موافقات الشاطبي - الجزء الأول2

165 به فكل فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ فهو مما عفى عنه وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا لأنها إن لم تكن منهيا عنها ولا مأمورا بها ولا مخيرا فيها فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع وهو معنى العفو وأن تعلق بها الأمر والنهي فمن شرط المؤآخذة به ذكر الأمر والنهي والقدرة على الإمتثال وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال ومثل ذلك النائم والمجنون والحائض وأشباه ذلك ومنها الخطأ في الإجتهاد وهو راجع إلى الأول وقد جاء في القرآن عفا الله عنك لم أذنت لهم وقال لولا كتاب من الله سبق الآية ومنها الإكراه كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه إذا قلنا بجوازه فهو راجع إلى العفو كان الأمر والنهي باقيين عليه أو لا فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك وفعله لما فعل لا حرج عليه فيه ومنها الرخص كلها على اختلافها فإن النصوص دلت على ذلك حيث نص على رفع الجناح ورفع الحرج وحصول المغفرة ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال وإن كانت مطلوبة فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب فأكل الميتة إذا قلنا بإيجابه فلابد أن يكون نقيضه وهو الترك معفوا عنه وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما وهو محال ومرفوع عن الأمة ومنها الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ولم يمكن الجمع فإذا ترجح أحد الدليلين كان مقتضى المرجوح في حكم العفو لأنه إن لم يكن كذلك لم 166 يمكن الترجيح فيؤدي إلى رفع أصله وهو ثابت بالإجماع ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين وهو باطل وسواء علينا أقلنا ببقاء الإقتضاء في الدليل المرجوح وإنه في حكم الثابت أم قلنا إنه في حكم العدم لا فرق بينهما في لزوم العفو ومنها العمل على مخالفة دليل لم يبلغه أو على موافقة دليل بلغه وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح لأن الحجة لم تقم عليه بعد إذ لا بد من بلوغ الدليل إليه وعلمه به وحينئذ تحصل المؤآخذة به وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ومنها الترجيح بين الخطابين عند تزاحمهما ولم يمكن الجمع بينهما لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم لأنه الممكن في التكليف بهما وإلا لزم تكليف ما لا يطاق وهو مرفوع شرعا ومنها ما سكت عنه فهو عفو لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته فهو دليل على العفو فيه وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به والله أعلم فصل ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه أحدها أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف وهو الإقتضاء أو التخيير أو لا تكون بجملتها داخلة فإن كانت بجملتها داخلة فلا زائد على الأحكام الخمسة وهو المطلوب وإن لم تكن داخلة بجملتها لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب 167 التكليف ولو في وقت أو حالة ما لكن ذلك باطل لأنا فرضناه مكلفا فلا يصح خروجه فلا زائد على الأحكام الخمسة والثاني ان هذا الزائد إما أن يكون حكما شرعيا أو لا فإن لم يكن حكما شرعيا فلا اعتبار به والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا إنه مسمى بالعفو والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام وأيضا فإن العفو إنما هو حكم أخروى لا دنيوى وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا وأما إن كان العفو حكما شرعيا فإما من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع وأنواع خطاب التكليف محصورة في الخمسة وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون وهذا ليس منها فكان لغوا والثالث إن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسالة الأصولية وهي أن يقال هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا فالمسألة مختلف فيها فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل والأدلة فيها متعارضة فلا يصح اثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه وأيضا أن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة وما تقدم من الأدلة على اثبات مرتبة العفو لا دليل فيه فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة لأمكان الجمع بينهما ولأن العفو أخروى وأيضا فإن سلم للعفو ثبوت ففي زمانه عليه السلام لا في غيره ولا مكان تأويل تلك الظواهر وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ والنسيان والإكراه والحرج وذلك يقتضي إما الجواز بمعنى الإباحة وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب وذلك 168 يقتضي إثبات الإمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض فارتفع الحكم بمرتبة العفو وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة وفي هذا المجال أبحاث أخر فصل وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو إن قيل به نظر فإن الإقتصار به عل محال النصوص نزغة ظاهرية والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع والإقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله والقول في ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع أحدها الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه وإن قوى معارضه والثاني الخروج عن مقتضاه عن غير قصد أو عن قصد لكن بالتأويل والثالث العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا فأما الأول فيدخل تحته العمل بالعزيمة وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا ان العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة وكذلك العمل بالرخصة وإن توجه حكم العزيمة فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف وكلاهما أصل كلي فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما غير أنه لا يخرم أصل الرجوع لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف وقد اعتبر في مذهب مالك هذا ففيه أن سافر في رمضان أقل من أربعة برد فظن أن الفطر مباح به 169 فافطر فلا كفارة عليه وكذلك من أفطر فيه بتأويل وإن كان أصله غير علمى بل هذا جار في كل متأول كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر وقاتل المسلم ظانا أنه كافر وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر وأشباه ذلك ومثله المجتهد المخطىء في اجتهاده وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه جاء يوم الجمعة والنبى يخطب فسمعه يقول اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبى فقال تعالى يا عبد الله ابن مسعود فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف مع مجرد الأمر وأن قصد غيره مسارعة إلى امتثال أوامره وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله وهو يقول اجلسوا فجلس في الطريق فمر به النبى فقال ما شأنك فقال سمعتك تقول أجلسوا فجلست فقال النبى زادك الله طاعة وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله ولذلك سأله النبى حين رآه جالسا في غير موضع جلوس وقد قال عليه السلام لا يصل أحد العصر إلا في بنى قريظة فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبى فلم يعنف واحدة من الطائفتين ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضى من مسائل الاجتهاد ثم يتبين له خطأه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع وكذلك الترجيح بين الدليلين فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر فإذا فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد مثله في الجملة فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور وإنما قلنا الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض فشرط فيه المعارضة لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو لأنه أمر أو نهى أو تخيير عمل على وفقه فلا عتب 170 يتوهم فيه ولا مؤآخذة تلزمه بحكم الظاهر فلا موقع للعفو فيه وإنما قيل وإن قوى معارضه لأنه إن لم يقو معارضه لم يكن من هذا النوع بل من النوع الذي يليه على أثر هذا فإنه ترك لدليل وهنا وإن كان أعمالا لدليل أيضا فأعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر كأعمال الدليل غير المعارض فلا عفو فيه وأما النوع الثانى وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد أو عن قصد لكن بالتأويل فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته أو يتركه معتقدا إباحته إذا لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه كقريب العهد بالإسلام لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها أو لا يعلم أن غسل الجنابة واجب فيتركه وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين وقد روى عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ويراه من التعمق حتى بلغه أن النبى كان يخلل فرجع إلى القول به وكما اتفق لأبى يوسف مع مالك في المد والصاع حتى رجع إلى القول بذلك ومن ذلك العمل على المخالفة خطأ أونسيانا ومما يروى من الحديث رفع أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإن صح فذلك وإلا فالمعنى متفق عليه ومما يجرى مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد وإن وجد القصد الا كراه المضمن في الحديث وأبين 171 من هذا العفو عن عثرات ذوى الهيآت فإنه ثتب في الشرع اقالتهم في الزلات وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم جاء في الحديث أقيلوا ذوى الهيآت عثراتهم وفى حديث آخر تجافوا عن عقوبة ذوى المروءة والصلاح وروى العمل بذلك عن محمد بن أبى بكر بن عمرو بن حزم فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا وضربه فأرسله وقال أنت من ذوى الهيآت وفى خبر آخر عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال استادى على مولى لى جرحته يقال له سلام البربرى إلى ابن حزم فأتانى فقال جرحته قلت نعم قال سمعت خالتى عمرة تقول قالت عائشة قال رسول الله أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم فخلى سبيله ولم يعاقبه وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه فإنه قال ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش لا اللمم الآية لكنها أحكام آخروية وكلامنا في الأحكام الدنيوية ويقرب 172 من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد ومع ذلك فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت غلب حكمها ودخل صاحبها في حكم العفو وقد يعد هذا المجال مما خولف فيه الدليل بالتأويل وهو من هذا النوع أيضا ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدي قال عمر ولم قال لأن الله يقول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله قال القاضي إسماعيل وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات وأخطأ في التأويل بخلاف من استحلها كما في حديث علي رضي الله عنه ولم يأت في حديث قدامة أنه حد ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت قال في مختصر ما ليس في المختصر لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ولا المستحاضة شهرا لم يقضيا ما مضى إذا تأولنا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم وقيل في المستحاضة إذا تركت بعد أيام أقرائها يسيرا اعادته وإن كان كثيرا 173 فليس عليها قضاؤه بالواجب وفي سماع أبي زيد عن مالك أنها إذا تركت الصلاة بعد الإستظهار جاهلة لا تقضي صلاة تلك الأيام واستحب ابن القاسم لها القضاء فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل فجعلوه من قبيل العفو ومن ذلك أيضا المسافر يقدم قبل الفجر فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب فلا كفارة هنا وإن خالف الدليل لأنه متأول وإسقاط الكفارة هو معنى العفو وأما النوع الثالث وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه ففيه نظر فإن خلوا بعض الوقائع عن حكم لله مما اختلف فيه فأما على القول بصحة الخلو فيتوجه النظر وهو مقتضى الحديث وما سكت عنه فهو عفو وأشباهه مما تقدم وأما علي القول الآخر فيشكل الحديث إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال بل هو إما منصوص وإما مقيس على منصوص والقياس من جملة الأدلة الشرعية فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم فانتفى المسكوت عنه إذا ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الإستفصال مع وجود مظنته وإلى السكوت عن مجارى العادات مع استصحابها في الوقائع وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم عليه السلام فالأول كما في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم وإذا نظر إلى المعنى اشكل لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام فكان للنظر هنا مجال ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال كله 174 قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم يريد والله أعلم أن الآية لم يخص عمومها وإن وجد هذا الخاص المنافي وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم اللفظ ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة وإلى نحو هذا يشير قوله عليه السلام وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها وحديث الحج أيضا مثل هذا حين قال أحجنا هذا لعامنا أو للأبد لأن اعتبار اللفظ يعطى أنه للأبد فكره عليه السلام سؤاله وبين له علة ترك السؤال عن مثله وكذلك حديث أن أعظم المسلمين في المسلمين جرما الخ يشير إلى هذا المعنى فإن السؤال عما لم يحرم ثم يحرم لأجل المسألة إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه فيه يقتضي التحريم مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية وإن اختلفت فروعه في أنفسها أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل ونحو حديث ذروني ما تركتكم وأشباه ذلك والثاني كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار ثم حرمت بعد ذلك بتدريج كالخمر فإنها كانت معتادة الإستعمال في الجاهلية ثم جاء الإسلام فتركت على حالها قبل الهجرة وزمانا بعد ذلك ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل يسألونك عن الخمر والميسر فبين ما فيها من المنافع والمضار وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة وهو التحريم لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة والمفاسد ممنوعة فبان وجه المنع فيهما غير أنه لما لم ينص على المنع وإن ظهر وجهه تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجارى العادات ودخل لهم تحت العفو إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى فاجتنبوه فحينئذ استقر حكم التحريم وارتفع العفو وقد دل على ذلك قوله تعالى ليس 175 على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية فإنه لما حرمت قالوا كيف بمن مات وهو يشربها فنزلت الآية فرفع الجناح هو معنى العفو ومثل ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم كبيع المضامين والملاقيح والثمر قبل بدو صلاحه واشباه ذلك كلها كانت مسكوتا عنها وما سكت عنه فهو في معنى العفو والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام كالقراض والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث وغيره وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء والثالث كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما إلا ما غيروا فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ويطوفون بالبيت أسبوعا ويمسحون الحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ويقفون بعرفات ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها ويغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويصلون عليهم ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة وقد نسخ منها ما نسخ وأبقى منها ما أبقى على المعهود الأول فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة وانضبطت والحمد لله على أقرب ما يكون أعمالا لأدلته الدالة على ثبوته إلا أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أم لا وإذا قيل حكم فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع هذا محتمل كله ولكن لما لم يكن مما 176 ينبني عليه حكم عملي لم يتأكد البيان فيه فكان الأولى تركه والله الموفق للصواب المسألة الحادية عشرة طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه على الجميع لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وما قالوه صحيح من جهة كلى الطلب وأما من جهة جزئية ففيه تفصيل وينقسم أقساما وربما تشعب تشعبا طويلا ولكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ولا على البعض كيف كان ولكن على من فيه أهليةالقيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما والدليل على ذلك أمور أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفرمن كل فرقة منهم طائفة الآية فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع وقوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف الآية وقوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم الآية إلى آخرها وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع والثاني ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذ المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى فإنها إنما تتعين على من فيه 177 أوصافها المرعية لا على كل الناس وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها وكذلك الجهاد حيث يكون فرض كفاية إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة وكلاهما باطل شرعا والثالث ما وفع من فتاوي العلماء وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى فمن ذلك ما روى عن محمد رسول الله وقد قال لأبي ذر يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم رواه مسلم وكلا الأمرين من فروض الكفاية ومع ذلك فقد نهاه عنها فلو فرض إهمال الناس لهما لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج الإهمال ولا من كان مثله وفي الحديث لا تسأل الإمارة وهذا النهي يقتضى أنها غير عامة الوجوب ونهى أبو بكر رضي الله عنه بعض الناس عن الإمارة فلما مات رسول الله وليها أبو بكر فجاءه الرجل فقال نهيتني عن الإمارة ثم وليت فقال له وأنا الآن أنهاك عنها واعتذر له 178 عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا وروى أن تميما الداري استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أن يقص فمنعه من ذلك وهو من مطلوبات الكفاية أعني هذا النوع من القصص الذي طلبه تميم وضي الله عنه وروى نحوه عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم أفرض هو فقال إما على كل الناس فلا يعنى به الزائد على الفرض العيني وقال أيضا أما من كان فيه موضع للامامة فالإجتهاد في طلب العلم عليه واجب والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه فقسم كما ترى فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ومن لا جعله مندوبا إليه وفي ذلك بيان أنه ليس على كل الناس وقال سحنون من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه وبالجملة فالأمر في هذا المعنى واضح وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول لكن قد يصح أن يقال أنه واجب على الجميع على وجه من التجوز لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة فهم مطلوبون بسدها عل الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون 179 على إقامة القادرين فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر واجباره على القيام بها فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر فصل ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها وتتبين صحتها بحول الله وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ألا ترى إلى قول الله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه وتارة بالتعليم فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح وكافة ما تدرأ به المفاسد إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية والمطالب الإلهامية لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم والإعتقادات أو الآداب الشرعية أو العادية وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم وآخر لطلب الرياسة وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها وأخر للصراع والنطاح إلى سائر الأمور هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه ويتعين على الناظرين فيهم الإلتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها 180 ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ويعينونهم على القيام بها ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية والمدركات الضرورية فعند ذلك يحصل الإنتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية فإذا فرض مثلا واحد من الصبيان ظهرعليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ميل به نحو ذلك القصد وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به ويعان عليه ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص وأحبه أكثر من غيره ترك وما أحب وخص بأهله فوجب عليهم إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته ثم إن وقف هنالك فحسن وإن طلب الأخذ في غيره أوطلب به فعل معه فيه ما فعل فيما قبله وهكذا إلى أن ينتهي كما لو بدأ بعلم العربية مثلا فإنه الأحق بالتقديم فإنه يصرف إلى معلميها فصار من رعيتهم وصاروا هم راعة له فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن صار من رعيتهم وصاروا هم رعاة له كذلك ومثله أن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فيمال به نحو ذلك ويعلم آدابه المشتركة ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير 181 كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به وما ظهر له فيه نجابة ونهوض وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم لأنه سير أولا في طريق مشترك فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية وفي التي يندر من يصل إليها كالاجتهاد في الشريعة والإمارة فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد ولا هو على الكافة بأطلاق ولا على البعض بأطلاق ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل ولا بالعكس بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه والله أعلم وأحكم المسألة الثانية عشرة ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا هل يكر على أصل الإباحة بالنقض أولا هذا محل نظر واشكال والقول فيه أنه لا يخلوا إما أن يضطر إلى ذلك المباح أم لا وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا فهذه أقسام ثلاثة أحدها أن يضطر إلى فعل ذلك المباح فلا بد من الرجوع إلى ذلك 182 الأصل وعدم اعتبار ذلك العارض لأوجه منها أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل ولم يبق على أصله من الإباحة وإذا صار واجبا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه وليس فرض المسألة هكذا فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى فلا بد من الرجوع إليه وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ والثاني أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع أعني أن إقامة الضرورة معتبرة وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية والثالث إنا لو اعتبرنا العوارض ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا وذلك غير صحيح كما سيأتي في كتاب المقاصد من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب فإن البيع والشراء حلال في الأصل فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط وإذا اعتبرت أد ى إلى ارتفاع ما اضطر إليه وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل فما نحن فيه مثله القسم الثاني أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج كما سيأتي لإبن العربي في دخول الحمام وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الإمتناع من التصرف حرجا بينا وما جعل عليكم في الدين حرج وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج كالقرض الذي فيه بيع للفضة بالفضة ليس يدا بيد وإباحة العرايا 183 وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح وعوارض مخالطةالناس وما أشبه ذلك وهو كثير هذا وإن ظهر ببادئ الرأي الخلاف ههنا فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم وهم أهل علم يقتدى بهم ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الإنكفاف واعتبار العوارض فهؤلاء إنما بتوا في المسألة على أحد وجهين إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم وإنه مما هو معتاد في التكاليف والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام وإما أنهم عملوا وافتوا باعتبار الإصطلاح الواقع في الرخص فرأوا ان كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان وإن لم يطرق في طريقه عارض فما ظنك به إذا طرق العارض والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص وربما اعترضت في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح وإن الحرج فيها أعظم منه في تركه وهذا أيضا مجال اجتهاد إلا أنه يقال هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى وهي 184 المسألة الثالثة عشرة فنقول لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه فإن كان هذا الثاني فإما أن يكون واقعا أو متوقعا فإن كان متوقعا فلا أثر له مع وجود الحرج لأن الحرج بالترك واقع وهومفسدة ومفسدة العارض متوقعة متوهمة فلا تعارض الواقع ألبتة وأما ان كان واقعا فهو محل الإجتهاد في الحقيقة وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة ترك المباح وقد يكون الأمر بالعكس والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح وإن كان الأول فلا يصح التعارض ولا تساوي المفسدتين بل مفسدة فقد الأصل أعظم والدليل على ذلك أمور أحدها أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف وقد مر بيان ذلك في موضعه وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق بخلاف العكس كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم وفي المصلحة والمفسدة فكذا ما كان مثل ذلك والثاني أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة وجود مصلحة المكمل والثالث أن المكمل من حيث هو مكمل إنما هو مقو لأصل المصلحة ومؤكد لها ففوته إنما هو فوت بعض المكملات مع أن أصل المصلحة باق وإذا 185 كان باقيا لم يعارضه ما ليس في مقابلته كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل وهو ظاهر والقسم الثالث من القسم الأول وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج فهو محل اجتهاد وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية فإن هذا الأصل متفق عليه في الإعتبار ومنه ما فيه خلاف كالذرائع في البيوع واشباهها وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب والخلاف فيه شهير ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي واثبات متفق عليهما فإن أصل التعاون على البر والتقوى أو الإثم والعدوان مكمل لما هو عون عليه وكذلك أصل الذرائع ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمل لا مكمل ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري إذ قد تقرر إن حقيقة الإباحة التي هي تخيير حقيقة تلحق بالضروريات وهي أصول المصالح فهي في حكم الخادم لها إن لم تكن في الحقيقة إياها فاعتبار المعارض في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا وإذا كان كذلك صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله وهو خلاف الدليل وأيضا إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه المكمل وأطلق هذا النظر أو شك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته إذ عوارض المباح كثيرة فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك وتعذر المخرج فيصار إلى القسم الذي قبله وقد مر ما فيه ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو 186 المؤدي إلى ذلك لم يسغ الميل إليه ولا التعريج عليه وأيضا فإذا كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما وتعارضا عليه لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل فيجب الوقوف إذا إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة وإما العفو وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن فكان هو الراجح ولمرجح جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات وهي كذلك أبدا لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها وقد فرضت كذلك هذا خلف وإذا تخير المكلف فيها فذلك قاض بعدم المفسدة في تحصيلها وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها وكلاهما صاد عن سبيل التخيير فلا يصح والحالة هذه أن تكون مخيرا فيها وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة وأيضا فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع فنهى عن ملابستها وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال هذه المطالب وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة وأيضا فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت فإن المسألة مختلف فيها فمن قال إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر فلا نظر في اعتبار العوارض لأنها ترد الأشياء إلى أصولها فجانبها أرجح ومن قال الأصل الإباحة أن العفو فليس ذلك على عمومه باتفاق بل له مخصصات ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل وليست مسألتنا بمفقودة المعارض ولا يقال أنهما يتعارضان لامكان تخصيص أحدهما 187 بالآخر كما لا يصح أن يقال أن قوله عليه السلام لا يرث المسلم الكافر روي عن الستة الا النسائي معارض لقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وأوجه الإحتجاج من الجانبين كثيرة والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم والله أعلم القسم الثاني من قسمي الأحكام وهو يرجع إلى خطاب الوضع وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع والصحة والبطلان والعزائم والرخص فهذه خمسة أنواع فالأول ينظر فيه في مسائل المسألة الأولى الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان أحدهما خارج عن مقدور المكلف والآخر ما يصح دخوله تحت مقدوره فالأول قد يكون سببا ويكون شرطا ويكون مانعا فالسبب مثل كون الإضطرار سببا في إباحة الميتة وخوف العنت سببا في إباحة نكاح الإماء والسلس سببا 188 في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك والشرط ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة والبلوغ شرطا في التكليف مطلقا والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب وما كان نحو ذلك والمانع ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام والجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات وما أشبه ذلك وأما الضرب الثاني فله نظران نظر من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا كالبيع والشراء للإنتفاع والنكاح للنسل والإنقياد للطاعة لحصول الفوز وما أشبه ذلك وهو بين ونظر من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببا أو شرطا أو مانعا أما السبب فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الإستمتاع والذكاة سببا لحلية الإنتفاع بالأكل والسفر سببا في إباحة القصر والفطر والقتل والجرح سببا للقصاص والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات وما أشبه ذلك فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرع تلك المسببات وأما الشرط فمثل 189 كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا والإحصان شرطا في رجم الزاني والطهارة شرطا في صحة الصلاة والنية شرطا في صحة العبادات فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات وأما المانع فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها والإيمان مانعا من القصاص للكافر والكفر مانعا من قبول الطاعات وما أشبه ذلك وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا كالإيمان هو سبب في الثواب وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها ومانع من القصاص منه للكافر ومثله كثير غير أن هذه الامور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له لما في ذلك من التدافع وإنما يكون سببا لحكم وشرطا لآخر ومانعا لآخر ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف المسألة الثانية مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادة ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من اباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها 190 فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب وإذا نهى عنه لم يستلزم النهي عن المسبب وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه مثال ذلك الأمر بالبيع مثلا لا يستلزم الأمر بإباحة الإنتفاع بالمبيع والأمر بالنكاح لا يستلزم الامر بحلية البضع والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق ومن ذلك كثير والدليل على ذلك ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطى الأسباب وإنما المسببات من فعل الله وحكمه لا كسب فيه للمكلف وهذا يتبين في علم آخر والقرآن والسنة دالان عليه فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق كقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقوله وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقوله وفي السماء رزقكم وما توعدون إلى آخر الآية وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق وليس المراد نفس التسبب إلى الرزق بل الرزق المتسبب إليه ولو كان المراد نفس التسبب لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها أو ازدراع الحب أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة لكن ذلك باطل باتفاق فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه وفي الحديث لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير حسن صحيح الحديث وفيه اعقلها وتوكل رواه الترمذي وقال غريب ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم ومما يبينه قوله تعالى أفرأيتم ما 191 تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون أفرأيتم ما تحرثون أفرأيتم الماء الذي تشربون أفرأيتم النار التي تورون وأتى على ذلك كله والله خلقكم وما تعملون والله خالق كل شيء وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ثم الحكم فيه لله وحده واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به وإذا كان كذلك دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب فخرجت المسببات عن خطاب التكليف لأنها ليست من مقدورهم ولو تعلق بها لكان تكليفا بما لا يطاق وهو غير واقع كما تبين في الأصول ولا يقال أن الإستلزام موجود ألا ترى أن 192 إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الإنتفاع الخاص بكل واحد منها وإذا تعلق بها التحريم كبيع الربا والغرر والجهالة استلزم تحريم الإنتفاع المسبب عنها وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة وتستلزم إباحة الإنتفاع فإذا وقعت على غير المشروع كانت ممنوعة واستلزمت منع الإنتفاع إلى أشياء من هذا النحو كثيرة فكيف يقال أن الأمر بالأسباب والنهي عنها لا يستلزم الأمر بالمسببات ولا النهي عنها وكذلك في الإباحة لأنا نقول هذا كله لا يدل على الاستلزام من وجهين أحدهما أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام وقام الدليل على ذلك فما جاء بخلافه فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام الثانى أن ما ذكر ليس فيه استلزام بدليل ظهوره في بعض تلك الأمثلة فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمور به فكما نقول في الإنتقاع بالمبيع أنه مباح نقول في النفقة عليه أنها واجبة إذا كان حيوانا والنفقة من مسببات العقد المباح وكذلك حفظ الأموال المتملكه مسبب عن سبب مباح وهو مطلوب ومثل ذلك الذكاة فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكول كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ومكروه في البعض هذا في الأسباب المشروعة وأما الأسباب الممنوعه فأمرها أسهل لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب وإذا لم تكن أسبابا لم تكن لها مسببات فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة وهذا كله ظاهر فالأصل مطرد والقاعدة مستتبة وبالله التوفيق وينبنى على هذا الأصل 193 المسألة الثالثة وهى أنه لا يلزم في تعاطى الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير أسبابا كانت أو غير أسباب معللة كانت أو غير معللة والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب وإنها ليست من مقدور المكلف فإذا لم تكن راجعة إليه فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم وهو السبب وما سواه غير لازم وهو المطلوب وأيضا فإن من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ وإلى جهته ميل فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يولى على العمل من طلبه والولاية الشرعية كلها مطلوبة إما طلب الوجوب أو الندب ولكن راعى عليه السلام في ذلك ما لعله يتسبب عن اعتبار الحظ وشأن طلب الحظ في مثل هذا أن ينشأ عنه أمور تكره كما سيأتى بحول الله تعالى بل قد راعى عليه السلام مثل هذا في المباح فقال ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه اخرجه الشيخان الحديث فشرط في قبوله عدم اشراف النفس فدل على أن أخذه بإشراف على خلاف ذلك وتفيسره في الحديث الآخر من يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع وأخذه بحقه هو أن لا ينسى حق الله فيه وهو من آثار عدم إشراف النفس وأخذه بغير حقه خلاف ذلك وبين 194 هذا المعنى الرواية الأخرى نعم صاحب المسلم هو من أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذى يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة ووجه ثالث وهو أن العباد من هذه الأمة ممن يعتبر مثله ههنا أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن الشوائب الحظوظ حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها وأسسوها قاعدة بنوا عليها في تعارض الأعمال وتقديم بعضها على بعض أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه أو ما ثقل عليها حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس وهم الحجة فيما انتحلوا لأن إجماعهم إجماع وذلك دليل على صحة الإعراض عن المسببات في الأسباب وقال عليه السلام إذ سأله جبريل عن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك رواه البخاري وكل تصرف للعبد تحت قانون الشرع فهو عبادة والذى يعبد الله على المراقبة يعزب عنه إذا تلبس بالعبادة حظ نفسه فيها هذا مقتضى العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها وهو معنى بينه أهله كالغزالي وغيره فإذا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الإلتفات إلى المسببات وهذا أيضا جار في الأسباب الممنوعة كما يجرى في الأسباب المشروعة ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب في جريان الثواب والعقاب فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز المسبب عن سببه والسبب هو المتضمن له فلا يفوته شىء إلا بفوت شرط أو جزء أصلى أو تكميلى في السبب خاصة المسألة الرابعة وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات أعنى الشارع والدليل على ذلك أمور 195 أحدها أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هى موجودات فقط بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر وإذا كان كذلك لزم من القصد إلى وضعها أسبابا القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات والثانى أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد وهي مسبباتها قطعا فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل المسببات لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات والثالث أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب لم يكن وضعها على أنها أسباب لكهنا فرضت كذلك فهى ولابد موضوعة على أنها أسباب ولا تكون أسبابا إلا لمسببات فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها وإذا ثبت هذا وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع لزم أن تكون المسببات كذلك فإن قيل فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب فالجواب من وجهين أحدهما أن القصدين متباينان فما تقدم هو بمعنى أن الشارع لم يقصد في التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات فإن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشرع يقصد وقوع المسببات عن أسبابها ولذلك وضعها أسبابا وليس في هذا ما يقتضى أنها داخلة تحت خطاب التكليف وإنما فيه ما يقتضى القصد إلى مجرد الوقوع خاصة فلا تناقص بين الأصلين والثانى أنه لو فرض توارد القصدين على شىء واحد لم يكن محالا 196 إذا كانا باعتبارين مختلفين كما توارد قصد الأمر والنهى معا على الصلاة في الدار المغصوبة بإعتبارين والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق المسألة الخامسة إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق وله القصد إليه أما الأول فما تقدم يدل عليه فإذا قيل لك لم تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها قلت لأن الشارع ندبنى إلى تلك الأعمال فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به كما أنه أمرنى أن أصلي وأصوم وأزكى وأحج إلى غير ذلك من الأعمال التى كلفنى بها فإن قيل لك إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح قلت نعم وذلك إلى الله لا إلي فإن الذى إلى التسبب وحصول المسببات ليس إلى فأصرف قصدى إلى ما جعل إلى وأكل ما ليس لي إلى من هو له ومما يدل على هذا أيضا أن السبب غير فاعل بنفسه بل إنما وقع المسبب عنده لا به فإذا تسبب الملكف فالله خالق السبب والعبد مكتسب له والله خلقكم وما تعملون والله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل وما تشاءون إلا أن يشاء الله ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وفى حديث العدوي قوله عليه الصلاة والسلام فمن أعدى الأول رواه الشيخان وقول عمر في حديث الطاعون نفرمن قدر الله إلى قدر الله حين قال له عمرو بن العاصى أفرارا من قدر الله وفى الحديث جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه رواه الترمذي وصححه 197 وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه والأدلة على هذا تنتهى إلى القطع وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون هذا وإن كانت مجارى العادات تقتضى أنه يكون فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضى أنه قد يكون وقد لا يكون ونقض مجارى العادات دليل على ذلك وأيضا فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد المسبب فإن قيل قصد الشارع إلى المسببات والتفاته إليها دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف وإلا فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين في موضعه من هذا الكتاب فإذا طابقه صح فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات وقد فرضناها مقصودة للشارع كان بذلك مخالفا له وكل تكليف قد خالف القصد فيه قصد الشارع فباطل كما تبين فهذا كذلك فالجواب أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب وليس كذلك لما مر أن المسببات غير ملكف بها وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق وهو أن يكون خلق المسببات على أثر ايقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ويشقى من شقى فإذا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له بالقصد 198 التكليفى فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل ولا دليل عليه بل لا يصح ذلك لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير لأنه غير مكلف بفعل الغير وإنما يكلف بما هو من فعله وهو السبب خاصة فهو الذى يلزم القصد إليه أو يطلب القصد إليه ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع فصل وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب فكما إذا قيل لك لم تكتسب قلت لاقيم صلبى وأقوم في حياة نفسى وأهلى أو لغير ذلك من المصالح التى توجد عن السبب فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح لأنه التفات إلى العادات الجارية وقد قال تعالى الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله وقال ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله وقال فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب 199 الذى هو الاكتساب وسيق مساق الامتنان من غير انكار أشعر بصحة ذلك القصد وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا كقوله تعالى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب وأيضا فإنما محصول هذا أن يبتغى ما يهىء الله له بهذا السبب فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ويصلح به حاله وهذا لا نكير فيه شرعا وذلك أن المعلوم من الشريعة أنه شرعت لمصالح العباد فالتكليف كله إما لدرء مفسدة وإما لجلب مصلحة أو لهما معا فالداخل تحته مقتض لما وضعت له فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع والمحظور إنما هو أن يقصد خلاف ما قصده مع أن هذا القصد لا ينبنى عليه عمل غير مقصود للشارع ولا يلزم منه عقد مخالف فالفعل موافق والقصد موافق فالمجموع موافق فإن قيل هل يستتب هذان الوجهان في جميع الأحكام العادية والعبادية أم لا فإن الذى يظهر لبادىء الرأى أن قصد المسببات لازم في العاديات لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات لأن المعانى المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد وهو ظاهرة في العاديات 200 وغير ظاهرة في العباديات وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسببات والقصد إليها معتبر في العاديات ولا سيما في المجتهد فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس وذلك غير صحيح فلابد من الالتفات إلى المعانى التى شرعت لها الأحكام والمعانى هى مسببات الأحكام أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعانى الخاصة بها والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها كان ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية فالجواب أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هى فيه لتقع المصلحة المشروع لها الحكم هذا نظره خاصة ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أوعدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد وفى الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر كالمقلد سواء فإذا سمع قوله عليه السلام متفق عليه لا يقضى القاضى وهو غضبان متفق عليه نظر إلى علة منع القضاء فرآه الغضب وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك وكان قاضيا متنع من 201 القضاء بمقتضى النهى فإن قصد بالانتهاء مجرد النهى فقط من غير التفات إلى الحكمة التى لأجلها نهى عن القضا حصل مقصود الشارع وأن لم يقصده القاضى وأن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد ا لقاضى إلى المسبب وعدم قصده وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال وما لم يفهم فهو كالعبادات بالنسبة إلى الجميع وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة وأن لم يعلم ذلك على التفصيل ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والآخروية على الجملة فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم المسألةالسادسة إذا تقرر ما تقدم فلدخول في الأسباب مراتب تتفرع على القسمين فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب أحدها أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له فهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله والسبب غير فاعل بنفسه والله خالق كل شىء والله خلقكم وما تعملون وفى الحديث أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر بقية الحديث كما في التيسير عازيا له إلى الستة الا الترمذي الحديث فإن المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذى جعل الكوكب فاعلا بنفسه وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام والثانية أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة وهذا 202 هو المتكلم على حكمه قبل ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا بإعتقاده الاستقلال بل من جهة كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب لأنه معقوله وإلا لم يكن سببا فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب وعند عدمه فلا ينفى وجود السبب كونه خالقا للمسبب لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لامقتضيا بنفسه وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب والثالثة أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى لأنه المسبب فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته من غير تحكيم لكونه سببا فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف كالأسباب العقلية فلما لم يكن كذلك تمحض جانب التسبيب الربانى بدليل السبب الأول وهنا يقال لمن حكمه فالسبب الأول عماذا تسبب وفى مثله قال عليه الصلاة والسلام فمن أعدى الأول فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله فالله هو المسبب لاهى إذ ليس له شريك في ملكه وهذا كله مبين في علم الكلام وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه وذلك صحيح فصل وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب إحداها أن يدخل في السبب 203 من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم لينظر كيف يعملون من غير التفات إلى غير ذلك وهذا مبنى على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحانا لهم فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة وهي على ضربين أحدهما ما وضع لابتلاء العقول وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه وصنعة يستدل بها على ما وراءها والثانى ما وضع لابتلاء النفوس وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار ومن حيث هو مسخر لهم ومنقاد لما يريدون فيه لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ولتجرى أعمالهم تحت حكم الشرع ليسعد بها من سعد ويشقى من شقى وليظهر مقتضى العلم السابق والقضاء المحتم الذى لا مرد له فإن الله غني عن العالمين ومنزه عن الإفتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها والأدلة على هذا المعنى كثيرة كقوله سبحانه هوالذى خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا إلى قوله ويعلم الصابرين وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ثم صرفكم عنهم ليبتليكم إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب إنما هي للإبتلاء فإذا كانت كذلك فالآخذ لها من هذه 204 الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها وهذا صحيح وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه لا ملتفتا إلى مسبباتها وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة والثانية أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الإلتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة فضلا عن الإلتفات إلى المسببات بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة لأن بقاء الإلتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات وركون إلى الأغيار وهو تدقيق في نفي الشركة وهذا أيضا في موضعه صحيح ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة كقوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وقوله فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وسائر ما كان من هذا الباب وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله رب العالمين كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه وصدق العبودية فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته فضلا عن أن ينظر في مسبباتها فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلي مسببها وواضعها إلي الترقي لمقام القرب منه فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة والثالثة أن يدخل في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في 205 غير ذلك وإنما توجهه في القصد إلى السبب تلبية للأمر لتحققه بمقام العبودية لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب وقد تبين له أنه مسببه وأنه أجرى العادة به ولو شاء لم يجرها كما أنه قد يخرقها إذا شاء وعلى أنه ابتلاء وتمحيص وعلى أنه يقتضى صدق التوجه به إليه فدخل على ذلك كله فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره وقد علم قصده في تلك الأمور فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب مما علم ومما لم يعلم فهو طالب للمسبب من طريق السبب وعالم بأن الله هو المسبب وهو المبتلى به ومتحقق في صدق التوجه به إليه فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب لكن ذلك كله منزه عن الأغيار مصفى من الأكدار المسألة السابعة الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أولا فإن كان منهيا عنه فلا إشكال في طلب رفع التسبب سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا فإنه يتأتى منه الأمران فقد يقصد بالقتل العدوان ازهاق الروح فيقع وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع على مقتضى العادة لا على مقتضى الشرع وقد لا يقع ألبتة وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب والإلتفات إليه لعارض يطرأ غير العارض المتقدم الذكر ولا اعتبار به وإن كان غير منهى عنه فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها 206 أما الأولى فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة فاعتقاد المعتقد لكون السبب هو الفاعل معصية قارنت ما هو مباح أو مطلوب فلا يبطله إلا إن قيل أن مثل هذه المقارنة مفسدة وأن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالمدية المغصوبة وذلك مبين في الأصول وأما الثانية فظاهر أن التسبب صحيح لأن العامل فيها إذا اعتمد على جريان العادات وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن أسبابها وغلب على الظن ذلك كان ترك التسبب كإلقاء باليد إلى التهلكة أو هو هو وكذلك إذا بلغ مبلغ القطع العادى فواجب عليه أن يتسبب ولأجل هذا قالوا في المضطر أنه إذا خاف الهلكة وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ونحوها ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت ولذلك قال مسروق ومن اضطر إلى شىء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار وأما الثالثة فالتسبب أيضا ظاهر إلا أنه يبقى فيها بحث هل يكون صاحبها بمنزلة صاحب المرتبة الثانية أم لا هذا مما ينظر فيه وإطلاق كلام الفقهاء يقتضى عدم التفرقة وأحوال المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضى ذلك هذا وإن كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين في هذا الحكم كطريقة الفقهاء على تفصيل له في ذلك فالذى يظهر في المسألة نظر آخر وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية وتكون حالية والفرق بين العلم والحال معروف عند أهله فإذا كانت علمية فهي المرتبة الثانية إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها وإنما الفاعل فيها مسببها سبحانه لكن عادته في خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة وقد يخرقها إذا 207 شاء لمن شاء فمن حيث كانت عادة اقتضت الدخول في الأسباب ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين فإن غلب الطرف الأول وهو العادى فهو ما تقدم وإن غلب الثانى فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة فإنه إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة فسواء عليه اتسبب أم لا إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى فلم يغلب على ظنه والحال هذه أن تركه للسبب القاء باليد إلى التهلكة بل عقده في كلتا الحالتين واحد فلا يدخل تحت قوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك لأن علمه بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعين بل السبب وعدمه في ذلك سواء فكما أن أخذه للسبب لا يعد القاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب كذلك في الترك ولو فرض أن آخذ السبب أخذه باسقاط الإعتماد على المسبب لكان القاء باليد إلى التهلكة لأنه اعتمد على نفس السبب وليس في السبب نفسه ما يعتمد عليه وإنما يعتمد عليه من جهة كونه موضوعا سببا فكذلك إذا ترك السبب لا لشىء فالسبب وعدمه في الحالين سواء في عقد الإيمان وحقائق الإيقان وكل أحد فقيه نفسه وقد مر الدليل على ذلك وقد قال في الحديث جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه وحكى عياض عن الحسن بن نصر السوسي من فقهاء المالكية أن ابنه قال له في سنة غلا فيها السعر يا أبت اشتر طعاما فإنى أرى السعر قد غلا 208 فأمر ببيع ما كان في داره من الطعام ثم قال لابنه لست من المتوكلين على الله وأنت قليل اليقين كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله عليك من توكل على الله كفاه الله ونظير مسألتنا في الفقه الغازى إذا حمل وحده على جيش الكفار فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة أو الهلكة أو يقطع بإحداهما فالذى اعتقد السلامة جائز له ما فعل والذى اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك ويستدلون على ذلك يقوله تعالى ولا تلقو بأيدكم إلى التهلكة وكذلك داخل المفازة بزاد أو بغير زاد إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام وإن غلب على ظنه الهكلة لم يجز وكذلك إذا غلب ظنه الوصول إلى الماء في الوقت أمر بالتأخير ولا يتيمم وكذلك راكب البحر وعلى هذا يباح له التميم مع وجود الماء في رحله أو يمنع وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر البرء أو إصابة المشقة بالصوم أفطر إلى غير ذلك من المسائل المبينة على غلبات الظنون وإن كانت موجبات الظنون تختلف فذلك غير قادح في هذا الأصل فمسألتنا داخله تحت هذه القاعدة فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق صح أن يقال إنه لايجب عليه التسبب فيه ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال ويقتحمون الأخطار ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكه فلا يكون كذلك بناء على أن ما هم فيه من مواطن الغرر وأسباب الهلكة يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن وأسباب النجاة وقد حكى عياض عن أبي العباس الأيبانى أنه دخل عليه عطية الجزرى العابد فقال له 209 أتيتك زائرا ومودعا إلى مكة فقال له أبو العباس لا تخلنا من بركة دعائك وبكى وليس مع عطية ركوة ولا مزود فخرج مع أصحابه ثم أتاه بأثر ذلك رجل فقال له أصلحك الله عندى خمسون مثقالا ولي بغل فهل ترى لي الخروج إلى مكة فقال له لاتعجل حتى توفر هذه الدنانير قال الراوي فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما فقال أبو العباس عطية جاءنى مودعا غير مستشير وقد وثق بالله وجاءنى هذا يستشيرنى ويذكر ما عنده فعلمت ضعف نيته فأمرته بما رأيتم فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب والنظر فىمراعاتها وسلم لقوى اليقين في طرح الأسباب بناء والله أعلم على القاعدة المتقدمة في الإعتقادات وغلبات الظنون في السلامة والهلكة وهو مظان النظر الفقهى ولذلك يختلف الحكم بإختلاف الناس في النازلة الواحدة كما تقدم فإن قيل فصاحب هذه المرتبة أي الأمرين أفضل له الدخول في السبب أن تركه فالجواب من وجهين أحدهما أن الأسباب في حقه لا بد منها كما أنها كذلك في حق غيره فإن خوارق العادات وإن قامت له مقام الأسباب في حقه فهي في أنفسها أسباب لكنها أسباب غريبة والتسبب غير منحصر في الأسباب المشهورة فالخارج مثلا للحج بغير زاد يرزقه الله من حيث لايحتسب إما من نبات الأرض وإما من جهة من يلقى من الناس في البادية وفى الصحراء وإما من حيوان الصحراء أو من غير ذلك ولو أن ينزل عليه من السماء أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية يعرفها أربابها المخصوصون بها فليس هذا الرجل خارجا عن العمل بالأسباب ومنها الصلاة لقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية وروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم يجدوا قوتا بسند صحيح وإذا كان كذلك فالسؤال غير وارد 210 والثانى على تسليم وروده أن أصحاب رسول الله يعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة واستيقنوها حالا وعلما ولكنه عليه السلام ندبهم إلى الدخول في الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا كما أمرهم بالأسباب المقتضية لمصالح الآخرة ولم يتركهم مع هذه الحالة فدل ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه ولأن هذه الحالة لا يعتد بها مقاما يقوم فيه ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام قيدها وتوكل رواه الطبراني وأيضا فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات ولم يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله وكانوا أهل علم ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره وأما المرتبة الرابعة وهى مرتبة الابتلاء فالتسبب فيها أيضا ظاهر فإن الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية فكما أن الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذى سببها من حيث كانت مصروفة إليه كذلك الأسباب العادية ومن هنا لما قال عليه السلام ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل قال لا اعملوا فكل ميسر لماخلق له ثم قرأ فأما من أعطى واتقى إلىآخرها فكذلك العاديات لأنها عبادات فهى عنده جارية على الأحكام الموضوعة ونظر صاحب هذه المرتبة في الأسباب مثل نظره في العبادات يعتبر فيها مجرد الأسباب ويدع المسببات لمسببها 211 وأما المرتبة الخامسة فالتسبب فيها صحيح أيضا لأن صاحبها وإن لم يلتفت إلى السبب من حيث هو سبب ولا إلى المسبب من باب أحرى فلا بد منه من جهة ما هو راق به وملاحظ للمسبب من جهته بدليل الأسباب العبادية ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما إلى المتعبد إليه بها فلا فارق بين العاديات والعباديات إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ في تجريد الأغيار على الجملة فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري واقتصر على ما هو ضروري وضيق على نفسه المجال فيها فرارا من تكاثرها على قلبه حتى يصح له اتحاد الوجهة وإذا كانت الأسباب موصلة إلى المطلوب فلا شك في أخذها في هذه الرتبة إذ من جهتها يصح المطلوب وأما السادسة فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها كان ما يشهد لما قبلها شاهدا لها غير أن ذلك فيها معتبرمن جهة صفة العبودية وامتثال الأمر لا من جهة أمر آخر فسواء عليه أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها كل ذلك تحت قصد العبد امتثال أمر الله فإن كان المكلف به مما يرتبط به بعض الوجود أو جميعه كان قصده في امتثال الأمر شاملا له والله أعلم المسألة الثامنة إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب قصد ذلك المسبب أولا لأنه لما جعل مسببا عنه في مجرى العادات عد كأنه فاعل له مباشرة ويشهد لهذا قاعدة مجارى العادات إذ أجرى فيها نسبة المسببات إلى أسبابها كنسبة الشبع إلى الطعام والإرواء إلى الماء والإحراق إلى النار والإسهال إلى السقمونيا وسائر المسببات إلى أسبابها فكذلك الأفعال التى تتسبب عن كسبنا منسوبة 212 إلينا وإن لم تكن من كسبنا وإذ كان هذا معهودا معلوما جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة أو الممنوعة كقول الله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس إلى قوله ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا وفى الحديث ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل وفيه من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها ذكره في الترغيب والترهيب عن مسلم والنسائي والترمذي وكذلك من سن سنة سيئة وفيه ان الولد لوالديه ستر من النار وأن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبع فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة مسلم وكذلك الزرع والعالم يبث العلم فيكون له أجر كل من انتفع به ومن ذلك ما لا يحصى مع أن المسببات التي حصل بها النفع أو الضر ليست من فعل المتسبب فإذا كان كذلك فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه لكن تارة يكون مقتضيا له على الجملة والتفصيل وإن كان غير محيط بجميع 213 التفاصيل وتارة يدخل فيه مقتضيا له على الجملة لا على التفصيل وذلك أن ما أمر الله به فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله وما نهى عنه فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله فإذا فعل فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت السبب من المصالح أو المفاسد ولا يخرجه عن ذلك عدم علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما فإن الأمر قد تضمن أن في إيقاع المأمور به مصلحة علمها الله ولأجلها أمر به والنهي قد تضمن أن في إيقاع المنهى عنه مفسدة علمها الله ولأجلها نهى عنه فالفاعل ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد وإن جهل تفاصيل ذلك فإن قيل أيثاب أو يعاقب على ما لم يفعل فالجواب أن الثواب والعقاب إنما ترتب على ما فعله وتعاطاه لا على ما لم يفعل لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد وقد بين الشرع ذلك وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنا أو مفسدته فجعله كبيرة وبين ما ليس كذلك فسماه في المصالح إحسانا وفى المفاسد صغيرة وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله وما هو من فروعه وفصوله ويعرف ما هو من الذنوب كبائر وما هو منها صغائر فما عظمه الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين وما جعله دون ذلك فمن فروعه وتكميلاته وما عظم أمره في المنهيات فهو من الكبائر وما كان دون ذلك فهو من الصغائر وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة 214 المسألة التاسعة ما ذكر في هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف وأن السبب هو المكلف به إذا اعتبر ينبنى عليه أمور أحدها أن متعاطى السبب إذا أتى به بكمال شروطه وانتفاء موانعه ثم قصد أن لا يقع مسببه فقد قصد محالا وتكلف رفع ما ليس له رفعه ومنع ما لم يجعل له منعه فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع أو بيعا أو شيئا من العقود ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه فقد وقع قصده عبثا ووقع المسبب الذى أوقع سببه وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك فهو قصد باطل ومثله في العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما أمر ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة وما أشبه ذلك فهو لغو و هكذا الأمر في الأسباب الممنوعة وفيه جاء يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا الآية ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا من المأكول والمشروب والملبوس والنكاح وهو غير ناكح في الحال ولا قاصد 215 للتعليق في خاص بخلاف العام وما أشبه ذلك فجميع ذلك لغو لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكف السبب فيه ومثله قوله عليه الصلاة والسلام إنما الولاء لمن أعتق رواه الستة وقوله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط رواه الستة الحديث وأيضا فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما تقدم فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع وكل قصد ناقض قصد الشارع فباطل فهذا القصد باطل والمسألة واضحة فإن قيل هذا مشكل من وجهين أحدهما أن اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب فإذا كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها كان معنى ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها بل مفقودة الشرط وهو الإختيار فلم تصح من جهة فقد الشرط فيلزم أن تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد الإختيار والثانى أن القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب وتعاطى الأسباب المبيحة مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة من حيث كان قصد الشارع التحصيل بوساطة هذه الأسباب فيكون إذا تعاطى هذه الأسباب باطلا 216 وممنوعا كالمصلى قاصدا بصلاته ما لا تجزئه لأجله والمتطهر يقصد أن لا يكون مستبيحا للصلاة وما أشبه ذلك فالجمع بين هذا الأصل والأصل المذكور جمع بين متنافيين وهو باطل فالجواب عن الأول أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب بالإختيار لأن تكون أسبابا لكن مع عدم اختياره للمسبب وليس الكلام في موقعها بغير اختيار والجمع بينهما ممكن عقلا لأن أحدهما سابق على الآخر فلا يتنافيان كما إذا قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد أو اختار وضع البذر في الأرض وكره نباته أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن يصيبه وما أشبه ذلك فكما يمكن اجتماعهما في العاديات فكذلك في الشرعيات والجواب عن الثانى أن فاعل السبب في مسألتنا قاصد أن يكون ما وضعه الشارع منتجا غير منتج وما وضعه سببا فعله هنا على أن يكون سببا لا يكون له مسبب وهذا ليس له فقصده فيه عبث بخلاف ما هو مذكور في قاعدة مقاصد الشارع فإن فاعل السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسبب لم يجعله الشارع مسببا له كنكاح المحلل عند القائل بمنعه فإنه قاصد بنكاحه التحليل لغيره ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب فقارن هذا القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا فلم يكن محللا لا للنكاح ولا للمحلل له لأنه باطل وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج فالأول لا ينتج له شيئا والآخر يتنج له لأنه ليس الإنتاج باختياره ولا عدمه فهذا لم يخالف قصد الشارع في السبب من حيث هو سبب ولكن زعم أنه لا يقع مسببه وهذا كذب أو طمع في غير مطمع 217 والأول تعاطاه على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع فاعرف الفرق بينهما فهو دقيق ويوضحه أن القصد في أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه والآخر تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه فإن قيل لم لا يكون هذا في الحكم كالرفض في العبادات فإنه في الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا فالطهارة مثلا سبب في رفع الحدث فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث فهو معنى رفض النية فيه وقد قالوا إن رفض النية ينتهض سببا في إبطال العبادة فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب لا إبطال المسببات فالجواب أن الأمر ليس كذلك وإنما يصح الرفض في أثناء العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر ثم أتمها على غير ذلك بل بنية أخرى ليست بعبادته التى شرع فيها كالمتطهر ينوي رفع الحدث ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو النتظف من الأوساخ البدنية وأما بعد ما تمت العبادة وكملت على شروطها فقصده أن لا تكون عبادة ولا يترتب عليها حكم آخر من إجزاء أواستباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها بل هى على حكمها لو لم يكن ذلك القصد فالفرق بينهما ظاهر ولا يعارض ذلك كلام من تكلم في الرفض وقال أنه يؤثر ولم يفصل القول في ذلك فإن كلام الفقهاء في رفض الوضوء وخلافهم فيه غير خارج عن هذا الأصل من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان في النظر فمن نظر إلى فعلها على ما ينبغى قال أن استباحة الصلاة بها لازم ومسبب عن ذلك الفعل فلا يصح 218 رفعه إلا بناقض طارئ ومن نظر إلى حكمها أعنى حكم استباحة الصلاة مستصحبا إلى أن يصلي وذلك أمر مستقبل فيشترط فيه استصحاب النية الأولى المقارنة للطهارة وهي بالنية المنافية منسوخة فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها لأن ذلك كالرفض المقارن للفعل ولو قارن الفعل لأثر فكذلك هنا فلو رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة وتم حكمها لم يصح أن يقال إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة فكذلك من صلى ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها وقد كان أتى بها على ما أمر به فإن قال به في مثل هذا فالقاعدة ظاهرة في خلاف ما قال والله أعلم وبه التوفيق هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها وانتفاء موانعها وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغى ولا استكملت شرائطها ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره وأيضا فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببا شرعيا سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا فالثمرة واحدة وأيضا لو اقتضت الأسباب مسبباتها وهي غير كاملة بمشيئة الملكف أو ارتفعت اقتضاآتها وهى تامة لم يكن لما وضع الشارع منها فائدة ولكان وضعه له عبثا لأن معنى كونها أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا ومعنى كونها غير أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا فإذا كان اختيار المكلف يقلب حقائقها شرعا لم يكن لها وضع معلوم في الشرع وقد فرضناها موضوعة في الشرع على 219 وضع معلوم هذا خلف محال فما يؤدي إليه مثله وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير لها في الأسباب الشرعية فإن قيل كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد أو بأنه يدل على الصحة أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي لذاته أو لوصفه فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي عنه وهو الذي لم يستكمل الشروط ولا انتفت موانعه يفيد حصول المسبب وفي مذهب مالك ما يدل على ذلك فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض المبيع وأيضا فتفيد الملك بحوالة الأسواق وغير ذلك من الأمور التي لا تفيت العين وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده الملك وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل والغصب أو نحوه ليس بسبب من أصله فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به المسبب إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا فالجواب أن القاعدة عامة وإفادة الملك في هذه الأشياء إنما هو لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول وبيان ذلك لا يسع ههنا وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله فصل ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم أن الفاعل للسبب عالما بأن المسبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله تعالى والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها والخروج عن الأسباب المحظورة والشكر وغير ذلك من المقامات السنية والأحوال المرضية ويتبين ذلك بذكر البعض على أنه ظاهر 220 أما الإخلاص فلأن المكلف إذا لبى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي خارج عن حظوظه قائم بحقوق ربه واقف موقف العبودية بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه فإنه عند الإلتفات إليه متوجه شطره فصار توجهه إلى ربه بالسبب بواسطة التوجه إلى المسبب ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص وأما التفويض فلإنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به ولا هو من نمط مقدوراته كان راجعا بقلبه إلى من إليه ذلك وهو الله سبحانه فصار متوكلا ومفوضا هذا في عموم التكاليف العادية والعبادية ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفا وراجيا فان كان ممن يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب صار مترقبا له ناظرا إلى ما يؤول إليه تسببه وربما كان ذلك سببا إلى إعراضه عن تكميل السبب استعجالا لما ينتجه فيصير توجهه إلى ما ليس له وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه اليه وهنا تقع حكاية من سمع أن من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فأخذ بزعمه في الإخلاص لينال الحكمة فتم الأمد ولم تأته الحكمة فسأل عن ذلك فقيل له إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله وهذا واقع كثيرا في ملاحظات المسببات في الأسباب ربما غطت ملاحظاتها فحالت بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب وبذلك يصير العابد مستكثرا لعبادته والعالم مغترا بعلمه إلى غير ذلك 221 وأما الصبر والشكر فلأنه اذا كان ملفتا إلى أمر الآمر وحده متيقنا أن بيده ملاك المسببات وأسبابها وأنه عبد مأمور وقف مع أمر الآمر ولم يكن له من ذلك محيد ولا زوال وألزم نفسه الصبر على ذلك لأنه تحت حد المراقبة وممن عبد الله كأنه يراه فإذا وقع المسبب كان من أشكر الشاكرين اذ لم ير لتسببه في ذلك المسبب وردا ولا صدرا ولا اقتضى منه في نفسه نفعا ولا ضرا وإن كان علامة وسببا عاديا فهو سبب بالتسبب ومعتبر في عادى الترتيب ولم كان ملتفتا إلى المسبب فالسبب قد ينتج وقد يعقم فاذا أنتج فرح وإذا لم ينتج لم يرض بقسم الله ولا بقضائه وعد السبب كلا شىء وربما مله فتركه وربما سئم منه فثقل عليه وهذا يشبه من يعبد الله على حرف وهو خلاف عادة من دخل تحت رق العبودية ومن تأمل سائر المقامات السنية وجدها في ترك الإلتفات إلى المسببات وربما كان هذا أعظم نفعا في أصحاب الكرامات والخوارق فصل ومنها أن تارك النظر في المسبب بناء على أن أمره لله إنما همه السبب الذي دخل فيه فهو على بال منه في الحفظ له والمحافظة عليه والنصيحة فيه لأن غيره ليس إليه ولو كان قصده المسبب من السبب لكان مظنة لأخذ السبب على غير اصالته وعلى غير قصد التعبد فيه فربما أدى إلى الإخلال به وهو لا يشعر وربما شعر به ولم يفكر فيما عليه فيه ومن هنا تنجر مفاسد كثيرة وهو أصل الغش في الأعمال العادية نعم والعبادية بل هو أصل في الخصال المهلكة أما في العاديات فظاهر فإنه لا يغش إلا استعجالا للربح الذي يأمله في تجارته أو للنفاق الذي ينتظره في صناعته أو ما أشبه ذلك وأما في العبادات فإن من شأن من أحبه الله تعالى أن يوضع له القبول في الأرض بعد ما يحبه أهل السماء فالتقرب بالنوافل سبب للمحبة من الله تعالى 222 ثم من الملائكة ثم يوضع القبول في الأرض فربما التفت العابد لهذا المسبب بالسبب الذي هو النوافل ثم يستعجل ويداخله طلب ما ليس له فيظهر ذلك السبب وهو الرياء وهكذا في سائر الهلكات وكفى بذلك فسادا فصل ومنها أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس ساكن البال مجتمع الشمل فارغ القلب من تعب الدنيا متوحد الوجهة فهو بذلك طيب المحيا مجازى في الآخرة قال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية وروى عن جعفر الصادق أنه قال في الحياة الطيبة هي المعرفة بالله وصدق المقام مع الله وصدق الوقوف على أمر الله وقال ابن عطاء العيش مع الله والإعراض عما سوى الله وأيضا ففيه كفاية جميع الهموم بجعل همه هما واحدا بخلاف من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب فإنه ناظر إلى كل مسبب في كل سبب يتناوله وذلك مكثر ومشتت وأيضا ففى النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق بال وإذا أنتج فليس على وجه واحد فصاحبه متبدد الحال مشغول القلب في أن لو كان المسبب أصلح مما كان فتراه يعود تارة باللوم على السبب وتارة بعدم الرضى بالمسبب وتارة على غير هذه الوجوه وإلى هذا النحو يشير معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا تسبو الدهر فإن الله هو الدهر رواه مسلم وأمثاله وأما المشتغل بالسبب معرضا عن النظر في غيره فمشتغل بأمر واحد وهو التعبد بالسبب أى سبب كان ولا 223 شك أن هما واحدا خفيف على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة بل هم واحد ثابت خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه وقد جاء أن من جعل همه هما واحدا كفاه الله سائر الهموم ومن جعل همه أخراه كفاه الله أمر دنياه ويقرب من هذا المعنى قول من قال من طلب العلم لله فالقليل من العلم يكفيه ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة وقد لهج الزهاد في هذا الميدان وفرحوا بالإستياق فيه حتى قال بعضهم لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف وروى في الحديث الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن اسنده الطبراني لأبي هريرة والزهد ليس عدم ذات اليد بل هو حال للقلب يعبر عنها إن شئت بما تقرر من الوقوف مع التعبد بالأسباب من غير مراعاة للمسببات التفاتا إليها في الأسباب فهذا أنموذج ينبهك على جملة هذه القاعدة فصل ومنها أن النظر في المسبب قد يكون على التوسط كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات وهو أسلم لمن التفت 224 إلى المسبب وقد يكون على وجه من المبالغة فوق ما يحتمل البشر فيحصل بذلك للمتسبب إما شدة التعب و إما الخروج عما هو له إلى ما ليس له أما شدة التعب فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال في السلوك وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف وأصل هذا تنبيه الله نبيه في الكتاب العزيز حالة دعائه الخلق بشدة الحرص على أن الأولى به الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون إلى قوله وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الآية وقوله لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين وقوله يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية وقوله فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك الآية إلى قوله إنما أنت نذير والله على كل شىء وكيل وقوله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى مما يشير إلى الحض على الإقصار مما كان يكابد والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به مما هو تسبب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بقوله إنما أنت منذر إنما أنت نذير والله على كل شىء وكيل وأشباه ذلك وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب والله هو المسبب وخالق المسبب ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم الآية وهو ينبهك 225 على شدة مقاساته عليه الصلاة والسلام في الحرص على إيمانهم ومبالغته في التبليغ طمعا في أن تقع نتيجة الدعوة وهي إيمانهم الذى به نجاتهم من العذاب حتى جاء في القرآن عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ومع هذا فقد ندب عليه الصلاة والسلام إلى أمر هو أوفق وأحرى بالتوسط في مقام النبوة وأدنى من خفة ما يلقاه في ذلك من التعب والمشقة وأجرى في سائر الرتب التي دون النبوة هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد فلا يقدح ذلك في صحة الإستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الإستدال بأحواله وأحكامه في أحكام أمته ما لم يدل دليل على اختصاصه دون أمته وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له فلأنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون كان مخالفا لمقصود الشارع إذ قد تبين أن المسبب ليس للمكلف ولم يكلف به بل هو لله وحده فمن قصده فالغالب عليه بحسب افراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين وهو إنما يجري علىمقتضى إرادة الله تعالى لا على وفق غرض العبد المعين من كل وجه فقد وصار غرض العبد وقصده مخالفا بالوضع لما أريد به وذلك خارج عن مقتضى الأدب ومعارضة للقدر أو ما هو ينحو ذلك النحو وقد جاء في الصحيح التنبيه على هذا المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف 226 وفى كل خير إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وأن أصابك شىء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان رواه مسلم صحيح فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم عقلا بل ذلك قدر الله وما شاء فعل إذ لا يعينه وجود السبب ولا يعجزه فقدانه فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر ويبقى السبب إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف وإن كان غير مكلف به لكونه غير داخل في مقدوره استسلم استسلام من يعلم أن الأمر كله بيد الله فلا ينفتح عليه باب الشيطان وكثيرا ما يبالغ الإنسان في هذا المعنى حتى يصير منه إلى ما هو مكروه شرعا من تشويش الشيطان ومعارضة القدر وغير ذلك فصل ومنها أن تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة وأزكى عملا إذا كان عاملا في العبادات وأوفر أجرا في العادات لأنه عامل على اسقاط حظه بخلاف من كان ملتفتا إلى المسببات فإنه عامل على الإلتفات إلى الحظوظ لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق الله فإنها مصالح أو مفاسد تعود عليهم كما في حديث أبي ذر إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها صحيح مسلم وأصله في القرآن من عمل صالحا فلنفسه فالملتفت إليها 227 عامل بحظه ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي عامل على إسقاط الحظوظ وهو مذهب أرباب الأحوال ولهذا بسط في موضع آخر فإن قيل على أي معنى يفهم اسقاط النظر في المسببات وكيف ينضبط ما يعد كذلك مما لا يعد كذلك فالجواب أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا بمعنى عدم التفات القلب إليها جملة وهذا قليل وأكثر ما يختص بهذا أرباب الأحوال من الصوفية فهو يقوم بالسبب مطلقا من غير أن يتظر هل له مسبب أم لا وقد يكون غير ظاهر بمعنى أن الحظ لا يسقط جملة من القلب إلا أنه التفت إليه من وراء الأمر أو النهي ويكون هذا مع الجريان على مجارى العادات مع علمه بأن الله مجريها كيف شاء ويكون أيضا مع طلب المسبب بالسبب أي يطلب من المسبب مقتضى السبب فكأنه يسأل المسبب باسطا يد السبب كما يسأله الشىء باسطا يد الضراعة أو يكون مفوضا في المسبب إلى من هو إليه فهؤلاء قد أسقطوا النظر في المسبب بالسبب وإنما الالتفات للمسبب بمعنى الجريان مع السبب كالطالب للمسبب من نفس السبب أو كالمعتقد أن السبب هو المولد للمسبب فهذا هو المخوف الذى هو حر بتلك المفاسد المذكورة وبين هذين الطرفين وسائط هي مجال نظر المجتهدين فإلى أيهما كان أقرب كان الحكم له ومثل هذا مقرر أيضا في مسألة الحظوظ المسألة العاشرة ما ذكر من أن المسببات مرتبة على فعل الأسباب شرعا وأن الشارع 228 يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب يترتب عليه بالنسبة إلى الملكلف إذا اعتبره أمور منها أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المسبب شرعا اقتضى أن يكون المكلف في تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة المسبب أن يقع منه ما ليس في حسابه فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه وكما يكون التسبب في الطاعة منتجا ما ليس في ظنه من الخير لقوله تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا وقوله عليه السلام من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها وقوله إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت حسن صحيح الحديث كذلك يكون التسبب في المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر لقوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا وقوله عليه الصلاة والسلام ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها وقوله ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها وقوله إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله الحديث إلى أشباه ذلك وقد قرر الغزالي من هذا المعنى في كتاب الأحياء وفى غيره ما فيه كفاية 229 وقد قال في كتاب الكسب ترويج الدرهم الزائف من الدراهم في أثناء النقد ظلم إذ به يستضر المعامل إن لم يعرف وإن لم يعرف وإن عرف فيروجه على غيره وكذلك الثاني والثالث ولا يزال يتردد في الأيدي ويعم الضرر ويتسع الفساد ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه فإنه الذى فتح ذلك الباب ثم استدل بحديث من سن سنة حسنة الخ ثم حكى عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة درهم قال لأن السرقة معصية واحدة وقد تمت وانقطعت وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين وسن سنة سيئة يعمل عليها من بعده فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة ومائتي سنة إلى أن يفنى ذلك الدرهم ويكون عليه ما فسد ونقص من أموال الناس بسببه وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة يعذب بها في قبره ويسأل عنها إلى انقراضها وقال تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم أى نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم كما نكتب ما قدموه ومثله قوله تعالى ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر وإنما أخر أثر أعماله من سن سنة سيئة عمل بها غيره هذا ما قاله هناك وقاعدة ايقاع السبب أنه بمنزلة ايقاع المسبب قد بينت هذا وله في كتاب الشكر ما هو أشد من هذا حيث قدر النعم أجناسا وأنواعا وفصل فيها تفاصيل جمة ثم قال بل أقول من عصى الله ولو في نظرة واحدة بأن فتح بصره حيث يجب غض البصر فقد كفر نعمة الله في السموات والأرضين وما بينهما فان كل ما خلق الله حتى الملائكة والسموات والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم بها انتفاعه ثم قرر شيئا من النعم العائدة إلى البصر من الأجفان ثم قال قد كفر نعمة 230 الله في الأجفان ولا تقوم الأجفان الا بعين ولا العين إلا بالرأس ولا الرأس إلا بجميع البدن ولا البدن إلا بالغذاء ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ولا يقوم شىء من ذلك إلا بالسموات ولا السموات إلا بالملائكة فإن الكل كالشىء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض قال وكذلك ورد في الأخبار أن البقعة التي يجتمع فيها الناس إما أن تلعنهم اذا تفرقوا أو تستغفر لهم ولذلك ورد أن العالم يستغفر له كل شئ حتى الحوت في البحر رواه أبو داود والترمذي وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت وقد أهلك نفسه إلى أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها فيتبدل اللعن بالإستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه ثم حكى غير ذلك ومضى في كلامه فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب فربما كان باعثا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء إذ يبدوا له يوم الدين من ذلك ما لم يكن يحتسب والعياذ بالله فصل ومنها أنه إذا التفت إلى المسببات مع أسبابها ربما ارتفعت عنه إشكالات ترد في الشريعة بسببب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب أخر حاضرة وذلك أن متاطى السبب قد يبقى عليه حكمه وإن رجع عن ذلك السبب أو تاب منه فيظن أن المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب ولا يكون كذلك 231 مثاله من توسط أرضا مغصوبة ثم تاب وأراد الخروج منها فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج فأخذ في الإمتثال غير عاص ولا مؤآخذ لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا في حالة واحدة ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة لأن ذلك تكليف مالا يطاق فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكنه ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج فلا بد أن يرتفع عنه حكم النهي في الخروج وقال أبو هاشم هو على حكم المعصية ولا يخرج عن ذلك إلا بإنفصاله عن الأرض المغصوبة ورد الناس عليه قديما وحديثا والإمام أشار في البرهان إلى تصور هذا وصحته باعتبار أصل السبب الذى هو عصيان فانسحب عليه حكم التسبب وإن ارتفع بالتوبة ونظر ذلك بمسائل وهو صحيح باعتبار الأصل المتقدم فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره فلو نظر الجمهور إليها لم يستبعدوا اجتماع الإمتثال مع استصحاب حكم المعصية إلى الإنفصال عن الأرض المغصوبة وهذا أيضا ينبنى على الإلتفات إلى أن المسبب خارج عن نظره فإنه إذا رأى ذلك وجد نفس الخروج ذا وجهين أحدهما وجه كون الخروج سببا في الخلوص عن التعدى بالدخول في الأرض وهو من كسبه والثاني كونه نتيجة دخوله ابتداء وليس من كسبه بهذا الإعتبار إذ ليس له قدرة عن الكف عنه ومن هذا مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس وقبل وصوله إلى الرمية ومن تاب من بدعة بعد ما بثها في الناس وقبل أخذهم بها أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها ومن رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل 232 الإستيفاء وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله وقبل تأثيره ووجود مفسدته أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها فقد اجتمع على المكلف هنا الإمتثال مع بقاء العصيان فإن اجتمعا في الفعل الواحد كما في المثال الأول كان عاصيا ممتثلا إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير لأنه من جهةالعصيان غير مكلف به لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته فلا نهي إذ ذاك ومن جهة الإمتثال مكلف لأنه قادر عليه فهو مأمور بالخروج وممتثل به وهذا معنى ما أراده الإمام وما اعترض به عليه وعلى أبى هاشم لا يرد مع هذه الطريقة إذا تأملتها والله أعلم فصل ومنها أن الله عز وجل جعل المسببات في العادة تجرى على وزان الأسباب في الإستقامة أو الإعوجاج فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي كان المسبب كذلك وبالضد ومن ههنا إذا وقع خلل في المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب هل كان على تمامه أم لا فإن كان على تمامه لم يقع على المتسبب لوم وإن لم يكن على تمامه رجع اللوم والمؤآخذة عليه ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيرهم من الصناع إذا ثبت التفريط من أحدهم إما بكونه غر من نفسه وليس بصانع وإما بتفريط بخلاف ما إذا لم يفرط فإنه لا ضمان عليه لأن الغلط في المسببات أو وقوعها على غير وزان التسبب قليل فلا يؤآخذ بخلاف ما إذا 233 لم يبذل الجهد فإن الغلط فيها كثير فلا بد من المؤآخذة فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد لا من جهة أخرى فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلا على ما في الباطن فإن كان الظاهر منخرما حكم على الباطن بذلك أو مستقيما حكم على الباطن بذلك أيضا وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات بل الإلتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدا والأدلة على صحته كثيرة جدا وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة فصل ومنها أن المسببات قد تكون خاصة وقد تكون عامة ومعنى كونها خاصة أن تكون بحسب وقع السبب كالبيع المتسبب به إلى إباحة 234 الانتقاع بالمبيع والنكاح الذى يحصل به حلية الإستمتاع والذكاة التى بها يحصل حل الأكل وما أشبه ذلك وكذلك جانب النهي كالسكر الناشىء عن شرب الخمر وإزهاق الروح المسبب عن حزالرقبة وأما العامة فكالطاعة التى هى سبب في الفوز بالنعيم والمعاصي التى هى سبب في دخول الجحيم وكذلك أنواع المعاصي التى يتسبب عنها فساد في الأرض كنقص المكيال والميزان المسبب عنه قطع الرزق والحكم بغير الحق الفاشى عنه الدم وختر العهد الذى يكون عنه تسليط العدو والغلول الذى يكون عنه قذف الرعب وما أشبه ذلك ولا شك أن أضداد هذه الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور اجتهد في اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات رجاء في الله وخوفا منه ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال وبمسببات الأسباب والله أعلم بمصالح عباده والفوائد التي تنبني على هذه الأصول كثيرة فصل فإن قيل تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في المسببات يستجلب مفاسد والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب في التسبب وتبين الآن أن النظر في المسببات