مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس


فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس عدل

ومن هذا الباب قول من يقول: حمل العقل على خلاف القياس. فيقال: لا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه والناس متنازعون في العقل: هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملا؟ كما تنازعوا في صدقة الفطر التي تجب على الغير ؛ كصدقة الفطر عن الزوجة والولد: هل تجب ابتداء أو تحملا؟ وفي ذلك نزاع معروف في مذهب أحمد وغيره وعلى ذلك ينبني لو أخرجها الذي يخرج عنه بدون إذن المخاطب بها فمن قال: هي واجبة على المخاطب تحملا قال: تجزئ.

ومن قال: هي واجبة عليه ابتداء قال: هي كأداء الزكاة عن الغير. ولذلك تنازعوا في العقل إذا لم تكن عاقلة: هل تجب في ذمة القاتل أم لا؟ والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم ؛ وذلك أن دية المقتول مال كثير والعاقلة إنما تحمل الخطأ لا تحمل العمد بلا نزاع وفي شبه العمد نزاع والأظهر أنها لا تحمله والخطأ مما يعذر فيه الإنسان ؛ فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم به من غير ذنب تعمده ولا بد من إيجاب بدل المقتول.

فالشارع أوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصره أن يعينوه على ذلك فكان هذا كإيجاب النفقات التي تجب للقريب ؛ أو تجب للفقراء والمساكين وإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو ؛ فإن هذا أسير بالدية التي تجب عليه وهي لم تجب باختيار مستحقها ولا باختياره كالديون التي تجب بالقرض والبيع وليست أيضا قليلة في الغالب كإبدال المتلفات فإن إتلاف مال كثير بقدر الدية خطأ نادر جدا بخلاف قتل النفس خطأ فما سببه العمد في نفس أو مال فالمتلف ظالم مستحق فيه للعقوبة وما سببه الخطأ في الأموال فقليل في العادة ؛ بخلاف الدية.

ولهذا كان عند الأكثرين لا تحمل العاقلة إلا ماله قدر كثير فعند مالك وأحمد لا تحمل ما دون الثلث وعند أبي حنيفة ما دون السن والموضحة فكان إيجابها من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كبني السبيل والفقراء والمساكين والأقارب المحتاجين. ومعلوم أن هذا من أصول الشرائع التي بها قيام مصلحة العالم فإن الله لما قسم خلقه إلى غني وفقير ولا تتم مصلحتهم إلا بسد خلة الفقراء وحرم الربا الذي يضر الفقراء ؛ فكان الأمر بالصدقة من جنس النهي عن الربا ؛ ولهذا جمع الله بين هذا وهذا في مثل قوله تعالى: { يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } 1.

وفي مثل قوله تعالى: { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } 2.

وقد ذكر الله في آخر البقرة أحكام الأموال وهي ثلاثة أصناف: عدل ؛ وفضل ؛ وظلم ؛ فالعدل: البيع ؛ والظلم: الربا ؛ والفضل: الصدقة. فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المربين وبين عقابهم وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى ؛ فالعقل من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض الناس على بعض كحق المسلم ؛ وحق ذي الرحم وحق الجار ؛ وحق المملوك والزوجة.


هامش

  1. [البقرة: 276]
  2. [الروم: 39]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العشرون - أصول الفقه
اتفاق الرسل في الأصول الاعتقادية | سئل عن معنى إجماع العلماء | فصل في أقوال الصحابة | سئل عن الاجتهاد والاستدلال والتقليد والاتباع | سئل هل كل مجتهد مصيب | فصل في الخطأ المغفور في الاجتهاد | فصل في التفريق في الأحكام قبل الرسالة وبعدها | سئل هل كان البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم مجتهدين أم مقلدين | القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي | فصل في تعارض الحسنات والسيئات | فصل في الحسنات والعبادات ثلاثة أقسام | قاعدة جامعة في كل واحد من الدين الجامع بين الواجبات وسائر العبادات | فصل في كلام الفقهاء في الطاعات الشرعية والعقلية | فصل في أن الصدق أساس الحسنات وجماعها | فصل أن الحسنات كلها عدل والسيئات كلها ظلم | فصل في العدل القولي والصدق | قاعدة في أن جنس فعل المأمورات أعظم من جنس فعل المنهيات | أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله | أول ذنب عصي الله به | ما يكفر به الشخص عند أهل السنة | الحسنات تذهب بعقوبة الذنوب | تارك المأمور به عليه قضاؤه وإن تركه لعذر | قتل من ترك أركان الإسلام الخمسة | أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية | أكثر شرك بني آدم من عدم التصديق بالحق | جوامع تتضمن امتثال المأمور به والوعيد على المعصية بتركه | عامة ما ذم الله به المشركين هو الشرك | خلق الله الخلق لعبادته | مقصود النهي ترك المنهي عنه | المأمور به هو الأمور التي يصلح بها العبد ويكمل | المطلوب بالأمر وجود المأمور به | الأمر أصل والنهي فرع | لم يأمر الله بأمر إلا وقد خلق سببه ومقتضيه في جبلة العبد | فعل الحسنات يوجب ترك السيئات | فعل الحسنات موجب للحسنات أيضا | ترجيح الوجود على العدم إذا علم أنه حسنة | بعث الله الرسل وأنزل الكتب بالكلم الطيب والعمل الصالح | النفي والنهي لا يستقل بنفسه بل لا بد أن يسبقه ثبوت | الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا | تنازع الناس في الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه | فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين | فصل في العلتين لا تكونان مستقلتين بحكم واحد حال الاجتماع | فصل في أن العلتين كلا منهما ليس واجبا بنفسه بل مفتقرا إلى غيره | المنحرفون من أتباع الأئمة على أنواع | فصل في المتكلم باللفظ العام لا بد أن يقوم بقلبه معنى عام | قاعدة في تعليل الحسنات | فصل في الإيجاب والتحريم | فصل في التمذهب | سئل عن تقليد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد | سئل عمن سئل عن مذهبه فقال إنه محمدي | سئل عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب واشتغل بعده بالحديث | سئل هل لازم المذهب مذهب أم لا | سئل عمن لازم مذهبا هل ينكر عليه مخالفته | موالاة علماء المسلمين | أعذار العلماء في الخطأ في الأحكام | المجتهد ودخوله تحت أحكام الوعيد | سئل عن الشيخ عبد القادر والإمام أحمد | سئل عن صحة أصول مذهب أهل المدينة | والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه | حديث أهل المدينة أصح حديث أهل الأمصار | موقف أهل المدينة من الكلام والرأي | مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة | أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول | قواعد توضح أن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة في الجملة على المذاهب | مذهب أهل المدينة في المحرم لكسبه | فصل في أنواع الكسب | مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات | مذهب أهل المدينة في مسائل النكاح | مذهب أهل المدينة في العقوبات والأحكام | فصل في مذهب أهل المدينة في الأحكام | فصل نسخ القرأن بالسنة | فصل في الحقيقة والمجاز | فصل في ألفاظ لا تستعمل إلا مقرونة | فصل في تسمية أهل الأمصار الحقيقة والمجاز | فصل في حجة نفاة المجاز | فصل في حجة أخرى لنفاة المجاز | فصل في رد ابن عقيل على من تكلف وجعل المجاز حقيقة | فصل في أصول العلم والدين | سئل عن القياس | فصول عن القياس | فصل أن الإجارة خلاف القياس | فصل في قول من يقول حمل العقل على خلاف القياس | فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس | فصل في قولهم إن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس | فصل في حجة من قال إن الأكل ناسيا على خلاف القياس | فصل في موقف الصحابة من القياس | سئل هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي