مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس


فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس

عدل

فصل وأما الأكل ناسيًا ؛ فالذين قالوا: هو خلاف القياس قالوا: هو من باب ترك المأمور ومن ترك المأمور ناسيًا لم تبرأ ذمته كما لو ترك الصلاة ناسيًا، أو ترك نية الصيام ناسيًا لم تبطل عبادته إلا من فعل محظور ولكن من يقول: هو على وفق القياس يقول: القياس أن من فعل محظورًا ناسيًا لم تبطل عبادته ؛ لأن من فعل محظورًا ناسيًا فلا إثم عليه كما دل عليه قوله تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 1.

وقد ثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت».

وهذا مما لا يتنازع فيه العلماء أن الناسي لا يأثم. لكن يتنازعون في بطلان عبادته فيقول القائل إذا لم يأثم لم يكن قد فعل محرمًا ومن لم يفعل محرمًا لم تبطل عبادته فإن العبادة إنما تبطل بترك واجب أو فعل محرم فإذا كان ما فعله من باب فعل المحرم وهو ناس فيه لم تبطل عبادته.

وصاحب هذا القول يقول: القياس أن لا تبطل الصلاة بالكلام في الصلاة ناسيًا وكذلك يقول: القياس أن من فعل شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا لا فدية عليه. وقيل: الصيد هو من باب ضمان المتلفات كدية المقتول ؛ بخلاف الطيب واللباس فإنه من باب الترفه وكذلك الحلق والتقليم هو في الحقيقة من باب الترفه لا من باب متلف له قيمة فإنه لا قيمة لذلك؛ فلهذا كان أعدل الأقوال أن لا كفارة في شيء من ذلك إلا في جزاء الصيد.

وطرد هذا أن من فعل المحلوف عليه ناسيًا لا يحنث ؛ سواء حلف بالطلاق أو العتاق أو غيرهما لأن من فعل المنهي عنه ناسيًا لم يعص ولم يخالف والحنث في الأيمان كالمعصية في الأمر والنهي.

وكذلك من باشر النجاسة في الصلاة ناسيًا فلا إعادة عليه ؛ لأنه من باب فعل المحظور ؛ بخلاف ترك طهارة الحدث فإنه من باب المأمور.

فإن قيل: الترك في الصوم مأمور به ؛ ولهذا يشترط فيه النية ؛ بخلاف الترك في هذه المواضع فإنه ليس مأمورًا به ؛ فإنه لا يشترط فيه النية.

قيل: لا ريب أن النية في الصوم واجبة ولولا ذلك لما أثيب ؛ لأن الثواب لا يكون إلا مع النية وتلك الأمور إذا قصد تركها لله أثيب على ذلك أيضا وإن لم يخطر بقلبه قصد تركها لم يثب ولم يعاقب ولو كان ناويا تركها لله وفعله ناسيا لم يقدح نسيانه في أجره بل يثاب على قصد تركها لله وإن فعلها ناسيا كذلك الصوم فإنما يفعله الناسي لا يضاف إليه بل فعله الله به من غير قصده ولهذا قال النبي : «من أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه».

فأضاف إطعامه وإسقاءه إلى الله لأنه لم يتعمد ذلك ولم يقصده وما يكون مضافًا إلى الله لا ينهى عنه العبد فإنما ينهى عن فعله والأفعال التي ليست اختيارية لا تدخل تحت التكليف ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير ؛ ونحو ذلك.

يبين ذلك أن الصائم إذا احتلم في منامه لم يفطر ؛ ولو استمنى باختياره أفطر ولو ذرعه القيء لم يفطر ولو استدعى القيء أفطر.

فلو كان ما يوجد بغير قصده بمنزلة ما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا.

فإن قيل: فالمخطئ يفطر مثل من يأكل يظن بقاء الليل ثم تبين أنه طلع الفجر ؛ أو يأكل يظن غروب الشمس ثم تبين له أن الشمس لم تغرب. قيل: هذا فيه نزاع بين السلف والخلف والذين فرقوا بين الناسي والمخطئ قالوا: هذا يمكن الاحتراز منه بخلاف النسيان وقاسوا ذلك على ما إذا أفطر يوم الشك ثم تبين أنه من رمضان ونقل عن بعض السلف أنه يقضي في مسألة الغروب دون الطلوع ؛ كما لو استمر الشك.

والذين قالوا: لا يفطر في الجميع قالوا: حجتنا أقوى ودلالة الكتاب والسنة على قولنا أظهر ؛ فإن الله قال: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 2.

فجمع بين النسيان والخطأ ؛ ولأن من فعل المحظورات الحج والصلاة مخطئًا كمن فعلها ناسيًا وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد النبي ثم طلعت الشمس ولم يذكروا في الحديث أنهم أمروا بالقضاء ولكن هشام بن عروة قال: لا بد من القضاء وأبوه أعلم منه وكان يقول: لا قضاء عليهم. وثبت في الصحيحين أن طائفة من الصحابة: «كانوا يأكلون حتى يظهر لأحدهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وقال النبي لأحدهم: إن وسادك لعريض إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل». ولم ينقل أنه أمرهم بقضاء وهؤلاء جهلوا الحكم فكانوا مخطئين. وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال: لا نقضي فإنا لم نتجانف لإثم.

وروي عنه أنه قال: نقضي ؛ ولكن إسناد الأول أثبت وصح عنه أنه قال: الخطب يسير. فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء لكن اللفظ لا يدل على ذلك.

وفي الجملة فهذا القول أقوى أثرًا ونظرًا وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس وبه يظهر أن القياس في الناسي أنه لا يفطر والأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة أن من فعل محظورًا ناسيًا لم يكن قد فعل منهيًا عنه ؛ فلا يبطل بذلك شيء من العبادات ولا فرق بين الوطء وغيره سواء كان في إحرام أو صيام.


هامش

  1. [البقرة: 286]
  2. [البقرة: 286]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العشرون - أصول الفقه
اتفاق الرسل في الأصول الاعتقادية | سئل عن معنى إجماع العلماء | فصل في أقوال الصحابة | سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع | سئل هل كل مجتهد مصيب | فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد | فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها | سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين | القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي | فصل في تعارض الحسنات والسيئات | فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام | قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات | فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية | فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها | فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم | فصل في العدل القولي والصدق | قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات | أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله | أول ذنب عصي الله به | ما يكفر به الشخص عند أهل السنة | الحسنات تذهب بعقوبة الذنوب | تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر | قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة | أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية | أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق | جوامع تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه | عامة ما ذم الله به المشركين هو الشرك | خلق الله الخلق لعبادته | مقصود النهي ترك المنهي عنه | المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل | المطلوب بالأمر وجود المأمور به | الأمر أصل والنهي فرع | لم يأمر الله بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد | فعل الحسنات يوجب ترك السيئات | فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا | ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة | بعث الله الرسل وأنزل الكتب بالكلم الطيب والعمل الصالح | النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت | الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا | تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه | فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين | فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع | فصل في أن العلتين كلا منهما ليس واجبا بنفسه بل مفتقرا إلى غيره | المنحرفون من أتباع الأئمة على أنواع | فصل في المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام | قاعدة في تعليل الحسنات | فصل في الإيجاب والتحريم | فصل في التمذهب | سئل عن تقليد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد | سئل عمن سئل عن مذهبه فقال إنه محمدي | سئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب واشتغل بعده بالحديث | سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا | سئل عمن لازم مذهبا هل ينكر عليه مخالفته | موالاة علماء المسلمين | أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام | المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد | سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد | سئل عن صحة أصول مذهب أهل المدينة | والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه | حديث أهل المدينة أصح حديث أهل الأمصار | موقف أهل المدينة من الكلام والرأي | مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة | أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول | قواعد توضح أن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة في الجملة على المذاهب | مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه | فصل في أنواع الكسب | مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات | مذهب أهل المدينة في مسائل النكاح | مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام | فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام | فصل نسخ القرأن بالسنة | فصل في الحقيقة والمجاز | فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة | فصل في تسمية أهل الأمصار الحقيقة والمجاز | فصل في حجة نفاة المجاز | فصل في حجة أخرى لنفاة المجاز | فصل في رد ابن عقيل على من تكلف وجعل المجاز حقيقة | فصل في أصول العلم والدين | سئل عن القياس | فصول عن القياس | فصل أن الإجارة خلاف القياس | فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس | فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس | فصل في قولهم إن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس | فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس | فصل في موقف الصحابة من القياس | سئل هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي