مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في أنواع الكسب


فصل في أنواع الكسب

عدل

ولما كان المحرم نوعين: نوع لعينه، ونوع لكسبه؛ فالكسب الذي هو معاملة الناس نوعان: معاوضة؛ ومشاركة. فالمبايعة والمؤاجرة، ونحو ذلك هي المعاوضة. وأما المشاركة، فمثل مشاركة العنان وغيرها من المشاركات. ومذهب مالك في المشاركات من أصح المذاهب وأعدلها؛ فإنه يجوز شركة العنان والأبدان وغيرهما، ويجوز المضاربة والمزارعة والمساقاة، والشافعي لا يجوز من الشركة إلا ما كان تبعًا لشركة الملك؛ فإن الشركة نوعان: شركة في الأملاك؛ وشركة في العقود. فأما شركة الأملاك، كاشتراك الورثة في الميراث، فهذا لا يحتاج إلى عقد، ولكن إذا اشترك اثنان في عقد، فمذهب الشافعي أن الشركة لا تحصل بعقد ولا تحصل القسمة بعقد. وأحمد تحصل الشركة عنده بالعقد والقسمة بالعقد، فيجوز شركة العنان مع اختلاف المالين وعدم الاختلاط، وإذا تحاسب الشريكان عنده من غير إفراز كان ذلك قسمة حتى لو خسر المال بعد ذلك لم تجبر الوضيعة بالربح. والشافعي لا يجوز شركة الأبدان ولا الوجوه ولا الشركة بدون خلط المالين، ولا أن يشترط لأحدهما ربحًا زائدًا على نصيب الآخر من ماله إذ لا تأثير عنده للعقد، وجوز المضاربة وبعض المساقاة والمزارعة تبعًا لأجل الحاجة لا لوفق القياس. وأما أبو حنيفة نفسه فلا يجوز مساقاة ولا مزارعة؛ لأنه رأى ذلك من باب المؤاجرة، والمؤاجرة لا بد فيها من العلم بالأجرة. ومالك في هذا الباب أوسع منهما، حيث جوز المساقاة على جميع الثمار، مع تجويز الأنواع من المشاركات التي هي شركة العنان والأبدان، لكنه لم يجوز المزارعة على الأرض البيضاء موافقة للكوفيين. وأما قدماء أهل المدينة هم وغيرهم من الصحابة والتابعين، فكانوا يجوزون هذا كله، وهو قول الليث؛ وابن أبي ليلى وأبي يوسف؛ ومحمد وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره.

والشبهة التي منعت أولئك المعاملة: أنهم ظنوا أن هذه المعاملة إجارة، والإجارة لا بد فيها من العلم بقدر الأجرة، ثم استثنوا من ذلك المضاربة لأجل الحاجة؛ إذ الدراهم لا تؤجر. والصواب أن هذه المعاملات من نفس المشاركات، لا من جنس المعاوضات؛ فإن المستأجر يقصد استيفاء العمل، كما يقصد استيفاء عمل الخياط والخباز والطباخ ونحوهم، وأما في هذا الباب فليس العمل هو المقصود، بل هذا يبذل نفع بدنه، وهذا يبذل نفع ماله ليشتركا فيما رزق الله من ربح، فإما يغنمان جميعًا أو يغرمان جميعًا وعلى هذاعامل النبي أهل خيبر أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع.

والذي نهى عنه النبي من كراء المزارعة، في حديث رافع بن خديج وغيره، متفق عليه كما ذكره الليث وغيره؛ فإنه « نهى أن يكرى بما تنبت الماذيانات والجداول وشيء من التبن» فربما غل هذا، ولم يغل هذا، فنهى أن يعين المالك زرع بقعة بعينها، كما نهى في المضاربة أن يعين العامل مقدارًا من الربح وربح ثوب بعينه، لأن ذلك يبطل العدل في المشاركة. وأصل أهل المدينة في هذا الباب أصح من أصل غيرهم، الذي يوجب أجرة المثل، والأول هو الصواب؛ فإن العقد لم يكن على عمل، ولهذا لم يشترط العلم بالعمل، وقد تكون أجرة المثل أكثر من المال وربحه، فإنما يستحق في الفاسد نظير ما يستحق من الصحيح، فإذا كان الواجب في البيع والإجارة الصحيحة ثمنا وأجرة، وجب في الفاسد قسط من الربح كان الواجب في الفاسد قسطًا من الربح، وكذلك في المساقاة والمزارعة وغيرهما. وما يضعف في هذا الباب من قول متأخري أهل المدينة، فقول الكوفيين فيه أضعف، ويشبه أن يكون هذا كله من الرأي المحدث الذي علم به من عابه من السلف، وأما ما مضت به السنة والعمل فهو العدل.

ومن تدبر الأصول تبين له أن المساقاة والمزارعة والمضاربة أقرب إلى العدل من المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة مخاطرة، والمستأجر قد ينتفع وقد لا ينتفع، بخلاف المساقاة والمزارعة، فإنهما يشتركان في الغنم والغرم، فليس فيها من المخاطرة من أحد الجانبين ما في المؤاجرة.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العشرون - أصول الفقه
اتفاق الرسل في الأصول الاعتقادية | سئل عن معنى إجماع العلماء | فصل في أقوال الصحابة | سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع | سئل هل كل مجتهد مصيب | فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد | فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها | سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين | القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي | فصل في تعارض الحسنات والسيئات | فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام | قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات | فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية | فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها | فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم | فصل في العدل القولي والصدق | قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات | أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله | أول ذنب عصي الله به | ما يكفر به الشخص عند أهل السنة | الحسنات تذهب بعقوبة الذنوب | تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر | قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة | أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية | أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق | جوامع تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه | عامة ما ذم الله به المشركين هو الشرك | خلق الله الخلق لعبادته | مقصود النهي ترك المنهي عنه | المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل | المطلوب بالأمر وجود المأمور به | الأمر أصل والنهي فرع | لم يأمر الله بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد | فعل الحسنات يوجب ترك السيئات | فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا | ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة | بعث الله الرسل وأنزل الكتب بالكلم الطيب والعمل الصالح | النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت | الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا | تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه | فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين | فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع | فصل في أن العلتين كلا منهما ليس واجبا بنفسه بل مفتقرا إلى غيره | المنحرفون من أتباع الأئمة على أنواع | فصل في المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام | قاعدة في تعليل الحسنات | فصل في الإيجاب والتحريم | فصل في التمذهب | سئل عن تقليد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد | سئل عمن سئل عن مذهبه فقال إنه محمدي | سئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب واشتغل بعده بالحديث | سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا | سئل عمن لازم مذهبا هل ينكر عليه مخالفته | موالاة علماء المسلمين | أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام | المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد | سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد | سئل عن صحة أصول مذهب أهل المدينة | والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه | حديث أهل المدينة أصح حديث أهل الأمصار | موقف أهل المدينة من الكلام والرأي | مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة | أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول | قواعد توضح أن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة في الجملة على المذاهب | مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه | فصل في أنواع الكسب | مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات | مذهب أهل المدينة في مسائل النكاح | مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام | فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام | فصل نسخ القرأن بالسنة | فصل في الحقيقة والمجاز | فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة | فصل في تسمية أهل الأمصار الحقيقة والمجاز | فصل في حجة نفاة المجاز | فصل في حجة أخرى لنفاة المجاز | فصل في رد ابن عقيل على من تكلف وجعل المجاز حقيقة | فصل في أصول العلم والدين | سئل عن القياس | فصول عن القياس | فصل أن الإجارة خلاف القياس | فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس | فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس | فصل في قولهم إن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس | فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس | فصل في موقف الصحابة من القياس | سئل هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي