مطالعات في اللغة والأدب (1925)/أدلة البيان في اللغة العربية

ملاحظات: الصفحات 1–18
 

ادلة البيان في اللغة العربية

(1) من تدبر العلوم اللسانية في اللغة العربية كالصرف والنحو رأى انه قد مر بها حتى الآن ثلاثة ادوار : الاول دور الاستقراء والتطبيق إستخرج النحاة الأولون فيه الجزئيات من الكليات ثم طبقوا الكليات على الجزئيات طرداً وعكساً مثال ذلك : استقرى النحاة الفاعل في جمل كثيرة فقالوا الفاعل مرفوع ثم قالوا ان لفظة . « رجل » في قولنا جاء الرجل مثلا مرفوع لانه فاعل . الدور الثاني دور التبويب والترتيب ، كان هم كل مؤلف في هذا الدور تتبع الاحكام الكلية في مظانها وترتيبها في فصول و ابواب اشبه بالفهارس ضموا فيه النظير الى نظيره والفرح الى اصله ، ولكن لم يجى احد منهم بشيء جديد من عنده ، بل اقتصروا على مذاهب البصريين والكوفيين وذكر الراجح والمرجوح منها بلا بحث ولا نكير . الدور الثالث دور الاجتهاد حاول بعض المؤلفين فيه ان يخرجوا من عهدة ذلك التقليد بأن يذكروا هنا وهناك بعض آراء لم يسبقهم اليها احد ففتحوا بذلك باب الاجتهاد.. ولاشك اننا اصبحنا اليوم في زمان لابد فيه من اعادة النظر في كل ( ء 1) محاضرة القيت فى الجامعة المصرية في شهر ديسمبر من سنة ١٩٢٠ ونشرت في المقتطف في الجزء الثاني من المجلد الثامن والخمسين سنة ١٩٢١ ما وضعه الاولون وتسلمناه منهم قضايا مقررة لاتقبل الاعتراض، وبناء ذلك على مبادئ جديدة علمية، فان عندنا من الوسائل ما لم يكن.. كان علماء اللغة في قديم الزمان لا يعرفون غير اللغة العربيه ولم يكونوا يعرفون ما يسمى اليوم بعلم مقابلة اللغات بعضها ببعض، أو ما يسمى علم تحليل اللغات او فلسفتها.. بلى حاول بعضهم التعرض لهذه الابحاث منهم ابو الفتح عثمان بن جني الموصلي في كتابيه الخصائص في اللغة وسر الصناعة في النحو، ولكن ابحاثهم كانت في عهد طفوليتها؛ واما اليوم فقد ارتقت هذه العلوم وصارت خصائص اللغة واسرارها علماً بأصول، واصبح عالم اللغة لا غنى له عن تعلم اخوات تلك اللغة بل لغات أخرى عديدة قديمة وجديدة. وقد عرفت في بلاد الانكليز واميركا اساتذة كثيرين من علماء اللغات الشرقية يعرف الواحد منهم الى اللغة العربية العبرية والسريانية والحبشية والتركية والفارسية والسنسكريتية فضلًا عن اللغات الاوربية الحديثة والقديمة الى ما يجاوز العشر لغات. وقد لقيت في كمبردج شيخاً مصرياً وهو استاذ في احدى المدارس العالية في القطر المصري، رأى سمة معرفة اولئك الاساتذة وتبحرهم في علم اللغات فقال من قصيدة ارسلها الى احد العلماء في مصر.

انا في بلاد الانكليز
اسير كالطفل الصغير
في كمبردج مدينة العرفان
ليس لها نظیر
فيها الاساتذة الفخام
ومن يعادل شكسبير
لا علم لي حتى اجادلهم
ولا عقل كبير
لكنني مسترشدٌ
شأن الضرير مع البصير
ولقد ذكرتك قائلاً
في مصرنا البدر المنير
كل باطراف البنان
اليه اجلالا يشير

ولأولئك العلماء الاعلام مؤلفات غزيرة المادة مشبعة الفصول في تاريخ اللغات وفلسفتها ومقابلتها بعضها ببعض. استبطنوا اللغات واستخرجوا منها حقائق بنيت عليها العلوم اللسانية في لغاتهم. و اول من طرق هذه الابحاث الجديدة في اللغة العربية على ما أَذكر احمد فارس الشدياق والشيخ ابرهيم اليازجي وجورجي زيدان وروحي الخالدي المقدسي وجبر ضومط وبندلي الجوزي المقدسي وانستاس الكرملي، ثم انقطع العهد بتلك الابحاث ولم تترتب عليها فائدة عملية، ولعل لذلك سببين: الأول تراجع النهضة وقلة المشتغلين بها. والثاني عدم الجرأة على ابداء رأي جديد. وقد خطر في اثناء معالجتي هذه المواضيع من النظرات والخواطر ما اتجرأ على عرضه عليكم شيئاً بعد شيء وانا لا اجهل ان رأس ما لي نزد.. وسأقتصر في حديثى هنا على الكلام عن ادلة البيان التي تتميز بها وظيفة الكلمة في الجملة فاقول:

تعرف وظيفة الكلمة في الجملة اما بالقرينة المعنوية نحو فهم موسى المعنى او فهم المعنى موسى، فان الفاهم هو موسى والمفهوم هو المعنى اذ لا يصح غير ذلك. واما بالترتيب نحو سبق اخي غلامي، ولما كان كل منهما يصح ان يكون سابقاً أو مسبوقاً ذكرنا السابق اولا والمسبوق ثانياً لان علاقة الفعل بالفاعل سابقة لعلاقته بالمفعول. واما بالاعراب نحو ضرب زيد عمراً او ضرب عمراً زيد فالضارب هو زيد والمضروب هو عمرو في الجملتين وقد عرفنا ذلك ليس من المعنى لانه يصح ان يكون كلاهما ضارباً او مضروباً، ولا من الترتيب لان كلمة زيد جاءت قبل كلمة عمرو في الجملة الأولى وبعدها في الجملة الثانية، وانما عرفنا ان زيداً هو الضارب لانه مرفوع وان عمراً هو المضروب لانه منصوب. فادلة البيان ثلاثة: القرينة والترتيب والاعراب وهذا آخر ما وصلت اليهِ اللغة العربية ولابد ان تكون هذه الادلة قد مرت على ادوار مختلفة قبل ان وصلت الى صورتها الحاضرة التي ورثناها من عهد التدوين جرياً على ناموس النشوء والارتقاء كما سنبينهُ فيما يلي:

— القرينة —

لاشك ان القرينة هي اقدم هذه الادلة، وقد مر زمان طويل على اللغة كان الاعتماد في بيان المعنى فيها على القرينة وحدها وذلك قبل ان يكون في اللغة ترتيب معلوم او اعراب بياني. فكانوا يقدمون اويؤخرون، وكانوا يرفعون او ينصبون أو يخفضون أو يجزمون او يبنون كما يجيء معهم اتفاقاً لغير قصد. واذ كان اعتمادهم في هذا الدور على القرينة وحدها فلابد انهُ كانت هناك قرائن كثيرة تختلف وضوحاً او خفاءً يستدلون بها على المعنى. ولاعتيادهم الاعتماد على القرينة فلابد انهم كانوا يتنبهون لادق القرائن وأخفاها. ومع ذلك فان التفاهم كان صعباً لما يقع فيهِ من اللبس او الغموض احياناً، او ان مواضيع الكلام كانت بسيطة يدرك المعنى منها باقل لمحة.. من تلك القرائن طبقة الصوت وهيئة اطلاقهِ بين ان يكون ليناً او خشناً عالياً او سافلًا مما هو بالصوت الموسيقي اشبهُ منهُ بالصوت المنطقي كما قال اليازجي، ولا تزال آثار ذلك في اللغة الى اليوم كاختلاف اللهجة في الاستفهام او التعجب عنها في الخبر بل لولا اختلاف اللهجة لأصبح كثير من الكلام لغواً. نكرر الالفاظ للتأكيد مثل جاء الامير الامير ولكن اذا لم نرفع الصوت قليلا في اللفظة الثانية فلا تأْكيد فيها ولو كررناها عشر مرات. نتبع اللفظة باخرى لبيانها مثل جاء اخوك زيد ولكن اذا لم تكن الثانية اعلى نغمة من الاولى فلا تفيد بياناً. نستعمل إِن للتأكيد ولكن اذا لم نجعل النبرة شديدة على النون فلا تفيد تأْكيداً، الى غير ذلك مما لا يتسع المجال للافاضة فيه. بل ان اللهجة قد تقلب المعنى الى ضده، يقال انه حكم مرة على رجل ان يقف امام الناس ويقول «ايها الناس انا لص» فلما وقف قال «ايها الناس انا لص?» بلهجة استفهام فانقلب المعنى من اقرار الى انكار. ومن القرائن الاشارات وحركات الوجه، يقال ان بعض زنوج افريقيا اذا غابت الشمس سكنت جلبتهم لأنهم لا يستطيعون ان يتفاهموا بالكلام وحده، وبسبب ظلمة الليل لا يستطيعون ان يستعينوا بالاشارات وحركات الوجه، بل انك اليوم لا تجد احد يتكلم بدون ان يستعين بالاشارات وحركات الوجه على تقوية معناه او ايضاحه او استدعاء الانتباه اليه ، مما يدل على ان اللغات على ارتقائها واتساعها لاتزال ناقصة، وانها دون التصوير والموسيقى. فان المصور قد يصور بريشته ما تعجز ارقى اللغات عن الغناء فيه، والموسيقي قد يترجم بنغماته عما لا يؤديه كلام. هذا على ارتقاء اللغات في هذا العصر فكيف يوم كانت في اول عهدها، من هذا تعلم ان الفاظ اللغة ليست هي اللغة كلها بل هي جزء منها تتممه الاشارات وحركات الوجه وطبقة الصوت وقرائن أُخرى. وهذا سر أَن التشبيه ابلغ من الحقيقة. اذا اردت ان تصور شخصاً غريباً لغيرك فمهما دققت في وصف تقاطيعه واعضائه و بيان لونِه وطوله وعرضهِ فانك لا تستطيع ان تعطي الصورة الحقيقية عنهُ ولكن يكفي ان تذكر شخصاً يعرفهُ ثم تقول انهُ يشبهه شبهاً تاماً فانه يستطيع حينئذٍ ان يتصور ذلك الشخص في ذهنهِ، فلو كانت اللغة كافية لما كانت هناك حاجة الى التشبيه. ومن تدبر اللغة العربية وجد فيها شيئاً كثيراً من لغة الاشارات وحركات الوجه ولونه مثل قولهم في الخوف امتقع لون فلان واقشعر جلده واصطکت رکبتاه وارتعدت فرائصه وأرعشت مفاصله ومثل قولهم في الغضب قطب وجهه وزوى ما بين عينيهِ وانتفخت اوداجهُ وتزبد فوه واحمرت عيناه الى غير ذلك مما يصور المعنى تصويراً. ولا شك ان هذا من آثار ذلك العهد الذي كانت فيه حركات الوجه والاشارات قرائن على المعنى وهو ايضاً سر أن الخطابة والانشاد والتمثيل والغناء أوقع في النفس من القراءَة الفكرية.

— الترتيب —

مر على اللغة زمان طويل والترتيب فيها مشوش لغير سبب اعتماداً على القرائن التي تقدم ذكرها. ولا يزال في اللغة آثار هذا التشويش اذ لا نزال نقدم تارةً الموصوف على الصفة فنقول ليس في المسألة امر كبير، وتارةً الصفة على الموصوف فنقول ليس في المسألة كبير امر. ثم دخلت اللغة في دور ثانٍ لزم الترتيب فيه صورة معلومة كذكر الفاعل قبل المفعول وذكر المسند اليه قبل المسند لاعتبارات خصوصية عندهم ليس هذا محل بسطها. ولانزال نراعي هذا الترتيب اذا لم تكن هناك قرينة معنوية او قرينة اعرابية. وبعد ان تولد الاعراب في اللغة دخلنا في دور ثالث تحررنا فيه من قيود الترتيب وعدنا الى التشويش. والفرق بين هذا الدور والدور الأول ان التشويش كان في الدور الأول اعتباطياً فصار في الدور الثالث لأغراض بيانية مقصودة، وهذا أرقى ما وصلت اليه اللغات في البيان حتى الآن. وقد ساعدنا على ذلك امران: القرينة والاعراب، ولولا الاعراب للزم الترتيب صورة معلومة لايتعداها على ما نراه في اللغات الأخرى، فان الفاعل في اللغة الانكليزية مثلًا لا يجيء الا قبل المفعول به سواءٌ دلت عليه القرينة ام لا بسبب انها ليست لغة اعرابية وكما نراه في اللغة العربية نفسها اذا كانت الكلمات لا تقبل اعراباً او لم تكن هناك قرينة معنوية، فاننا نلزم الترتيب فنذكر الفاعل قبل المفعول به مثل سبق اخي غلامي ونذكر المسند اليه قبل المسند اذا استويا في التعريف والتنكير ولم تكن هناك قرينة للتمييز بينهما مثل اخي رفيقي وافضل منك افضل مني. فالأدوار التي مرت على الترتيب ثلاثة: الأول الدور المشوش لغير قصد اعتماداً على القرينة، والثاني الدور المرتب لاعتبارات خصوصية، الثالث الدور المشوش لأغراض بيانية اعتماداً على الاعراب والقرينة.

— الاعراب —

من تتبع الدرجات التي مرت عليها اللغات في انتقالها من الدور التقليدي الى الدور النطقي اي من تقليد الأصوات تقليداً بسيطاً إلى الفاظ مستقلة يدل بها على المعاني دلالةً صماء لا تظهر فيها صبغة التقليد كما قال المرحوم جورجى زيدان، يرَ ان الاعراب هو آخر ما وصلت اليه اللغات حتى الآن فهو عنوان رقيها. وهذا يحتمل كلاماً طويلًا ليس من غرضنا في هذه العجالة التعرض لهُ. وانما غرضنا هنا هو ان نشير الى الأدوار التي مرت على الاعراب الى ان وصل الى حالته الحاضرة ثم نتبع ذلك بكلمة في الاعراب نفسه نجعلها خاتمة هذ البحث.

كان الاعراب في دوره الأول مشوشاً فكانوا يرفعون او ينصبون او يخفضون أو يجزمون اعتباطاً لغير قصد بياني اعتماداً على القرينة والترتيب، ولعل الغرض من الاعراب في هذا الدور كان تزيين الكلام وزخرفته، فقولك جاء الضارب بضم الباء آنق من قولك جاء الضارب باسكانها ولعلهم استعملوه في اول الامر في الشعر لما يتوخونه فيه من الزخرفة والتأنق، ولما ألفوه استعملوه في النثر ايضاً. ومن تدير الشعر في اللغة المحكية ليومنا هذا رأَى انهم قد يحركون من اواخر الكلم فيه مالا يجر كونه في كلامهم العادي، وتلك حالة في اللغة، اي الاعراب المشوش بدون ضابط، لابد ان يؤول امرها اما الى الالغاء بتاتاً واما الى الدخول في دور ثانٍ يستخدم فيهِ الاعراب لغرضٍ آخر لا لمجرد الزينة او الضرورة الشعرية. والواقع ان الالغاء ابتدأ في اللغة، ولكن في الوقف، ولولا القليل لسقط في كل المواطن، والواقع ان اللغة دخلت في دور ثان استخدم فيه الاعراب لبيان وظيفة الكلمة في الجملة، ولكن وقفت اللغة في اول هذا الدور قبل أن ينضج الاعراب ويتم احكامه في كل مواطنه كما سترى: ففي دوره الأول كان شيئاً خارجاً عن اللغة. فاذا الغي لم تتأثر لأن الاعتماد في بيان المعنى كان على القرينة والترتيب، ولذلك نرجح ان الغاءه في الوقف ابتدأ في هذا الدور، واما في دوره الثاني وهو الدور الذي تشوش فيه الترتيب لاغراض بيانية نص النحاة والبيانيون على مواطنها، فقد صار من مقومات اللغة وخصائصها، لأن هناك مواطن كثيرة في الكلام لا دليل على المعنى فيها غير الاعراب، فاذا الغي رجعت اللغة الى اللبس والغموض. فانت ترى ان الاعراب قد ساعد العزب على ان يستفيدوا من الترتيب المشوش في الدلالة على معان تعجز اللغات الأخرى عن ادائها، الا ان اللغة وقفت قبل أن يتم نضجه اي وصل الينا وفيه آثار التشويش وهذا التشويش نوعان: نوع استعمل قديماً ثم أُهمل ومن تفقد كتب النحو وقع على شيء كثير من هذا، فقد اجازوا نصب الاسم عند امن اللبس نحو خرق الثوب المسمار وكسر الزجاج الحجر بنصب المسمار والحجر ومنه قول الشاعر:

مثل القنافذ هداجون قد بلغت
نجران او بلغت سوءاتهم هجر

برفع نجران وهجر ونصب سوءَات وقاسه ابن الطراورة عملًا بقراءة فتلقى آدم من ربه كلمات بنصب آدم ورفع كلمات ومنه ان بعض العرب كان ينصب بأن او احدى اخواتها المبتدأ والخبر نحو:

اذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن
خطاك خفافاً أن حراسنا اسدا

ونحو قوله:

كأن اذنيه اذا تشوفا
قادمة او قلماً محرفا

وقوله يا ليت ايام الصبى رواجعا. ونحو قولهم لعل أباك قادما. ومثله جزم الفعل بعد لن مع انها من النواصب كقول الشاعر:

لن يخب الان من رجائك من
حرك من دون بابك الحلقه

ومثله جزم الفعل بان الناصبة نحو قوله:

اذا ماغدونا قال ولدان اهلنا
تعالوا الى ان يأتنا الصيد نحطب

ومثله اهمال لم الجازمة نحو قوله:

لولا الفوارس من نعم واسرتهم
يوم الصليفاء لم يوفون بالجار

وقوله:

وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي اسيراً يمانيا

وقال ابن مالك انها لغة وزعم اللحياني ان بعض العرب ينصب بها كقراءة بعضهم الم نشرح بفتح الحاء. وقوله :

في اي يومي من الموت افر ايوم لم يقدر او يوم قدر بفتح الراء في يقدر ومثله اهمال لا الناهية نحو : لاترين الفقير علك ان تركع يوماً والدهر قد رفعه وأن أولها النحاة بتقدير نون التوكيد الخفيفة - ومثله اعمال اذا الشرطية في الشعر واهمالها في النثر - ومثله جزم الفعل المرفوع في قوله : ابين اسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي ومثله قوله : يالك من قنبرة بعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري قد رفع الفيخ فاذا تحذري ومثله قوله : فاليوم أشرب غير مستحقب ائماً من الله ولا واغل باسكان الباء في اشرب الى غير ذلك .. ومنه نوع لا يزال مستعملا في اللغة الى اليوم واليك البيان يقول النحاة ان المسند اليه والمسند يرفعان لانهما عمدة ولكننا نراهم ينصبون الأول بعد « ان » او احدى اخواتها وينصبون الثاني بعد «كان» او احدى اخواتها فلماذا نصبا اذا كانا عمدة؛ لاشك ان ذلك اثر من آثار التشويش في الاعراب . ومثله بناء اي على الضم في مثل قولهم معلم على ايهم افضل وبناء الظروف المنقطعة عن الاضافة في مثل قولهم الحمد لله من قبل ومن بعد ومثل بناء بعض الالفاظ المبنية . فاذا كانت اللغة اعرابية فما معنى بناء بعض الفاظها . ومثل اعمال ما على لغة اهل الحجاز واهمالها على لغة اهل تميم " بل اعمالها على لغة اهل الحجاز بشرط أن تكون متصلة ولم ينتقض نفي خبرها بالانحو مازيد شاعراً واهمالها اذا لم تكن كذلك نحو ما قائم زيد وما غلامك عمرو ضارب وما زيد إلا شاعر وما ان عمر و كريم بخلاف ليس في ذلك كله مع انها نافية مثلها . ومثل نصب جمع المؤنث السالم بالكسر ومثل اعراب الفعل المضارع ولا سيما في حانتي الرفع والنصب فقد حار النحاة سبب اعرابه وغير ذلك مما ليس من غرضنا تعداده واحصاؤه . وهذا النوع الثاني من التشويش اصبح قياسياً في اللغة. واكبر لذة في درس اللغات تكون في هذا المزيج من المعقول وغير المعقول والقياسي والنشاذ وقد قال احد علماء اللغة ان اللغة مثل صديق هفواته تعززه لدينا وتزيدنا حباله . تكلمنا عن الادوار التي تدرج فيها الاعراب وبقيت لنا كلمة في الاعراب نفسه هل دلالة العلامات الاعرابية كالضمة والفتحة والكسرة والسكون على الحالات الاعرابية كالفاعلية والمفعولية والاضافيه والطبية اعتباطية او وضعية اي هل رفع الفاعل ونصب المفعول وخفض المضاف اليه وسكن الفعل الطلبي اتفاقاً اوهل هناك اسباب طبيعية لذنك ؟ هذا بحث دقيق يحتمل كلاماً طويلا نوافق في بعضه النحاة فنثني عليهم ويخالفهم في البعض الآخر فلستميحهم العفو . يقول النحاة ان علامات الاعراب حركات وحروف وهم يعتبرون الالف والواو والياء حروفاً . والصحيح ان الالف حركة طويلة بالنسبة الى الفتحة مثل الالف في كتاب ، وممدودة مثل الألف في سماء ومادة فهي حركة لا حرف ، واما الواو والياء فقد تكونان حركتين طويلتين بالنسبه إلى الضمة والكسرة مثل الواو والياء في عود وعيد وحركتين ممدودتين مثل الواو في وضوء والياء في مسيء وقد تكونان حرفين مثل الواو في ثوب والياء في بيت فهما من الاشكال المشتركة بين الحروف والحركات، وهما تستعملان كعلامتي اعراب تارة باعتبار انهما حركتان وتارة باعتبار انهما حرفان، وعلى ذلك فالاسماء الخمسة من المعربات بالحركات لا بالحروف ، وجمع المذكر السالم والمثنى من المعربات بالحركات الا جمع المذكر السالم من المنقوص فانه يعرب بالحروف نحو جاء المصطفون ورأيت المصطفين ومررت بالمصطفين والا المثنى في حالتي النصب والخفض نحو رأيت الرجلين و سردرت بالرجلين. وعليه فجمع المذكر السالم والمثنى من المعربات بالحركات والحروف معاً لا بالحروف وحدها كما يقول النحاة. ومما يعرب بالحروف غير المثنى وجمع المذكر السالم المنقوص الأفعال الخمسة من الفعل المضارع فاثبات النون فيها يدل على حالة ، وحذفها يدل على حالة أخرى . ولا يعرب بالحركات القصيرة ، أي الضمة والفتحة والكسرة من الاسماء غير الاسم المفرد وجمع التكسير وجمع المؤنث السالم . ويستثنى من ذلك الاسماء الخمسة في حالة الاضافة الى غير ياء المتكلم فانها تعرب بالحركات الطويلة بدلا من الحركات القصيرة. ولعل السبب في ذلك ان اللغة العربية القديمة كانت تعرب بالواو والالف والياء مثل اللغة النبطية ثم استبدلت الحركات الطويلة بحركات قصيرة للتخفيف في كل الاسماء إلا في الاسماء الخمسة فكان ذلك فيها اثراً باقياً من ذلك العهد . واما الفعل فلا نتعرض له الان بل نترك الكلام عنه الى محاضرة أخرى . اذا عرفنا علامات الاعراب يبقى علينا ان نعرف صفة كل منها ، فالضم سواء كان بالضمة ام بالواو اقوى الحركات والفحمها ، والفتح سواة كان بالفتحة ام بالالف اخف الحركات لسهولة اخراج الصوت والفم مفتوح . والخفض سواء كان بالكرة ام بالياء اثقل الحركات لما يقع من بين اخراج الصوت وخفضه، وقد تنبه النحاة الى شيء مثل هذا في مواضع مختلفة .. واللغات التي يكثر فيها الفهم تكون فخمة جزلة والتي يكثر فيها الفتح تكون خفيفة رشيقة ، والتي يكثر فيها الخفض تكون ثقيلة مستبشعة ولا تناسب الغناء لان رفع الصوت مع الضم أو الفتح اسهل منه مع الخفض ، ويكثر هذا الصوت في لغة دون ذاك لاسباب عديدة اهمها الاقليم، فالذين يسكنون الاماكن الباردة يميلون في الفاظهم الى الفم والخفض ، وبعبارة أخرى لا يفتحون افواههم خوف البرد والذين يسكنون الاماكن الحارة يميلون في الفاظهم الى الفتح استبراداً ، ولما كان العرب سكان قفر حار يعيشون في الهواء الطلق كثر الفتح في لغتهم سواء كان حركة بنائية ام حركة اعرابية ، وفي كل ذلك كلام لا يتسع لة المقام .. واما اذا كانت علامات الاعراب بالحروف فالواو في جمع الذكور السالم من المنقوص والالف في المثنى الفحم من الياء فيهما فعلامات الاعراب في الاسم تقسم بحسب ما تقدم الى ثلاثة اقسام قوية وخفيفة وثقيلة . لنأت الان الى البحث في الحالات الاعرابية .. يقول النحاة ان حالات الاسم الاعرابية ثلاث : رفع ونصب وخفض . لان الاسم لا يخلو ان يكون على رأيهم اما عمدة واما فضلة واما مشتركا بينهما، فحالة العمدة الرفع وحالة الفضلة النصب وحالة المشترك بينهما الخفض.. وماهي العمدة؟ قالوا هي مالا ينعقد الكلام بدونه كالفاعل في نحو قام زيد . وما هي الفضلة قالوا هي مازاد عن القدر المطلوب لانعقاد الكلام كالمفعول به في نحو ضرب زيد عمرا . وان لم يكن فضلة في المعنى لاحتياج العبارة اليه في اتمام المراد منها . وما هو المشترك بينهما ؟ قالوا هو ما يكون تارة مكملا للعمدة نحو جاء غلام زيد، وتارة مكملا للفضلة نحو رأيت غلام زيد ، ويقع تارة في موضع العمدة نحو سرني قدوم زيد، وتارة في موضع الفضلة نحو هذا ضارب زيد ، وقد الحقوا من العمد بالفضلات المنصوب في باب النواسخ ، وبالمضاف اليه المجرور بالحرف .. هذا ما يقوله النحاة . ولكن اذا كانت العمدة مالا ينعقد الكلام بدونه فكل جزء من الكلام عمدة لا يستغنى عنه سواء في ذلك الاسماء والافعال والحروف وسواء كان الاسم فاعلا ام مفعولا به ام مضافاً اليه ام ظرفاً ام حالا ام غير ذلك لاحتياج العبارة الى كل جزء من اجزائها في اتمام المراد منها .. واذا كانت الفضلة مازاد عن القدر المطلوب لانعقاد الكلام فاحر بذلك الزائد ان يصبح لغو ا يجب حذفه لاستغناء العبارة عنه . . واذا كان المشترك بينهما ما كان مكملا للعمدة أو للفضلة فهل التكميل حالة اعرابية ? واذ كان حالة اعرابية اما كان يجب ان تكون للاسم المكمل للعمدة علامة خصوصية غير علامته اذا كان مكملا للفضلة ليتميز الواحد عن الاخر ! ثم اذا كان يقع تارة في موضع العمدة وتارة في موضع الفضلة فلماذا لا يكون عمدة في الأول وفضلة في الثاني ؟ وهنا ليسمح لنا النحاة ان نبدي رأيا اخر . الحمر الاسم في الجملة قد يكون عمدة ليس لانه لا ينعقد الكلام بدونه بل لاحد سببين آخرین : اما لاهميته نحو الولد مجتهد الاول مسند اليه والثاني مسند و كلاهما عمدة لا يستغني الواحد عن الاخر اذ لا يكون مسند اليه بدون مسند ولا مسند بدون مسند اليه ولو تقديراً... واما لقوته بالنسبة الى غيره في الجملة نحو ضرب زيد عمراً ... أزيد وظيفتان عمل الفعل والدلالة عليه ولعمرو وظيفتان قبول اثر الفعل والدلالة عليه فلانهما يشتركان في الدلالة على الفعل خروجه من الاول ووقوعه على الثاني فهما مهمان لا يستغني الواحد عن الآخر اذ لا يكون ضارب بدون مضروب ، ولكن لان الاول عمل الفعل فهو قوي ولان الثاني وقع عليه الفعل فهو ضعيف، فهما يتساويان في الاهميه وأو لم يكن غير هذا الاعتبار لكان كلاهما عمدة ، ولكن لانهما يختلفان في القوة والضعف وجب ان ينظر اليهما باعتبار هذا الاختلاف فالقوي منهما نعتبره عمدة لقوته وليس لاهميته ، واذا حذف الضارب وبقى المضروب لم يبق دليل آخر على وقوع الفعل غيره. ولانه الدليل الوحيد فانه يكتسب أهمية فينظر اليه باعتبارها ونعده عمدة ويسقط عنه اعتبار الضعف . لاننا انما نظرنا اليه باعتبار الضعف لوجود قوي بازائه فاذا ذهب القوي لم تبق حاجة الى هذا الاعتبار وسمي نائب فاعل لانه ناب عنه في الدلالة على الفعل وليس في عمله ... وقد يكون فضلة إما لضعفه بالنسبة الى غيره كعمراً في قولنا ضرب زيد عمراً وان كان مثل زيد في الاهمية كما قدمنا ، واما لكثرة دورانه في الكلام كالحال نحو جاء زيد راكباً . والظرف نحو جاء زيد صباحاً وغير ذلك من المنصوبات .. فاذا كان الاسم عمدة اخذ العلامة القوية الاعرابية للتناسب بين اهمية الكلمة في الجملة أوقوتها وبين قوة العلامة الأعرابية ، واذا كان فضلة اختاروا له العلامة الخفيفة ولعلهم راعوا في ذلك الخفة لكثرة دوران الفضلة في الكلام .. واما ما يسمى في اصطلاح النحاة مشتر كا بينهما فأختاروا له العلامة الثقيلة لقلة دوراته على اللسان . والذي يلوح لنا إنه لم يكن للاسم في الاصل الا حالتان عمدة وفضلة ، او رفع ونصب ، وان الحالة الثالثة اي حالة الخفض طارئة على اللغة ، اوانها اثر من آثار التشويش الأعرابي ، لانه لاحاجة الى حالة ثالثة إعرابية فضلا عن أن الخفض ثقيل مستبشع .. يرفع الاسم لانه مهم او قوي، وينصب لانه ضعيف او كثير الدوران على اللسان . واما خفضة فلماذا ؟ ولنا على ذلك ادلة كثيرة . (۱) ان الفعل المضارع ، الذي يشبه الاسم في الاعراب ، يرفع وينصب ويجزم ولكنه لا يخفض . (۲) ان اكثر الاسماء نيس لها الا علامتان اعرابيتان الاولى الرفع والثانية النصب والخفض معاً كجمع المذكر السالم فتقول جاء المعلمون ورأيت المعلمين ومررت بالمعلمين ، وكالمثنى فتقول جاء المعلمان ورأيت المعلمين ومررت بالمعلمين ، وكالممنوع من الصرف فتقول جاء ابرهيم ورأيت ابرهيم ومررت بابرهيم ، وكجمع المؤنث السالم نحو جاءت المؤمنات ورأيت المؤمنات ومررت بالمؤمنات فلو كان هناك فرق بين النصب والخفض في الاعتبار لوجب ان يكون لكل منهما علامة خصوصية تميز الواحد عن الآخر في هذه الانواع من الاسم وهي كثيرة . (۳) ان الظروف التي تجر بحرف في يجوز ان يسقط حرفيا فترجع الى النصب فتقول جئت في الصباح وجئت صباحاً فلو كان الخفض لبيان حالة اعرابية لخفض الظرف بحرف جر وبدونه . ( ٤ ) ان كثيراً من الافعال المتعدية بواسطة حرف خفض قد تتعدى ينزع الخافض فينصب الاسم المخفوض بذلك الحرف على المفعونية الصريحة لان الفعل حيثذ قد وصل اليه بنفسه ومنه قول الشاعر . تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم علي اذن حرام اي تمرون على الديار فحذف الحرف ونصب المخفوض به . ولا فرق بين نصب الاسم او خفضه. واذا لم يرد نزع الخافض في بعض الافعال مثل بصرت بزيد فقد يستبدل الفعل بآخر يتعدى رأساً نحو ابصرت زيداً أو نظرته او رأيته فلو كانت الرؤية لانتم الا بالخفض لوجب ان يستعمل حرف الجر مع كل الافعال التي تدل على الرؤية .. من (٥) المفعول لاجله المخفوض بحرف التعليل نحو هربت للخوف او الخوف يجوز فيه اسقاط حرف الخفض وحينئذ يعود الى النصب فلو كان للخفض معنى اعرابي للزم المفعول لاجله الخفض سوال جر بحرف ام لا. (1) مميزكم الاستفهاميه يجوز فيه النصب على الاصل والجر بحرف من » نحوكم كتاباً قرأت وكم من كتاب قرأت، ومميز كم الخبريه يخفض على الأصل وينصب اذا فصل بينهما نحوكم صديق لي و كم لي صديقاً فالخفض والنصب متعاقبان هنا . (۷) ان بعض الظروف تلزم البناء على الفتح ولو تقدمها حرف خفض نحو من الان ، و من اين ، ولاشك ان ذلك اثر من آثار النصب حين لم يكن الخفض مستعملاً . (۸) ان قسماً مما يعتبر اليوم حرف جر كان في اصله فعلا مثل على فانها مأخوذة من علا يعلو وكذلك خلا وعدا وحاشا وهذه الثلاثة الاخيرة لاتزال الى اليوم تنصب وتخفض . (۹) ضمائر النصب والجر واحدة الا للشخص المتكلم المفرد، فتقول كتابك ورأيتك وكتابه ورأيته . الخلاصة ان الاسم لا يكون الا عمدة أو فضلة فالعمدة أخذت الرفع لانه اقوى الحالات او اشرفها كما يقول النحاة ، والفضلة كانت تنصب ثم طرأ على بعضها الخفض ، او كانت تنصب وتخفض على السواء ثم مالت اللغة الى النصب ولولا القليل لزال الخفض كما زال من الفعل المضارع والله اعلم.