مقدمة ابن خلدون/الباب الثالث من الكتاب الأول (الدول العامة و الملك و الخلافة و المراتب السلطانية)

في الدول العامة و الملك و الخلافة و المراتب السلطانية و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه قواعد و متممات عدل

الفصل الأول في أن الملك و الدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل و العصبية عدل

و ذلك أنا قررنا في الفصل الأول أن المغالبة و الممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة و التذامر و استماتة كل واحد منهم دون صاحبه. ثم أن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية و الشهوات البدنية و الملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالباً و قل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة و تفضي إلى الحرب و القتال و المغالبة و شيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفاً و هذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة و متناسون له لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولها و طال أمد مرباهم في الحضارة و تعاقبهم فيها جيلاً بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة إنما يدركون أصحاب الدولة و قد استحكمت صبغتهم و وقع التسليم لهم و الاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم و لا يعرفون كيف كان الأمر من أوله و ما لقي أولهم من المتاعب دونه و خصوصاً أهل الأندلس في نسيان هذه العصبية و أثرها لطول الأمد و استغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم و خلا من العصائب و الله قادر على ما يشاء و هو بكل شيء عليم و هو حسبنا و نعم الوكيل.

الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة و تمهدت فقد تستغني عن العصبية عدل

و السبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة و أن الناس لم يألفوا ملكها و لا اعتادوه فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة و توارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين و دول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية و استحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة و رسخ في العقائد دين الانقياد لهم و التسليم و قاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل و لا يعلم خلافه و لأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها و يكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم و دولتهم المخصوصة إما بالموالي و المصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية و غيرها و إما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها و مثل هذا و قع لبني العباس فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم و ابنه الواثق و استظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم و الترك و الديلم و السلجوقية و غيرهم ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي و تقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم و ملكوها و صار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم و ملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم ثم انقرض أمرهم و زحف آخر التتار فقتلوا الخليفة و محوا رسم الدولة و كذا صنهانجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها و استمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية و بجاية و القلعة و سائر ثغور أفريقية و ربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك و اعتصم فيها و السلطان و الملك مع ذلك مسلم لهم حتى تأذن الله بانقراض الدولة و جاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحوا آثارهم و كذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها و اقتسموا خطتها و تنافسوا بينهم و توزعوا ممالك الدولة و انتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته و شمخ بأنفه و بلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك و لبسوا شارته و أمنوا ممن ينقص ذلك عليهم أو يغيره لأن الأندلس ليس بدار عصائب و لا قبائل كما سنذكره و استمر لهم ذلك كما قال ابن شرف. ‌ مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها و معتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد

فاستظهروا على أمرهم بالموالي و المصطنعين و الطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر و زناتة و غيرهم اقتداءً بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب و استبد ا بن أ بي عامر على الدولة فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس و حظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها و لم يزالوا في سلطانهم ذلك حتى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم و أزالوهم عن مراكزهم و محوا آثارهم و لم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة و حمايتها من أولها و قد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك و كلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها و إنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد و استقرار الملك في النصاب و استحكام الصبغة لأهله فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها و خلق جدتها و رجوعها إلى الاستظهار بالموالي و الصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنه إنما أدرك دول الطوائف و ذلك عند اختلال بنى أمية و انقراض عصبتها من العرب و استبداد كل أمير بقطره و كان في إيالة المستعين بن هود و ابنه المظفر أهل سرقسطة و لم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين و هلاكهم و لم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة و بقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه و يستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك لم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة و إنه لا يتم إلا لأهل العصبية فتفطن أنت له و افهم سر الله فيه و الله يؤتي ملكه من يشاء.

الفصل الثالث: في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية عدل

و ذلك أنه إذا كان لعصبية غلب كثير على الأمم و الأجيال و في نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم و انقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج و انتبذ عن مقر ملكه و منبت عزه اشتملوا عليه و قاموا بأمره و ظاهروه على شأنه و عنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه و تناوله الأمر من يد أعياصه و جزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك و خططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر و لا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته و انقياداً لما استحكم له و لقومه من صبغة الغلب في العالم و عقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها و هذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى و العبيديين بأفريقية و مصر لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية و ابتعدوا عن مقر الخلافة و سموا إلى طلبها من أيدي بنى العباس بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد مناف لبني أمية أولا ثم لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب و دعوا لأنفسهم و قام بأمرهم البرابرة مرةً بعد أخرى فأوربة و مغيلة للأدارسة و كتامة و صنهاجة و هوارة للعبيديين فشيدوا دولتهم و مهدوا بعصائبهم أمرهم و اقتطعوا من ممالك العباسيين المغرب كله ثم أفريقية و لم يزل ظل الدولة يتقلص و ظل العبيديين يمتد إلى أن ملكوا مصر و الشام والحجاز و قاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلمة و هؤلاء البرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم و إنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم و لما استحكم من الغلب لقريش و مضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها و الله يحكم لا معقب لحكمه.

الفصل الرابع: في أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق عدل

و ذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب و التغلب إنما يكون بالعصبية و اتفاق الأهواء على المطالبة و جمع القلوب و تأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم و سره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل و الميل إلى الدنيا حصل التنافس و فشا الخلاف و إذا انصرفت إلى الحق و رفضت الدنيا و الباطل و أقبلت على الله اتحدت و جهتها فذهب التنافس و قل الخلاف و حسن التعاون و التعاضد و اتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه و تعالى و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها عدل

و السبب في ذلك كما قدمناه أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس و التحاسد الذي في أهل العصبية و تفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة و المطلوب متساو عندهم و هم مستميتون عليه و أهل الدولة التي هم طالبوها إن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل و تخاذلهم لتقية الموت حاصل فلا يقاومونهم و إن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم و يعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف و الذل كما قدمناه و هذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسية و اليرموك بضعةً و ثلاثين ألفاً في كل معسكر و جموع فارس مائة و عشرين ألفاً بالقادسية و جموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين و هزموهم و غلبوهم على ما بأيديهم و اعتبر ذلك أيضاً في دولة لمتونة و دولة الموحد ين فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد و العصبية أو يشف عليهم إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار و الاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء و اعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين و فسدت كيف ينتقض الأمر و يصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها و لو كانوا أكثر عصبية منها و أشد بداوةً و اعتبر هذا في الموحدين مع زناتة لما كانت زناتة أبدى من المصامدة و أشد توحشاً و كان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها و تضاعفت قوة عصبيتهم بها فغلبوا على زناتة أولاً و استتبعوهم و أن كانوا من حيث العصبية و البداوة أشد منهم فلما خلوا من تلك الصبغة الدينية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب و غلبوهم على الأمر و انتزعوه منهم و الله غالب على أمره.

الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم عدل

و هذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية و في الحديث الصحيح كما مر: ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه و إذا كان هذا في الأنبياء و هم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية و قد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية و صاحب كتاب خلع النعلين في التصوف ثار بالأندلس داعياً إلى الحق و سمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين و لم تكن هناك عصائب و لا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم و دخل في دعوتهم و تابعهم من معقله بحصن أركش و أمكنهم من ثغره و كان أول داعية لهم بالأندلس و كانت ثورته تسمى ثورة المرابطين و من هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة و الفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة و سلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر و النهي عنه و الأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم و المتلثلثون بهم من الغوغاء و الدهماء و يعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك و أكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم و إنما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلى الله عليه و سلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و أحوال الملوك و الدول راسخة قوية لا يزحزحها و يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل و العشائر كما قدمناه و هكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة و السلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر و العصائب و هم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة و الله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب و كان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك و أما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر إن تعوقه العوائق و تنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه و إعانته و الإخلاص له و النصيحة للمسلمين و لا يشك في ذلك مسلم و لا يرتاب فيه ذو بصيرة و أول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين و قعت فتنة طاهر و قتل الأمين و أبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق ثم عهد لعلي بن موسى الرضى من آل الحسين فكشف بنو العباس عن. وجه النكير عليه و تداعوا للقيام و خلع طاعة المأمون و الاستبدال منه و بويع إبراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغداد و انطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار و الحربية على أهل العافية و الصون و قطعوا السبيل و امتلأت أيديهم من نهاب الناس و باعوها علانية في الأسواق و استعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدين و الصلاح على منع الفساق و كف عاديتهم و قام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فأجابه خلق و قاتل أهل الزعارة فغلبهم و أطلق يده فيهم بالضرب و التنكيل ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري و يكنى أبا حاتم و علق مصحفاً في عنقه و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و العمل بكتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم فاتبعه الناس كافةً من بين شريف و وضيع من بنى هاشم فمن دونهم و نزل قصر طاهر و أتخذ الديوان و طاف ببغداد و منع كل من أخاف المارة و منع الخفارة لأولئك الشطار و قال له خالد الدريوس أنا لا أعيب على السلطان فقال له سهل لكني أقاتل كل من خالف الكتاب و السنة كائناً من كان و ذلك سنة إحدى و مائتين و جهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه و أسره و انحل أمره سريعاً و ذهب و نجا بنفسه ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق و لا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية و لا يشعرون بمغبة أمرهم و مآل أحوالهم و الذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون و إما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً و إما إذاعة السخرية منهم و عدهم من جملة الصفاعين و قد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له و ليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي و لا ما هو و أكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسةً امتلأت بها جوانحهم و عجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك و لا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة و تسوء عاقبة مكرهم و قد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك و زعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك و أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش ثم خشي رؤساؤهم أتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه و كذلك خرج في غماره أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس و ادعى مثل هذه الدعوة و اتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل و أغمارهم و زحف إلى بادس من أمصارهم و دخلها عنوة. ثم قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته و مضى في الهالكين الأولين و أمثال ذلك كثير و الغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها و أما إن كان التلبيس فأحرى أن لا يتم له أمر و أن يبوء بإثمه و ذلك جزاء الظالمين و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب غيره و لا معبود سواه.

الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك و الأوطان لا تزيد عليها عدل

و السبب في ذلك أن عصابة الدولة و قومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصاً على الممالك و الثغور التي تصير إليهم و يستولون عليها لحمايتها من العدو و إمضاء أحكام الدولة فيها من جباية و ردع و غير ذلك فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور و الممالك فلا بد من نفاد عددها و قد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة و تخماً لوطنها و نطاقاً لمركز ملكها فإن تكفلت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها بقى دون حاميةً و كان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو و المجاور و يعود وبال ذلك على الدولة بما يكون فيه من التجاسر و خرق سياج الهيبة و ما كانت العصابة موفورة و لم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور و النواحي بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية حتى ينفسح نطاقها إلى غايته و العلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية و كل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها و الدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف و النطاق و إذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت و أقصرت عما وراءه شأن الأشعة و الأنوار إذا انبعثت من المراكز و الدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه ثم إذا أدركها الهرم و الضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف و لا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز و إذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف و النطاق بل تضمحل لوقتها فأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح فإذا غلب على القلب و ملك انهزم جميع الأطراف و انظر هذا في الدولة الفارسية كان مركزها المدائن فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع و لم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه و بالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية و غلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية و لم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأذن الله بانقراضه و انظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام و العراق و مصر لأسرع وقت ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند و الحبشة و أفريقية و المغرب ثم إلى الأندلس فلما تفرقوا حصصاً على الممالك و الثغور و نزلوها حامية و نفد عددهم في تلك التوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد و انتهى أمر الإسلام و لم يتجاوز تلك الحدود و منها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها و كذا كان حال الدول من بعد ذلك كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة و عند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح و الاستيلاء سنة الله في خلقه.

الفصل الثامن في أن عظم الدولة و اتساع نطاقها و طول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة عدل

و السبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية و أهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة و أقطارها و ينقسمون عليها فما كان من الدولة العامة قبيلها و أهل عصابتها أكثر كانت أقوى و أكثر ممالك و أوطاناً و كان ملكها أوسع لذلك و اعتبر ذلك بالدولة الإسلامية لما ألف الله كلمة العرب على الإسلام و كان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه و سلم مائة ألف و عشرة آلاف من مضر و قحطان ما بين فارس و راجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فلما توجهوا لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمىً و لا وزر فاستبيح حمى فارس و الروم أهل الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم و الترك بالمشرق و الإفرنجة و البربر بالمغرب و القوط بالأندلس و خطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى و من اليمن إلى الترك بأقصى الشمال و استولوا على الأقاليم السبعة ثم انظر بعد ذلك دولة صنهاجة و الموحدين مع العبيديين قبلهم لما كان كتامة القائمين بدولة العبيديين أكثر من صنهاجة و من المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا أفريقية و المغرب و الشام و مصر و الحجاز ثم انظر بعد ذلك دولة زناتة لما كان عددهم أقل من المصامدة قصر ملكهم عن ملك الموحدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة فمذ أول أمرهم ثم اعتبر بعد ذلك حال الدولتين لهذا العهد لزناتة بنى مرين و بني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها و أسع نطاقاً و كان لهم عليهم الغلب مرة بعد أخرى. يقال أن عدد بني مرين لأول ملكهم كان ثلاثة آلاف و أن بني عبد الواد كانوا ألفاً إلا أن الدولة بالرفه و كثرة التابع كثرت من أعدادهم و على هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون أتساع الدولة و قوتها و أما طول أمدها أيضاً فعلى تلك النسبة لأن عمر الحادث من قوة مزاجه و مزاج الدول إنما هو بالعصبية فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعاً لها و كان أمد العمر طويلاً و العصبية إنما هي بكثرة العدد و وفوره كما قلناه و السبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدةً عن مركزها و كثيرةً و كل نقص يقع فلا بد له من زمن فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك و اختصاص كل واحد منها بنقص و زمان فيكون أمدها أطول الدول لا بنو العباس أهل المركز و لا بنو أمية المستبدون بالأندلس و لم ينقص أمر جميعهم إلا بعد الأربعمائة من الهجرة و دولة العبيديين كان أمدها قريباً من مائتين و ثمانين سنة و دولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معز الدولة أمر أفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة إلى حين استيلاء الموحدين على القلعة و بجاية سنة سبع و خمسين و خمسمائة و دولة الموحدين لهذا العهد تناهز مائتين و سبعين سنة و هكذا نسب الدول في أعمارها على نسبة القائمين بها سنة الله التي قد خلت في عباده.

الفصل التاسع في أن الأوطان كثيرة القبائل و العصائب قل أن تستحكم فيها دولة عدل

و السبب في ذلك اختلاف الآراء و الأهواء و أن وراء كل رأي منها و هوىً عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة و الخروج عنها في كل وقت و أن كانت ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعةً و قوة و انظر ما و قع من ذلك بأفريقية و المغرب منذ أو ل الإسلام و لهذا العهد فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل و عصبيات فلم يغن فيهم الغلب الأول الذي كان لابن أبى سرح عليهم و على الإفرنجة شيئاً و عاودوا بعد ذلك الثورة و الردة مرةً بعد أخرى و عظم الإثخان من المسلمين فيهم و لما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة و الخروج و الأخذ بدين الخوارج مرات عديدةً قال ابن أبي زيد ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة و لم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده و هذا معنى ما ينقل عن عمر أن أفريقة مفرقة لقلوب أهلها إشارةً إلى ما فيها من كثرة العصائب و القبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان و الانقياد و لم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة و لا الشام إنما كانت حاميتها من فارس و الروم و الكافة دهماء أهل مدن و أمصار فلما غلبهم المسلمون على الأمر و انتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع و لا مشاق و البربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحص و كلهم بادية و أهل عصائب و عشائر و كلما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها و إلى دينها من الخلاف و الردة فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن أفريقية و المغرب و كذلك كان الأمر بالشام لعهد بني إسرائيل كان فيه من قبائل فلسطين و كنعان و بني عيصو و بني مدين و بني لوط و الروم و اليونان و العمالقة و أكريكش و النبط من جانب الجزيرة و الموصل ما لا يحصى كثرة و تنوعا في العصبية فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم و رسوخ أمرهم و اضطرب عليهم الملك مرة بعد أخرى و سرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم و خرجوا عليه و لم يكن لهم ملك موطد سائر أيامهم إلى أن غلبهم الفرس ثم يونان ثم الروم آخر أمرهم عند الجلاء و الله غالب على أمره و بعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها و يكون سلطانها وازعا لقلة الهرج و الانتقاض و لا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر و الشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل و العصبيات كأن لم يكن الشام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدعة و الرسوخ لقلة الخوارج و أهل العصائب إنما هو سلطان و رعية و دولتها قائمة بملوك الترك و عصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد و ينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت و الخلافة مسماة للعباسي من أعقاب الخلفاء ببغداد و كذا شأن الأندلس لهذا العهد فإن عصبية ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأول دولتهم بقوية و لا كانت كرات إنما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدولة الأموية بقوا من ذلك القلة و ذلك أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منهم و ملكهم البربر من لمتونة و الموحدين سئموا ملكتهم و ثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضاءهم و أمكن الموحدون و السادة في آخر الدولة كثيرا من الحصون للطاغية في سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبية القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة و الأمصار بعض الشيء و رسخوا في العصبية مثل ابن هود و ابن الأحمر و ابن مردنيش و أمثالهم فقام ابن هود بالأمر و دعا بدعوة الخلافة العباسية بالمشرق و حمل الناس على الخروج على الموحدين فنبذوا إليهم العهد و أخرجوهم و استقل ابن هود بالأمر في الأندلس ثم سما ابن الأحمر للأمر و خالف ابن هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب أفريقية من الموحدين و قام بالأمر و تناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا يسمون الرؤساء و لم يحتج لأكثر منهم لقلة العصائب بالأندلس و إنها سلطان و رعية ثم استظهر بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على المثاغرة و الرباط ثم سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثل أمره و رسخ و ألفته النفوس و عجز الناس عن مطالبته و ورثة أعقابه لهذا العهد فلا تظن أنه بغير عصابة فليس كذلك و قد كان مبدأه بعصابة إلا أنها قليلة و على قدر الحاجة فإن قطر الأندلس لقلة العصائب و القبائل فيه يغني عن كثرة العصبية في التغلب عليهم و الله غني عن العالمين.

الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد عدل

و ذلك أن الملك كما قدمناه إنما هو بالعصبية و العصبية متألفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها و تستولي عليها حتى تصيرها جميعاً في ضمنها و بذلك يكون الاجتماع و الغلب على الناس و الدول و سره أن العصبية العامة للقبيل هي مثل المزاج للمتكون و المزاج إنما يكون عن العناصر و قد تبين في موضعه أن العناصر إذا اجتمعت متكافئةً فلا يقع منها مزاج أصلاً بل لا بد من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها و تؤلفها و تصيرها عصبيةً واحدةً شاملةً لجميع العصائب و هي موجودة في ضمنها و تلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت و رئاسة فيهم، و لا بد من أن يكون واحد منهم رئيساً لهم غالباً عليهم فيتعين رئيساً للعصابات كلها لغلب منبته لجميعها و إذا تعين له ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر و الأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة و المشاركة في استتباعهم و التحكم فيهم و يجئ خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فتجدع حينئذ أنوف العصبيات و تفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم و تقرع عصبيتهم عن ذلك و ينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة و لا جملاً فينفرد بذلك المجد بكليته و يدفعهم عن مساهمته و قد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة و قد لا يتم إلا للثاني و الثالث على قدر ممانعة العصبيات و قوتها إلا أنه أمر لابد منه في الدول سنة الله التي قد خلت في عباده و الله تعالى أعلم.

الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف عدل

و ذلك أن الأمة إذا تغلبت و ملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها و نعمتها فتكثر عوائدهم و يتجاوزون ضرورات العيش و خشونته إلى نوافله و رقته و زينته و يذهبون إلى أتباع من قبلهم في عوائدهم و أحوالهم و تصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها و ينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم و الملابس و الفرش و الآنية و يتفاخرون في ذلك و يفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطيب و لبس الأنيق و ركوب الفاره و يناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة و على قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك و ترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية التي للدولة إلى أن تبلغها بحسب قوتها و عوائد من قبلها سنة الله في خلقه و الله تعالى أعلم.

الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة و السكون عدل

و ذلك أن الأمة لا يحصل لها الملك إلا بالمطالبة و المطالبة غايتها الغلب و الملك و إذا حصلت الغاية انقضى السعي إليها قال الشاعر: عجبت لسعي الدهر بيني و بينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه و آثروا الراحة و السكون و الدعة و رجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني و المساكن و الملابس فيبنون القصور و يجرون المياه و يغرسون الرياض و يستمتعون بأحوال الدنيا و يؤثرون الراحة على المتاعب و يتأنقون في أحوال الملابس و المطاعم و الآنية و الفرش ما استطاعوا و يألفون ذلك و ويورثونه من بعدهم من أجيالهم و لا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذن الله بأمره و هو خير الحاكمين و الله تعالى أعلم.

الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد و حصول الترف و الدعة أقبلت الدولة على الهرم عدل

و بيانه من وجود الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه و مهما كان المجد مشتركاً بين العصابة و كان سعيهم له واحداً كانت هممهم في التغلب على الغير و الذب عن الحوزة أسوةً في طموحها و قوة شكائمها و مرماهم إلى العز جميعاً يستطيبون الموت في بناء مجدهم و يؤثرون الهلكة على فساده و إذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم و كبح من أعنتهم و استأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو و فشل ربحهم و رئموا المذلة و الاستعباد ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجراً من السلطان لهم عن الحماية و المعونة لا يجري في عقولهم سواه و قل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهناً في الدولة و خضداً من الشوكة و تقبل به على مناحي الضعف و الهرم لفساد العصبية بذهاب البأس من أهلها. و الوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه فتكثر عوائدهم و تزيد نفقاتهم على أعطياتهم و لا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك و المترف يستغرق عطاءه بترفه ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف و عوائده و تمسهم الحاجة و تطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو و الحروب فلا يجدون وليجةً عنها فيوقعون بهم العقوبات و ينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم و صنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم و يضعف صاحب الدولة بضعفهم و أيضاً إذا كثر الترف في الدولة و صار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم و نفقاتهم احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم و يزيح عللهم و الجباية مقدارها معلوم و لا تزيد و لا تنقص و أن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً فإذا وزعت الجباية على الأعطيات و قد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم و كثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات ثم يعظم الترف و تكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية و ثالثاً و رابعاً إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد فتضعف الحماية لذلك و تسقط قوة الدولة و يتجاسر عليها من يجاوزها من الدول أو من هو تحت يديها من القبائل و العصائب و يأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته و أيضاً فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر و السفسفة و عوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك و دليلاً عليه و يتصفون بم يناقضها من خلال الشر فيكون علامة على الإدبار و الانقراض بما جعل من ذلك في خليقته و تأخذ الدولة مبادئ العطب و تتضعضع أحوالها و تنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضي عليها. الوجه الثالث أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه و إذا اتخذوا الدعة و الراحة مؤلفاً و خلقاً صار لهم ذلك طبيعةً و جبلةً شأن العوائد كلها و إيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش و مهاد الترف و الدعة و ينقلب خلق التوحش و ينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس و تعود الافتراس و ركوب البيداء و هداية القفر فلا يفرق بينهم و بين السوقة من الحضر إلا في الثقافة و الشارة فتضعف حمايتهم و يذهب بأسهم و تنخضد شوكتهم و يعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف و الحضارة و السكون و الدعة و رقة الحاشية في جميع أحوالهم و ينغمسون فيها و هم في ذلك يبعدون عن البداوة و الخشونة و ينسلخون عنها شيئاً فشيئاً و ينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية و المدافعة حتى يعودوا عيالاً على حامية أخرى أن كانت لهم و اعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحاً من غير ريبة و ربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف و الراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً و شيعةً من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب و أقدر على معاناة الشدائد من الجوع و الشظف و يكون ذلك دواءً للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره و هذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فإن غالب جندها الموالى من الترك فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً و جنداً فيكونون أجراً على الحرب و أصبر على الشظف من أبناء المماليك الذين كانوا قبلهم و ربوا في ماء النعيم و السلطان و ظله و كذلك في دولة الموحدين بأفريقية فإن صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة و العرب ويستكثر منهم و يترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك غفراً آخر سالماً من الهرم و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص عدل

إعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء و المنجمون مائة وعشرون سنةً و هي سنو القمر الكبرى عند المنجمين و يختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا و ينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامة و بعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها و أعمار هذه الملة ما بين الستينن إلى السبعين كما في الحديث و لا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة و عشرون إلا في الصور النادرة و على الأوضاع الغريبة من الفلك كما و قع في شأن نوح عليه السلام و قليل من قوم عاد و ثمود. و أما أعمار الدول أيضاً و إن كانت تختلف بحسب القرانات إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال و الجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو و النشوء إلى غايته قال تعالى: حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة و لهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل و يؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بنى إسرائيل و أن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء و نشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل و لا عرفوه فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد و إنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة و خشونتها و توحشها من شظف العيش و البسالة و الافتراس و الاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظةً فيهم فحدهم مرهف و جانبهم مرهوب و الناس لهم مغلوبون و الجيل الثاني تحول حالهم بالملك و الترفه من البداوة إلى الحضارة و من الشظف إلى الترف و الخصب و من الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به و كسل الباقين عن السعي فيه و من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء و تؤنس منهم المهانة و الخضوع و يبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول و باشروا أحوالهم و شاهدوا اعتزازهم و سعيهم إلى المجد و مراميهم في المدافعة و الحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية و إن ذهب منه ما ذهب و يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم و أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة و الخشونة كأن لم تكن و يفقدون حلاوة العز و العصبية بما هم فيه من ملكة القهر و يبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم و غضارة العيش فيصيرون عيالاً على الدولة و من جملة النساء و الولدان المحتاجين للمدافعة عنهم و تسقط العصبية بالجملة و ينسون الحماية و المدافعة و المطالبة و يلبسون على الناس في الشارة و الزي و ركوب الخيل و حسن الثقافة يموهون بها و هم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة و يستكثر بالموالى و يصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يتأذن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة و تخلفها و لهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد و الحسب إنما هو أربعة آباء و قد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظافر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الإنصاف و هذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة و عشرون سنة على ما مر و لا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلا أن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً و الطالب لم يحضرها و لو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً و لا يستقدمون فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزايد إلى سن الوقوف ثم إلى سن الرجوع و لهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة و هذا معناه فأعتبره و اتخذ منه قانوناً يصحح لك عدد الآباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم و كانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك فعد لكل مائة من السنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود عددهم فهو صحح و إن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النسب و أن زادت بمثله فقد سقط واحد و كذلك تأخذ عدد السنين من عددهم إذا كان محصلاً لديك فتأمله تجده في الغالب صحيحاً و الله يقدر الليل و النهار.

الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة عدل

اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصيبة و بما يتبعها من شدة البأس و تعود الافتراس و لا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه و اتساع الأحوال و الحضارة إنما هي تفنن في الترف و إحكام الصنائع المستعملة في وجوهه و مذاهبه من المطابخ و الملابس و المباني و الفرش و الأبنية و سائر عوائد المنزل و أحواله فلكل واحد منها صنائع في استجادته و التأنق فيه تختص به و يتلو بعضها بعضاً و تتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات و الملاذ والتنعم بأحوال الترف و ما تتلون به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك و أهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة و أحوالها للدولة السابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، و منهم في الغلب يأخذون، و مثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح و ملكوا فارس و الروم و استخدموا بناتهم و أبناءهم و لم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً و عثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً و مثال ذلك كثير فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم و استعملوهم في مهنهم و حاجات منازلهم و اختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك و القومة عليهم أفادوهم علاج ذلك و القيام على عمله و التفنن فيه مع ما حصل لهم من أتساع العيش و التفنن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك و تطوروا بطور الحضارة و الترف في الأحوال و استجادة المطاعم و المشارب و الملابس و المباني و الأسلحة و الفرش و آلانية و سائر الماعون و الخرثي و كذلك أحوالهم في أيام المباهاة و الولائم و ليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية و انظر ما نقلة المسعودي و الطبري و غيرهما في أعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل و ما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح و ركب إليها في السفين و ما انفق في أملاكها و ما نحلها المأمون و أنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنة أن الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون فنثر على الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثةً على الرقاع بالضياع و العقار مسوغة لمن حصلت في يده يقع لكل واحد منهم ما أداه إليه الاتفاق و البخت و فرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة آلاف و فرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك و منه أن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت و أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من و هو رطل و ثلثان و بسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر و الياقوت و قال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر: كأن صغرى و كبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب و أعد بدار الطبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة و أربعين بغلاً مدة عام كامل ثلاث مرات في كل يوم و فني الحطب لليلتين و أوقدوا الجريد يصبون عليه الزيت و أوعز إلى النواتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم و كثير من هذا و أمثاله و كذلك عرس المأمون بن ذي النون بطليطلة نقلة ابن سام في كتاب الذخيرة و ابن حيان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملةً لفقدان أسبابه و القائمين على صنائعه في غضاضتهم و سذاجتهم يذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس و قال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى و قد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة أربعاً على كل واحد و تحمله أربع و صائف و يجلس عليه أربعة من الناس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها و وصفائها فقال الحجاج يا غلام انحر الجزر و أطعم الناس و علم أنه لا يستقل بهذه الأبهة و كذلك كانت. و من هذا الباب أعطية بنى أمية و جوائزهم فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم ثم كانت الجوائز في دولة بنى العباس و العبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال و تخوت الثياب و إعداد الخيل بمراكبها و هكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بأفريقية و كذا بنى طفج بمصر و شأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس و الموحدين كذلك و شأن زناتة مع الموحدين و هلم جراً تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية و بني العباس و انتقلت حضارة بنى أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين و زناتة لهذا العهد و انتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك ثم إلى السلجوقية ثم إلى الترك المماليك بمصر و التتر بالعراقين و على قدر عظم لدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف و الترف من توا بع الثروة و النعمة و الثروة و النعمة من توابع الملك و مقدار ما يستولي عليه أهل الدولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله فاعتبره و تفهمه و تأمله تجده صحيحاً في العمران و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.

الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها عدل

و السبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك و الترف كثر التناسل و الولد والعمومية فكثرت العصابة و استكثروا أيضاً من الموالى و الصنائع و ربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم و الرفه فازدادوا به عدداً إلى عددهم و قوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد فإذا ذهب الجيل الأول و الثاني و أخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع و الموالى بأنفسهم في تأسيس الدولة و تمهيد ملكها لأنهم ليس لهم من الأمر شيء إنما كانوا عيالاً على أهلها و معونةً لها فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب و يتلاشى و لا تبقى الدولة على حالها من القوة. و اعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام.كان عدد العرب كما قلنا لعهد النبؤة و الخلاقة مائة و خمسين ألفا و ما يقاربها من مضر و قحطان و لما بلغ الترف مبالغة قي الدولة و توفر نموهم بتوفر النعمة و استكثر الخلفاء من الموالى و الصنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه يقال إن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف و لا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية و القاصية شرقاً و غرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك و الموالى والمصطنعين و قال المسعودي أحصى بنو العباس ابن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران و إناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مائتي سنة و اعلم أن سببه الرفه و النعيم الذي حصل للدولة و ربى فيه أجيالهم و إلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا و لا قريبا منة و الله الخلاق العليم.

الفصل السابع عشر في أطوار الدولة و اختلاف أحوالها و خلق أهلها باختلاف الأطوار عدل

اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة و حالات متجددة و يكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور لا يكون مثله في الطور الآخر لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه و حالات الدولة و أطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. الطور الأول طور الظفر بالبغية و غلب المدافع و الممانع و الاستيلاء على الملك و انتزاعه من أيدي الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد و جباية المال و المدافعة عن الحوزة و الحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطور الثاني طور الاستبداد على قومه و الانفراد دونهم بالملك و كبحهم عن التطاول للمساهمة و المشاركة و يكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال و اتخاذ الموالى و الصنائع و الاستكثار من ذلك لجدع الموت أهل عصبيته و عشيرته المقاسمين له في نسبة الضاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر و يصدهم عن موارده و يردهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه و يفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعانى من مدافعتهم و مغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم و هذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد فيركب صعباً من الأمر. الطور الثالث طور الفراغ و الدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال و تخليد الآثار و بعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية و ضبط الدخل و الخرج و إحصاء النفقات و القصد فيها و تشييد المباني الحافلة و المصانع العظيمة و الأمصار المتسعة و الهياكل المرتفعة و إجازة الوفود من أشراف الأمم و وجوه القبائل و بث المعروف في أهله هذا مع التوسعة على صنائعه و حاشيته في أحوالهم بالمال و الجاه واعتراض جنوده و إدرار أرزاقهم و إنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم و شكثهم و شاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة و يرهب الدول المحاربة و هذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم بانون لعزهم موضحون الطرق لمن بعدهم. طور القنوع و المسالمة و يكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه سلماً لأنظاره من الملوك و أقتاله مقلداً للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل و يقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء و يرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره و أنهم أبصر بما بنوا من مجده. الطور الخامس طور الإسراف و التبذير و يكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات و الملاذ و الكرم على بطانته و في مجالسه و اصطناع أخدان السوء و خضراء الدمن و تقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها و لا يعرفون ما يأتون منها يذرون منها مستفسداً لكبار الأولياء من قومه و صنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه و يتخاذلوا عن نصرته مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته و حجب عنهم وجه مباشرته و تفقده فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون و هادماً لما كانوا يبنون و في هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم و يستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه و لا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها و الله خير الوارثين.

الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها عدل

و السبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً و على قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدولة و هياكلها العظيمة فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة و اجتماع الأيدي على العمل بالتعاون فيه فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك و الرعايا كان الفعلة كثيرين جداً و حشروا من آفاق الدولة و أقطارها فتم العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد و ثمود و ما قصة القرآن عنهما. و انظر بالمشاهدة إيوان كسرى و ما أقتدر فيه الفرس حتى أنه عزم الرشيد على هدمه و تخريبه فتكاءد عنه و شرع فيه ثم أدركه العجز و قصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم و البناء في السهولة. تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين و انظر إلى بلاط الوليد بدمشق و جامع بنى أمية بقرطبة و القنطرة التي على واديها كذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها آثار شرشال بالمغرب و الأهرام بمصر و كثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلف الدول في القوة و الضعف و اعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام و اجتماع الفعلة و كثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل و المصانع و لا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها و أقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل و الآثار و لقد ولع القصاص بذلك و تغالوا فيه و سطروا عن عاد و ثمود و العمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر و يشويه إلى الشمس و يزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة و أنها شديدة فيما قرب منها و لا يعلمون أن الحر هو الضوء و أن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك و إذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب و أن الشمس في نفسها لا حارة و لا باردة و أنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له. و كذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام و أطوال بني إسرائيل و جسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنها وإن خربت و جددت لم تزل المحافظة على أشكالها و مقادير أبوابها و كيف يكون التفاوت بين عوج و بين أهل عصره بهذا المقدار و إنما مثارغلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم و لم يفهموا حال الدول في الاجتماع و التعاون و ما يحصل بذلك و بالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوة الأجسام و شدتها بعظم هياكلها و ليس الأمر كذلك. و قد زعم المسعودي و نقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم و هو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة و نهاية القوة و الكمال و كانت الأعمار أطول و الأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة فإن طروء الموت أنما هو بانحلال القوى الطبيعية فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال و انقراض العالم و هذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه و ليس له علة طبيعية و لا سبب برهاني و نحن نشاهد مساكن الأولين و أبوابهم و طرقهم فيما أحدثوه من البنيان و الهياكل و الديار و المساكن كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر بيوتاً صغاراً و أبوابها ضيقة و قد أشار صلى الله عليه و سلم إلى أنها ديارهم و نهى عن استعمال مياههم و طرح ما عجن به و أهرق و قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين يصيبكم ما أصابهم. و كذلك أرض عاد و مصر و الشام و سائر بقاع الأرض شرقاً و غرباً و الحق ما قررناه و من آثار الدول أيضاً حالها في الأعراس و الولائم كما ذكرناه في وليمة بوران و صنيع الحجاج و ابن ذي النون و قد مر ذلك كله. و من آثارها أيضاً عطايا الدول و أنها تكون على نسبتها و يظهر ذلك فيها و لو أشرفت على الهرم فإن الهمم التي لأهل الدولة تكون على نسبة قوة ملكهم و غلبهم للناس و الهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة و اعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذهب و الفضة و الأعبد و الوصائف عشراً عشراً و من كرش العنبر واحدة و أضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب و إنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس و إنما حمله على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض و الغلب على الأمم في العراقين و الهند و المغرب و كان الصنهاجيون بأفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنما يعطونهم المال أحمالاً و الكساء تخوتاً مملوءةً و الحملان جنائب عديدة. و في تاريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة و كذلك كان عطاء البرامكة و جوائزهم و نفقاتهم و كانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية و النعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم و أخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة و هي كلها على نسبة الدول جارية هذا جوهر الصقلبي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال و لا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا. و كذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة غلات السواد سبع و عشرون ألف ألف درهم مرتين و ثمانمائة ألف درهم و من الحلل النجرانية مائتا حلة و من طين الختم مائتان و أربعون رطلاً كنكر أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و ستمائة ألف درهم كورد جلة عشرون ألف ألف درهم و ثمانية دراهم حلوان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و ثمانمائة ألف درهم الأهواز خمسة و عشرون ألف درهم مرة و من السكر ثلاثون ألف رطل فارس سبعة و عشرون ألف ألف درهم و من ماء الورد ثلاثون ألف قارورة و من الزيت الأسود عشرون ألف رطل كرمان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و مائتا ألف درهم و من المتاع اليماني خمسمائة ثوب و من التمر عشرون ألف رطل مكران أربعمائة ألف درهم مرة السند و ما يليه أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و خمسمائة ألف درهم و من العود الهندي مائة و خمسون رطلاً سجستان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و من الثياب المعينة ثلثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلاً خراسان ثمانية و عشرون ألف ألف درهم مرتين و من نقر الفضة ألفا نقرة و من البراذين أربعة آلاف و من الرقيق ألف رأس. و من المتاع عشرون ألف ثوب و من الإهليلج ثلاثون ألف رطل جرجان اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين و من الإبريسم ألف شقة. قومس ألف ألف مرتين و خمسمائة من نقر الفضة طبرستان و الروبان و نهاوند ستة آلاف ألف مرتين و ثلائمائة ألف و من الفرش الطبري ستمائة قطعة و من الأكسية مائتان و من الثياب خمسمائة ثوب و من المناديل ثلاثمائة و من الجامات ثلاثمائة الري اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين و من العسل عشرون ألف رطل همذان أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و ثلاثمائة ألف و من رب الرمان ألف رطل و من العسل اثنا عشر ألف رطل ما بين البصرة و الكوفة عشرة آلاف ألف درهم مرتين و سبعمائة ألف درهم ماسبذان والدينار أربعة آلاف ألف درهم مرتين شهر زور ستة آلاف ألف درهم مرتين و سبعمائة ألف درهم الموصل و ما يليها أربعة و عشرون ألف ألف درهم مرتين و من العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل أذربيجان أربعة آلاف ألف درهم مرتين الجزيرة و ما يليها من أعمال الفرات أربعة و ثلاثون ألف ألف درهم مرتين و من الرقيق ألف رأس و من العسل اثنا عشر ألف زق و من البزاة عشرة و من الأكسية عشرون أرمينية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين و من البسط المحفور عشرون و من الزقم خمسمائة و ثلاثون رطلاً و من المسايج السور ما هي عشرة آلاف رطل و من الصونج عشرة آلاف رطل و من البغال مائتان و من المهرة ثلاثون قنسرين أربعمائة ألف دينار و من الزيت ألف حمل دمشق أربعمائة ألف دينار و عشرون ألف دينار و الأردن سبعة و تسعون ألف دينار فلسطين ثلاثمائة ألف دينار و عشرة آلاف دينار و من الزيت ثلاثمائة ألف رطل مصر ألف ألف دينار و تسعمائة ألف دينار و عشرون ألف دينار. برقة ألف ألف درهم مرتين. أفريقية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين و من البسط مائة و عشرون. اليمن ثلاثمائة ألف دينار و سبعون ألف دينار سوى المتاع. الحجاز ثلاثمائة ألف د ينار انتهي. و أما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار. و رأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة آلاف قنطار و خمسمائة قنطار في كل سنة فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض و لاتنكرن ما ليس بمعهود عندك و لا في عصرك شيىء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار و ليس ذلك من الصواب فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة و من أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها و نحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس و بني أمية و العبيديين و ناسبنا الصحيح من ذلك و الذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل بالنسبة إليها وجدنا بينها بوناً و هو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها و عمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه و لا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة و الوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض و التواتر و فيها المعاين و المشاهد من آثار البناء و غيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها و ضخامتها أو صغرها و اعتبر ذلك بما نقصه عليك من هذه الحكاية المستظرفة. و ذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق و تقلب في بلاد العراق و اليمن و الهند و دخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند و هو السلطان محمد شاه و اتصل بملكها لذلك العهد و هو فيروزجوه و كان له منه مكان و استعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله ثم انقلب إلى المغرب و اتصل بالسلطان أبي عنان و كان يحدث عن شأن رحلته و ما رأى من العجائب بممالك الأرض و أكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند و يأتي من أحواله بما يستغربه السامعون مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال و النساء و الولدان و فرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه و أنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد و يطوفون به و ينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم و الدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه و أمثال هذه الحكايات فتناحى الناس بتكذيبه و لقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن و أريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه. فقال لي الوزير فارس إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن و ذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه و مكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلما أدرك و عقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال و ما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها و نعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه و يقول أين الغنم من الفأر و كذا في لحم الإبل و البقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر و لهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله و ليكن مهيمناً على نفسه و مميزاً بين طبيعة الممكن و الممتنع بصريح عقله و مستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله و ما خرج عنه رفضه و ليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حداً بين الواقعات و أنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء فإنا إذا نظرنا أصل الشيء و جنسه و صنفه و مقدار عظمه و قوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله و حكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه، و قل ربي زدني علماً و أنت أرحم الراحمين و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه و أهل عصبيته بالموالي و المصطنعين عدل

إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته و ظهراؤه على شأنه و بهم يقارع الخوارج على دولته و منهم يقلد أعمال مملكته و وزارة دولته و جباية أموله لأنهم أعوانه على الغلب و شركاؤه في الأمر و مساهموه في سائر مهماته هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه فإذا جاء الطور الثاني و ظهر الاستبداد عنهم و الانفراد بالمجد و دافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه و احتاج في مدافعتهم عن الأمر و صدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم و يتولاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم و أخص به قرباً و اصطناعاً و أولى إيثاراً و جاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم و الرتبة التي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدولة و يخصهم بمزيد التكرمة و الإيثار و يقسم لهم ما للكثير من قومه و يقلدهم جليل الأعمال و الولايات من الوزارة و القيادة و الجباية و ما يختص به لنفسه و تكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون و نصحاؤه المخلصون و ذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة و علامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها. و مرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان و عداوة السلطان فيضطغنون عليه و يتربصون به الدوائر و يعود وبال ذلك على الدولة و لا يطمع في برئها من هذا الداء لأنه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن ذهب رسمها و اعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم و ولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي و قاص و عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف و المهلب بن أبي صفرة و خالد بن عبد الله القسري و ابن هبيرة و موسى بن نصير و بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري و نصر بن سيار و أمثالهم من رجالات العرب و كذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد و كبح العرب عن التطاول للولايات صارت الوزارة للعجم و الصنائع من البرامكة و بني سهل بن نوبخت و بني طاهر ثم بني بويه و موالي الترك مثل بغا و وصيف و أثلمش و باكناك و ابن طولون و أبنائهم و غير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها و العز لغير من اجتلبه سنة الله في عباده و الله تعالى أعلم.

الفصل العشرون في أحوال الموالي و المصطنعين في الدول عدل

إعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم و حديثهم في الالتحام بصاحبها و السبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة و المغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام و القربى و التخاذل في الأجانب و البعداء كما قدمناه و الولاية و المخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك لأن أمر النسب و إن كان طبيعياً فإنما هو وهمي و المعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة و المدافعة و طول الممارسة و الصحبة بالمربى و الرضاع و سائر أحوال الموت و الحياة و إذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة و التناصر و هذا مشاهد بين الناس و اعتبر مثله في الاصطناع فإنه يحدث بين المصطنع و من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة و تؤكد اللحمة و إن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل و بين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج و عقائدها أصح و نسبها أصرح لوجهين أحدهما أنهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فينزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم و أهل أرحامهم و إذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى. و لأهل القرابة عن أهل الولاية و الاصطناع لما تقتضيه أحوال الرئاسة و الملك من تميز الرتب و تفاوتها فتتميز حالتهم و يتنزلون منزلة الأجانب و يكون الالتحام بينهم أضعف و التناصر لذلك أبعد و ذلك انقص من الاصطناع قبل الملك. الوجه الثاني أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان و يخفي شأن تلك اللحمة و يظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية و أما بعد الملك فيقرب العهد و يستوي في معرفته الأكثر فتتبين اللحمة و تتميز عن النسب فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة و اعتبر ذلك في الدول و الرئاسات تجده فكل من كان اصطناعه قبل حصول الرئاسة و الملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به و أقرب قرابةً إليه و يتنزل منه منزلة أبنائه و إخوانه و ذوي رحمه و من كان اصطناعه بعد حصول الملك و الرئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة و اللحمة ما للأولين و هذا مشاهد بالعيان حتى أن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى الشمال الأجانب و اصطناعهم و لا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة لقرب العهد حينئذ بأوليتهم و مشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين في مهاوي الضعة. و إنما يحمل صاحب الدولة على اصطناعهم و العدول إليهم عن أوليائها الأقدمين و صنائعها الأولين ما يعتريهم في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة و قلة الخضوع له و نظره بما ينظره به قبيله و أهل نسبه لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى و الاتصال بآبائه و سلف قومه و الانتظام مع كبراء أهل بيته فيحصل لهم بذلك دالة عليه و اعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدولة و يعدل عنهم إلى استعمال سواهم و يكون عهد استخلاصهم و اصطناعهم قريباً فلا يبلغون رتب المجد و يبقون على حالهم من الخارجية و هكذا شأن الدول في أواخرها و أكثر ما يطلق اسم الصنائع و الأولياء على الأولين و أما هؤلاء المحدثون فخدم و أعوان والله ولي المؤمنين و هو على كل شيء وكيل.

الفصل الحادي و العشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان و الاستبداد عليه عدل

إذا استقر الملك في نصاب معين و منبت واحد من القبيل القائمين بالدولة و انفردوا به و دفعوا سائر القبيل عنه و تداوله بنو واحداً بعد واحد بحسب الترشيح فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم و حاشيتهم و سببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه و خوله و يؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه و حاشيته و مواليه أو قبيله و يوري بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد و يجعل ذلك ذريعة للملك فيححب الصبي عن الناس و يعوده إليها ترف أحواله و يسيمه في مراعيها متى أمكنه و ينسيه النظر في الأمور السلطانية حتى يستبد عليه و هو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير إعطاء الصفقة و خطاب التهويل و القعود مع النساء خلف الحجاب و أن الحل و الربط و الأمر و النهي و مباشرة الأحوال الملوكية و تفقدها من النظر في الجيش و المال و الثغور أنما هو للوزير و يسلم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة و الاستبداد و يتحول الملك إليه و يؤثر به عشيرته و أبناءه من بعده كما وقع لبني بويه و الترك و كافور الأخشيدي و غيرهم بالمشرق و للمنصور بن أبي عامر بالأندلس. و قد يتفطن ذلك المحجور المغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر و الاستبداد و يرجع الملك إلى نصابه و يصرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط إلا أن ذلك في النادر الأقل لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء و الأولياء استمر لها ذلك و قل أن تخرج عنه لأن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف و نشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمة قد نسوا عهد الرجولة و ألفوا أخلاق الدايات و الأظار و ربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة و لا يعرفون استبداداً من تغلب إنما همهم في القنوع بالأبهة و التنفس في اللذات و أنواع الترف و هذا التغلب يكون للموالي و المصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم و انفرادهم به دونهم و هو عارض للدولة ضروري كما قدمناه و هذان مرضان لابرء للدولة منهما إلا في الأقل النادر و الله يؤتي ملكه من يشاء و هو على كل شيء قدير.

الفصل الثاني و العشرون في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك عدل

و ذلك أن الملك و السلطان حصل لأوليه منذ أول الدولة بعصبية قومه و عصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له و لقومه صبغة الملك و الغلب و هي لم تزل باقية و بها انحفظ رسم الدولة و بقاؤها و هذا المتغلب و إن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي و الصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها و ليس له صبغة في الملك و هو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنهي و الحل و العقد و الإبرام و النقض يوهم فيها أهل الدولة أنه متصرف عن سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك و شاراته و ألقى به جهده و يبعد نفسه عن التهمة بذلك. و إن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان و أولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة و مغالط عنه بالنيابة و لو تعرض لشيىء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية و قبيل الملك و حاولوا الإستئثار به دونه لأنه لم يستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له و الانقياد فيهلك لأول وهلة و قد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن منصور بن أبي عامر حين سمى إلى مشاركة هشام و أهل بيته في لقب الخلافة و لم يقنع بما قنع به أبوه و أخوه من الاستبداد بالحل و العقد و المراسم المتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان و سائر قريش و بايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر و خرجوا عليهم و كان في ذلك خراب دولة العامريين و هلاك المؤيد خليفتهم و استبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها و اختلت مراسم ملكهم و الله خير الوارثين.

الفصل الثالث و العشرون في حقيقة الملك و أصنافه عدل

الملك منصب طبيعي للإنسان لأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم و وجودهم إلا باجتماعهم و تعاونهم على تحصيل قوتهم و ضرورياتهم و إذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة و اقتضاء الحاجات و مد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم و العدوان بعضهم على بعض و يمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب و الألفة و مقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة و هي تؤدي إلى الهرج و سفك الدماء و إذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع و هو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض و احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع و هو الحاكم عليهم و هو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم و لا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها و المدافعات لا تتم إلا بالعصبية و هذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات و يحتاج إلى المدافعات. و لا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر و العصبيات متفاوتة و كل عصبية فلها تحكم و تغلب على من يليها من قومها و عشيرها و ليس الملك لكل عصبية و إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية و يجبي الأموال و يبعث البعوث و يحمي الثغور و لا تكون فوق يده يد قاهرة و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان و لملوك العجم صدر الدولة العباسية. و من قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات، و الضرب على سائر الأيدي و كان فوقه حكم غيره فهو أيضاً ملك ناقص لم تتم حقيقته و هؤلاء مثل أمراء النواحي و رؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة و كثيراً ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديين و زناتة مع الأمويين تارة و العبيديين تارةً أخرى و مثل ملوك العجم في دولة بني العباس و مثل ملوك الطوائف من الفرس مع الاسكندر و قومه اليونانيين و كثير من هؤلاء فاعتبره تجده و الله القاهر فوق عباده.

الفصل الرابع و العشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك و مفسد له في الأكثر عدل

إعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته و جسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو أتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه و إنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإن الملك و السلطان من الأمور الإضافية و هي نسبة بين منتسبين فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم فالسلطان من له رعية و الرعية من لها سلطان و الصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تسمى الملكة و هي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة و توابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم و إن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم و إهلاكاً لهم. و يعود حسن الملكة إلى الرفق فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس و تعديد ذنوبهم شملهم الخوف و الذل و لاذوا منه بالكذب و المكر و الخديعة فتخلقوا بها و فسدت بصائرهم و أخلاقهم و ربما خذلوه في مواطن الحروب و المدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات و ربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة و يخرب السياج و إن دام أمره عليهم و قهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً و فسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية و إذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه و لاذوا به و أشربوا محبته و استماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كل جانب و أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم و المدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك و أما النعمة عليهم و الإحسان لهم فمن حملة الرفق بهم و النظر لهم في معاشهم و هي أصل كبير من التحبب إلى الرعية و أعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس و أكثر ما يوجد الرفق في الغفل و المتغفل و أقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم و إطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعية فيهلكون لذلك قال صلى الله عليه و سلم سيروا على سير أضعفكم. و من هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء، و مأخذه من قصة زياد ابن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق و قال له لم عزلتني يا أمير المؤمنين لعجز أم لخيانة فقال عمر لم أعزلك لواحدة منهما و لكني كرهت أن أحمل فضل عقلك عن الناس، فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء و الكيس مثل زياد بن أبي سفيان و عمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف و سوء الملكة و حمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب و الله خير المالكين و تقرر من هذا أن الكيس و الذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود و الطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية و المحمود هو التوسط كما في الكرم مع التبذير و البخل و كما في الشجاعة مع الهوج و الجبن و غير ذلك من الصفات الإنسانية و لهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان فيقال شيطان و متشيطن و أمثال ذلك و الله يخلق ما يشاء و هو العليم القدير.

الفصل الخامس و العشرون في معنى الخلافة و الإمامة عدل

لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر و مقتضاه التغلب و القهر اللذان هما من آثار الغضب و الحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه و شهواته و يختلف في ذلك باختلاف المقاصد من الخلف و السلف منهم متعسر طاعته لذلك و تجيء العصبية المفضية إلى الهرج و القتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة و ينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس و غيرهم من الأمم و إذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها و لم يتم استيلاؤها سنة الله في الذين خلوا من قبل فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء و أكابر الدولة و بصرائها كانت سياسة عقلية و إذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها و يشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا و في الآخرة و ذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عبث و باطل إذ غايتها الموت و الفناء، و الله يقول أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة و معاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع. فما كان منه بمقتضى القهر و التغلب و إهمال القوة العصبية في مرعاها فجور و عدوان و مذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية و ما كان منه بمقتضى السياسة و أحكامها فمذموم أيضاً لأنه نظر بغير نور الله و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم و أعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلى الله عليه و سلم: إنما هي أعمالكم ترد عليكم. و أحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط يعلمون ظاهراً من حياة الدنيا و مقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم و آخرتهم و كان هذا الحكم لأهل الشريعة و هم الأنبياء و من قام فيه مقامهم و هم الخلفاء فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة و أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية و دفع المضار و الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به فأفهم ذلك و اعتبره فيما نورده عليك من بعد و الله الحكيم العليم.

الفصل السادس و العشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب و شروطه عدل

و إذ قد بينا حقيقة هذا المنصب و أنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين و سياسة الدنيا به تسمى خلافة و إمامة و القائم به خليفة و إماماً فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في أتباعه و الإقتداء به و لهذا يقال الإمامة الكبرى و أما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال خليفة بإطلاق و خليفة رسول الله و اختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدمين في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة و قوله جعلكم خلائف الأرض. و منع الجمهور منه لأن معنى الآية ليس عليه و قد نهى أبو بكر عنه لما دعي به و قال: لست خليفة الله و لكني خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم. و لأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب و أما الحاضر فلا. ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة و التابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه و تسليم النظر إليه في أمورهم و كذا في كل عصر من بعد ذلك و لم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام. و قد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل، و أن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه. قالوا و إنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر و استحالة حياتهم و وجودهم منفردين و من ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر و انقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية و هذا المعنى بعينه هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبؤات في البشر و قد نبهنا على فساده و أن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان ما و اعتقاد و هو غير مسلم لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك و قهر أهل الشوكة و لو لم يكن شرع كما في أمم المجوس و غيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك و نصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع و التظالم فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة فدل على أن مدرك وجوبه أنما هو بالشرع و هو الاجماع الذي قدمناه. و قد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل و لا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة و بعض الخوارج و غيرهم، و الواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل و تنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام و لا يجب نصبه و هؤلاء محجوجون بإلإجماع. و الذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك و مذاهبه من الاستطالة و التغلب و الاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك و النعي على أهله و مرغبة في رفضه. و أعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته و لا حظر القيام به لم إنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر و الظلم و التمتع باللذات و لا شك أن في هذه مفاسد محظورة و هي من توابعه كما أثنى على العدل و النصفة و إقامة مراسم الدين و الذب عنه و أوجب بإزائها الثواب و هي كلها من توابع الملك. فإذاً إنما وقع الذم للملك على صفة و حال دون حال أخرى و لم يذمه لذاته و لا طلب تركه كما ذم الشهوة و الغضب من المكلفين و ليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليه و أما المراد تصريفهما على مقتضى الحق و قد كان لداود و سليمان صلوات الله و سلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما و هما من أنبياء الله تعالى و أكرم الخلق عنده ثم نقول لهم أن هذا الفرار عن الملك بعدم و جوب هذا النصب لا يغنيكم شيئاً لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة و ذلك لا يحصل إلا بالعصبية و الشوكة و العصبية مقتضية بطبعها للمك فيحصل الملك و إن لم ينصب إمام و هو عين ما قررتم عنه. و إذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية و راجع إلى اختيار أهل العقد و الحل فيتعين عليهم نصبه و يجب على الخلق جميعاً طاعته لقوله تعالى أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. و أما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم و العدالة و الكفاية و سلامة الحواس و الأعضاء مما يؤثر في الرأي و العمل و اختلف في شرط خامس و هو النسب القرشي فأما اشتراط العلم فطاهر لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها و ما لم يعلنها لا يصح تقديمه لما و لا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهداً لأن التقليد نقص و الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف و الأحوال و أما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه. و لاخلاف في انتقاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات و أمثالها و في انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف. و أما الكفاية فهو أن يكون جزئياً على إقامة الحدود و اقتحام الحروب بصيراً بها كفيلاً يحمل الناس عليها عارفاً بالعصبية و أحوال الدهاء قوياً على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين و جهاد العدو و إقامة الأحكام و تدبير المصالح. و أما سلامة الحواس و الأعضاء من النقص و العطلة كالجنون و العمى و الصمم و الخرس و ما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين و الرجلين و الأنثيين فتشترط السلامة منها كلها لتأثير ذلك في تمام عمله و قيامه بما جعل إليه و إن كان إنما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منه شرط كمال و يلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف و هو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب و هو القهر و العجز عن التصرف جملة بالأسر و شبهه و ضرب لا يلحق بهذه و هو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان و لا مشاقة فينتقل النظر في حال هذا المستولى فإن جرى على حكم الدين و العدل و حميد السياسة جاز قراره و إلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك و يدفع علته حتى ينفذ فعل الخليفة. و أما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك و احتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة و قالوا: منا أمير و منكم أمير. بقوله صلى الله عليه و سلم: الأئمة من قريش. و بأن النبي صلى الله عليه و سلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم و نتجاوز عن مسيئكم و لو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم فحجوا الأنصار و رجعوا عن قولهم منا أمير و منكم أمير و عدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك. و ثبت أيضاً في الصحيح لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش و أمثال هذه الأدلة كثيرة إلا أنه لما ضعف أمر قريش و تلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف و النعيم و بما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة و تغلبت عليهم الأعاجم و صار الحل و العقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي طه اشتراط القرشية و عولوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم: اسمعوا و أطيعوا و إن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة. و هذا لا تقوم به حجة ذلك فإنه خرج مخرج التمثيل و الغرض للمبالغة في إيجاب السمع و الطاعة و مثل قول عمر لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته أو لما دخلتني فيه الظنة و هو أيضاً لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة و أيضاً فمولى القوم منهم و عصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش و هي الفائدة في اشتراط النسب و لما استعظم عمر أمر الخلافة و رأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر و لم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية و هي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصاً من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين و تقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة و لا عليه فيه عهدة. و من القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي و الاضمحلال و استبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشية و إن كان موافقاً لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده و بقي الجمهور على القول باشتراطها و صحة الإمامة للقرشي و لو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين و رد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية و إذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً إلى العلم والدين و سقط اعتبار شروط هذا المنصب و هو خلاف الاجتماع. و لنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول: أن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد و حكم تشتمل عليها و تشرع لأجلها و نحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي و مقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه و سلم كما هو في المشهور و إن كانت تلك الوصلة موجودة و التبرك بها حاصلاً لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب و هي المقصودة من مشروعيتها و إذا سبرنا و قسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية و المطالبة و يرتفع الخلاف و الفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة و أهلها و ينتظم حبل الإلفة فيها و ذلك أن قريشاً كانوا عصبة مضر و أصلهم و أهل الغلب منهم و كان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة و العصبية و الشرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك و يستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم و عدم انقيادهم و لا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف و لا يحملهم على الكرة فتتفرق الجماعة و تختلف الكلمة. و الشارع محذر من ذلك حريص على أتفاقهم و رفع التنازع و الشتات بينهم لتحصل اللحمة و العصبية و تحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم و لا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها و منع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب و هم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة و أتفاق الكلمة و إذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب و انقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة و وطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات و استمر بعدها في الدولتين إلى أن أضمحل أمر الخلافة و تلاشت عصبية العرب و يعلم ما كان لقريش من الكثرة و التغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب و سيرهم و تفطن لذلك في أحوالهم. و قد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السير و غيره فإذا ثبت أن اشتراط القرشية أنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية و الغلب و علمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل و لا عصر و لا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها و طردنا الملة المشتملة على المقصود من القرشية و هي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم و تجتمع الكلمة على حسن الحماية و لا يعلم ذلك في الأقطار و الآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة و عصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم و إنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة و إذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم و يردهم عن مضارهم و هو مخاطب بذلك و لا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب في شأن النساء و أنهن في كبير من الأحكام الشرعية جعلن تبعاً للرجال و لم يدخلن في الخطاب بالوضع. و إنما دخلن عنده بالقياس و ذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء و كان الرجال قوامين عليهن اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ثم أن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم و قل أن يكون الآمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي و الله تعالى أعلم.

الفصل السابع و العشرون في مذاهب الشيعة في حكم الأمامة عدل

إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب و الأتباع و يطلق في عرف الفقهاء و المتكلمين من الخلف و السلف على اتباع علي و بنيه رضي الله عنهم و مذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإقامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة و يتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين و قاعدة الإسلام و لا يجوز لنبي إغفاله و لا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم و يكون معصوماً من الكبائر و الصغائر و أن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله و سلامه عليه بنصوص ينقلونها و يؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة و لا نقله الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة. و تنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي و خفي فالجلي مثل قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه. قالوا و لم تطرد هذه الولاية إلا في علي و لهذا قال له عمر أصبحت مولى كل مؤمن و مؤمنة و منها قوله: أقضاكم علي و لا معنى للأمامة إلا القضاء بأحكام الله و هو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. و المراد الحكم و القضاء و لهذا كان حكماً في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره و منها قوله من يبايعني على روحه و هو وصي و ولي هذا الأمر من بعدي فلم يبايعه إلا علي. و من الخفي عندهم بعث النبي صلى الله عليه و سلم علياً لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ قالوا: و هذا يدل على تقديم علي. و أيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي. و أما أبو بكر و عمر فقدم عليهما في غزاتين أسامة بن زيد مرة و عمرو بن العاص أخرى و هذه كلها أدلة شاهدة بتعيين علي للخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف و منها ما هو بعيد عن تأويلهم ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي و تشخيصه. و كذلك تنتقل منه إلى من بعده و هؤلاء هم الإمامية و يتبرأون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً و يبايعوه بمقتضى هذه النصوص و يغمصون في إمامتهما و لا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا و عندهم و منهم من يقول أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص و الناس مقصرون حيث لم يصغوا الوصف موضعه و هؤلاء هم الزيدية و لا يتبرأون من الشيخين و لا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد علي فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على ما يذكر بعد و هؤلاء يسمون الإمامية نسبةً إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام و تعيينه في الإيمان و هي أصل عندهم و منهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ و يشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداً شجاعاً و يخرج داعياً إلى إمامته و هؤلاء هم الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب و هو زيد بن علي بن الحسين السبط و قد كان يناظر أخاه محمداً الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماماً لأنه لم يخرج و لا تعرض للخروج و كان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة و أخذه إياها عن واصل بن عطاء و لما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين و رأوه يقول بإمامتهما و لا يتبرأ منهما رفضوه و لم يجعلوه من الأئمة و بذلك سموا رافضة و منهم من ساقها بعد علي و ابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية ثم إلى ولده و هم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه و بين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً و منهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل و الإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات الألوهية أو أن الإله حل في ذاته البشرية و هو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه و لقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم و سخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته و البراءة منه و كذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه و منهم من يقول إن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال و هو قول بالتناسخ و من هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم و هؤلاء هم الواقفية فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس و يستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه لم أنه في السحاب و الرعد صوته و البرق في صوته و قالوا مثله في محمد بن الحنيفة و إنه في جبل رضوى من أرض الحجاز. و قال شاعرهم. ألا أن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء علي و الثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان و بر و سبط غيبته كربلاء و سبط لا يذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللواء تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل و ماء و قال مثله غلاة الإمامية و خصوصاً الاثنا عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم و هو محمد بن الحسن العسكري و يلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم في الحلة و تغيب حين اعتقل مع أمه و غاب هنالك و هو يخرج آخر الزمال فيملأ الأرض عدلاً يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي و هم إلى الآن ينتظرونه و يسمونه المنتظر لذلك، و يقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب و قد قدموا مركباً فيهتمون باسمه و يدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون و يرجئون الأمر إلى الليلة الآتية و هم على ذلك لهذا العهد و بعض هؤلاء الواقفية يقول أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا و يستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف و الذي مر على قرية و قتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها و مثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة و لا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها و كان من هؤلاء السيد الحميري و من شعره في ذلك إذا ما المرء شاب له قذال وعلله المواشط بالخضاب فقد ذهبت بشاشته و أودى فقم يا صاح نبك على الشباب إلى يوم تتوب الناس فيه إلى دنياهم قبل الحساب فليس بعائد مافات منه إلى أحد إلى يوم الإياب أدين بأن ذلك دين حق وما أنا في النشور بذي ارتياب كذاك الله أخبر عن أناس حيوا من بعد درس في التراب و قد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة فإنهم لا يقولون بها و يبطلون احتجاجاتهم عليها و أما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم و هؤلاء هم الهاشمية ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي و آخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و أوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام و أوصى هو إلى أخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح و أوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور و انتقلت في ولده بالنص و العهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم و هذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس و كان منهم أبو مسلم و سليمان بن كثير و أبو سلمة الخلال و غيرهم من شيعة العباسية و ربما يعضدون ذلك بأن حقهم في هذا الأمر يصل إليه من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة و هو أولى بالوراثة بعصبية العمومة و أما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها و إنها باختيار أهل الحل و العقد لا بالنص فقالوا بإمامة علي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه زيد بن علي و هو صاحب هذا المذهب و خرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل و صلب بالكناسة و قال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان و قتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط و يقال له النفس الزكية، فخرج بالحجاز و تلقب بالمهدي و جاءته عساكر المنصور فقتل و عهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة و معه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم و قتل إبراهيم و عيسى و كان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله و هي معدودة في كراماته و ذهب آخرون منهم إلى أن الامام بعد محمد ابن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر، و عمر هو أخو زيد بن علي فخرج محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه و سيق إلى المعتصم فحبسه و مات في حبسه و قال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حصر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور و نقلوا الإمامة في عقبه و إليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم و قال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوة إدريس الذي فر إلى المغرب و مات هنالك و قام بأمر ابنه إدريس و اختط مدينة فاس و كان من بعده عقبه ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. و بقي أمر الزيدية بعد ذلك غير منتظم و كان منهم الذاعي الذي ملك طبرستان و هو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط و أخوه محمد بن زيد ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم، و أسلموا على يده و هو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر و عمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة و توصل الديلم من نسبهم إلى الملك و الاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. و أما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضى إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق و من هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقها إلى ولده إسماعيل و يعرفونه بينهم بالإمام و هم الاسماعيلية و فرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم و هم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأئمة و قولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر فأما الإسماعيلية فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر و فائدة النص عليه عندهم و إن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما قالوا انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم و هو أول الأئمة المستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر و تكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق و إذا كانت له شوكة ظهر و أظهر دعوته قالوا و بعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق و بعده ابنه محمد الحبيب و هو آخر المستورين و بعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة و تتابع الناس على دعوته ثم أخرجه من معتقله بسجلماسة و ملك القيروان و المغرب و ملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم و يسمى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل و يسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور و يسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد و لهم مقالات قديمة و مقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة و ملك حصوناً بالشام و العراق و لم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر و ملوك التتر بالعراق فانفرضت. و مقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل و النحل للشهرستاني. و أما الاثنا عشرية فربما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذي عهد إليه المأمون و مات قبله لم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه محمد الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل و في كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير إلا أن هذه أشهر مذاهبهم و من أراد استيعابها و مطالعتها فعليه بكتاب الملل و النحل لابن حزم و الشهرستاني و غيرهما ففيها بيان ذلك و الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و هو العلي الكبير.

الفصل الثامن و العثسرون في انقلاب الخلافة إلى الملك عدل

إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود و ترتيبه كما قلناه من قبل و أن الشرائع و الديانات و كل أمر يحل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه. فالعصبية ضرورية للملة و بوجودها يتم أمر الله منها و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية و ندب إلى إطراحها و تركها فقال: إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء أنتم بنو آدم و آدم من تراب، و قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم و وجدناه أيضاً قد ذم الملك و أهله و نعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق و الإسراف في غير القصد و التنكب عن صراط الله و إنما حض على الإلفة في الدين و حذر من الخلاف و الفرقة، و أعلم أن الدنيا كلها و أحوالها مطية للآخرة و من فقد المطية فقد الوصول، و ليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله و تعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً و تتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه و سلم: من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. فلم يذم الغضب و هو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق و بطل الجهاد و إعلاء كلمة الله و إنما يذم الغضب للشيطان و للأغراض الذميمة فإذا كان الغصب لذلك كان مذموماً و إذا كان الغضب في الله و لله كان ممدوحاً و هو من شمائله صلى الله عليه و سلم و كذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه و إنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية و كذا العصبية حيث ذمها الشارع و قال لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل و أحواله كما كانت في الجاهلية و أن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد لأن ذلك مجال من أفعال العقلاء و غير نافع في الآخرة التي هي دار القرار فأما إذا كانت العصبية في الحق و إقامة أمر الله فأمر مطلوب و لو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل و كذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق و قهر الكافة على الدين و مراعاة المصلح و إنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل و تصريف الآدميين طوع الأغراض و الشهوات كما قلناه، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله و لحملهم على عبادة الله و جهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً و قد قال سليمان صلوات الله عليه: ربي هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي. لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبؤة و الملك. و لما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد و العدة استنكر ذلك و قال: أكسروية يا معاوية فقال يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو و بنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب و الجهاد حاجة فسكت و لم يخطئه لما احتج عليه بمقصد من مقاصد الحق و الدين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب في تلك الكسروية و انتحالها بل كان يحرض على خروجه عنها بالجملة و إنما أراد عمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل و الظلم و البغي و سلوك شبله و الغفلة عن الله و أجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس و باطلهم و إنما قصده بها وجه الله فسكت، و هكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك و أحواله و نسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه و سلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين و ارتضاه الناس للخلافة و هي حمل الكافة على أحكام الشريعة و لم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل و نخلة يومئذ لأهل الكفر و أعداء الدين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره و قاتل الأمم فغلبهم و أذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدنيا و الملك فغلبوهم عليه و انتزعوه منهم ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضى عنهما و الكل متبرئون من الملك منكبون عن طرقه و أكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من عضاضة الإسلام و بداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا و ترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم و لا من حيث بداوتهم و مواطنهم و ما كانوا عليه من خشونة العيش و شظفه الذي ألفوه، فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع و لا ضرع و كانوا ممنوعين من الأرياف و حبوبها لبعدها و اختصاصها بمن وليها من ربيعة و اليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها و لقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب و الخنافس و يفخرون بأكل العلهز و هو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم و يطبخونه و قريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم و مساكنهم حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه و سلم زحفوا إلى أمم فارس و الروم و طلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق فابتزوا ملكهم و استباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على مالا يأخذه الحصر و هم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد و كان علي يقول: يا صفراء و يا بيضاء غري غيري و كان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ و كانت المناخل مفقودةً عندهم بالجملة و إنما يأكلون الحنطة بنخالها و مكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم قال: المسعودي في أيام عثمان أفتى الصحابة الضياع و المال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون و مائة ألف دينار و ألف ألف درهم و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائتا ألف دينار و خلف إبلاً و خيلاً كثيرةً و بلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار و خلف ألف فرس و ألف أمة و كانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم و من ناحية السراة أكثر من ذلك و كان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة و ثمانين ألفاً و خلف زيد بن ثابت من الفضة و الذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال و الضياع بمائة ألف دينار و بنى الزبير داره بالبصرة و كذلك بنى بمصر و الكوفة والإسكندرية و كذلك بنى طلحة داره بالكوفة و شيد دارة بالمدينة وبناها بالجص و الآجر و الساج و بنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق و رفع سمكها و أوسع فضاءها و جعل على أعلاها شرفات و بنى المقداد داره بالمدينة و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن و خلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار و عقاراً و غير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم من كلام المسعودي. فكانت مكاسب القوم كما تراه و لم يكن ذلك منيعاً عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنها غنائم و فيوء و لم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم و أن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف و الخروج به عن القصد و إذا كان حالهم قصداً و نفقاتهم في سبيل الحق و مذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق و اكتساب الدار الآخرة فلما تدرجت البداوة و الغضاضة إلى نهايتها و جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه و حصل التغلب و القهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه و الاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة و مذاهب الحق، و لما وقعت الفتنة بين علي و معاوية و هي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق و الاجتهاد و لم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد و إنما اختلف اجتهادهم في الحق و سفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه و إن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق و أخطأ و الكل كانوا في مقاصدهم على حق ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد و استئثار الواحد به و لم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه و قومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها و استشعرته بنو أمية و من لم يكن على طريقة معاويه في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه و استماتوا دونه و لو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة و خالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة التي كان جمعها و تأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة و قد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة و لو أراد أن يعهد إليه لفعل و لكنة كان يخشى من بنى أمية أهل الحل و العقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة. و هذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية فالملك إذا حصل و فرضنا أن الواحد انفرد به و صرفه في مذاهب الحق و وجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه و لقد انفرد سليمان و أبوه داود صلوات الله عليهما بملك بنى إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبؤة و الحق و كذلك عيد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً و لا يرتاب أحد في ذلك و لا يظن بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك و كذلك كان مروان بن الحكم و ابنه و أن كانوا ملوكاً لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة و البغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع و الإقتداء و ما علم السلف من أحوالهم و مقاصدهم فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عند الملك و أما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين و عدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك و كانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه و توسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة و الصحابة جهده و لم يهمل. ثم جاء خلفهم و استعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية و مقاصدهم و نسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها و اعتماد الحق في مذاهبها فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم و أدالوا بالدعوة العباسية منهم و ولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان و صرفوا الملك في وجوه الحق و مذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح و الطالح ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك و الترف حقه و انغمسوا في الدنيا و باطلها و نبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم و انتزاع الأمر من أيدي العرب جملة و أمكن سواهم و الله لا يظلم مثقال ذرة. و من تأمل سير هؤلاء الخلفاء و الملوك و اختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه و قد حكاه المسعودي مثله في أحوال بنى أمية عن أبي جعفر المنصور و قد حصر عمومته و ذكروا بني أمية فقال: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع و أما سليمان فكان همه بطنه و فرجه و أما عمر فكان أعور بين عميان و كان رجل القوم هشام قال و لم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه و يصونون ما و هب الله لهم منه مع تسلمهم معالي الأمور و رفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات و ركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه و أمناً لكره مع اطراحهم صيانة الخلافة و استخفافهم بحق الرئاسة و ضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز و ألبسهم الذل و نفى عنهم النعمة ثم استحضر عبد الله ابن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض و قد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا فقال إني ملك و حق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثم قال لي: لم تشربون الخمر و هي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا و أتباعنا قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم و الفساد محرم عليكم ؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا و أتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الديباج و الذهب و الحرير و هو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت: ذهب منا الملك و انتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا، فأطرق ينكث بيده في الأرض و يقول عبيدنا و أتباعنا و أعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي و قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل بذنوبكم و لله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم و أنا خائف أن يحل بكم العذاب و أنتم ببلدي فينالني معكم و إنما الضيافة ثلاث فتزود ما احتجت إليه و ارتحل عن أرضي فتعجب المنصور و أطرق فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك و أن الأمر كان في أوله خلافة و وازع كل أحد فيها من نفسه و هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و أن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر و ابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى و منع من سل السيوف بين السلمين مخافة الفرقة و حفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدى إلى هلاكه. و هذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية و طلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته و تتفق الكلمة و له بعد ذلك ما شاء من أمره و كان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام و غدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق و النصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي: لا و الله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس و غششتني اليوم و لكن منعني مما أشرت به زائد الحق و هكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم و نحن: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك و بقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه و الجري على منهاج الحق و لم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبيةً و سيفاً و هكذا كان الأمر لعهد معاوية و مروان و ابنه عبد الملك و الصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد و بعض ولده ثم ذهبت معاني الخلافة و لم يبق إلا اسمها و صار الأمر ملكاً بحتاً و جرت طبيعة التغلب إلى غايتها و استعملت في أغراضها من القهر التقلب في الشهوات و الملاذ و هكذا كان الأمر لولد عبد الملك و لمن جاء بعد الرشيد من بني العباس و اسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب و الخلافة و الملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض ثم ذهب رسم الخلافة و أثرها بذهاب عصبية العرب و فناء جيلهم و تلاشى أحوالهم وبقى الأمر ملكاً بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً و الملك بجميع ألقابه و مناحيه لهم و ليس للخليفة منه شيء و كذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين و مغراوة و بني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس و العبيديين بالقيروان فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا ثم التبست معانيهما و اختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة و الله مقدر الليل و النهار و هو الواحد القهار.

الفصل التاسع و العشرون في معنى البيعة عدل

إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه و أمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك و يطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط و المكره و كانوا إذا بايعوا الأمير و عقدوا عهده جعلوا أيديهم في يديه تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري فسمي بيعةً مصدر باع و صارت البيعة مصافحةً بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة و معهود الشرع و هو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة و عند الشجرة وحيثما و رد هذا اللفظ و منه بيعة الخلفاء و منه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد و يستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا الاستيعاب إيمان البيعة و كان الإكراه فيها أكثر و أغلب و لهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه و رأوها قادحةً في أيمان البيعة، و وقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه و أما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية و التزام الآداب من لوازم الطاعة و توابعها و غلب فيه حتى صارت حقيقيةً عرفيةً و استغنى بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل و الابتذال المنافيين للرئاسة و صون المنصب الملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه و مشاهير أهل الدين من رعيته فافهم معنى البيعة في العزف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه و إمامه و لا تكون أفعاله عبثاً و مجاناً و اعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك و الله القوي العزيز.

الفصل الثلاثون في ولاية العهد عدل

إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة و مشروعيتها لما فيها من المصلحة و أن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم و دنياهم فهو وليهم و الأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته و يتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته و يقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما و ثقوا به فيما قبل و قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه و انعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من الصحابة و أجازوه و أوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه و عنهم و كذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة و جعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد و ناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان و على علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك و أوجبوا طاعته و الملأ من الصحابة حاضرون للأولى و الثانية و لم ينكره أحد منهم فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته. و الإجماع حجة كما عرف ولايتهم الإمام في هذا الأمر و أن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامه في الولد و الوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة في ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد و إن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب و الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم و هم عصابة قريش و أهل الملة أجمع و أهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها و عدل عن الفاضل إلى الفضول حرصاً على الاتفاق و اجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع. و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك و سكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة و ليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك و عدالتهم مانعة منه و فرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه و لم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير و ندور المخالف معروف ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق و يعملون به مثل عبد الملك و سليمان من بني أمية و السفاح والمنصور والمهدي و الرشيد من بني العباس و أمثالهم ممن عرفت عدالتهم و حسن رأيهم للمسلمين و النظر لهم و لا يعاب عليهم إيثار أبنائهم و إخوانهم و خروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فأنهم كانوا على حين لم. تحدث طبيعة الملك و كان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط و آثروه على غيره و وكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه. و أما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك و الوازع الديني قد ضعف و احتيج إلى الوازع السلطاني و العصباني فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد و انتقض أمره سريعاً و صارت الجماعة إلى الفرقة و الاختلاف. سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك و لم يختلفوا على أبي بكر و عمر فقال: لأن أبا بكر و عمر كانا واليين على مثلي و أنا اليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق و سماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك و نقضوا بيعته و بايعوا لعمه بن المهدي و ظهر من الهرج و الخلاف وانقطاع السبل و تعدد الثوار و الخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور و القبائل و العصبيات و تختلف باختلاف المصالح و لكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده و أما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية و الملك لله يؤتيه من يشاء، و عرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها. فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك و أفضل بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء و ينهاه عنه و هو أقل من ذلك و كانت مذاهبهم فيه مختلفة و لما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه و نقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين و عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما و من اتبعهما في ذلك و منهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة و كثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بنى أمية و جمهور أهل الحل و العقد من قريش و تستتبع عصبية مضر أجمع و هي أعظم من كل شوكة و لا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته و الراحة منه و هذا كان شأن جمهور المسلمين و الكل مجتهدون و لا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر و تحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم. و الأمر الثاني هو شأن العهد مع النبي صلى الله عليه و سلم و ما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنه و هو أمر لم يصح و لا نقله أحد من أئمة النقل و الذي وقع في الصحيح من طلب الدواة و القرطاس ليكتب الوصية و أن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع و كذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن و سئل في العهد فقال: إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه و سلم لم يعهد و كذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى على من ذلك و قال إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر و هذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص و لا عهد إلى أحد و شبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون و ليس كذلك و إنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق و لو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة و لكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة و لكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة و احتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم تقع. و يدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة و العهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم و شأن العصبية المراعاة في الاجتماع و الافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين و الإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه و استماتة الناس دونه و ذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم و تردد خبر السماء بينهم و تجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد و الإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة و الأحوال الإلهية الواقعة و الملائكة المترددة التي وجموا منها و دهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة و الملك و العهد والعصبية و سائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً و ذهبت الخوارق و صار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبية و مجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح و المفاسد و أصبح الملك والخلافة و العهد بهما مهماً من المهمات الأكيدة كما زعموا و لم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي غير مهمة فلم يعهد فيها ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد و شأن الردة و الفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل و الترك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثم صارت اليوم من أهم الأمور للإلفة على الحماية و القيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة و التخاذل و منشأ الاجتماع و التوافق الكفيل بمقاصد الشريعة و أحكامها. و الأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة و التابعين فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية و ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة و المدارك المعتبرة و المجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين و من لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة و لا يتعين المخطئ منها و التأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً و إن قلنا إن الكل حق و إن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ و التأثيم و غاية الخلاف الذي بين الصحابة و التابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية و هذا حكمه و الذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو واقعة على مع معاوية و مع الزبير و عائشة و طلحة و واقعة الحسين مع يزيد و واقعة ابن الزبير مع عبد الملك فأما و واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي و الذين شهدوا فمنهم من بايع و منهم من توقف حتى يجتمع الناس و يتفقوا على إمام كسعد و سعيد و ابن عمر و أسامة بن زيد و المغيرة بن شعبة و عبد الله بن سلام و قدامة بن مظعون و أبى سعيد الخدري و كعب بن مالك و النعمان بن بشير و حسان بن ثابت و مسلمة بن مخلد و فضالة بن عبيد و أمثالهم من أكابر الصحابة و الذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان و تركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه و ظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك. و لقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى علي أن بيعته قد انعقدت و لزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه و سلم و موطن الصحابة و أرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس و اتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك و رأى الآخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل و العقد بالآفاق و لم يحصر إلا قليل و لا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل و العقد و لا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم و إن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية و عمرو بن العاص و أم المؤمنين عائشة و الزبير و ابنه عبد الله و طلحة و ابنه محمد و سعد و سعيد و النعمان بن بشير و معاوية بن خديج و من كان على رأيهم من الصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي و لزومها للمسلمين أجمعين و تصويب رأيه فيما ذهب إليه و تعيين الخطأ من جهة معاوية و من كان على رأيه و خصوصاً طلحة و الزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين و صار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كما هو معروف. و لقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال: و الذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء و قلبه نقي إلا دخل الجنة يشير إلى الفريقين نقله الطبري و غيره فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم و لا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت و أقوالهم و أفعالهم إنما هي عن المستندات و عدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق و لا عرج عليه و إذا نظر ت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان و اختلاف الصحابة من بعد و علمت أنها كانت فتنةً ابتلى الله بها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم و ملكهم أرضهم و ديارهم و نزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة و الكوفة و الشام و مصر و كان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاةً لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه و سلم و لا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهلية من الجفاء و العصبية و التفاخر و البعد عن سكينة الإيمان و إذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين و الأنصار من قريش وكنانة و ثقيف و هذيل و أهل الحجاز و يثرب السابقين الأولين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك و غضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم و كثرتهم ومصادمة فارس و الروم مثل قبائل بكر بن وائل و عبد القيس بن ربيعة و قبائل كندة و الأزد من اليمن و تميم و قيس من مضر فصاروا إلى الغض من قريش و الأنفة عليهم، و التمريض في طاعتهم و التعلل في ذلك بالتظلم منهم و الاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن السوية و العدل في العدل عن السوية و فشت المقالة بذلك و انتهت إلى المدينة و هم من علمت فأعظموه و أبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر. بعث ابن عمر و محمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و أمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً و لا رأوا عليهم طعناً و أدوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار و مازالت الشناعات تنمو و رمي الوليد بن عقبة و هو على الكوفة بشرب الخمر و شهد عليه جماعة منهم و حده عثمان و عزلة ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال و شكوا إلى عائشة و علي و الزبير و طلحة و عزل لهم عثمان بعض العمال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوه بالطريق و ردوه معزولاً ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة و نقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله و هو متمسك بالاجتهاد و هم أيضاً كذلك ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان و هم يضمرون خلاف ذلك من قتله و فيهم من البصرة و الكوفة و مصر وقام معهم في ذلك علي و عائشة و الزبير و طلحة و غيرهم يحاولون تسكين الأمور و رجوع عثمان إلى رأيهم و عزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً ثم رجعوا و قد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم و حلف عثمان على ذلك فقالوا مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس و قتلوه وانفتح باب الفتنة فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع و كلهم كانوا مهتمين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته. ثم نظروا بعد هذا الواقع و اجتهدوا و الله مطلع على أحوالهم و عالم بهم و نحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم و مقالات الصادق فيهم و أما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك و ظنها من نفسه بأهليته و شوكته فأما الأهلية فكانت كما ظن و زيادة و أما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش و عصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش و سائر الناس و لا ينكرونه و إنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق و أمر الوحي و تردد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم و ذهبت عصبية الجاهلية و منازعها و نسيت و لم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية و الدفاع ينتفع بها في إقامة الدين و جهاد المشركين و الدين فيها محكم و العادة معزولة حتى إذا انقطع أمر النبؤة و الخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت و لمن كانت و أصبحت مصر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه و أما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه و كان ظنه القدرة على ذلك و لقد عذله ابن العباس و ابن الزبير و ابن عمر و ابن الحنفية أخوه و غيره في مسيره إلى الكوفة و علموا غلطه في ذلك و لم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله. و أما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز و مع يزيد بالشام والعراق و من التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد و إن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج و الدماء فأقصروا عن ذلك و لم يتابعوا الحسين و لا أنكروا عليه و لا أثموه لأنه مجتهد و هو أسوة المجتهدين و لا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين و قعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة و كانوا مع يزيد و لم يروا الخروج عليه و كان الحسين يستشهد بهم و هو بكربلاء على فصله و حقه و يقول سلوا جابر بن عبد الله و أبا سعيد الخدري و أنس بن مالك و سهل بن سعيد و زيد بن أرقم و أمثالهم و لم ينكر عليهم قعودهم عن نصره و لا تعرض لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد و إن كان هو على اجتهاد و يكون ذلك كما يحد الشافعي و المالكي و الحنفي على شرب النبيذ و اعلم أن الأمر ليس كذلك و قتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء و إن كان خلافه عن اجتهادهم و إنما انفرد بقتاله يزيد و أصحابه و لا تقولن إن يزيد و إن كان فاسقاً و لم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة و اعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً و قتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل و هو مفقود في مسئلتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد و لا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه و الحسين فيها شهيد مثاب و هو على حق و اجتهاد و الصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً و اجتهاد و قد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم و القواصم ما معناه: إن الحسين قتل بشرع جده و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل و من أعدل من الحسين في زمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء و أما ابن الزبير فإنه رأى في منامه ما رآه الحسين و ظن كما ظن و غلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية و لا إسلام. و القول بتعين الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه. لأن الإجماع هنالك قضى لنا به و لم نجده ها هنا. و أما يزيد فعين خطأه فسقه. و عبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة و ناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله و عدول ابن عباس و ابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير و هم معه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنه لم يحضرها أهل العقد و الحل كبيعة مروان و ابن الزبير على خلاف ذلك و الكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر و إن لم يتعين في جهة منهما و القتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه و قوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده و تحريه الحق هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة و التابعين فهم خيار الأمة و إذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة و النبي صلى الله عليه و سلم يقول: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب فجعل الخيرة و هي العدالة مختصة بالقرن الأول و الذي يليه فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم و لا يشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع مهم و التمس لهم مذاهب الحق و طرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك و ما اختلفوا إلا عن بينة و ما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم و يجعله إمامه و هادية و دليله فافهم ذلك و تبين حكمه الله في خلقه و أكوانه و اعلم أنه على كل شيء قدير و إليه الملجأ و المصير و الله تعالى أعلم.

الفصل الحادي و الثلاثون في الخطط الدينية الخلافية عدل

لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين و سياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها و حمل الناس عليها و أما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري و قد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر و أن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت و قدمنا أن الملك و سطوته كاف في حصول هذه المصالح. نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميا و يكون من توابعها و قد ينفر إذا كان في غير الملة و له على كل حال مراتب خادمة و وظائف تابعة تتعين خططاً و تتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عاليةً عليهم فيتم بذلك أمره و يحسن قيامه بسلطانه و أما المنصب الخلافي و إن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يخص بخطط و مراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة و نرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية. فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة و الفتيا و لقضاء و الجهاد و الحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير و الأصل الجامع و هذه كلها متفرعة عنها و داخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية و الدنيوية و تنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم. فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها و أرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. و لقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ؟ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس و إذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة. و أخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس و الجمعة و العيدين و الخسوفين و الاستسقاء و تعين ذلك إنما هو من طريق الأولى و الاستحسان و لئلاً يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً و أما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران و لا تحتاج إلى نظر خليفة و لا سلطانا و أحكام هذه الولاية و شروطها و المولى فيها معروفة في كتب الفقه و مبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي و غيره فلا نطول بذكرها و لقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس. و انظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاة و ترصدهم لذلك في أوقاتها. يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها و أنهم لم يكونوا مستخلفين فيها. و كذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها و استعظاماً لرتبتها. يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه قد جعلت لك حجابهً يأبى إلا عن ثلاثة صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير و الأذان بالصلاة فإنه داع إلى الله و البريد فال في تأخيره فساد القاصية فلما جاءت طبيعة الملك و عوارضه من الغلظة و الترفع عن مساواة الناس في دينهم و دنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان و في الصلوات العامة كالعيدين و الجمعة إشارةً و تنويهاً فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس و العبيديين صدر دولتهم. و أما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم و التدريس و رد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك و منع من ليس أهلا لها و زجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم و بثه و الجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها و النظر في أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك و إن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك. على إذن. على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين و المدرسين زاجر من نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي و يضل به المسترشد و في الأثر أجراكم على الفتيا أجراكم على جراثيم جهنم فللسلطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد. و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي و قطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجاً في عمومها و كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء إلى من سواهم. و أول من دفعه إلى غيره و فوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء معه بالمدينة و ولى شريحاً بالبصرة و ولى أبا موسى الأشعري بالكوفة و كتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه يقول أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأمثال و الأشباه و قس الأمور بنظائرها و اجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينةً أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت القضاء عليه فإن ذلك أنفى للشك و أجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرى عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء، فإن الله سبحانه عفا عن الإيمان و درأ بالبينات. و إياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذكر و السلام. انتهى كتاب عمر و إنما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم و إن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة و كثرة أشغالها من الجهاد و الفتوحات و سد الثغور وحماية البيضة، و لم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس و استخلفوا فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم و كانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء و لا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك. و أما أحكام هذا المنصب و شروطه فمعروفة في كتب الفقه و خصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء و الملوك بالسياسة الكبرى و استقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين و اليتامى و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين و أوقافهم و تزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات و الأبنية و تصفح الشهود و الأمناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالة و الجرح ليحصل له الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته. و قد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم و هي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة و نصفة القضاء و تحتاج إلى علو يد و عظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين و تزجر المتعدي و كأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه و يكون نظره في البينات و التقرير و اعتماد الأمارات و القرائن و تأخير الحكم إلى استجلاء الحق و حمل الخصمين على الصلح و استحلاف الشهود و ذلك أوسع من نظر القاضي. و كان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس و ربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي أدريس الخولاني و كما فعله المأمون ليحيى بن أكثم و المعتصم لأحمد بن أبي داود و ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف و كان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرض الروم و كذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس فكانت توليه هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب. و كان أيضاً النظر في الجرائم و إقامة الحدود في الدولة العباسية و الأموية بالأندلس و العبيديين بمصر و المغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة و هي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً و يفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم و يقيم الحدود الثابتة في مالها و يحكم في القود و القصاص و يقيم التعزيز و التأديب في حق من لم ينته عن الجريمة. ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن و انقسمت وظيفة الشرطة قسمين منها وظيفة التهمة على الجرائم و إقامة حدودها و مباشرة القطع و القصاص حيث يتعين و نصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية و يسمى تارةً باسم الوالي و تارةً باسم الشرطة و بقي قسم التعازير و إقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع ذلك للقاضي مع ما تقدم و صار ذلك من توابع وظيفة ولايته و استقر الأمر لهذا العهد على ذلك و خرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة لأن الأمر لما كان خلافةً دينيةً و هذه الخطة من مراسم الدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب و مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، و لما انقرض شأن الخلافة و طورها و صار الأمر كله ملكاً أو سلطانا صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك و لا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب و صار الملك لسواهم من أمم الترك و البربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها. و ذلك أن العرب كانوا يرون أن الشريعة دينهم و هل النبي صلى الله عليه و سلم منهم و أحكامه و شرائعه نحلتهم بين الأمم و طريقهم، و غيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة. و كان أولئك المتأهلون بما أخذهم ترف الدول منذ مئتين من السنين قد نسوا عهد البداوة و خشونتها و التبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم و دعتهم، و قلة الممانعة عن أنفسهم، و صارت هذه الخطط في الدول الملوكية من بعد الخلفاء مختصةً بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار و نزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم و ما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف و الدعة، البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية، و صار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة و أخذها بأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. و لم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، و إنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، و لم يكن لهم فيها من الحل و العقد شيء، و أن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل و العقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له و لا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، و تلقي الفتاوى منهم فنعم و الله الموفق. و ربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك و أن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء و القضاة من الشورى مرجوح و قد قال صلى الله عليه و سلم: العلماء ورثة الأنبياء فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه و حكم الملك و السلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران و إلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى و الحل و العقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك، و أما من لا عصبية له و لا يملك من أمر نفسه شيئاً و لا من حمايتها و إنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. و أما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية و القيام على معرفة أحوالها وأحكامها و إنما إكرامهم من تبرعات الملوك و الأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين و تعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب و أما قوله صلى الله عليه و سلم العلماء ورثة الأنبياء فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد و ما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات و كيفية القضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم و لا يتصفون إلا بالأقل منها و في بعض الأحوال و السلف رضوان الله عليهم و أهل الدين و الورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها و تحققاً بمذاهبها. فمن حملها اتصافاً و تحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري و من اجتمع له الأمران فهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين و السلف و الأئمة الأربعة و من اقتفى طريقهم و جاء على أثرهم و إذا انفرد واحد من الأمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة و الفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال بنصها علينا في كيفيات العمل و هؤلاء أكثر فقهاء عصرنا إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم. العدالة: و هي وظيفة دينية تابعة للقضاء و من مواد تصريفه و حقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم و عليهم تحملاً عند الإشهاد و أداء عند التنازع و كتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس و أملاكهم و ديونهم و سائر معاملاتهم و شرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية و البراءة من الجرح ثم القيام بكتب السجلات و العقود من جهة عباراتها و انتظام فصولها و من جهة إحكام شروطها الشرعية و عقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه و لأجل هذه الشروط و ما يحتاج إليه من المران على ذلك و الممارسة له اختص ذلك ببعض العدول و صار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة و ليس كذلك و إنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة و يجب على القاضي تصفح أحوالهم و الكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم و أن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه في ذلك كله و هو ضامن دركه و إذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعبين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار و اشتباه الأحوال و اضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف و لهم في سائر الأمصار دكاكين و مصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد و تقييده بالكتاب و صار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها و بين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح و قد يتواردان و يفترقان و الله تعالى أعلم.