مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل المعترض في الأسماء الحسنى


فصل المعترض في الأسماء الحسنى عدل

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

قال المعترض في الأسماء الحسنى: النور الهادي يجب تأويله قطعًا، إذ النور كيفية قائمة بالجسمية، وهو ضد الظلمة، وجل الحق سبحانه أن يكون له ضد، ولو كان نورًا لم تجز إضافته إلى نفسه في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} 1، فيكون من إضافة الشيء إلى نفسه، وهو غير جائز.

وقوله: {الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، قال المفسرون: يعني: هادي أهل السموات والأرض، وهو ضعيف؛ لأن ذكر الهادي بعده يكون تكرارًا، وقيل: منور السموات بالكواكب، وقيل: بالأدلة والحجج الباهرة. والنور جسم لطيف شفاف، فلا يجوز على الله.

والتأويل مروي عن ابن عباس وأنس وسالم، وهذا يبطل دعواه أن التأويل يبطل الظاهر، ولم ينقل عن السلف.

ولو كان نورًا حقيقة كما يقوله المشبهة لوجب أيضا أن يكون الضياء ليلا ونهارًا على الدوام.

وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} 2، ومعلوم أنه لم يكن السراج المعروف، وإنما سمى سراجًا بالهدى الذي جاء به، ووضوح أدلته بمنزلة السراج المنير. وروى عن ابن عباس في رواية أخرى وأبي العالية، والحسن: يعني: منور السموات والأرض؛ شمسها وقمرها ونجومها.

ومن كلام العارفين: النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده، ونور أسرار المحبين بتأييده، وقيل: هو الذي أحيا قلوب العارفين بنور معرفته، ونفوس العابدين بنور عبادته.

والجواب:

أن هذا الكلام وأمثاله ليس باعتراض علينا، وإنما هو ابتداء نقص حرمته منهم؛ لما يظن أنه يلازمنا أو يظن أنا نقوله على الوجه الذي حكاه. وقال تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} 3، وقال النبي : «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».

وإذا كان في الكلام إخبار عن الغير بأنه يقول أقوالا باطلة في العقل والشرع، وفيه رد تلك الأقوال، كان هذا كذبًا وظلمًا، فنعوذ بالله من ذلك.

ثم مع كونه ظلمًا لنا، يا ليته كان كلامًا صحيحًا مستقيمًا، فكنا نحلله من حقنا ويستفاد ما فيه من العلم ! ولكن فيه من تحريف كتاب الله والإلحاد في آياته وأسمائه، والكذب والظلم، والعدوان الذي يتعلق بحقوق الله مما فيه، لكن إن عفونا عن حقنا، فحق الله إليه لا إلى غيره.

ونحن نذكر من القيام بحق الله ونصر كتابه ودينه ما يليق بهذا الموضع، فإن هذا الكلام الذي ذكره فيه من التناقض والفساد ما لا أظن تمكنه من ضبطه من وجوه:

أحدها: أنه قال في أوله: النور كيفية قائمة بالجسمية، ثم قال في آخره: جسم لطيف شفاف، فذكر في أول الكلام أنه عرض وصفة، وفي آخره جسم، وهو جوهر قائم بنفسه.

الثاني: أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي وضعف ذلك، ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نور قلوب الصادقين بتوحيده، وأسرار المحبين بتأييده، وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته، وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولا، فيضاعفه أولا، ويجعله من كلام العارفين، وهي كلمة لها صولة في القلوب، وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق.

فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في حقائق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد، وبعضها مكذوب على قائله مفترى، كالمنقول عن جعفر وغيره، وبعضها من المنقول الباطل المردود، فإن إشارات المشايخ الصوفية التي يشيرون بها تنقسم إلى إشارة حالية وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به، وليس هذا موضعه.

وتنقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال، مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه، فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس، وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص، مثل الاعتبار والقياس، الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام، لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال، ودرجات الرجال، ونحو ذلك، فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة، وإن كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه، وإن كان تحريفًا للكلام عن مواضعه، وتأويلا للكلام على غير تأويله، كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية، فتدبر هذا، فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات.

الوجه الثالث: في تناقضه، فإنه قال: التأويل منقول عن ابن عباس، وأنس، وسالم، ولم يذكر إلا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه هادي أهل السموات والأرض، وقد ضعف ذلك، فإن كان المنقول هو هذا الضعيف فياخيبة المسعى؛ إذ لم ينقل عن السلف في جميع كلامه إلى هنا شيئًا عن السلف، إلا هذا الذي ضعفه وأوهاه.

وإن كان المنقول عن هؤلاء الثلاثة أنه منور السموات بالكواكب، كان متناقضًا من وجه آخر، وهو أنه قد ذكر فيما بعد أن هذا روى عن ابن عباس في رواية أخرى، وأبي العالية والحسن أنه منورها بالشمس والقمر والنجوم، وهذا يوجب أن يكون المنقول عن ابن عباس، والاثنين أولا غير المنقول عنه في رواية أخرى، وعمن ليس معه في الأولى.

وإن كان نوره بالحجج الباهرة والأدلة كان متناقضًا، فإن هذا هو معنى الهادي؛ إذ نصبه للأدلة، والحجج هي من هدايته، وهو قد ضعف هذا القول فما أدرى من أيهما العجب ! أمن حكايته القولين اللذين أحدهما داخل في معنى الآخر؟ أم من تضعيفه لقول السائل الذي يوجب تضعيف الاثنين وهو لا يدري أنه قد ضعفهما جميعًا؟ فيجب على الإنسان أن يعرف معنى الأقوال المنقولة، ويعرف أن الذي يضعفه ليس هو الذي عظمه.

الوجه الرابع: أنه قد تبين أنه لم ينقل عن ابن عباس وأنس وسالم إلا القول الذي ضعفه أو ما يدخل فيه؛ فإنه إن كان قولهم: الهادي، فقد صرح بضعفه وإن كان مقيم الأدلة فهو من معنى الهادي، وإن كان المنور بالكواكب فقد جعله قولا آخر، وإن كان ما ذكره عن بعض العارفين فهو أيضا داخل في الهادي، وإذا كان قد اعترف بضعف ما حكاه عن ابن عباس وأنس وسالم لم يكن فيه حجة علينا، فتبين أن ما ذكره عن السلف، إما أن يكون مبطلا في نقله أو مفتريًا بتضعيفه، وعلى التقديرين لا حجة علينا بذلك.

الوجه الخامس: أنه أساء الأدب على السلف؛ إذ يذكر عنهم ما يضعفه وأظهر للناس أن السلف كانوا يتأولون، ليحتج بذلك على التأويل في الجملة، وهو قد اعترف بضعف هذا التأويل، ومن احتج بحجة وقد ضعفها وهو لا يعلم أنه ضعفها فقد رمى نفسه بسهمه، ومن رمى بسهم البغي صرع به {وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 4.

الوجه السادس: قوله هذا يبطل دعواه: أن التأويل دفع الظاهر ولم ينقل عن السلف، فإن هذا القول لم أقله، وإن كنت قلته فهو لم ينقل إلا ما عرف أنه ضعيف، والضعيف لا يبطل شيئًا. فهذه الوجوه في بيان تناقضه وحكايته عنا ما لم نقله.

وأما بيان فساد الكلام فنقول: أما قوله: يجب تأويله قطعًا فلا نسلم أنه يجب تأويله، ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي، بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفية، وجمهور الصفاتية، من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم، وهو قول أبي سعيد بن كلاب ذكره في الصفات، ورد على الجهمية تأويل اسم النور، وهو شيخ المتكلمين الصفاتية من الأشعرية الشيخ الأول وحكاه عنه أبو بكر بن فُورَك في كتاب مقالات ابن كلاب، والأشعري، ولم يذكرا تأويله إلا عن الجهمية المذمومين باتفاق، وهو أيضا قول أبي الحسن الأشعري ذكره في الموجز.

وأما قوله: إن هذا ورد في الأسماء الحسني، فالحديث الذي فيه ذكر ذلك هو حديث الترمذي، روى الأسماء الحسنى في جامعه من حديث الوليد بن مسلم، عن شعيب عن أبي الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ورواها ابن ماجه في سننه من طريق مَخْلَد ابن زياد القَطَواني، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي ، وإنما كل منهما من كلام بعض السلف، فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين، كما جاء مفسرًا في بعض طرق حديثه.

ولهذا اختلفت أعيانهما عنه، فروى عنه في إحدى الروايات من الأسماء بدل ما يذكر في الرواية الأخرى؛لأن الذين جمعوها قد كانوا يذكرون هذا تارة وهذا تارة، واعتقدوا هم وغيرهم أن الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة ليست شيئًا معينًا، بل من أحصى تسعة وتسعين اسما من أسماء الله دخل الجنة، أو أنها وإن كانت معينة، فالاسمان اللذان يتفق معناهما يقوم أحدهما مقام صاحبه، كالأحد والواحد، فإن في رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عنه، رواها عثمان بن سعيد الأحد بدل الواحد والمعطي بدل المغني وهما متقاربان، وعند الوليد هذه الأسماء بعد أن روى الحديث عن خُلَيْد بن دَعْلَج، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.

ثم قال هشام: وحدثنا الوليد، حدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك، وقال: كلها في القرآن {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 5، مثل ما ساقها الترمذي؛ لكن الترمذي رواها عن طريق صفوان بن صالح، عن الوليد، عن شعيب، وقد رواها ابن أبي عاصم، وبين ما ذكره هو والترمذي خلاف في بعض المواضع، وهذا كله مما يبين لك أنها من الموصول المدرج في الحديث عن النبي في بعض الطرق، وليست من كلامه.

ولهذا جمعها قوم آخرون على غير هذا الجمع، واستخرجوها من القرآن؛ منهم سفيان بن عيينة، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم، كما قد ذكرت ذلك فيما تكلمت به قديمًا على هذا، وهذا كله يقتضى أنها عندهم مما يقبل البدل، فإن الذي عليه جماهير المسلمين أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين. قالوا: ومنهم الخطابي قوله: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها» التقييد بالعدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بأنها هي هذه الأسماء.

فهذه الجملة وهي قوله: «من أحصاها دخل الجنة» صفة للتسعة والتسعين ليست جملة مبتدأة، ولكن موضعها النصب، ويجوز أن تكون مبتدأة والمعنى لا يختلف، والتقدير: أن لله أسماء بقدر هذا العدد من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل: إن لي مائة غلام أعددتهم للعتق، وألف درهم أعددتها للحج، فالتقييد بالعدد هو في الموصوف بهذه الصفة لا في أصل استحقاقه لذلك العدد؛ فإنه لم يقل: إن أسماء الله تسعة وتسعون.

قال: ويدل على ذلك قوله في الحديث الذي رواه أحمد في المسند: «اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»، فهذا يدل على أن لله أسماء فوق تسعة وتسعين يحصيها بعض المؤمنين.

وأيضا، فقوله: «إن لله تسعة وتسعين» تقييده بهذا العدد بمنزلة قوله تعالى: {تِسْعَةَ عَشَر} 6، فلما استقلوهم قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 7 فأن لا يعلم أسماءه إلا هو أولى؛ وذلك أن هذا لو كان قد قيل منفردًا لم يفد النفي إلا بمفهوم العدد الذي هو دون مفهوم الصفة، والنزاع فيه مشهور، وإن كان المختار عندنا أن التخصيص بالذكر بعد قيام المقتضى للعموم يفيدالاختصاص بالحكم، فإن العدول عن وجوب التعميم إلى التخصيص إن لم يكن للاختصاص بالحكم، وإلا كان تركًا للمقتضى بلا معارض وذلك ممتنع.

فقوله: «إن لله تسعة وتسعين» قد يكون للتحصيل بهذا العدد فوائد غير الحصر. ومنها ذكر أن إحصاءها يورث الجنة؛ فإنه لو ذكر هذه الجملة منفردة وأتبعها بهذه منفردة لكان حسنًا، فكيف والأصل في الكلام الاتصال وعدم الانفصال؟ فتكون الجملة الشرطية صفة، لا ابتدائية. فهذا هو الراجح في العربية مع ما ذكر من الدليل.

ولهذا قال: «إنه وتْرٌ يحب الوتر»، ومحبته لذلك تدل على أنه متعلق بالإحصاء، أي: يحب أن يحصى من أسمائه هذا العدد، وإذا كانت أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين أمكن أن يكون إحصاء تسعة وتسعين اسما يورث الجنة مطلقًا على سبيل البدل، فهذا يوجه قول هؤلاء، وإن كان كثير من الناس يجعلها أسماء معينة، ثم من هؤلاء من يقول: ليس إلا تسعة وتسعون اسمًا فقط، وهو قول ابن حزم وطائفة، والأكثرون منهم يقولون: وإن كانت أسماء الله أكثر، لكن الموعود بالجنة لمن أحصاها هي معينة، وبكل حال، فتعيينها ليس من كلام النبي باتفاق أهل المعرفة بحديثه، ولكن روى في ذلك عن السلف أنواع، من ذلك ما ذكره الترمذي، ومنها غير ذلك.

فإذا عرف هذا، فقوله في أسمائه الحسنى: "النور الهادي" لو نازعه منازع في ثبوت ذلك عن النبي لم تكن له حجة، ولكن جاء ذلك في أحاديث صحاح، مثل قوله في الحديث الذي في الصحيحين، عن ابن عباس عن النبي أنه كان يقول: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن» الحديث. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنَّى أراه»، أو قال: «رأيت نورًا».

فالذي في القرآن والحديث الصحيح إضافة النور كقوله: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 8، أو: «نور السموات والأرض ومن فيهن».

وأما قوله: «إذ النور كيفية قائمة» فنقول: النور المخلوق محسوس لا يحتاج إلى بيان كيفية، لكنه نوعان: أعيان، وأعراض، فالأعيان هو نفس جرم النار، حيث كانت نور السراج والمصباح الذي في الزجاجة وغيره وهي النور الذي ضرب الله به المثل، ومثل القمر، فإن الله سماه نورًا فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} 9 ولا ريب أن النار جسم لطيف شفاف. وأعراض مثل ما يقع من شعاع الشمس، والقمر والنار على الأجسام الصقيلة وغيرها، فإن المصباح إذا كان في البيت أضاء جوانب البيت، فذلك النور والشعاع الواقع على الجدر والسقف والأرض هو عرض وهو كيفية قائمة بالجسم.

وقد يقال: ليس الصفة القائمة بالنار والقمر ونحوهما نورًا، فيكون الاسم على الجوهر تارة، وعلى صفة أخرى؛ ولهذا يقال لضوء النهار: نور، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 10، ومن هذا تسمية الليل ظلمة والنهار نورًا، فإنهما عَرَضَان، وقد قيل: هما جوهران، وليس هذا موضع بسط ذلك، فتبين أن اسم النور يتناول هذين والمعترض ذكر أولا حد العرض وذكر ثانيًا حد الجسم فتناقض، وكأنه أخذ ذلك من كلامي، ولم يهتد لوجه الجمع.

وكذلك اسم الحق يقع على ذات الله تعالى وعلى صفاته القدسية، كقول النبي : «أنت الحق، وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق».

وأما قول المعترض: النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد.

فيقال له: لم تفهم معنى الضد المنفي عن الله، فإن الضد يراد به ما يمنع ثبوت الآخر، كما يقال في الأعراض المتضادة مثل السواد والبياض، ويقول الناس: الضدان لا يجتمعان، ويمتنع اجتماع الضدين، وهذا التضاد عند كثير من الناس لا يكون إلا في الأعراض، وأما الأعيان فلا تضاد فيها، فيمتنع عند هذا أن يقال: لله ضد، أو ليس له ضد، ومنهم من يقول: يتصور التضاد فيها، والله تعالى ليس له ضد يمنع ثبوته ووجوده بلا ريب، بل هو القاهر الغالب الذي لا يغلب.

وقد يراد بالضد المعارض لأمره وحكمه، وإن لم يكن مانعًا من وجود ذاته، كما قال النبي : «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره» رواه أبو داود، وتسمية المخالف لأمره وحكمه ضدًا كتسميته عدوًا.

وبهذا الاعتبار، فالمعادون المضادون لله كثيرون، فأما على التفسير الأول، فلا ريب أنه ليس في نفس الأمر مضاد لله، لكن التضاد يقع في نفس الكفار، فإن الباطل ضد الحق، والكذب ضد الصدق، فمن اعتقد فى الله ما هو منزه عنه كان هذا ضدًا للإيمان الصحيح به.

وأما قوله: النور ضد الظلمة وجل الحق أن يكون له ضد فيقال له: والحي ضد الميت، والعليم ضد الجاهل، والسميع، والبصير، والذي يتكلم ضد الأصم الأعمى الأبكم، وهكذا سائر ما سمى الله به من الأسماء لها أضداد، وهو منزه عن أن يسمى بأضدادها، فجل الله أن يكون ميتًا، أو عاجزًا، أو فقيرًا، ونحو ذلك.

وأما وجود مخلوق له موصوف بضد صفته، مثل وجود الميت والجاهل، والفقير والظالم، فهذا كثير، بل غالب أسمائه لها أضداد موجودة في الموجودين.

ولا يقال لأولئك: إنهم أضداد الله، ولكن يقال: إنهم موصوفون بضد صفات الله، فإن التضاد بين الصفات إنما يكون في المحل الواحد لا في محلين، فمن كان موصوفًا بالموت ضادته الحياة، ومن كان موصوفًا بالحياة ضاده الموت، والله سبحانه يمتنع أن يكون ظلمة أو موصوفًا بالظلمة، كما يمتنع أن يكون ميتًا أو موصوفًا بالموت.

فهذا المعترض أخذ لفظ الضد بالاشتراك، ولم يميز بين الضد الذي يضاد ثبوته ثبوت الحق وصفاته وأفعاله، وبين أن يكون في مخلوقاته ما هو موصوف بضد صفاته، وبين ما يضاده في أمره ونهيه، فالضد الأول هو الممتنع. وأما الآخران فوجودهما كثير، لكن لا يقال: إنه ضد لله، فإن المتصف بضد صفاته لم يضاده.

والذين قالوا: النور ضد الظلمة، قالوا: يمتنع اجتماعهما في عين واحدة، لم يقولوا: إنه يمتنع أن يكون شيء موصوفًا بأنه نور وشيء آخر موصوفًا بأنه ظلمة، فليتدبر العاقل هذا التعطيل والتخليط.

وأما قوله: لو كان نورًا لم يجز إضافته إلى نفسه في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} 11، فالكلام عليه من طريقين:

أحدهما: أن نقول: النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السموات والأرض، وقد أخبر النص أن الله نور، وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور، فهذه ثلاثة أنوار في النص، وقد تقدم ذكر الأول.

وأما الثاني: فهو في قوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 12، وفي قوله: {مَثَلُ نُورِهِ}، وفيما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : «إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل».

ومنه قوله في دعاء الطائف: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل على غضبك» رواه الطبراني وغيره. ومنه قول ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.

ومنه قوله: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي قال: قام فينا رسول الله بأربع كلمات فقال: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما أدركه بصره من خلقه». فهذا الحديث فيه ذكر حجابه.

فإن تردد الراوى في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك، فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها: نار ونور، كما سمى الله نار المصباح نورًا، بخلاف النار المظلمة كنار جهنم، فتلك لا تسمى نورا.

فالأقسام ثلاثة: إشراق بلا إحراق وهو النور المحض كالقمر، وإحراق بلا إشراق وهي النار المظلمة، وما هو نار ونور كالشمس، ونار المصابيح التي في الدنيا توصف بالأمرين، وإذا كان كذلك صح أن يكون نور السموات والأرض، وأن يضاف إليه النور، وليس المضاف هو عين المضاف إليه.

الطريق الثاني: أن يقال: هذا يرد عليكم لا يختص بمن يسميه بما سمى به نفسه وبينه، فأنت إذا قلت: هاد أو منور أو غير ذلك، فالمسمى نورًا هو الرب نفسه، ليس هو النور المضاف إليه. فإذا قلت: هو الهادي فنوره الهدى، جعلت أحد النورين عينًا قائمة، والآخر صفة، فهكذا يقول من يسميه نورا، وإذا كان السؤال يرد على القولين والقائلين؛كان تخصيص أحدهما بأنه مخالف لقوله ظلمًا ولددًا في المحاجة، أو جهلا وضلالا عن الحق.

وأما ما ذكره من الأقوال، فلا ريب أن للناس فيها من الأقوال أكثر مما ذكره، والموجود بأيدي الأمة من الروايات الصادقة والكاذبة والآراء المصيبة والمخطئة لا يحصيه إلا الله، والكلام في تفسير أسماء الله وصفاته وكلامه فيه من الغث والسمين ما لا يحصيه إلا رب العالمين، وإنما الشأن في الحق والعلم والدين.

وقد كتبت قديمًا في بعض كتبي لبعض الأكابر: إن العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، فالشأن في أن نقول: علمًا، وهو النقل المصدق، والبحث المحقق، فإن ما سوى ذلك وإن زخرف مثله بعض الناس خزف مزوق، وإلا فباطل مطلق، مثل ما ذكره في هذه الآية وغيرها.

وهذه الكتب التي يسميها كثير من الناس كتب التفسير فيها كثير من التفسير منقولات عن السلف مكذوبة عليهم، وقول على الله ورسوله بالرأى المجرد، بل بمجرد شبهة قياسية، أو شبهة أدبية.

فالمفسرون الذين ينقل عنهم لم يسمهم، ومع هذا فقد ضعف قولهم بالباطل، فإن القوم فسروا النور في الآية: بأنه الهادي، لم يفسروا النور في الأسماء الحسنى والحديث عن النبي ، فلا يصح تضعيف قولهم بما ضعفه.

ونحن إنما ذكرنا ذلك لبيان تناقضه، وأنه لا يحتج علينا بشيء يروج على ذي لب، فإن التناقض أول مقامات الفساد، وهذا التفسير قد قاله طائفة من المفسرين. وأما كونه ثابتًا عن ابن عباس أو غيره فهذا مما لم نثبته.

ومعلوم أن في كتب التفسير من النقل عن ابن عباس من الكذب شيء كثير، من رواية الكلبي عن أبي صالح وغيره، فلابد من تصحيح النقل لتقوم الحجة، فليراجع كتب التفسير التي يحرر فيها النقل، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري الذي ينقل فيه كلام السلف بالإسناد وليعرض عن تفسير مقاتل، والكلبي وقبله تفسير بَقِيّ بن مَخْلد الأندلسي، وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم الشامي، وعبد بن حميد الكَشِّي وغيرهم، إن لم يصعد إلى تفسير الإمام إسحاق بن راهويه، وتفسير الإمام أحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة، الذين هم أعلم أهل الأرض بالتفاسير الصحيحة عن النبي وآثار الصحابة والتابعين، كما هم أعلم الناس بحديث النبي وآثار الصحابة والتابعين في الأصول والفروع وغير ذلك من العلوم.

فإما أن يثبت أصلا يجعله قاعدة بمجرد رأى، فهذا إنما ينفق على الجهال بالدلائل، الأغشام في المسائل، وبمثل هذه المنقولات التي لا يميز صدقها من كذبها، والمعقولات التي لا يميز صوابها من خطئها ضل من ضل من أهل المشرق في الأصول والفروع، والفقه والتصوف.

وما أحسن ما جاء هذا في آية النور التي قال الله تعالى فيها: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} 13، نسأل الله أن يجعل لنا نورًا.

ثم نقول: هذا القول الذي قاله بعض المفسرين في قوله: {الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 14 أي: هادي أهل السموات والأرض، لا يضرنا، ولا يخالف ما قلناه، فإنهم قالوه في تفسير الآية التي ذكر النور فيها مضافًا، لم يذكروه في تفسير نور مطلق، كما ادعيت أنت من ورود الحديث به، فأين هذا من هذا؟

ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السموات والأرض لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر من الأسماء، أو بعض أنواعه، ولا ينافى ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمى، بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقية الأنواع فيه.

وهذا قد قررناه غير مرة في القواعد المتقدمة، ومن تدبره علم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة. مثال ذلك: قول بعضهم في{الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} 15: إنه الإسلام، وقول آخر: إنه القرآن. وقول آخر: إنه السنة والجماعة، وقول آخر: إنه طريق العبودية، فهذه كلها صفات له متلازمة، لا متباينة، وتسميته بهذه الأسماء بمنزلة تسمية القرآن والرسول بأسمائه، بل بمنزلة أسماء الله الحسنى.

ومثال الثاني: قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله} 16، فذكر منهم صنفًا من الأصناف، والعبد يعم الجميع. فالظالم لنفسه المخل ببعض الواجب، والمقتصد القائم به، والسابق المتقرب بالنوافل بعد الفرائض.

وكل من الناس يدخل في هذا بحسب طريقه في التفسير والترجمة، ببيان النوع والجنس؛ ليقرب الفهم على المخاطب، كما لو قال الأعجمي: ما الخبز؟ فقيل له: هذا، وأشير إلى الرغيف. فالغرض الجنس لا هذا الشخص. فهكذا تفسير كثير من السلف وهو من جنس التعليم.

فقول من قال: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: هادي أهل السموات والأرض، كلام صحيح، فإن من معاني كونه نور السموات والأرض أن يكون هاديًا لهم إما أنهم نفوا ما سوى ذلك، فهذا غير معلوم، وإما أنهم أرادوا ذلك، فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.

وقد تقدم عن النبي من ذكر نور وجهه. وفي رواية النور ما فيه كفاية، فهذا بيان معنى غير الهداية.

وقد أخبر الله في كتابه أن الأرض تشرق بنور ربها، فإذا كانت تشرق من نوره كيف لا يكون هو نورًا؟ ولا يجوز أن يكون هذا النور المضاف إليه إضافة خلق وملك واصطفاء، كقوله: {نَاقَةَ الله} 17 ونحو ذلك؛ لوجوه:

أحدها: أن النور لم يضف قط إلى الله إذا كان صفة لأعيان قائمة، فلا يقال في المصابيح التي في الدنيا: إنها نور الله، ولا في الشمس والقمر، وإنما يقال كما قال عبد الله ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه. وفي الدعاء المأثور عن النبي : «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة».

الثاني: أن الأنوار المخلوقة كالشمس والقمر تشرق لها الأرض في الدنيا، وليس من نور إلا وهو خلق من خلق الله، وكذلك من قال: منور السموات والأرض لا ينافى أنه نور، وكل منور نور، فهما متلازمان.

ثم إن الله تعالى ضرب مثل نوره الذى في قلوب المؤمنين بالنور الذي في المصباح، وهو في نفسه نور، وهو منور لغيره، فإذا كان نوره في القلوب هو نور، وهو منور، فهو في نفسه أحق بذلك، وقد علم أن كل ما هو نور فهو منور.

وأما قول من قال: معناه: منور السموات بالكواكب، فهذا إن أراد به قائله أن ذلك من معنى كونه نور السموات، وأنه أراد به ليس لكونه نور السموات والأرض معنى إلا هذا فهو مبطل؛ لأن الله أخبر أنه نور السموات والأرض، والكواكب لا يحصل نورها في جميع السموات والأرض.

وأيضا، فإنه قال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} 18، فضرب المثل لنوره الموجود في قلوب المؤمنين، فعلم أن النور الموجود في قلوب المؤمنين نور الإيمان، والعلم مراد من الآية، لم يضربها على النور الحسي الذي يكون للكواكب، وهذا هو الجواب عما رواه عن ابن عباس في رواية أخرى، وأبي العالية والحسن، بعد المطالبة بصحة النقل، والظن ضعفه عن ابن عباس؛ لأنهم جعلوا ذلك من معاني النور. أما إنهم يقولون: قوله: {الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ليس معناه إلا التنوير بالشمس، والقمر والنجوم، فهذا باطل قطعًا.

وقد قال : «أنت نور السموات والأرض ومن فيهن»، ومعلوم أن العميان لا حظ لهم في ذلك. ومن يكون بينه وبين ذلك حجاب لاحظ له في ذلك، والموتى لا نصيب لهم من ذلك، وأهل الجنة لا نصيب لهم من ذلك، فإن الجنة ليس فيها شمس ولا قمر، كيف وقد روى أن أهل الجنة يعلمون الليل والنهار بأنوار تظهر من العرش، مثل ظهور الشمس لأهل الدنيا، فتلك الأنوار خارجة عن الشمس والقمر.

وأما قوله: قد قيل بالأدلة والحجج، فهذا بعض معنى الهادي، وقد تقدم الكلام على قوله: هذا يبطل قوله: إن التأويل دفع للظاهر، ولم ينقل عن السلف. فإن هذا الكلام مكذوب على، وقد ثبت تناقض صاحبه، وأنه لم يذكر عن السلف إلا ما اعترف بضعفه.

وأما الذي أقوله الآن وأكتبه وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها.

وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم، شيء كثير.

وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} 19، فروى عن ابن عباس وطائفة: أن المراد به الشدة، وأن الله يكشف عن الشدة في الآخرة. وعن أبي سعيد وطائفة: أنهم عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين.

ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل: عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، ولكن كثير من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولا له، ثم يريدون صرفه عنه، ويجعلون هذا تأويلا، وهذا خطأ من وجهين كما قدمناه غير مرة.

وأما قوله: لو كان نورًا حقيقة كما تقوله المشبهة لوجب أن يكون الضياء ليلا ونهارًا على الدوام، فنحن نقول بموجب ما ذكره من هذا القول، فإن المشبهة يقولون: إنه نور كالشمس، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 20، فإنه ليس كشيء من الأنوار، كما أن ذاته ليست كشيء من الذوات، لكن ما ذكره حجة عليه، فإنه يمكن أن يكون نورًا يحجبه عن خلقه، كما قال في الحديث: «حجابه النور أو النار لو كشفه لأحْرَقَتْ سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خَلْقِه».

لكن هنا غلط في النقل، وهو إضافة هذا القول إلى المشبهة، فإن هذا من أقوال الجهمية المعطلة أيضا كالمَرِيْسِيّ، فإنه كان يقول: إنه نور، وهو كبير الجهمية، وإن كان قصده بالمشبهة من أثبت أن الله نور حقيقة، فالمثبتة للصفات كلهم عنده مشبهة، وهذه لغة الجهمية المحضة يسمون كل من أثبت الصفات مُشَبِّهًا.

فقد قدمنا أن ابن كُلاَّب والأشعري وغيرهما ذكرا: أن نفي كونه نورًا في نفسه هو قول الجهمية والمعتزلة، وأنهما أثبتا أنه نور، وقررا ذلك هما وأكابر أصحابهما، فكيف بأهل الحديث وأئمة السنة، وأول هؤلاء المؤمنين بالله وبأسمائه، وصفاته رسول الله . وقد أجاب النبي عن هذا السؤال الذي عارض به المعترض، فقال : «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه»

فأخبر أنه حجب عن المخلوقات بحجابه النور أن تدركها سبحات وجهه، وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، فهذا الحجاب عن إحراق السُّبُحات يبين ما يرد في هذا المقام.

وأما ما ذكره عن ابن عباس في روايته الأخرى، فمعناه: بعض الأنوار الحسية، وما ذكره من كلام العارفين، فهو بعض معاني هدايته لعباده، وإنما ذلك تنويع بعض الأنواع بحسب حاجة المخاطبين كما ذكرناه من عادة السلف أن يفسروها بذكر بعض الأنواع، يقع على سبيل التمثيل لحاجة المخاطبين، لا على سبيل الحصر والتحديد.

فقد تبين أن جميع ما ذكر من الأقوال يرجع إلى معنيين من معاني كونه نور السموات والأرض، وليس في ذلك دلالة علي أنه في نفسه ليس بنور.


هامش

  1. [النور: 35]
  2. [الأحزاب: 45، 46]
  3. [الحجرات: 12]
  4. [البقرة: 258]
  5. [الحشر: 22]
  6. [المدثر: 30]
  7. [المدثر: 31]
  8. [النور: 35]
  9. [يونس: 5]
  10. [الأنعام: 1]
  11. [النور: 35]
  12. [الزمر: 69]
  13. [النور: 40]
  14. [النور: 35]
  15. [الفاتحة: 6]
  16. [فاطر: 32]
  17. [الشمس: 13]
  18. [النور: 35]
  19. [القلم: 42]
  20. [الشورى: 11]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار