مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله
فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله
عدلوذلك أن ما جاء به الرسول هو من علم الله. فما أخبر به عن الله، فالله أخبر به، وهو سبحانه يخبر بعلمه يمتنع أن يخبر بنقيض علمه وما أمر به فهو من حكم الله. والله عليم حكيم.
قال تعالى: { لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللهِ شَهِيدًا } 1، وقال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } 2.
وقوله: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ }، قال الزجاج: أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقى: أنزله من علمه. وهكذا ذكر غيرهما.
وهذا المعنى مأثور عن السلف، كما روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال: أقرأنى أبو عبد الرحمن القرآن. وكان إذا أقرأ أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللهِ شَهِيدًا } وكذلك قالوا في قوله تعالى { فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ } ، قالوا: أنزله وفيه علمه.
قلت: الباء قد تكون للمصاحبة، كما تقول: جاء بأسياده وأولاده. فقد أنزله متضمنًا لعلمه، مستصحبًا لعلمه. فما فيه من الخبر هو خبر بعلم الله. وما فيه من الأمر فهو أمر بعلم الله، بخلاف الكلام المنزل من عند غير الله. فإن ذلك قد يكون كذبا وظلمًا كقرآن مسيلمة، وقد يكون صدقا لكن إنما فيه علم المخلوق الذي قاله فقط، لم يدل على علم الله تعالى إلا من جهة اللزوم. وهو أن الحق يعلمه الله.
وأما القرآن فهو متضمن لعلم الله ابتداء. فإنما أنزل بعلمه لا بعلم غيره، ولا هو كلام بلا علم.
وإذا كان قد أنزل بعلمه فهو يقتضي أنه حق من الله، ويقتضي أن الرسول، رسول من الله الذي بين فيه علمه. قال الزجاج: الشاهد المبين لما شهد به، والله يبين ذلك ويعلم مع ذلك أنه حق.
قلت: قوله: { لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ } ، شهادته هو بيانه وإظهاره دلالته وإخباره. فالآيات البينات التي بين بها صدق الرسول تدل عليه ومنها القرآن هو شهادة بالقول.
وهو في نفسه آية ومعجزة تدل على الصدق كما تدل سائر الآيات، والآيات كلها شهادة من الله، كشهادة بالقول، وقد تكون أبلغ.
ولهذا ذكر هذا في سورة هود لما تحداهم بالإتيان بالمثل فقال: { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } 3. فإن عجز أولئك عن المعارضة، دل على عجز غيرهم بطريق الأولي، وتبين أن جميع الخلق عاجزون عن معارضته، وأنه آية بينة تدل على الرسالة وعلى التوحيد.
وكذلك قوله: { لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } 4.
بعد قوله: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } إلى قوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } 5، وقد ذكروا أن من الكفار من قال: لا نشهد لمحمد بالرسالة، فقال تعالى: { لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَّ } .
وأحسن من هذا أنه لما قال: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ، نفي حجة الخلق على الخالق فقال: لكن حجة الله على الخلق قائمة بشهادته بالرسالة، فإنه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه فما للخلق على الله حجة، بل له الحجة البالغة. وهو الذي هدي عباده بما أنزله.
وعلى ما تقدم فقوله: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ }، أي: فيه علمه بما كان وسيكون وما أخبر به، وهو أيضا مما يدل على أنه حق. فإنه إذا أخبر بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، دل على أن الله أخبره به، كقوله: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } الآية 6
وقد قيل: أنزله وهو عالم به وبك. قال ابن جرير الطبري في آية النساء: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه.
وذكر الزجاج في آية هود قولين. أحدهما: أنزله وهو عالم بإنزاله، وعالم أنه حق من عنده. والثاني: أنه أنزله بما أخبر فيه من الغيوب، ودل على ما سيكون وما سلف.
قلت: هذا الوجه هو الذي تقدم.
وأما الأول فهو من جنس قول ابن جرير. فإنه عالم به وبمن أنزل إليه وعالم بأنه حق، وأن الذي أنزل عليه أهل لما اصطفاه الله له. ويكون هذا كقوله: { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } 7، وقول من قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } 8، أي: على علم من الله باستحقاقي.
قلت: وهذا الوجه يدخل في معنى الأول فإنه إذا نزل الكلام بعلم الرب، تضمن أن كل ما فيه فهو من علمه، وفيه الإخبار بحاله وحال الرسول. وهذا الوجه هو الصواب. وعليه الأكثرون، ومنهم من لم يذكر غيره.
والأول - وإن كان معناه صحيحًا - فهو جزء من هذا الوجه.
وأما كون الثاني هو المراد بالآية فغلط؛ لأن كون الرب - سبحانه - يعلم الشيء لا يدل على أنه محمود ولا مذموم. وهو - سبحانه - بكل شيء عليم. فلا يقول أحد: إنه أنزله وهو لا يعلمه.
لكن قد يظن أنه أنزل بغير علمه، أي: وليس فيه علمه، وأنه من تنزيل الشيطان، كما قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } 9. والشياطين، هو يرسلهم وينزلهم، لكن الكلام الذي يأتون به ليس منزلا منه ولا هو منزل بعلم الله، بل منزل بما تقوله الشياطين من كذب وغيره.
ولهذا هو - سبحانه - إذا ذكر نزول القرآن، قيده بأن نزوله منه، كقوله: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهٌِ } 10، { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 11، { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 12
وهذا مما استدل به الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة على أن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق خَلَقَه في محل غيره، فإنه كان يكون منزلا من ذلك المحل لا من الله. وقال: إنه نزل بعلم الله، وإنه من علم الله، وعلم الله غير مخلوق.
وقال أحمد: كلام الله من الله ليس شيئان منه. ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. فقالوا: منه بدأ لم يبدأ من غيره، كما تقوله الجهمية. يقولون: بدأ من المحل الذي خلق فيه. وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود أنه إذا كان فيه علمه فهو حق، والكلام الذي يعارضه به خلاف علم الله فهو باطل، كالشرك الذي قال الله - تعالى - فيه: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } 13.
هامش
- ↑ [النساء: 166]
- ↑ [هود: 13، 14]
- ↑ [هود: 13، 14]
- ↑ [النساء: 166]
- ↑ [النساء: 136، 135]
- ↑ [الجن: 26، 27]
- ↑ [الدخان: 32]
- ↑ [القصص: 78]
- ↑ [الشعراء: 221، 222]
- ↑ [الزمر: 1]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [النحل: 102]
- ↑ [يونس: 18]