مجموع الفتاوى/المجلد السادس/رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى


رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى

عدل

قال:

باب ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى

فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئًا فعبر عن الله، وخلق صوتًا فأسمعه، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.

فقلنا: هل يجوز أن يكون لمكون غير الله أن يقول: يا موسى {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} 1 أو يقول: {إِنَّنِي أَنَا الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 2، فمن زعم أن ذلك غير الله فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئًا كأن يقول ذلك المكون: يا موسى، إن الله رب العالمين ولا يجوز أن يقول: إني أنا الله رب العالمين.

وقد قال الله جل ثناؤه: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} 3، وقال: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 4، وقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} 5 فهذا منصوص القرآن.

وأما ما قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خَيْثمَةَ، عن عَدِيِّ بن حاتم الطائي، قال: قال رسول الله : «ما منكم من أحد إلا سيُكَلِّمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان». وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم، وشفتين ولسان، فنقول: أليس الله قال للسموات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 6 أتراها أنها قالت: بجوف وفم وشفتين ولسان؟

وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} 7 أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن نقول: جوف ولا فم، ولا شفتان ولا لسان.

فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى، إلا أن كلامه غيره، فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم. قلنا: هذا مثل قولكم الأول، إلا إنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة، وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: «يارب، هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت».

قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك. فقال: «سبحان الله! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟» قالوا: فشبهه. قال: «سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله».

وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ الله} 8، أليس الله هو القائل؟ قالوا: يُكَوِّنُ الله شيئًا فيعبر عن الله، كما كونه فعبر لموسى.

قلنا: فمن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} 9 أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيئًا فيعبر عن الله.

فقلنا: قد أعظمتم على الله الفرية، حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان.

فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، لكن كلامه مخلوق. قلنا: قد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم؛ وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلامًا، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة علوًا كبيرًا.

بل نقول: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلامًا، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول: إنه قد كان ولاعظمة حتى خلق لنفسه عظمة، وذكر كلامًا طويلا في تقرير الصفات وأنها لا تنافى التوحيد.

ومما يشبه هذا أن الصفات التي هي من جنس الحركة، كالإتيان والمجىء والنزول، هل تتأول بمعنى مجىء قدرته وأمره؟ على روايتين:

إحداهما: هي بمعنى مجىء قدرته، وهي رواية حنبل في المحنة.

والثانية: تُمَرُّ كسائر الصفات، وهي ظاهر المذهب المشهور عند أصحابنا.

ثم منهم من غلَّط حنبل، ومنهم من قال: قاله أحمد إلزامًا لهم، ومنهم من جعله رواية خاصة كابن الزاغوني، وعمم ابن عقيل ذلك في سائر الصفات.

وهذا الأصل يتفرع في أكثر مسائل الصفات، لا سيما مسألة الكلام والإرادة، والصفات المتعلقة بالمشيئة، كالنزول والاستواء، وهو كان سبب وقوع النزاع بين إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، وبين طائفة من فضلاء أصحابه.


هامش

  1. [طه: 12]
  2. [طه: 14]
  3. [النساء: 164]
  4. [الأعراف: 143]
  5. [الأعراف: 144]
  6. [فصلت: 11]
  7. [الأنبياء: 79]
  8. [المائدة: 116]
  9. [الأعراف: 6، 7]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار