مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين
غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين
عدلومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصالحين بعد دخول الجنان، ورضا الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } 1 فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من المخلوقين وإلا فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب.
ولو اعتبر ذلك لاعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم حين نفخت فيه الروح، ثم هو وليد، ثم رضيع ثم فطيم، إلى أحوال أخر، فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل، وتفضيله بها على كل صنف وجيل، وإنما فضله باعتبار المآل، عند حصول الكمال.
وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على الإسلام فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب، بل الاعتبار بالعاقبة، وأيهما كان أتقى لله في عاقبته كان أفضل. فإنه من المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا بالله ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على الإسلام من أولادهم وغير أولادهم، بل من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما، بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما ألا ينكره كما أنكره الذي عرفه.
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك؛ ولهذا يقال:
والضد يظهر حسنه الضد**
ويقال:
وبضدها تتبين الأشياء**
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لست بخب ولا يخدعني الخب، فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به.
وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقًا، فإن هذا ليس بمطرد، بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطباء الأديان فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها، وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس.
ولكن المراد: أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به، والنفور عنه، والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس، مثل من كان مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر، ثم شرح الله صدره للإسلام، وعرفه محاسن الإسلام، فإنه قد يكون أرغب فيه، وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام، بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا، أو مقلد في مدح هذا وذم هذا.
ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده، أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده، أو ذاق الخوف ثم ذاق الأمن بعده، فإن محبة هذا ورغبته في العافية والأمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته.
وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور، ثم بين الله له الحق وتاب عليه توبة نصوحًا، ورزقه الجهاد في سبيل الله، فقد يكون بيانه لحالهم، وهجره لمساويهم، وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي وكان شديدًا على الجهمية: أنا شديد عليهم، لأني كنت منهم. وقد قال الله تعالى: { لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } 2 نزلت هذه الآية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب الله عليهم، فهاجروا إلى الله ورسوله، وجاهدوا وصبروا.
وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام، وكان بعض من سبقهما دونهما في الإيمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد للكفار والنصر لله ورسوله، وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلاصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى النفس وأعلى همة في إقامة دين الله، مقدما على سائر المسلمين، غير أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.
وما يذكر في الإسرائيليات: «أن الله قال لداود: أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود" فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعًا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا، فإن دين محمد ﷺ في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله؛ ولهذا قال: " أنا نبي الرحمة، وأنا نبي التوبة»، وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا.
وقد قال تعالى في كتابه: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } 3 وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس. فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته، كيف يقال: إنه لا يعود لمودته { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } 4 ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة، فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، وإن كان أنقص كان الأمر أنقص، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: « يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه». ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم.
وقد قال تعالى: { عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 5، نزلت في المشركين الذين عادوا الله ورسوله مثل أهل الأحزاب كأبي سفيان بن حرب، وأبي سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل ابن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم. فإنهم بعد معاداتهم لله ورسوله جعل الله بينهم وبين الرسول والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه. وقد ثبت في الصحيح: أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت: والله يا رسول الله، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي ﷺ لها نحو ذلك.
ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لله تعالى فإن أوثق عُرَى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله. فالحب لله من كمال التوحيد، والحب مع الله شرك. قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } 6، فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لله ومحبة لله ومن أحب الله أحبه الله، ومن ودَّ الله ودَّه الله، فعلم أن الله أحبهم وودهم بعد التوبة، كما أحبوه وودوه، فكيف يقال: إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة؟
وإن قال قائل: أولئك كانوا كفارًا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم، بل كانوا جهالًا، بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه.
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدا رسول الله، ويعادونه حسدًا وكبرًا، وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي ﷺ ما لم يسمع غيره، كما سمع من أمية بن أبي الصلت، وما سمعه من هرقل ملك الروم، وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنًا أن أمر النبي ﷺ سيظهر حتى أدخل الله عليه الإسلام، وهو كاره له، وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته لله ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة.
وقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } 7 فإذا كان الله يبدل سيئاتهم حسنات، فالحسنات توجب مودة الله لهم، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصًا بمن كان كافرًا، وقد قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } 8 قال أبو العالية: سألت أصحاب رسول الله ﷺ عن هذه الآية فقالوا لي: كل من عصي الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
الوجه الثاني: أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الله تعالى للتائبين فرق لا أصل له، بل الكتاب والسنة يدل على أن الله يحب التوابين، ويفرح بتوبة التائبين، سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك.
ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلابد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود، فإذا كان يبغض الحق فلابد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلابد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ومحبة الله كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه، فكل من كان أعظم فعلًا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له، وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه، بل يبدل الله سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الله سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل. وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الله منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت مودة الله له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال: الود لا يعود.
وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول: إن الله لا يبعث نبيًا إلا من كان معصومًا قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال: إنه لا يبعث نبيًا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصًا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم. فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو غالط غلطًا عظيمًا، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلًا، لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله.
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها، لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنًا قليلًا كفر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون ﷺ، هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا.
هامش
- ↑ [الرعد: 23، 24]
- ↑ [النحل: 110]
- ↑ [البقرة: 222]
- ↑ [البروج: 14 - 16]
- ↑ [الممتحنة: 7]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [ الفرقان: 6870]
- ↑ [النساء: 17]