معاوية بن أبي سفيان (كتاب)/تقدير وتصدير



تقدير وتصدير


التاريخ عرض الإنسانية …

والعرض مناط1 الحمد والذم في الإنسان …

وكذلك التاريخ بالقياس إلى الإنسانية في جملتها، لا يكون شيئًا إن لم يكن تقديرًا لما هو صادق أو كاذب، أو ما هو صواب أو خطأ، وما هو حميد أو ذميم، من الحوادث والناس.

وقد نذكر الحوادث توسعًا في التعبير، فإن الحوادث لا تعنينا لذاتها إن لم يكن معناها تقويمًا لأعمال وقيامًا بأعمال، أو لم يكن معناها في صيغة أخرى تعريفًا بأقدار الناس مما عملوه واستطاعوه …

وكل شيء في الحياة الإنسانية هين إذا هان الخلل في موازين الإنسانية، وإنها لأهون من ذلك إذا جاوز الأمر الخلل إلى انعكاس الأحكام، وانقلابها من النقيض إلى النقيض.

يهون كل شيء إذا هانت موازين الإنسانية؛ لأن موازين الإنسانية جماع ما عندها من الفكر والخلق والعقيدة والذوق والخيال.

ومن هوان الموازين الإنسانية أن يختل كل هذا، فلا يوثق بمحصول الإنسانية كافة في تاريخها القديم والحديث.

وأهون من ذلك ألا تختل وكفى … بل تختل وتنعكس، فيوضع فيها الذم موضع الحمد، والكذب موضع الصدق، والخداع موضع الإخلاص والإيمان …

وقد هان عرض إنسان واحد يشتريه المال أو الغرض في حياته، فماذا يقال في عرض الإنسانية الذي يشترى في الحياة وبعد الممات، ويزيف فيه الواقع للعيان، ثم يلازمه الزيف بعد ذلك مدى الأجيال على صفحات التاريخ!

ذلك أفدح مصاب تصاب به الإنسانية: إنه مصاب في عرضها، في صميم أفكارها وأخلاقها وعقائدها وأذواقها وأحلامها — في موازينها وحسب، وما من شيء يعتز به الإنسان لا يدخل في هذه الموازين.

وأوجب واجب على الإنسان لضميره أن يحمي نفسه من شر هذا المصاب الفادح، وألا يتيح لأحد أن يختلس التاريخ في حاضره ومستقبله؛ فليس البلاء هنا بلاء منفعة تفوت أو مضرة تحدث، ولكنه بلاء الزيغ2 في البصر والبصيرة، وعلينا نحن أن نصحح البصر إذا زاغ؛ لأنه نقص وعيب أو لأنه تشويه في سواء الخلقة، وإن لم يعجل منه الضرر، ولم تذهب به المنفعة …

إن تاريخ الإنسانية من أوائلها إلى حواضرها لا يملك للعاملين جزاء غير حسن التقدير، وصدق القياس لما عملوه.

وكثير على أحد أن يبتذل هذا الجزاء؛ لأنه استطاع أن يحشو بعض البطون أو بعض الجيوب، فيملك — بهذه الرشوة الرخيصة — خير ما تؤتيه الإنسانية أحدًا من أبنائها في الحياة وبعد الممات.

على أن الموازين الإنسانية لا تزيفها الرشوة المقصودة دون غيرها، ولا يختل بها غرض المنتفعين المتواطئين على تبديل الحقيقة، ذهابًا مع الأجر العاجل والعطاء المعروف.

بل تصاب هذه الموازين من النهازين أو «الوصوليين» المطبوعين، كما تصاب من النهازين المصنوعين أو المصطنعين.

فمن الناس من يحب أن تتغلب المنفعة على الفضيلة أو على الحقيقة، وإن لم يكن هو صاحب المنفعة، ولا حاضرًا لها عند انتفاع المنتفع بها.

من الناس من يحب ذلك؛ لأنه يرجع إلى طبيعته، فيشعر بحقارتها إذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة، والحقائق الصريحة.

ومنهم من يحب الناجحين بالمنافع؛ لأنه يتمنى أن ينجح على مثالهم، ولا ينكر النجاح إذا جاءه بوسيلة كوسيلتهم.

ومنهم من يبلغ بهذه الخصلة حد التعصب والغيرة العمياء؛ لأنه يكره أن يدان الناس، أو تقاس الأعمال بمقاييس المثل العليا فيلوم نفسه، ولا يقدر على التماس المعذرة لها في نقيصتها، أو في طبيعتها التي لا فكاك منها.

إذا استسلم أحدهما مع الهوى لمحاباة ولده أو ذوي قرباه لم يعذلوه أو لم يعنفوه في عذله، بل اتخذوا من ذلك شريعة يؤتم بها، وتجري الوتيرة3 عليها …

وماذا في هذا الصنيع عندهم مما يستغرب؟ كان على الرجل أن ينسى ابنه؛ ليفضل عليه الغرباء عنه؟ أليس هذا الصنيع صنيع كل إنسان في هذا المكان؟ …

يعذرون هنا بل لا يلومون، ولا ينفرون ممن يلومونه إن جاملوا «الظواهر» فلاموه.

أما خصمه المثالي فمعدود عليه أن يحابي نفسه فضلًا عن محاباة ولده، ومعدود عليه أن يهبط من السماوات العلا لحظة واحدة؛ ليشبه سائر الناس في نقيصة من النقائص أو أمل من الآمال.

ولا حاجة إلى إمعان في البحث للكشف عن خبيئة الطبيعة النهازة في هذه التفرقة بين الحكم على النفعيين والحكم على المثاليين.

إن الطبيعة النهازة لا تريد هنا أن تحكم، وأن تنصف بين خصمين.

إنها تريد أن تعذر نفسها لتقول: إن ذلك المثالي ناقص، وإن هذا النفعي يجري على العرف الشائع بين جميع الناس؛ ولهذا يتناول النهاز الميزان وهو يتعمد أن يزيد في ناحية من السيئات ويحط من الحسنات، ويتعمد في الناحية الأخرى أن يقلب الكفة، فيزيد على الحسنات ويحط من السيئات …

ويكفي أن ينسب إلى العظيم المثالي عمل من الأعمال التي لا يقدر عليها النهاز، ولا يسعى إليها ليشعر النهاز بالاختلاف والجفوة4 بينه وبين ذلك العظيم المثالي، ثم يشعر بنوع من القرابة والألفة بينه وبين خصمه، فيميل إلى سماع الأحدوثة الحسنة عن هذا، ولا يميل إلى سماعها عن ذلك، ويضطره إلى ذلك وقوفه بين طريقين: أحدهما غريب يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوف يطرقه كل يوم، أو يحب أن يطرقه غير ملوم بينه وبين دخيلته …

نعم، يكفي أن ينسب إلى العظيم المثالي عمل من الأعمال التي لا يقدر عليها النهاز ولا يسعى إليها؛ لتنفرج الهوة بينهما فلا يستريح النهاز إلى العظيم المثالي كما يستريح إلى النفعيين الناجحين.

وليس أبغض إلى الإنسان من احتقاره لنفسه.

وليس أحب إليه من اعتذاره لها عن حقارتها.

وإنك لو بحثت جهدك عن عصبية عمياء تغطي على بصر الإنسان وتملك عليه هواه، لم تجد لها علة أقوى من هذه العلة التي ينقاد لها ولا يبتغي الشفاء منها.

إنه يتعصب في كل شعور يدفع به النقص، ويمهد به العذر، وينفي عنه الإضرار إلى الإقرار بسبق السابقين له، وارتفاع المرتفعين عليه.

وإنه ليعترف بالجهل إذا استطاع أن يدعي لنفسه تعلة يسمو بها على أهل المعرفة …

وإنه ليعترف بالعجز إذا استطاع أن ينزل بالقادرين إلى «مستواه» بخديعة من خدائع النفوس.

وإنه ليعترف بالرذيلة إذا استطاع أن يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة.

وإنه ليتشبث بهذه التعلات كما يتشبث الغريق بأوهام النجاة؛ لأنه بغير هذه التعلات غريق في شعور ثقيل على جميع النفوس، وهو الشعور بالهوان …

لهذا يتعصب النهازون المطبوعون على أصحاب المثل العليا؛ لأنهم بين اثنتين: إما أن يدينوا أنفسهم بالمثل العليا، ويعملوا في السر والعلانية عمل أصحابها، وذلك مطلب عسير يصطدمون بعقباته كل يوم وكل ساعة …

وإما أن ينكروا تلك المثل العليا على أصحابها، ويتعصبوا لمن ينجح بأساليبهم أو يتمنوا النجاح بأساليبه، وذلك مطلب لا يكلفهم تغيير الطباع، وإن لم يبلغوه بفعالهم كما بلغه ذوو القدرة أمامهم من الناجحين الفعالين …

وقد عرفنا من هؤلاء أناسًا في التاريخ ما عرفناهم في الحياة الحاضرة.

عرفناهم فعرفنا عجبَا من العصبية العمياء التي تكيل بالكيلين، وتزن بالميزانين في الحادث الواحد والحقبة الواحدة.

إذا وقفوا بين خصمين أحدهما من النفعيين، ولآخر من المثاليين ـ رأيت العجب في المقياس الذي يلتمسون به المعاذير لهذا، وينكرونها على الآخر في اللحظة الواحدة ...

وتقول: «عمل من الأعمال لا يقدر عليه ولا يسعى إليه»؛ لأن هناك أناسًا لا يقدرون على العمل المثالي، ولكنهم يسعون إليه، أو يتمنونه أو يحبون أن يؤمنوا بسعيهم إليه وتمنيه، وصبرهم على مشقة هذا السعي وهذه الأمنية …

وليس هؤلاء بالنفعيين المطبوعين.

هؤلاء مثاليون تعوزهم القدرة، ولا يعوزهم الأمل في بلوغها ولا الغبطة بوجودها، وميولهم إلى جانب العظماء المثاليين أقرب وأغلب من ميولهم إلى جانب المنفعة الناجحة بالحيلة أو بكل وسيلة، والأمثلة من هؤلاء وهؤلاء كثيرة بين سواد الناس الذين لا يدخلون إلى ساحة التاريخ إلا شهودًا أو مستمعين.

فلو كان محنة التاريخ كله من النهاز المأجور لما خفيت حقائقه هذا الخفاء، ولا طال العهد على الزيف، أو الغرض المموه بالأباطيل.

وإنما المحنة الشائعة من أولئك النهازين المتطوعين الذين يقبلون العملة الزائفة ويرفضون ما عداها، ويجاهدون من يكشف هذا الزيف ويقوِّمه بقيمته الصحيحة، ثم تكثر العملة الزائفة في الأيدي حتى ليوشك أن تطرد العملة الصحيحة، وتحيطها بالريبة والحذر، ولا ينفع المحك الناقد في هذه الحالة؛ لأن المحك الناقد لم يسلم قبلها من التزييف …

 

وفي التاريخ الإسلامي مراحل كثيرة تصحح لنا موازين التاريخ التي يرتبط بها عرض الإنسانية، وربما كانت هذه المراحل أجدى على المؤرخ من غيرها في تواريخ الأمم؛ لأنها حاضرة الأخبار والروايات، حاضرة الأسباب والبواعث، ولا يخفى من شأنها غير النيات والمزاعم، وليس بالمؤرخ من تضلله النيات والمزاعم حين تشخص أمامه الأخبار والروايات، ولا تتوارى خلفها الأسباب والبواعث بحجاب كثيف …

وأسبق هذه المراحل وأضخمها مرحلة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان …

فقد اختلفت فيها الأحكام على الرجال والمناقب والأعمال، ولم تنقطع عنا أخبارهم وحوادثهم التي اتفقت عليها جميع الأقوال.

وإذا لم يرجح من أخبار هذه الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن «عليٍّ» على المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية؛ لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان. فإن الذي يعلن لعن خصمه على منابر المساجد لا يكف عن كسب الحمد لنفسه في كل مكان وبكل لسان، ولو لم يرد من أخبار تلك الفترة أن معاوية كان يغدق الأموال على الأعوان، ومن يرجى منهم العون لكان لعن خصمه على المنابر كافيًا للإبانة عما صنعه لكسب الثناء عليه، وإسكات القادحين فيه، ولكن أخبار الأموال المبذولة لتغيير الحقائق في هذه الفترة تفيض بها كتب المادحين والقادحين، ومن لا يمدحون ولا يقدحون، ولم يعلم أحد مبلغها من الوفرة والجسامة، ولكنها معلومة بالتقدير، وإن لم تعلم بالإحصاء وأرقام الحساب؛ لأنها استنفدت خزانة الدولة، وجرت إلى مضاعفة المكوس5 والضرائب، ومخالفة العهود لأهل الذمة وحسبان الزكاة من حصة الخزانة التي يستولي عليها ولاة الأمور.

ويبقى عمل النهازين المطبوعين بعد عمل النهازين المأجورين، فإنهم قد تطوعوا في ذلك العصر، وفي العصور التالية؛ لترجيح كفة النجاح المنتفع على كفة المثالية العالية، ولم يخفَ الأمر على أبناء ذلك العصر كما نشرحه الآن بأساليب علم النفس في الزمن الأخير، فإن الأقدمين لم تفتهم «النفس» بجوهرها، وإن فاتتهم مصطلحات النفسانيين من أبناء القرن العشرين، وقد نفذوا إلى بواطنهم بالنظرة الثاقبة؛ لأنهم أصحاب نفوس تعلم ما تنطوي عليه النفوس.

 

جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام ابن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية، فقال: «اعلم أن عليًّا كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيبًا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيادًا6 منهم له.»

وهذه دخيلة من دخائل النفس الصغيرة معهودة متكررة في كل جيل، وفي كل خصومة، فكثير من الثناء لا يصدر عن حب للمثني عليه كما يصدر عن حقد على غيره، وكثير من هذا الحقد تبعثه الفضائل ولا تبعثه العيوب …

إن تاريخ معاوية بن أبي سفيان لا يحتاج إلى مزيد من تفصيل، وإنما يحتاج تاريخه وتواريخ النابهين جميعًا إلى تصحيح الموازين، وبيان المداخل التي تؤتى من قبلها أحكام الناس على الحوادث والرجال، فتصاب بالخلل أو تنقلب رأسًا على عقب، ويصاب بالخلل معها تفكير المفكر، ونظرة الناظر، وإدراك المدرك لما يحيط به من حوادث زمنه وحوادث سائر الأزمنة.

ونحن نفهم تاريخ معاوية، ونفهم معه تواريخ الكثيرين من بناة الدول إذا صححنا الموازين، وعرفنا ما يعرض لها من الانحراف عن قصد أو عن شعور غير مقصود …

ولكننا لا نعرف تاريخ معاوية ولا تواريخ غيره إذا أخذنا بظواهر الأقوال، ولم ننقب وراءها عن بواطن الأهواء والبواعث الخفية، ولا بد منها في هذه المرحلة بذاتها: مرحلة الدولة الأموية الأولى على التخصيص.

لقد كان قيام الدولة الأموية بعد عصر الحلافة حادثًا جللًا بالغ الخطر في تاريخ الإسلام، وتاريخ العالم.

 

وما كان أحد ليطمع في بقاء عصر الخلافة على سنة الصديق والفاروق أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأن اطراد النسق من ولاة الأمر على هذه الطبقة العليا من الخلق والتقوى أمر تنوء به طاقة بني الإنسان.

فما كان دوام الخلافة الصديقية أو الفاروقية بمستطاع على طول الزمن، وما كان قيام الملك بعد الخلافة بالأمر الذي يؤجَّل إلى زمن بعيد.

ولكن الملك بعد الخلافة كان على مفترق طريقين: كان في الوسع أن يسير على مشابه الخلافة ملكًا بارًّا نقيًّا مصونًا من بذخ الهرقلية والكسروية، وسائر ضروب الملك في عصوره الخالية.

وكان في الوسع أن يسير على مشابه الملك في العصور الخالية بذخًا ومتاعًا، وزينة وخيلاء كخيلاء العواهل من القياصرة والشواهين.

كان في الوسع أن يبتدئ الملك في تاريخ العالم على النهج الصديقي أو الفاروقي، وإن لم يبلغ هذا المدى من النزاهة والصلاح، وكان هذا النهج خليقًا أن يظل إمامًا للرعية يتوارثونه، ويقتدون به ويحميهم نكسة الأخلاق والآداب قرونًا وراء قرون من بقايا الوثنية وأوشاب7 المادية، وما شابهها من آداب تدور على النفع العاجل، وتقبل المعاذير منه في أخطر الأمور …

كان في الوسع هذا، وكان في الوسع ذاك.

ونشأة الدولة الأموية على مفترق هذين الطريقين هي الحادث الجلل في صدر الإسلام، وهي الحادث الجلل الذي يقرر تبعتها في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ العالمي كله.

ورأس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، هو صاحب هذه التبعة التي يجب أن تتقرر بأمانتها العظمى في ميزان لا تلعب به المنافع المقصودة، أو المنافع التي هي أخطر منها على الحقيقة، وهي منافع الطبائع المستسلمة لأيسر المعاذير، يشق عليها الصعود إلى المثل الأعلى، ولو بالأمل وحسن المظنة، ويطيب لها أن تسترسل على هينة8 مع مألوفاتها في كل يوم …

 

والصفحات التالية تتناول النظر في سيرة معاوية من هذه الوجهة، فليست هي سردًا لتاريخه ولا سجلًا لأعماله ولا معرضًا لحوادث عصره، ولكنها تقدير له وإنصاف للحقيقة التاريخية والحقيقة الإنسانية كما يراها المجتهد في طلبها وتمحيصها، ونكاد نقول كما يراها من لا يجتهد في البعد عنها وإخفاء معالمها، والتوفيق بينها وبين دخيلة هواه من حيث يريد أو لا يريد، وبعض المؤرخين بعد العصر الأموي إلى زماننا هذا يفعلون ذلك حين ينظرون إلى هذه الفترة، فلا تخطئهم من أسلوبهم ولا من حرصهم على مطاوعة أهوائهم، كأنهم صنائع الدولة في إبان سلطانها وبين عطاياها المغدقة، ونكاياتها المرهوبة، ورجالها الذين تنعقد بينهم وبين معاصريهم أواصر المودة، والنسب وأواصر المشايعة في المطالب والمعاذير.

ولولا أننا نأبى أن نضرب الأمثلة بالأسماء لذكرنا من هؤلاء المؤرخين المعاصرين من يتكلم في هذا التاريخ كلامًا ينضح بالغرض، ويشف عن المحاباة بغير حجة، فمنهم من ينكر الخلاف بين هاشم وأمية في الجاهلية، ومنهم من يحسب من همة معاوية أنه تصدی للخلافة مع علي، ويحسب من المآخذ على غيره أنهم تصدوا للخلافة مع يزيد، ومنهم من يشيد بفضل أبي سفيان على العرب؛ لأنه كان تاجرًا يعرف الكتابة والحساب ويعلمهما من يستخدمهم في تجارته، ومنهم من يلوم أهل المدينة؛ لأنهم نكبوا في أرواحهم وأعراضهم على أيدي المسلطين عليهم من جند يزيد، ولا تكاد تسمع منه لومًا لأولئك المسلطين، بل تكاد تسمعه يعذرهم ولا يدري ما يصنعون غير ما صنعوه.

ولو أننا ذكرنا أسماء هؤلاء المؤرخين المعاصرين لكان تمام البيان عن منهجهم أن نشفعه9 بأطراف من تراجمهم، وألوان من مسالكهم في طلب المنفعة واللياذ بالقادرين عليها، وألوان من معاذيرهم التي يرتضونها لأنفسهم، ويوجبون على الناس أن يرتضوها لهم أو يلتمسوها لهم، وإن لم يعلنوها …

ولكننا ندع هذا التمثيل؛ لأننا في غنى عنه بما ثبت من الأمثلة المحفوظة عن زمانها، ونتخذ الشواهد من حوادثه وأقوال رجاله، ونتحرى في ذلك كله أن نصون التاريخ — نصون ذمة الإنسانية — أن يملكها من يملك الجاه والسلطان في زمن من الأزمان.

  1. 1مناط :الموضع الذي تعلق به الأشياء
  2. الزيغ :زاغ البصر :كلَّ، وزاغ الرجل: مال عن الاستقامة.
  3. الوتيرة: الطريقة المطردة يدوم عليها الشيء.
  4. الجفوة والجفاء: البعد، وترك الصلة، والغلظ في العشرة، والخرق في المعاملة.
  5. المكوس: جمع مكس، وهو دراهم تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق.
  6. كيادًا: مصدر كايده، أي: مكر به.
  7. أوشاب: عيوب.
  8. هينة: بكسر الهاء: السكينة والوقار والرفق.
  9. نشفعه: شفع العدد صيره شفا، أي: زوجًا، وأتبعه بمثله.