة عبد الله: إن تأويله إلا عند الله لا تناقض هذا القول؟ فإن نفس التأويل لا يأتي به إلا الله، كما قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } 44، وقال: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } 45.
وقد اشتهر عن عامة السلف أن الوعد والوعيد من المتشابه، وتأويل ذلك هو مجيء الموعود به، وذلك عند الله لا يأتي به إلا هو، وليس في القرآن: إن علم تأويله إلا عند الله، كما قال في الساعة: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } 46، وكذلك لما قال فرعون لموسى: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى } 47.
فلو كانت قراءة ابن مسعود تقتضى نفي العلم عن الراسخين لكانت: إن علم تأويله إلا عند الله، لم يقرأ: إن تأويله إلا عند الله، فإن هذا حق بلا نزاع. وأما القراءة الأخرى المروية عن أبي وابن عباس، فقد نقل عن ابن عباس ما يناقضه، وأخص أصحابه بالتفسير مجاهد، وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد. وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا التفسير. وقول القائل: لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد جوابه: أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير، بل ليس بأيدى أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة، ثم معه ما يصدقه، وهو قوله: عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية وأسأله عنها.
وأيضا، فأبي بن كعب رضي الله عنه قد عرف عنه أنه كان يفسر ما تشابه من القرآن، كما فسر قوله: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } 48، وفسر قوله: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } 49، وقوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } 50، وغير ذلك. ونَقْلُ ذلك معروف عنه بالإسناد أثبت من نقل هذه القراءة التي لا يعرف لها إسناد. وقد كان يسئل عن المتشابه من معنى القرآن فيجيب عنه كما سأله عمر، وسئل عن ليلة القدر.
وأما قوله: إن الله أنزل المجمل ليؤمن به المؤمن. فيقال: هذا حق، لكن هل في الكتاب والسنة أو قول أحد من السلف أن الأنبياء والملائكة والصحابة لا يفهمون ذلك الكلام المجمل؟ أم العلماء متفقون على أن المجمل في القرآن يفهم معناه ويعرف ما فيه من الإجمال، كما مثل به من وقت الساعة؟ فقد علم المسلمون كلهم معنى الكلام الذي أخبر الله به عن الساعة، وأنها آتية لا محالة، وأن الله انفرد بعلم وقتها، فلم يُطْلِع على ذلك أحدًا؛ ولهذا قال النبي ﷺ لما سأله السائل عن الساعة، وهو في الظاهر أعرابي لا يعرف قال له: متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ولم يقل: إن الكلام الذي نزل في ذكرها لا يفهمه أحد، بل هذا خلاف إجماع المسلمين، بل والعقلاء؛ فإن إخبار الله عن الساعة وأشراطها كلام بين واضح يفهم معناه، وكذلك قوله: { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } 51، قد علم المراد بهذا الخطاب، وأن الله خلق قرونًا كثيرة لا يعلم عددهم إلا الله، كما قال: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } 52 فأي شيء في هذا مما يدل على أن ما أخبر الله به من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لا يفهم معناه أحد لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا الصحابة ولا غيرهم؟
وأما ما ذكر عن عُرْوَة، فعروة قد عرف من طريقه أنه كان لا يفسر عامة أي القرآن إلا آيات قليلة رواها عن عائشة، ومعلوم أنه إذا لم يعرف عروة التفسير؛ لم يلزم أنه لا يعرفه غيره من الخلفاء الراشدين، وعلماء الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وغيرهم.
وأما اللغويون الذين يقولون: إن الراسخين لا يعلمون معنى المتشابه فهم متناقضون في ذلك، فإن هؤلاء كلهم يتكلمون في تفسير كل شيء في القرآن، ويتوسعون في القول في ذلك، حتى ما منهم أحد إلا وقد قال في ذلك أقوالا لم يُسبق إليها، وهي خطأ. وابن الأنبارى الذي بالغ في نصر ذلك القول هو من أكثر الناس كلامًا في معانى الآي المتشابهات، يذكر فيها من الأقوال ما لم ينقل عن أحد من السلف، ويحتج لما يقوله في القرآن بالشاذ من اللغة، وقصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة، وليس هو أعلم بمعانى القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة، ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة؛ لكن
باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة.
وقد نقم هو وغيره على ابن قتيبة كونه رد على أبي عبيد أشياء من تفسيره غريب الحديث، وابن قتيبة قد اعتذر عن ذلك، وسلك في ذلك مسلك أمثاله من أهل العلم، وهو وأمثاله يصيبون تارة، ويخطؤون أخرى، فإن كان المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فهم كلهم يجترئون على الله، يتكلمون في شيء لا سبيل إلى معرفته، وإن كان ما بينوه من معاني المتشابه قد أصابوا فيه ولو في كلمة واحدة ظهر خطؤهم في قولهم: إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، ولا يعلمه أحد من المخلوقين، فليختر من ينصر قولهم هذا أو هذا.
ومعلوم أنهم أصابوا في شيء كثير مما يفسرون به المتشابه، وأخطؤوا في بعض ذلك، فيكون تفسيرهم هذه الآية مما أخطؤوا فيه العلم اليقيني، فإنهم أصابوا في كثير من تفسير المتشابه، وكذلك ما نقل عن قتادة من أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، فكتابه في التفسير من أشهر الكتب، ونقله ثابت عنه من رواية معمر عنه، ورواية سعيد بن أبي عَرُوَبة عنه؛ ولهذا كان المصنفون في التفسير عامتهم يذكرون قوله لصحة النقل عنه، ومع هذا يفسر القرآن كله محكمه ومتشابهه.
والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع كالجهمية والقدرية من المعتزلة وغيرهم، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد، وهذا أصل معروف لأهل البدع، أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي، وتأويلهم اللغوي، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراده الله ورسوله، فإنكار السلف والأئمة هو لهذه التأويلات الفاسدة، كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل.
فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها، وبما يخالفها ظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، ثم يتناقضون في ذلك من وجوه:
أحدها: أنهم يقولون: النصوص تجري على ظواهرها، ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها؛ ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر، ويقرون المعنى الظاهر، ويقولون مع هذا: إن له تأويلًا لا يعلمه إلا الله، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر، وقد قرر معناه الظاهر؟! وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم، حتى أنكر ذلك ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى.
ومنها: أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم، لا في مسألة أصلية، ولا فرعية، إلا تأولوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات الجهمية والقدرية للنصوص التي تخالفهم، فأين هذا من قولهم: لا يعلم معانى النصوص المتشابهة إلا الله تعالى؟! واعتبر هذا بما تجده في كتبهم من مناظرتهم للمعتزلة في مسائل الصفات والقرآن والقدر، إذا احتجت المعتزلة على قولهم بالآيات التي تناقض قول هؤلاء، مثل أن يحتجوا بقوله: { وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } 53، { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } 54، { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } 55، { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } 56، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 57، { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } 58، ونحو ذلك كيف تجدهم يتأولون هذه النصوص بتأويلات غالبها فاسد، وإن كان في بعضها حق؟ فإن كان ما تأولوه حقًا، دل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فظهر تناقضهم، وإن كان باطلًا فذلك أبعد لهم.
وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارًا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم على معانى المتشابه الذي اتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله آية آية، وبين معناها، وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أن الله يرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبين معانى الآيات التي سماها هو متشابهة، وفسرها آية آية. وكذلك لما ناظروه واحتجوا عليه بالنصوص جعل يفسرها آية آية، وحديثًا حديثًا، ويبين فساد ما تأولها عليه الزائغون، ويبين هو معناها، ولم يقل أحمد: إن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله، ولا قال أحد له ذلك، بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها، لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي، وكذلك كان أحمد يفسر المتشابه من الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون من الخوارج وغيرهم. كقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن» وأمثال ذلك.
ويبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج المعتزلة وكل هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها، ولم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من هؤلاء لما يستدل به هو، أو يستدل به على منازعه: هذه آيات وأحاديث لا يعلم معناها أحد من البشر، فأمسكوا عن الاستدلال بها. وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله ﷺ وأقوال الصحابة والتابعين، والذين بلغهم الصحابة معانى القرآن، كما بلغوهم ألفاظه، ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، لكن أهل البدع بتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون، وهم مبطلون في ذلك، لا سيما تأويلات القرامطة والباطنية الملاحدة، وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم.
ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل، وإنما غايتهم أن يقولوا: ظاهر هذه الآية غير مراد، ولكن يحتمل أن يراد كذا، وأن يراد كذا، ولو تأولها الواحد منهم بتأيل معين، فهو لا يعلم أنه مراد الله ورسوله، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك، كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب، كما يذكرونه في قوله: { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } 59 و«ينزل ربنا»، و { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 60 { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } 61، { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } 62، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 63، وأمثال ذلك من النصوص، فإن غاية ما عندهم يحتمل أن يراد به كذا ويجوز كذا ونحو ذلك، وليس هذا علما بالتأويل، وكذلك كل من ذكر في نص أقوالا، واحتمالات، ولم يعرف المراد، فإنه لم يعرف تفسير ذلك وتأويله وإنما يعرف ذلك من عرف المراد.
هامش
- ↑ [الأنعام: 3]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [إبراهيم: 46]
- ↑ [الأنفال: 25]
- ↑ [الأعراف: 165]
- ↑ [الأعراف: 164]
- ↑ [الأعراف: 53]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [الزمر: 23]
- ↑ [النساء: 82]
- ↑ [الذاريات: 8، 9]
- ↑ [البقرة: 70]
- ↑ [البقرة: 121]
- ↑ [الحج: 52]
- ↑ [الزمر: 23]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [آل عمران: 39]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [الحشر: 8]
- ↑ [الحشر: 9]
- ↑ [الحشر: 10]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [النساء: 162]
- ↑ [الأنعام: 82]
- ↑ [البقرة: 284]
- ↑ [الانشقاق: 8]
- ↑ [آل عمران: 45]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [آل عمران: 1]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [يوسف: 6]
- ↑ [يوسف: 101]
- ↑ [يوسف: 37]
- ↑ [يونس: 38، 39]
- ↑ [النمل: 83، 84]
- ↑ [يونس: 39]
- ↑ [النمل: 84]
- ↑ [الأنفال: 23]
- ↑ [الأعراف: 187]
- ↑ [الفرقان: 38]
- ↑ [الأعراف: 53]
- ↑ [يونس: 39]
- ↑ [الأعراف: 187، 188]
- ↑ [طه: 51، 52]
- ↑ [مريم: 17]
- ↑ [النور: 35]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الفرقان: 38]
- ↑ [المدثر: 31]
- ↑ [البقرة: 205]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [يس: 82]
- ↑ [البقرة: 30]
- ↑ [الفجر: 22]
- ↑ [طه: 5]
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [الفتح: 6]
- ↑ [يس: 82]