مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة


سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة عدل

سأل رجل آخر عن قوله تعالى: { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } 1، فقال: ما سمعنا بنص القرآن والحديث أن ما قبل كتابنا إلا الإنجيل، فقال الآخر: عيسى إنما كان تبعًا لموسى، والإنجيل إنما فيه توسع في الأحكام، وتيسير مما في التوراة، فأنكر عليه رجل وقال: كان لعيسى شرع غير شرع موسى، واحتج بقوله: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } 2، قال: فما الحكم في قوله: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } 3؟ فقال: ليست هذه حُجَّة.

فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله:

قد أخبر الله في القرآن أن عيسى قال لهم: { وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } 4، فَعُلِمَ أنه أحل البعض دون الجميع، وأخبر عن المسيح أنه عَلَّمَه التوراة والإنجيل بقوله: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } 5.

ومن المعلوم أنه لولا أنه مُتَّبِعٌ لبعض ما في التوراة لم يكن تَعَلُّمُها له منة، ألا تري أنا نحن لم نؤمر بحفظ التوراة والإنجيل، وإن كان كثيرا من شرائع الكتابين يوافق شريعة القرآن، فهذا وغيره يبين ما ذكره علماء المسلمين من أن الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلة، وأكثر الأحكام يتَّبِعُ فيها ما في التوراة؛ وبهذا يحصل التغاير بين الشرعتين.

ولهذا كان النصارى متفقين على حفظ التوراة وتلاوتها، كما يحفظون الإنجيل؛ ولهذا لما سمع النجاشي القرآن، قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، وكذلك ورقة بن نوفل، قال للنبي لما ذكر له النبي ما يأتيه قال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.

وكذلك قالت الجن: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } 6، وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } 7 أي: موسى ومحمد، وفي القراءة الأخرى: { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أي: التوراة والقرآن.

وكذلك قال: { وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ } إلى قوله: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } 8، فهذا وما أشبهه مما فيه اقتران التوراة بالقرآن وتخصيصها بالذكر يبين ما ذكروه من أن التوراة هي الأصل، والإنجيل تَبَعٌ لها في كثير من الأحكام، وإن كان مغايرًا لبعضها.

فلهذا يذْكَرُ الإنجيل مع التوراة والقرآن في مثل قوله: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } 9، وقال: { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ } 10، فيذكر الثلاثة تارة، ويذكر القرآن مع التوراة وحدها تارة؛ لسر، وهو: أن الإنجيل من وجه: أصل، ومن وجه: تبع؛ بخلاف القرآن مع التوراة؛ فإنه أصل من كل وجه، بل هو مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وإن كان موافقًا للتوراة في أصول الدين، وكتبه من الشرائع. والله أعلم.


هامش

  1. [الأحقاف: 12]
  2. [المائدة: 48]
  3. [الصف: 6]
  4. [آل عمران: 50]
  5. [آل عمران: 48]
  6. [الأحقاف: 30]
  7. [القصص: 48]
  8. [الأنعام: 91، 92]
  9. [آل عمران: 2، 3]
  10. [التوبة: 111]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت