محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة السابعة عشر

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب الأطعمة (مسألة 1023 - 1044)


كتاب الأطعمة

1023 - مسألة: وتسمية الله تعالى فرض على كل آكل عند ابتداء أكله، ولا يحل لأحد أن يأكل بشماله إلا أن لا يقدر فيأكل بشماله لأمر النبي عمر بن أبي سلمة الذي ذكرنا آنفا بالتسمية والأكل باليمين.

ومن طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر عن النبي : لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال وهذا عموم في النهي عن شماله وشمال غيره فإن عجز فالله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وقال النبي : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ومن تحكم فجعل بعض الأوامر فرضا وبعضها ندبا فقد قال على الله ورسوله ما لا علم له به، وقال تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}.

1024 - مسألة: ولا يحل الأكل في آنية أهل الكتاب حتى تغسل بالماء إذا لم يجد غيرها أيضا لما رويناه من طريق مسلم، حدثنا هناد بن سري، حدثنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح قال: سمعت ربيعة بن يزيد الدمشقي يقول:، حدثنا أبو إدريس عائذ الله الخولاني قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب نأكل في آنيتهم فقال عليه السلام: أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها. وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. حدثنا حمام، حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، حدثنا النعمان بن محمد المنقري أنا حماد عن قتادة وأيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن أبي ثعلبة الخشني قلت: يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب أفنطبخ في قدورهم ونشرب في آنيتهم قال: إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ثم اطبخوا فيها واشربوا. حدثنا يونس بن عبد الله، حدثنا أبو عيسى بن أبي عيسى، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا ابن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أيوب هو السختياني عن أبي قلابة عن أبي ثعلبة الخشني، أنه قال: يا رسول الله اكتب لي بأرض قال: كيف أكتب لك وهي بأرض الحرب قال: والذي بعثك بالحق لتملكن ما تحت أقدامهم، فأعجب ذلك رسول الله وذكر الحديث وفيه:، أنه قال: يا رسول الله إنا بأرض أهلها أهل كتاب نحتاج منها إلى قدورهم وآنيتهم، فقال: لا تقربوها ما وجدتم منها بدا، فإذا لم تجدوا بدا فاغسلوها بالماء واطبخوا واشربوا.

قال أبو محمد: وتعلق قوم قد خالفوا هذا الخبر الثابت بخبر رويناه من طريق أبي داود السجستاني، حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر عن أبي عبد الله مسلم بن مشكم عن أبي ثعلبة الخشني: أنه سأل رسول الله قال: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر فقال رسول الله إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا.

قال أبو محمد: هذا خبر لا يصح، لأن فيه عبد الله بن العلاء بن زبر وليس بمشهور ومسلم بن مشكم وهو مجهول.

1025 - مسألة: ولا يحل أكل السيكران لتحريم النبي كل مسكر، والسيكران مسكر فإن موه قوم باللبن والزوان فليس كما ظنوا لأن اللبن والزوان مخدران مبطلان للحركة لا يسكران، والسيكران والخمر مسكران لا يخدران، ولا يبطلان الحركة وبالله تعالى التوفيق.

1026 - مسألة: وكل ما حرم الله عز وجل من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام، أو ميتة، أو دم ; أو لحم سبع أو طائر، أو ذي أربع ; أو حشرة، أو خمر، أو غير ذلك: فهو كله عند الضرورة حلال حاشا لحوم بني آدم وما يقتل من تناوله: فلا يحل من ذلك شيء أصلا لا بضرورة، ولا بغيرها. فمن اضطر إلى شيء مما ذكرنا قبل ولم يجد مال مسلم أو ذمي: فله أن يأكل حتى يشبع، ويتزود حتى يجد حلالا ; فإذا وجده عاد الحلال من ذلك حراما كما كان عند ارتفاع الضرورة. وحد الضرورة أن يبقى يوما وليلة لا يجد فيها ما يأكل أو يشرب، فإن خشي الضعف المؤذي الذي إن تمادى أدى إلى الموت، أو قطع به عن طريقه وشغله حل له الأكل والشرب فيما يدفع به عن نفسه الموت بالجوع أو العطش. وكل ما ذكرنا سواء لا فضل لبعضها على بعض إن وجد منها نوعين، أو أنواعا فيأكل ما شاء منها للتذكية فيها. أما تحليل كل ذلك للضرورة فلقول الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} فأسقط تعالى تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة، فعم ولم يخص، فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك.

وأما قولنا إذا لم يجد مال مسلم فلقول رسول الله الذي رويناه من طريق أبي موسى: أطعموا الجائع فهو إذا وجد مال المسلم أو الذمي فقد وجد مالا قد أمر الله تعالى بإطعامه منه، فحقه فيه، فهو غير مضطر إلى الميتة وسائر المحرمات، فإن منع ذلك ظلما فهو مضطر حينئذ. وخصص قوم الخمر بالمنع وهذا خطأ لأنه تخصيص للقرآن بلا برهان وهو قول مالك ; وخالفه أبو حنيفة وغيره، واحتج المالكيون بأنها لا تروى وهذا خطأ مدرك بالعيان، وقد صح عندنا أن كثيرا من المدمنين عليها من الكفار والخلاع لا يشربون الماء أصلا مع شربهم الخمر. وقد اضطربوا: فروي عن مالك: الأستغاثة بالخمر لمن اختنق بلقمة وأمره بذلك، ولا فرق بين الأستغاثة إليها في ضرورة الأختناق أو في ضرورة العطش لا من قرآن، ولا من سنة، ولا رواية صحيحة، ولا قياس. فصح أنهم آمرون له بقتل نفسه وأنه إن لم يشرب الخمر فمات فهو قاتل النفس التي حرم الله.

وأما استثناء لحوم بني آدم فلما ذكرنا قبل من الأمر بمواراتها، فلا يحل غير ذلك.

وأما ما يقتل فإنما أبيحت المحرمات خوف الموت أو الضرر فاستعجال الموت لا يحل لقول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} وبهذه الآية أيضا حلت المحرمات خوف أن يكون الممتنع منها قاتل نفسه فيعصي الله تعالى بذلك ويكون قاتل نفس محرمة وهذا أكبر الكبائر بعد الشرك.

وأما تحديدنا ذلك ببقاء يوم وليلة بلا أكل فلتحريم النبي الوصال يوما وليلة.

وأما قولنا: إن خاف الموت قبل ذلك أو الضعف فلأنه مضطر حينئذ.

وأما قولنا: لا فضل لبعض ذلك على بعض فلقول الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}.

فصح أن كل شيء حرمه النبي فإن الله تعالى حرمه وبلغه هو عليه السلام إلينا، وكل ما حرمه الله تعالى في القرآن فالنبي عليه السلام بلغ القرآن إلينا، ولولاه ما عرفنا ما هو القرآن. فصح يقينا أن كل حرام، أو كل مفترض، أو كل حلال فهو عن النبي عن الله عز وجل، ولا فرق. وليس قولنا: إنه لا يحل للمحرم قتل الصيد، ولا للمحل في الحرم ما دام يجد شيئا من هذه المحرمات ناقضا لهذه الجملة، بل هو طرد لها ; لأن واجد الخنزير، والميتة، والدم، وغير ذلك غير مضطر معها، بل هو واجد حلال، فليس مضطرا إلى الصيد إلا حتى لا يجد غيره فيحل له حينئذ.

وأما قولنا: لا معنى للتذكية فلأن الذكاة إخراج لحكم الحيوان على التحريم بكونه ميتة إلى التحليل بكونه مذكى، وكل ما حرمه الله تعالى من الحيوان فهو ميتة ; فالتذكية لا مدخل لها في الميتة وبالله تعالى التوفيق.

1027 - مسألة: ولا يحل شيء مما ذكرنا لمن كان في طريق بغي على المسلمين أو ممتنعا من حق، بل كل ذلك حرام عليه، فإن لم يجد ما يأكل فليتب مما هو فيه وليمسك عن البغي وليأكل حينئذ وليشرب مما اضطر إليه حلالا له فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى فاسق، آكل حرام. برهان ذلك -: قول الله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} فإنما أباح تعالى ما حرمه بالضرورة من لم يتجانف لإثم، ومن لم يكن باغيا ولا عاديا -: وهذا قول كل من نعلمه من العلماء إلا المالكيين، فإنهم قالوا فيمن قطع الطريق على المسلمين، وانتظر رفاقهم من المحاربين، وحاصر قراهم ومدنهم من الباغين لسفك دماء المسلمين، ويستبيح أموالهم وفروج المسلمات ظلما وعدوانا، فلم يجد مأكلا إلا الخنازير والميتات -: أنه مباح له أكله، فأعانوه على أعظم الظلم، وأشد البغي والعدوان والعجب أنهم موهوا ههنا بقول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}. قال أبو محمد: وهذا من أقبح ما يكون من الإبهام وما أمرناه بقتل نفسه بل بما افترض الله تعالى عليه من التوبة، فلينوها بقلبه، وليمسك عن البغي والامتناع من الحق بيديه، ثم يأكل ما اضطر إليه حلالا له، وما سمعنا بقول أقبح من قولهم هذا أن لا يأمروه بالتوبة من البغي، ويبيحوا له التقوي على الإفساد في الأرض بأكل الميتة والخنزير نبرأ إلى الله من هذا القول -: روينا عن مجاهد {غير باغ ولا عاد} غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم - قال مجاهد: ومن يخرج لقطع الطريق، أو في معصية الله تعالى، فاضطر إلى الميتة لم تحل له، إنما تحل لمن خرج في سبيل الله تعالى، فإن اضطر إليها فليأكل. وعن سعيد بن جبير {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} قال: إذا خرج في سبيل من سبل الله تعالى فاضطر إلى الميتة أكل، وإن خرج إلى قطع الطريق فلا رخصة له. وموهوا بما رويناه من طريق سلمة بن سابور عن عطية عن ابن عباس أن معنى الباغي، والعادي، إنما هو في الأكل. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه ثلاثة -:

أولها: أنه لا حجة في قول أحد في تخصيص القرآن دون رسول الله.

والثاني: أنه إسناد فاسد لا يصح، لأن سلمة بن سابور ضعيف، وعطية مجهول.

والثالث: أنه لو صح لكان موافقا لقولنا لا لقولهم، لأن الباغي في الأكل، والعادي فيه: هو من أكله فيما لم يبح له، وآكله في البغي على المسلمين باغ في الأكل وعاد فيه، وهكذا نقول.

وما قال قط أحد نعلمه قبلهم: أن من خرج مفسدا في الأرض فاضطر إلى الميتة فله أكلها مصرا على إفساده متقويا على ظلم المسلمين، ونعوذ بالله من الخذلان.

وقال قائلون: لا يحل له أن يأكل من ذلك إلا ما يمسك رمقه ؟ قال علي: وهذا خطأ ; لأن الله تعالى استثنى المضطر من التحريم، فهو بلا شك غير داخل في التحريم، وإذ هو غير داخل فيه فكل ذلك مباح له جملة.

1028 - مسألة: والسرف حرام، وهو النفقة فيما حرم الله تعالى قلت أو كثرت، ولو أنها جزء من قدر جناح بعوضة أو التبذير فيما لا يحتاج إليه ضرورة مما لا يبقى للمنفق بعده غنى أو إضاعة المال وإن قل برميه عبثا ; فما عدا هذه الوجوه فليس سرفا وهو حلال وإن كثرت النفقة فيه. وقولنا هذا رويناه عن سعيد بن جبير وغيره، قال الله تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}.

ومن طريق ابن وهب أنا يونس، هو ابن يزيد، عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: سمعت كعب بن مالك فذكر الحديث وفيه فقلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال رسول الله : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. وصح عن النبي : "، أنه قال: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول:

روينا من طريق أبي مالك الأشجعي عن حذيفة أن النبي قال: كل معروف صدقة ". فصح أنه لا يحل نفقة شيء من المعروف، ولا المباح، إلا ما أبقى غنى، إلا من اضطر إلى قوت نفسه ومن معه، فلا يحل له قتل نفسه، ولا تضييع من معه، ثم الله تعالى هو الرزاق، وأما ما دون هذا فإن الله تعالى يقول {كلوا من الطيبات}.

وقال تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}.

وقال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وأحل الله البيع}. فمن حرم شيئا من ذلك بغير نص فقد قال على الله تعالى الباطل.

فإن ذكروا قول الله تعالى: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} فإنما هذه الآية في الكفار خاصة بنص الآية قال تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}.

قال أبو محمد: التمويه بإيراد بعض آية والسكوت عن أولهما أو آخرها عادة سوء لمن أراد الله تعالى خزيه في الدنيا والآخرة، لأنه تحريف للكلم عن مواضعه وكذب على الله تعالى.

1029 - مسألة: وكل ما تغذى من الحيوان المباح أكله بالمحرمات فهو حلال: كالدجاج المطلق، والبط، والنسر، وغير ذلك. ولو أن جديا أرضع لبن خنزيرة لكان أكله حلالا حاشا ما ذكرنا من الجلالة لأن الله تعالى قال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم}. فلم يفصل لنا تحريم شيء من أجل ما يأكل إلا الجلالة وما كان ربك نسيا. وقد صح عن أبي موسى تحليل الدجاج وإن كان يأكل القذر.

وروينا، عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا حتى يطيب بطنها.

قال أبو محمد: هذا لا يلزم لأنه إن كان حبسها من أجل ما في قانصتها مما أكلت فالذي في القانصة لا يحل أكله جملة، لأنه رجيع، وإن كان من أجل استحالة المحرمات التي أكلت فلا يستحيل لحمها في ثلاثة أيام، ولا في ثلاثة أشهر بل قد صار ما تغذت به من ذلك لحما من لحمها، ولو حرم من ذلك لحرم من الثمار والزرع ما ينبت على الزبل وهذا خطأ. وقد قدمنا أن الحرام إذا استحالت صفاته واسمه بطل حكمه الذي علق على ذلك الأسم وبالله تعالى التوفيق.

1030 - مسألة: والقرد حرام أكله لأن الله تعالى مسخ ناسا عصاة عقوبة لهم على صورة الخنزير، والقردة. وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه تعالى لا يمسخ عقوبة في صورة الطيبات من الحيوان فصح أنه ليس منها وإذ ليس هو منها فهو من الخبائث ; لأنه ليس إلا طيب أو خبيث، فما لم يكن من الطيبات طيبا فهو من الخبائث خبيث فإذا القرد خبيث، والخنزير خبيث، فهما محرمان وهذا من البراهين أيضا على تحريم الخنزير جملة وكل شيء منه وكل ما جاء في المسوخ في غير القرد والخنزير: فباطل وكذب موضوع وبالله تعالى التوفيق.

1031 - مسألة: وأكل الطين لمن لا يستضر به حلال، وأما أكل ما يستضر به من طين أو إكثار من الماء أو الخبز: فحرام ; لأنه ليس مما فصل تحريمه لنا فهو حلال، وأما كل ما أضر فهو حرام، لقول النبي : إن الله كتب الإحسان على كل شيء.

روينا من طريق شعبة، وسفيان، وهشيم، ومنصور بن المعتمر، وابن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد، كلهم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس أنه حفظ عن رسول الله ، أنه قال: إن الله كتب الإحسان على كل شيء وذكر باقي الحديث، فمن أضر بنفسه أو بغيره فلم يحسن، ومن لم يحسن فقد خالف كتاب الله تعالى الإحسان على كل شيء. وقد روي في تحريم الطين آثار كاذبة: منها: من طريق سويد بن سعيد الحدثاني وهو مذكور بالكذب، ومرسلات واحتج بعضهم بقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}. قال: والطين ليس مما أخرج لنا من الأرض.

قال أبو محمد: وهذا من التمويه الذي جروا على عادتهم فيه في إيهامهم أنهم يحتجون، وإنما يأتون بما لا حجة لهم فيه، وهذه الآية حق ولكن ليس فيها تحريم أكل ما لم يخرج لنا من الأرض وإنما فيها إباحة ما أخرج لنا من الأرض وليس فيها ذكر ما عدا ذلك لا بتحليل، ولا بتحريم ; فحكم ما لم يخرج من الأرض مطلوب من غيرها. ولو كانت هذه الآية مانعة من أكل ما لم يخرج من الأرض لحرم أكل الحيوان كله بريه وبحريه، ولحرم أكل العسل، والطرنجبين، والبرد، والثلج، لأنه ليس شيء من ذلك مما أخرج الله تعالى لنا من الأرض ; فالطين واحد من هذه فكيف وهو مما في الأرض ومما أخرج الله تعالى من الأرض لأنه معادن في الأرض مستخرجة من الأرض، ولقد كان ينبغي لمن له دين أن لا يحتج بمثل هذا مما يفتضح فيه من قرب وبالله تعالى التوفيق. وقد علمنا أن القليل من الفطر والكمأة، ولحم التيس الهرم أضر من قليل الطين، وأتى بعضهم بطريفة فقال: خلقنا من التراب فمن أكل التراب فقد أكل ما خلق منه..

فقلنا: فكان ماذا وعلى هذا الاستدلال السخيف يحرم شرب الماء لأننا من الماء خلقنا بنص القرآن.

1032 - مسألة: والضب حلال، ولم ير أبو حنيفة أكله.

وروينا من طريق الحارث عن علي بن أبي طالب أنه كره الضب.

وعن أبي الزبير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضب فقال: لا تطعموه.

واحتج أهل هذه المقالة بأحاديث -: منها صحيح:

كالذي روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان، وأبي معاوية الضرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة قال: كنا مع رسول الله في غزاة فأصابتنا مجاعة فوجدنا ضبابا فبينما القدور تغلي بالضباب خرج علينا رسول الله فقال: (إن أمة من بني إسرائيل فقدت، وإني أخاف أن تكون هذه هي فأكفئوها، فألقينا بها).

هذا لفظ أبي معاوية، ولفظ يحيى نحوه.

ومنها غير صحيح:

من طريق إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل: (أن النبي نهى عن أكل لحم الضب).

وجاءت أخبار فيها التوقف فيه -:

كالذي روينا من طريق مسلم حدثني محمد بن المثنى نا ابن أبي عدي عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي : أنه سئل عن الضب ؟ فقال عليه السلام. (إن أمة من بني إسرائيل مسخت - فلم يأمر ولم ينه) ومثل هذا أيضا بمعناه صحيح من طريق جابر عن النبي .

ومن طريق زيد بن وهب عن ثابت بن يزيد عن النبي .

ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب عن البراء بن عازب عن ثابت ابن وديعة عن النبي .

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي قال في الضب: (لا آمر به، ولا أنهى عنه).

ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين: {أن النبي أتي بضب فلم يأكله فقالت: يا رسول الله ألا نطعمه المساكين ؟ قال: لا تطعموهم ما لم تأكلوا.

قال أبو محمد: أما هذه فلا حجة فيها.

وأما حديث عبد الرحمن بن شبل ففيه ضعفاء ومجهولون - فسقط.

وأما حديث عبد الرحمن بن حسنة فهو حجة إلا أنه منسوخ بلا شك، لأن فيه أن النبي .

إنما أمر بإكفاء القدور بالضباب خوف أن تكون من بقايا مسخ الأمة السالفة، هذا نص الحديث، فإن وجدنا عنه عليه السلام ما يؤمن من هذا الظن بيقين فقد ارتفعت الكراهة أو المنع في الضب، فنظرنا في ذلك -: فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه وحجاج بن الشاعر واللفظ له كلاهما عن عبد الرزاق قال: أنا سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ ؟ فقال رسول الله إن الله عز وجل لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة، والخنازير كانوا قبل ذلك(.

ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر بن كدام عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد عن ابن مسعود {أن القردة ذكرت عند النبي فقال عليه السلام: إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك.

فصح يقينا أن تلك المخافة منه عليه السلام في الضباب أن تكون مما مسخ قد ارتفعت، وصح أن الضباب ليست مما مسخ، ولا مما مسخ شيء في صورها -: فحلت. ثم وجدنا ما رويناه من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس (قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله بيت ميمونة: فأتي بضب محنوذ فرفع رسول الله يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول ينظر).

فهذا نص جلي على تحليله، وهذا هو الآخر الناسخ، لأن ابن عباس بلا شك لم يجتمع قط مع رسول الله بالمدينة إلا بعد انقضاء غزوة الفتح، وحنين، والطائف، ولم يغز عليه السلام بعدها إلا تبوك، ولم تصبهم في تبوك مجاعة أصلا. وصح يقينا أن خبر عبد الرحمن بن حسنة كان قبل هذا الخبر بلا مرية فارتفع الإشكال جملة وصحت إباحته عن عمر بن الخطاب وغيره -: وبالله تعالى التوفيق.

1033 - مسألة: والأرنب حلال، لأنه لم يفصل لنا تحريمها، وقد اختلف السلف فيها ; روينا من طريق وكيع عن همام بن يحيى عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر أو ابن عمر أنه كره الأرنب.

ومن طريق قتادة، عن ابن المسيب أيضا أن عبد الله بن عمرو بن العاص وأباه كرها الأرنب وأكلها سعد بن أبي وقاص. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه كره الأرنب.

واحتج من كرهها بخبر من طريق وكيع، حدثنا أبو مكين عن عكرمة أن النبي أتي بأرنب فقيل له: إنها تحيض فكرهها.

ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن عمر عن عبد الكريم أبي أمية قال: سأل جرير بن أنس الأسلمي النبي عن الأرنب فقال: لا آكلها أنبئت أنها تحيض.

قال أبو محمد: عبد الكريم أبو أمية هالك وحديث عكرمة مرسل، وقد صح من طريق شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك: أنه صاد أرنبا فأتى بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى النبي بوركها وفخذيها فأتيت بها النبي فقبلها.

ومن طريق أبي هريرة أن النبي أتي بأرنب مشوية فلم يأكل عليه السلام منها وأمر عليه السلام القوم فأكلوا فهذا نص صحيح في تحليلها وقد يكرهها عليه السلام خلقة، لا لأثم فيها، ونحن لعمر الله نكرهها جملة، ولا نقدر على أكلها أصلا، وليس هذا من التحريم في شيء.

1034 - مسألة: والخل المستحيل عن الخمر حلال تعمد تخليلها أو لم يتعمد إلا أن الممسك للخمر لا يريقها حتى يخللها أو تتخلل من ذاتها: عاص لله عز وجل مجرح الشهادة. برهان ذلك: أن الخمر مفصل تحريمها، والخل حلال لم يحرم:

روينا من طريق مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي، أخبرنا يحيى بن حسان، حدثنا سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله : نعم الإدام الخل فإذا الخل حلال، فهو بيقين غير الخمر المحرمة، وإذا سقطت عن العصير الحلال صفات العصير وحلت فيه صفات الخمر فليست تلك العين عصيرا حلالا، بل هي خمر محرمة، وإذا سقطت عن تلك العين صفات الخمر المحرمة وحلت فيها صفات الخل الحلال، فليست خمرا محرمة، بل هي خل حلال. وهكذا كل ما في العالم إنما الأحكام على الأسماء فإذا بطلت تلك الأسماء بطلت تلك الأحكام المنصوصة عليها وحدثت لها أحكام الأسماء التي انتقلت إليها فللصغير حكمه، وللبالغ حكمه، وللميت حكمه، وللدم حكمه، وللغذاء الذي استحال منه حكمه، وللبن، واللحم المستحيلين عن الدم حكمهما ; وهكذا كل شيء. ولا معنى لتعمد تخليلها، أو لتخليلها من ذاتها لأنه لم يأت بالفرق بين شيء من ذلك قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب، ولا قياس، وإنما الحرام إمساك الخمر فقط.، ولا فرق بين تخليلها أو ترك تخليلها، بل المريد لبقائها خمرا أعظم إثما وأكثر جرما من المتعمد لأفسادها والقاصد لتغييرها وقولنا هذا هو قول أبي حنيفة، ومالك.

وقال الشافعي، وأبو سليمان: إذا تخللت حلت، وإن خللت لم تحل وهذا قول فاسد وروينا عن بعض المالكيين: أن كل خل تولد من خمر بقصد أو بغير قصد فهو حرام وهذا خطأ لما ذكرنا.

وأما عصيان ممسك الخمر: فلما روينا من طريق مسلم، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف قال:، حدثنا زكريا، هو ابن أبي زائدة، حدثنا عبيد الله، هو ابن عمرو عن زيد، هو ابن أبي أنيسة عن يحيى النخعي قال: سئل ابن عباس عن النبيذ فذكر الحديث، وفيه: أن النبي أمر بسقاء فجعل فيه زبيب وماء جعل من الليل فأصبح فشرب منه يومه والليلة المستقبلة ومن الغد حتى أمسى فشرب وسقى فلما أصبح أمر بما بقي منه فأهرق. فلا يحل إمساك الخمر أصلا.

فإن قيل: فكيف السبيل إلى خل لا يأثم معانيه.

قلنا: نعم، بأن يكون العنب كما هو يلقى في الظرف صحيحا فإذا كان في استقبال الصيف الذي يأتي عصر فإنه لا ينعصر إلا الخل الصرف. ولا يسمى خمرا ما لم يبرز من العنب.

وأيضا فإن من عصر العنب، أو نبذ الزبيب أو التمر ثم صب على العصير الحلو أو النبيذ الحلو قبل أن يبدأ بهما الغليان مثل كليهما خلا حاذقا، فإنه يتخلل، ولا يصير خمرا أصلا وبالله تعالى التوفيق.

1035 - مسألة: والسمن الذائب يقع فيه الفأر مات فيه أو لم يمت: فهو حرام، لا يحل إمساكه أصلا، بل يهراق، فإن كان جامدا أخذ ما حول الفأر فرمي، وكان الباقي حلالا كما كان.

وأما كل ما عدا السمن يقع فيه الفأر أو غير الفأر فيموت أو لا يموت فهو كله حلال كما كان، ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، فإن ظهر فيه الحرام فهو حرام.

وكذلك السمن يقع فيه غير الفأر فيموت أو لا يموت فهو حلال كله ما لم يظهر فيه تغيير الحرام له كما قدمنا، وقد بينا هذه القصة كلها في كتاب الطهارة من ديواننا هذا فأغنى عن إعادتها وعمدته أن النهي إنما جاء في السمن الذائب فيه الفأر ولم ينص على ما عداه وما كان ربك نسيا وبالله تعالى التوفيق.

1036 - مسألة: وما سقط من الطعام ففرض أكله، ولعق الأصابع بعد تمام الأكل فرض. ولعق الصحفة إذا تم ما فيها فرض: لما روينا من طريق البخاري، حدثنا علي بن عبد الله، هو ابن المديني، حدثنا سفيان، هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء، عن ابن عباس " أن رسول الله قال: إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها، أو يلعقها.

ومن طريق حماد بن سلمة، حدثنا ثابت هو البناني عن أنس بن مالك " أن النبي قال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان وأمرنا أن نسلت القصعة قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة.

1037 - مسألة : ويكره الأكل متكئا ولا نكرهه منبطحا على بطنه وليس شيء من ذلك حراما ، لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك ، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال . وروينا من طريق البخاري نا أبو نعيم نا مسعر - هو ابن كدام - عن علي بن الأقمر قال : سمعت أبا جحيفة يقول : { قال النبي  : إني لا آكل متكئا } فليس هذا نهيا أصلا لكنه آثر الأفضل فقط . فإن ذكروا : ما روينا من طريق أبي داود عن عثمان بن أبي شيبة عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه { عن النبي  : أنه نهى عن أن يأكل الرجل منبطحا على بطنه } . قلنا : هذا خبر لم يسمعه جعفر من الزهري ، قال أبو داود : نا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء نا أبي نا جعفر بن برقان أنه بلغه عن الزهري هذا الحديث نفسه ، فسقط - وبالله تعالى التوفيق .

1038 - مسألة: وغسل اليد قبل الطعام وبعده حسن:

روينا من طريق أبي داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، هو ابن معاوية، حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من نام وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه.

قال أبو محمد: فهذا ندب لا أمر، والجرذ ربما عض أصابع المرء إذا شم فيها رائحة الطعام ولم يأت نهي عن غسل اليد قبل الطعام، وقد قال قوم: هو من فعل الأعاجم، وهذا عجب جدا وإن أكل الخبز لمن فعل الأعاجم، ولو أراد الله تعالى تحريمه أو كراهيته لنا لبينه فإن قيل: فقد صح الخبر عن النبي : أنه قرب إليه الطعام فقيل له: ألا تتوضأ قال: لم أصل فأتوضأ فليس في هذا ذكر لغسل اليد قبل الطعام أصلا، وإنما فيه الوضوء وهو كما قال عليه السلام: لا وضوء واجبا إلا للصلاة.

1039 - مسألة: وحمد الله تعالى عند الفراغ من الأكل حسن ولو بعد كل لقمة لأنه فعل خير وبر، وفي كل حال.

1040 - مسألة: وقطع اللحم بالسكين للأكل حسن، ولا نكره قطع الخبز بالسكين للأكل أيضا وتستحب المضمضة من الطعام:

روينا من طريق البخاري، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول عن بشير بن يسار عن سويد بن النعمان: أن رسول الله أكل سويقا ثم دعا بماء فتمضمض.

ومن طريق الليث عن عقيل بن خالد عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس إن النبي شرب لبنا ثم تمضمض بالماء وقال: إن له دسما. وصح أنه عليه السلام شرب لبنا ولم يتمضمض فلم يأت بها أمر، ولا نهي فهي فعل حسن ومباح:

ومن طريق البخاري، حدثنا أبو اليمان أنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية: " أن أباه أخبره أنه رأى رسول الله يحتز من كتف شاة فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها ثم قام فصلى ولم يتوضأ. ولم يأت نهي عن قطع الخبز وغيره بالسكين فهو مباح. وجاء خبر فيه: لا تقطعوا اللحم بالسكين، فإنه من فعل الأعاجم، وهو لا يصح لأنه من رواية أبي معشر للمديني وهو ضعيف وبالله تعالى التوفيق.

1041 - مسألة: والأكل في إناء مفضض بالجوهر، والياقوت، وفي البلور، والجزع مباح وليس من السرف لأنه لو كان حراما لفصل تحريمه، وما لم يفصل تحريمه فهو حلال، وقد حرم الله تعالى آنية الذهب، والفضة فهي حرام وأمسك عما عدا ذلك كله فهو حلال:

روينا من طريق ابن الجهم، حدثنا أحمد بن الهيثم، حدثنا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: أحل الله حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو.

ومن ادعى أن شيئا من هذا سرف أو ادعى ذلك في المأكل كلف أن يأتي بحد ما يحرم من ذلك مما يحل، ولا سبيل له إليه.

فصح يقينا أن قوله باطل وبالله تعالى التوفيق.

1042 - مسألة: والثوم، والبصل، والكراث حلال إلا أن من أكل منها شيئا فحرام عليه أن يدخل المسجد حتى تذهب الرائحة وقد ذكرناه في كتاب الصلاة فأغنى عن إعادته وله الجلوس في الأسواق، والجماعات والأعراس وحيث شاء إلا المساجد لأن النص لم يأت إلا فيها.

1043 - مسألة: والجراد حلال إذا أخذ ميتا أو حيا سواء بعد ذلك مات في الظروف أو لم يمت روينا من طريق البخاري نا أبو الوليد الطيالسي نا شعبة عن أبي يعفور [قال] سمعت عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله سبع غزوات أو ستا نأكل معه الجراد) وروينا عن عمر لا بأس بالجراد، وعن ابن عمر الجراد ذكاة كله، وعن ابن عباس في الجراد لا بأس بأكله - وهو قول جابر بن زيد وغيره، فلم يستثنوا فيه حالا من حال - وهو قول أبي حنيفة، والشافعي.

وقالت طائفة: لا يحل وإن أخذ حيا إلا حتى يقتل - وهو قول مالك ولا نعلم له حجة لأن الذكاة لا تمكن فيه، وذهب قوم إلى أنه لا يحل إن وجد ميتا فإن أخذ حيا حل كيف مات بعد ذلك، روينا من طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن عبيد بن سلمان أنه سمع سعيد بن المسيب يقول في الجراد: ما أخذ وهو حي ثم مات فلا بأس بأكله. ومن طريق عطاء أخذ الجراد ذكاته - وهو قول الليث. قال أبو محمد: احتج هؤلاء بقول الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}. فما وجد ميتا فهو حرام، وقال تعالى: {ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم}. وصح أكل الجراد عن رسول الله وصح بالحس أن الذكاة لا تمكن فيه فسقطت، فصح أن أخذه ذكاته لأنه صيد نالته أيدينا. قال علي: ولا حجة لهم في هذه الآية لأنه ليس فيها إباحة ما نالته أيدينا حيا دون ما نالته ميتا، وصح في كل مقدور على تذكيته أنه لا يحل إلا بالذكاة والذكاة الشق وهي غير مقدور عليها في الجراد فارتفع حكمها عنه رحمه الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقد صح تحليله بالنص فهو حلال كيفما وجد حيا أو ميتا بنص القرآن والسنة - وبالله تعالى التوفيق.

1044- مسألة: وإكثار المرق حسن، وتعاهد الجيران منه ولو مرة فرض ; وذم ما قدم إلى المرء من الطعام مكروه، لكن إن اشتهاه فليأكله وإن كرهه فليدعه وليسكت. والأكل معتمدا على يسراه مباح -: روينا من طريق شعبة عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر عن النبي قال:(إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق وأطعموا الجيران). وقد صح عن النبي :(فإن كان الطعام مشفوها فليناوله منه أكلة أو أكلتين) يعني صانعه، فصح أن التعليل من المرق مباح. ومن طريق أبي داود نا محمد بن كثير نا سفيان عن الأعمش عن أبي حازم - هو الأشجعي - عن أبي هريرة قال:(ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه). ولم يصح في النهي عن الاعتماد على اليسار شيء - وروي فيه أثر مرسل لا يصح من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير (زجر رسول الله أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل) ولا حجة في مرسل - وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الأطعمة
كتاب الأطعمة (مسألة 989(مكرر) - 993) | كتاب الأطعمة (مسألة 994 - 996) | كتاب الأطعمة (مسألة 997 - 1004) | كتاب الأطعمة (مسألة 1005 - 1022) | كتاب الأطعمة (مسألة 1023 - 1044)