مقدمة ابن خلدون/الفصل الثاني عشر في أن الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم

ملاحظات:



الفصل الثاني عشر في أن الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم

عدل

وذلك أنّ الرّئاسة لا تكون إلّا بالغلب والغلب إنّما يكون بالعصبيّة كما قدّمناه فلا بدّ في الرّئاسة على القوم أن تكون من عصبيّة غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأنّ كلّ عصبيّة منهم إذا أحسّت بغلب عصبيّة الرّئيس لهم أقرّوا بالإذعان والاتّباع والسّاقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبيّة فيهم بالنّسب إنّما هو ملصق لزيق وغاية التّعصّب له بالولاء والحلف وذلك لا يوجب له غلبا عليهم البتّة وإذا فرضنا أنّه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأوّل من الالتصاق ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم فكيف له الرّئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه والرّئاسة على القوم إنّما تكون متناقلة في منبت واحد تعيّن له الغلب بالعصبيّة فالأوّليّة الّتي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شكّ ومنعه ذلك الالتصاق من الرّئاسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه وهو على حال الإلصاق والرّئاسة لا بدّ وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التّغلّب بالعصبيّة وقد يتشوّف كثير من الرّؤساء على القبائل والعصائب إلى أنساب يلهجون بها إمّا لخصوصيّة فضيلة كانت في أهل ذلك النّسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتّفق فينزعون إلى ذلك النّسب ويتورّطون بالدّعوى في شعوبه ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم والطّعن في شرفهم وهذا كثير في النّاس لهذا العهد فمن ذلك ما يدّعيه زناتة جملة أنّهم من العرب ومنه ادّعاء أولاد ربّاب المعروفين بالحجازيّين من بني عامر أحد شعوب زغبة أنّهم من بني سليم ثمّ من الشّريدمنهم لحق جدّهم ببني عامر نجّارا يصنع الحرجان 1 واختلط بهم والتحم بنسبهم حتّى رأس عليهم ويسمّونه الحجازيّ. ومن ذلك ادّعاء بني عبد القويّ بن العبّاس بن توجين أنّهم من ولد العبّاس بن عبد المطّلب رغبة في هذا النّسب الشّريف وغلطا باسم العبّاس بن عطيّة أبي عبد القويّ ولم يعلم دخول أحد من العبّاسيّين إلى المغرب لأنّه كان منذ أوّل دولتهم على دعوة العلويّين أعدائهم من الأدارسة والعبيديّين فكيف يكون من سبط العبّاس أحد من شيعة العلويّين؟ وكذلك ما يدّعيه أبناء زيّان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنّهم من ولد القاسم بن إدريس ذهابا إلى ما اشتهر في نسبهم أنّهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزّناتيّ أنت القاسم أي بنو القاسم ثمّ يدّعون أنّ القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمّد بن إدريس ولو كان ذلك صحيحا فغاية القاسم هذا أنّه فرّ من مكان سلطانه مستجيرا بهم فكيف تتمّ له الرّئاسة عليهم في باديتهم وإنّما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنّه كثير الوجود في الأدارسة فتوهّموا أنّ قاسمهم من ذلك النّسب وهم غير محتاجين لذلك فإنّ منالهم للملك والعزّة إنّما كان بعصبيّتهم ولم يكن بادّعاء علويّة ولا عبّاسيّة ولا شيء من الأنساب وإنّما يحمل على هذا المتقرّبون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتّى يبعد عن الرّدّ ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيّان مؤثّل سلطانهم أنّه لمّا قيل له ذلك أنكره وقال بلغته الزّناتيّة ما معناه أمّا الدّنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النّسب وأمّا نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله وأعرض عن التّقرّب إليهما بذلك. ومن هذا الباب ما يدّعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنّهم من ولد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنّهم من سليم والزّواودة شيوخ رياح أنّهم من أعقاب البرامكة وكذا بنو مهنّا أمراء طيِّئ بالمشرق يدّعون فيما بلغنا أنّهم من أعقابهم وأمثال ذلك كثير ورئاستهم في قومهم مانعة من ادّعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعيّن أن يكونوا من صريح ذلك النّسب وأقوى عصبيّاته فاعتبره واجتنب المغالط فيه ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهديّ الموحّدين بنسب العلويّة فإنّ المهديّ لم يكن من منبت الرّئاسة في هرثمة قومه، وإنّما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدّين ودخول قبائل المصامدة في دعوته وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسّطة فيهم والله عالم الغيب والشّهادة.

حواش

عدل
  1. قوله الحرجان بكسر الحاء جمع حرج بفتحتين نعش الموتى. 1 هـ-.