يستجر مصالح والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت 235 إليها فإن كان هذا على الإطلاق كان نتاقضا وإن لم يكن على الإطلاق فلا بد من تعيين موضع الإلتفات الذي يجلب المصالح من الإلتفات الذي يجر المفاسد بعلامة يوقف عندها أو ضابط يرجع إليه فالجواب أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع ولكن ضابطه أنه إن كان الإلتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض على المبالغة في إكماله فهو الذي يجلب المصلحة وإن كان من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به فهو الذي يجلب المفسدة وهذان القسمان على ضربين أحدهما ما شأنه ذلك بإطلاق بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف وبالنسبة إلى كل زمان وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف والثاني ما شأنه ذلك لا بإطلاق بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض وأيضا فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين أحدهما ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به والثاني مظنونا أو مشكوكا فيه فيكون موضع نظر وتأمل فيحكم بمقتضى الظن ويوقف عند تعارض الظنون وهذه جملة مجملة غير مفسرة ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي ظهر مغزاه وتبين معناه بحول الله ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين فإن على المجتهد أن ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين وبالله التوفيق 236 فصل وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين فيميل كل واحد إلى ما غلب على ظنه فقد قالوا في السكران إذا طلق أو أعتق أو فعل ما يجب عليه الحد فيه أو القصاص عومل معاملة من فعلها عاقلا اعتبارا بالأصل الثاني وقالت طائفة بأنه كالمجنون اعتبارا بالأصل الأول على تفصيل لهم في ذلك مذكور في الفقه واختلفوا ايضا في ترخص العاصي بسفره بناء على الأصلين أيضا واختلفوا في قضاء صوم التطوع وفى قطع التتابع بالسفر الإختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله وكذلك اختلفوا في أكل الميتة إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه وعليهما يجري الخلاف 237 أيضا في المسألة المذكورة قبل هذا بين أبي هاشم وغيره فيمن توسط أرضا مغصوبة المسألة الحادية عشرة الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد مثال ذلك الأمر بالمعروف والنهي لن المنكر فإنه أمرمشروع لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام وإخماد الباطل على أي وجه كان وليس بسبب في الوضع الشرعى لإتلاف مال أو نفس ولا نيل من عرض وإن أدى إلى ذلك في الطريق وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام وإن أدى إلى القتال كما فعله أبو بكر رضى الله عنه وأجمع عليه الصحابة رضى الله عنهم وإقامة الحدود والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد وإن أدى إلى إتلاف النفوس وإهراق الدماء وهو في نفسه مفسدة وإقرار حكم الحاكم مشروع لمصلحته فصل الخصومات وإن أدى إلى الحكم بما ليس بمشروع هذا في الأسباب المشروعة وأما في الأسباب الممنوعة فالأنكحة الفاسدة ممنوعة وإن أدت إلى إلحاق الولد وثبوت الميراث وغير ذلك من 238 الأحكام وهي مصالح والغضب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب أو غيره من وجوه الفوت فالذى يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة ليست بناشئة عنها في الحقيقة وإنما هى ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها والدليل على ذلك ظاهر فإنها إذا كانت مشروعة فإما أن تشرع للمصالح أو للمفاسد أو لهما معا أو لغير شىء من ذلك فلا يصح أن تشرع للمفاسد لأن السمع يأبى ذلك فقد ثبت الدليل الشرعى على أن الشريعة إنما جىء بالأوامر فيها جلبا للمصالح وإن كان ذلك غير واجب في العقول فقد ثبت في السمع وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل ولا لغير شىء لما ثبت من السمع أيضا فظهر أنها شرعت للمصالح وهذا المعنى يستمر فيما منع إما أن يمنع لأن فعله مؤد إلى مفسدة أو إلى مصلحة أو إليهما أو لغير شىء والدليل جار إلى آخره فإذا لا سبب مشروعا إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع وأيضا فلا سبب ممنوعا إلا وفيه 239 مفسدة لأجلها منع فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع إن كان مشروعا وما منع لأجله إن كان ممنوعا وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق وإخماد الباطل كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس بل إعلاء الكلمة لكن يتبعه في الطريق الإتلاف من حهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين وشهر السلاح وتناول القتال والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك وحكم الحاكم سبب لدفع التشاجر وفصل الخصومات بحسب الظاهر حتى تكون المصلحة ظاهرة وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر من تقصير في النظر أو كون الظاهر على خلاف الباطن ولم يكن له على ذلك دليل وليس بمقصود في أمر الحاكم ولا ينقض الحكم إذا كان له مساغ ما بسبب أمر آخر وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم من الفصل بين الخصوم ورفع التشاجر فإن الفسخ ضد الفصل وأما قسم الممنوع فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع لا من جهة كونه فاسدا حسبما هو مبين فى 240 موضعه والبيوع الفاسدة من هذا النوع لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد فإذا فاتت عينها تعين المثل أو القيمة وإن بقيت على غير تغير ولا وجه من وجوه الفوت فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين توادرت أنظار المجتهدين هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا فبقى حكم المطالبة بالفسخ إلا أن في المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السعلة إذا ردت عليه متغيرة مثلا كما أن فيها حملا على المشترى حيث أعطى ثمنا ولم يحصل له ما تعنى فيه من وجوه التصرفات التى حصلت في المبيع فكان العدل النظر فيما بين هذين فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق والتغير الذى لم يفت العين وانتقال الملك وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء وحاصلها أن عدم الفسخ وتسليط المشترى على الإنتفاع ليس سببه العقد المنهي عنه بل الطوارئ المترتبه بعده والغصب من هذا النحو أيضا فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا والضمان يستلزم تعين المثل أو القيمة في الذمة فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما فصار له بذلك شبهة ملك فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة صار محل اجتهاد نظرا إلى حق صاحب المغصوب وإلى الغاصب إذ لا يجنى عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم عقوبة له كما أن 241 المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه فكان في ذلك الإجتهاد بين هذين فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب بل التضمين أولا منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب فعلى هذا النوع أو شبهه يجرى النظر في هذه الأمور والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح إذ لا يصح ذلك بحال فصل وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل في مذهب مالك وغيره ففى المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلىزمان كذا ثم خاف الحنث بعدم القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة ثم راجعها أن الحنث لا يقع عليه وأن كان قصده مذموما وفعله مذموما لأنه احتال بحيلة أبطلت حقا فكانت المخالعة ممنوعة وإن أثمرت عدم الحنث لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة بل بسبب أنه حنث ولا زوجة له فلم يصادف الحنث محلا وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر في رمضان أن له أن يقطر وإن كره له هذا القصد لأن فطره بسبب المشقة اللازمة للسفر لا بسبب نفس السفر المكروه وإن علل الفطر بالسفر فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر ويحقق ذلك أن الذى كره له السفر الذى هو من كسبه والمشقة خارجة عن كسبه فليست المشقة هى عين المكروه له بل سببها والمسبب هو السبب في الفطر 242 فأما لو فرضنا أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحته أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا ولا عن المنوع مصلحة تقصد شرعا وذلك كحيل أهل العينة في جعل السلعة واسطة في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل فهنا طرفان وواسطة طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال كالحيلة المذكورة وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا كتغيير المغصوب في يد الغاصب فيملكه على التفصيل المعلوم وواسطة لم ينتف فيها السبب ألبتة ولا ثبت قطعا فهو محل أنظار المجتهدين فصل هذا كله إذا نظرنا إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل المقرر فإن تؤملت من جهة آخرى كان الحكم آخر وتردد الناظرون فيه لأنه يصير محلا للتردد وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب في حكم إيقاع المسببات وإذا كان كذلك اقتضى أن المسبب في حكم الواقع باختياره فلا يكون سببا شرعيا فلا يقع له مقتضى فالعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر لأن المشقة كأنها واقعة بفعله لأنها ناشئة عن سببه والمحتال للحنث بمخالعة امرأته لا يخلصه احتياله من الحنث بل يقع عليه إذا راجعها وكذلك المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل وما أشبه ذلك فهنا إذا روجع الأصلان كانت المسائل في محل الإجتهاد فمن ترجح عنده أصل قال بمقتضاه والله أعلم 243 فصل ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة أي من جهة ما هى داخلة تحت نظر الشرع لا من جهة ما هى أسباب عادية لمسبباب عادية فإنها إذا نظر إليها من هذا الوجه كان النظر فيها آخر فإن قاصد التشفي بقصد القتل متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك تارك العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من أتعاب النفس وقصدا إلى الدعة والراحة بتركها فهو من جهة ما هو فاعل بإطلاق أو تارك بإطلاق متسبب في درء المفاسد عن نفسه أو جلب المصالح لها كما كان الناس في أزمان الفترات والمصالح والمفاسد هنا هى المعتبرة بملائمة الطبع ومنافرته فلا كلام هنا في مثل هذا المسألة الثانية عشرة الأسباب من حيث هى أسباب شرعية لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها وهى المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان أحدهما ما شرعت الأسباب لها إما بالقصد الأول وهى متعلق المقاصد الأصلية أو المقاصد الأول 244 أيضا وإما بالقصد الثانى وهي متعلق المقاصد التابعة وكلا الضربين مبين في كتاب المقاصد والثانى ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لم تشرع لها فتجىء الأقسام ثلاثة أحدها ما يعلم أن يظن أن السبب شرع لأجله فتسبب المتسبب فيه صحيح لأنه أتى الأمر من بابه وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا ثم يتبعة اتخاذ السكن ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم أو نحو ذلك أو الخدمة أو القيام على مصالحه أو التمتع بما أحل الله من النساء أو التجمل بمال المرأة أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما حرم الله أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة فصار إذا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة وهذا كاف وقد تبين في كتاب المقاصد أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب لا يقال إن القصد إلى الإنتفاع مجردا لا يغنى دون قصد حل البضع بالعقد أولا فإنه الذى ينبنى عليه ذلك القصد والشارع إنما قصده بالعقد أولا الحل ثم يترتب عليه الإنتفاع فإذا لم يقصد إلا مجرد الإنتفاع فقد تخلف قصده عن قصد الشارع فيكون مجرد القصد إلى الإنتفاع غير صحيح 245 ويتبين هذا بما إذ أراد التمتع بفلانة كيف اتفق بحل أو غيره فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع وقصده أنه لو أمكنه لحصل مقصوده فإذا عقد عليها والحال هذه فلم يكن قاصدا لحله وإذا لم يقصد حلها فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا والحكم في كل فعل أو ترك جار هذا المجرى لأنا نقول هو على ما فرض في السؤال صحيح وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه لكن ملجأ إلى ذلك فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه ويبقى النظر في قصده إلى المحظور الذى لم يقدر عليه فإن كان عند عزم على المعصية لو قدر عليها أثم عند المحققين وإن كان خاطرا على غير عزيمة فمغتفر كسائر الخواطر فلم يقترن إذا بالعقد ما يصيره باطلا لوقوعه كامل الأركان حاصل الشروط منتفى الموانع وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده الإستباحة بالوجه المقصود للشارع وهذا القصد الثاني موجود عنده لا محالة وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب فصح التسبب وأما إلزام قصد الحل فلا يلزم بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع وإن غفل عن وقوع الحل به لأن الحل الناشىء عن السبب ليس بداخل تحت التكليف كما تقدم والثاني ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء فالدليل 246 يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض وإذا لم يشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة بالنسبة إلى ما قصد بالسبب فهو إذا باطل هذا وجه ووجه ثان وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا لا يصح فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له ووجه ثالث أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص فالأمر واضح فإذا قصد بالنكاح مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع وهكذا سائر الأعمال والتسببات العادية والعبادية فإن قيل كيف هذا والناكح في المثال المذكور وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق وهو مباح في نفسه فيصح لكن كونه قصد مع ذلك التحليل الأول أمر آخر وإن كان مذموما فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما فلا تأثير لأحدهما في الآخر لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا كالصلاة في الدار المغصوبة وفي الفقه ما يدل على هذا 247 فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل النكاح والعتق قبل الملك فيقول للأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق وللعبد إن اشتريتك فأنت حر ويلزمه الطلاق إن تزوج والعتق إذا اشترى وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان له أن يتزوج المرأة وأن يشترى العبد وفي المبسوطة عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ثم يخاف العنت قال أرى له جائزا أن يتزوج ولكن إن تزوج طلقت عليه مع أن هذا النكاح وهذا الشراء ليس فيهما شىء مما قصده الشارع بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني إلا الطلاق والعتق ولم يشرع النكاح للطلاق ولا الشراء للخروج عن اليد وإنما شرعا لأمور أخر والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أوالعتق ثان عن حصول النكاح أو الملك وعن القصد إليه فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق والمشتري قاصد بشرائه العتق وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين وإذا كان كذلك فأحد الأمرين جائز إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب وإما بطلان هذه المسائل وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا ففي المدونة فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق أنه ليس من نكاح المتعة فإذا إذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة وقال مالك إن النكاح حلال فإن شاء أن يقيم عليه أقام وإن شاء أن يفارق فارق وقال ابن القاسم وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا قال وهو عندنا نكاح ثابت الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها لا يريد حبسها ولا ينوي ذلك على ذلك نيته واضماره في تزويجها فأمرهما 248 واحد فان شاء آأن يقيما أقاما لأن أصل النكاح حلال ذكر هذه في المبسوطة وفي الكافي في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ومن نيته أن يطلقها بعد السفر أن قول الجمهور جوازه وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة وأنه لا يجيزه بالنية كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة وإن لم يلفظ بذلك ثم قال وأجازه سائر العلماء ومثل بنكاح المسافرين قال وعندي أنا النية لا تؤثر في ذلك فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي لكان نكاحا نصرانيا فإذا سلم لفظه لم تضره نيته ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة رجاء الأبدية فإن وجدها وإلا فارق كذلك يتزوج على تحصيل العصمة فإن اغتبط ارتبط وإن كره فارق وهذا كلامه في كتاب الناسخ والمنسوخ وحكى اللخمي عن مالك فمن نكح لغربة أو لهوى ليقضي أربه ويفارق فلا بأس فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها وأشدها مسألة حل اليمين لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه وإنما قصد أن يبر في يمينه ولم يشرع النكاح لمثل هذا ونظائر ذلك كثيرة وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا ثم الفراق ثانيا 249 وهما قصدان غير متلازمين فإن جعلتهما متلازمين في المسالة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر فليكن كذلك في هذ المسائل وحينئذ يبطل جميع ما تقدم فعلى الجملة يلزم إما بطلان هذا كله وإما بطلان ماتقدم فالجواب من وجهين أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي فأما الإجمالي فهو أن نقول أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة وما اعترض به ليس بداخل تحتها ولا هي منها بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها فما اتفقوا منها على جوازه فلسلامته من مقتضى أصل المسألة وما اختلفوا فيه فلدخوله عند المانعين تحتها ولسلامته عند المجيزين لأن العلماء لا يتناقض كلامهم ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله ويورد على العالم من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف ويتأمل ويلتمس المخرج ولا يتعسف بإطلاق الرد وأما التفصيلي فنقول إن هذه لمسائل لا تقدح فيما تقدم أما مسألة التعليق فقد قال القرافي إنها من المشكلات على الإمامين وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا قال وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة لكن العقد صحيح أجماعا فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد قال فحيث أجمعنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده قال وهذا موضع مشكل على أصحابنا انتهى قوله وهو عاضد 250 لما تقدم ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه وهي المسألة الثالثة عشرة وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا فإن علم أو ظن ذلك فلا إشكال في المشروعية وإن لم يعلم ولا ظن ذلك فهو على ضربين أحدهما أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو لأمر خارجي فإن كان الأول ارتفعت المشروعية أصلا فلا أثر للسبب شرعا البتة بالنسبة إلى ذلك المحل مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى والعقد على الخمر والخنزير والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية والعتق بالنسبة إلى ملك الغير وكذلك العبادات وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غيرالعاقل وما أشبه ذلك والدليل على ذلك أمران الأول أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة لم يصح أن يكون مشروعا وقد فرضناه مشروعا هذا خلف والثاني أنه لو كان كذلك لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر والعبادات لغير قصد الخضوع لله وكذلك سائر الأحكام وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب وهي المسببات لأمر خارجي مع قبول المحل من حيث نفسه فهل يؤثر ذلك الأمرالخارجي في شرعية السبب 251 أم يجري السبب على أصل مشروعيته هذا محتمل والخلاف فيه سائغ وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور أحدها أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلف وسيأتي لهذا المعنى تقرير في موضعه إن شاء الله والثاني وهو الخاص بهذا المكان أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط وإما أن تعتبر بوجودها فيه فإن اعتبرت بقبول المحل فقط فهو المدعي والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع وهو غير موجود وإن اعتبرت بوجودها في المحل لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا لمانع أو لغير مانع كسفر الملك المترفه فإنه لا مشقة له في السفر أو هو مظنة لعدم وجود المشقة فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين وكذلك إبدال الدرهم بمثله وإبدال الدينار بمثله مع أنه لا فائدة في هذا العقد وما أشبه ذلك من السائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته والحكمة غير موجودة ولا يقال إن السفر مظنة المشقة بإطلاق وإبدال الدرهم بالدرهم مظنة 252 لاختلاف الأغراض باطلاق وكذلك سائر المسائل التي في معناها فليجز التسبب باطلاق بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق فإنها ليست بمظنة للحكمة ولا توجد فيها على حال لأنا نقول إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية باطلاق فإن قلتم باطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات بخلاف نكاح القوابة المحرمة كالأم والبنت مثلا فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق فهذا من الضرب الأول وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها إذا كان المحل في نفسه قابلا لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا وهذا معقول والثالث أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها و عدم وقوعها فكم ممن طلق على أثر ايقاع النكاح وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح 253 توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة وهو دور محال فإذا لا بد من الإنتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة أحدها أن قبول المحل إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن خاصة وإن فرض غير قابل في الخارج فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه وإما بكونه توجد حكمته في الخارج فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا كان في نفسه قابلا لها ذهنا أولا فإن كان الأول فهو غير صحيح لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد وهي حكم المشروعية فما ليس فيه مصلحة ولا 254 هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج من حيث المقصد الشرعي وإذا استويا امتنعا أو جازا لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه فلا بد من القول بمنعهما مطلقا وهو المطلوب الثاني أنا لو أعملنا السبب هنا مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ولا توجد به لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم لأن التسبب هنا يصير عبثا والعبث لا يشرع بناء على القول بالمصالح فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول وهذا هو معنى كلام القرافي والثالث أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار وجود الحكمة فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق بل الظن بوجودها غالب غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ولا تنضبط فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته وجعل الإحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكيف لأنه غير منضبط في نفسه إلى أشياء من ذلك كثيرة وأما إبدال الدرهم بمثله فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ولو في نفي ما سواهما عنهما ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا والغالب المطرد اختلاف الدرهمين والدينارين ولو بجهة الكسب فأطلق الجواز لذلك وإذا كان ذلك 255 كذلك فلا دليل في هذه المسائل على مسألتنا فصل وقد حصل في ضمن هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق وأما مسألة النكاح للبر في اليمين وما ذكر معها فإنه موضع فيه احتمال للإختلاف وإن كان وجه الصحة هو الأقوى فمن نظر إلى أنه نكاح صدر من أهله في محله القابل له كما تقدم بسطه لم يمنع ومن نظر إلى أنه لما كان له نية المفارقة أو كان منظة لذلك أشبه النكاح المؤقت لم يجز هذا وإن كان ابن القاسم لم يحك في مسألة نكاح البر خلافا فقد غمزه هو أو غيره بأنه لا يقع به الإحصان وهذا كاف فيما فيه من الشبهة فالموضع مجال نظر المجتهدين وإذا نظرنا إلى مذهب مالك وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا لغرضه المقصود لكن على أن يرفع حكم اليمين وكونه مقصودا به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذى تحل به المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده إلا أنه يتضمن رفع اليمين وهذا غير قادح وكذلك النكاح لقضاء الوطر مقصود أيضا لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة ونية الفراق بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذى جعل الشارع له وقد يبدو له فلا يفارق وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح المتعة فإنه في نكاح المتعة بان على شرط التوقيت وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح إنما قصد به تحليلها 256 للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره لا بحقيقته فلم يتضمن غرضا من أغراضه التى شرع لها وأيضا فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها عرفا أو شرطا فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره وأيضا فالنص بمنعه عتيد فيوقف عنده على أنه لو لم يكن في نكاح المحلل تراوض ولا شرط وكان الزوج هو القاصد لذلك فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد الإستمتاع على الجملة ثم الطلاق فقد قصد على الجملة ما يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة ويتضمن ذلك العود إلى الأول أن اتفق على قول ولا يتضمنه على قول وذلك بحكم التبعية وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة فلا يخلو من وجه من النظر ومما يدل على أن حل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة من صلاة أو حج أو عمرة أو صيام أو ما أشبه ذلك من العبادات أنه يفعله ويصح منه قربة وهذا مثله فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا في أصل العقد لكان قادحا في أصل العبادة لأن شرط العبادة التوجه بها إلى 257 المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه فكما تصح العبادة المنذورة أو المحلوف عليها وإن لم يقصد بها إلا حل اليمين وإلا لم يبر فيه فكذلك هنا بل أولى وكذلك من حلف أن يبيع سلعة يملكها فالعقد ببيعها صحيح وإن لم يقصد بذلك إلا حل اليمين وكذلك أن حلف أن يصيد أو يذبح هذه الشاة أو ما أشبه ذلك وهذا كله راجع إلى أصلين أحدهما أن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود المصلحة في كل فرد من أفراد محالها وإنما يعتبر أن يكون مظنة لها خاصة والثانى أن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع ولا يشترط ظهور الموافقة وكلا الأصلين سيأتى إن شاء الله تعالى فصل والقسم الثالث من القسم الأول هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ولا يظن أنه مقصود الشارع أو غير مقصود له وهذا موضع نظر وهو محل إشكال واشتباه وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبب المفروض كما أنه يمكن أن يكون موضوعا له ولغيره فعلى الأولى يكون التسبب غير مشروع وعلى الثاني يكون مشروعا وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع كان الإقدام على التسبب غير مشروع لا يقال إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة فلم لا يتسبب به 258 لأنا نقول إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شىء معين مفروض معلوم لا مطلقا وإنما كان يصح التسبب مطلقا إذا علم شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم وليس ما فرضنا الكلام فيه من هذا بل علمنا أن كثيرا من الأسباب شرعت لأمور تنشأ عنها ولم تشرع لأمور وإن كانت تنشأ عنها وتترتب عليها كالنكاح فإنه مشروع لأمور كالتناسل وتوابعه ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة كان ما جهل كونه مشروعا له مجهول الحكم فلا تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم ولا يقال الأصل الجواز لأن ذلك ليس على الإطلاق فالأصل في الأبضاع المنع إلا بأسباب مشروعة والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء لا مطلقا فإذا ثبت هذا وتبين مسبب لا ندرى أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات الأسباب وما ليس بمشروع وهى مذكورة في كتاب المقاصد المسألة الرابعة عشرة كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا كالقتل يترتب عليه القصاص والدية في مال الجاني أو العاقلة وغرم القيمة إن كان المقتول عبدا والكفارة وكذلك التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة والسرقة يترتب عليها الضمان والقطع 259 وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف المسببة لهذه الأسباب في خطاب الوضع وقد يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة من جهة أخرى ليس ذلك سببا فيها كالقتل يترتب عليه ميراث الورثة وإنفاذ الوصايا وعتق المدبرين وحرية أمهات الأولاد والأولاد وكذلك الإتلاف بالتعدى يترتب عليه ملك المتعدى للمتلف تبعا لتضمينه القيمة والغصب يترتب عليه ملك المغصوب إذا تغير في يديه على التفصيل المعلوم بناء على تضمينه وما أشبه ذلك فأما الضرب الأول فالعاقل لا يقصد التسبب إليه لأنه عين مفسدة عليه لا مصلحة فيها وإنما الذى من شأنه أن يقصد الضرب الثاني وهو إذا قصد فالقصد إليه على وجهين أحدهما أن يقصد به المسبب الذى منع لأجله لا غير ذلك كالتشفى في القتل والإنتفاع المطلق في المغصوب والمسروق فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام التبعية المصلحية لأن أسبابها إذا كانت حاصلة حصلت 260 مسبباتها إلا من باب سد الذرائع كما في حرمان القاتل وإن كان لم يقصد إلا التشفى أو كان القتل خطأ عند من قال بحرمانه ولكن قالوا إذا تغير المغصوب في يد الغاصب أو أتلفه فإن من أحكام التغير أنه إن كان كثيرا فصاحبه غير مخير فيه ويجوز للغاصب الانتفاع به على ضمان القيمة على كراهية عند بعض العلماء وعلى غير كراهية عند آخرين وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع في ترتب هذه الأحكام لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو مجموعهما وإنما ناقضه في إيقاع السبب المنهي عنه والقصد إلى السبب بعينه ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا المسبب بعينه الذى هو ناشىء عن الضمان أو القيمة أو مجموعهما وبينهما فرق وذلك أن الغضب يتبعه لزوم الضمان على فرض تغيره فتجب القيمة بسبب التغير الناشىء عن الغصب وحين وجبت القيمة وتعينت صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا له حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا لإطلاق فصار ملكه تبعا لإيجاب القيمة عليه لا بسبب الغصب فانفك 261 القصدان فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث وقصد الغاصب الإنتفاع غير قصده لضمان القيمة وإخراج المغصوب عن ملك المغصوب منه وإذا كان كذلك جرى الحكم التابع الذى لم يقصده القاتل والغاصب على مجراه وترتب نقيض مقصوده فيما قصد مخالفته وذلك عقابه وأخذ المغصوب من يده أو قيمته وهذا ظاهر إلا ما سدت فيه الذريعة والثانى أن يقصد توابع السبب وهي التى تعود عليه بالمصلحة ضمنا كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغيره ليضمن قيمته ويتملكه وأشباه ذلك فهذا التسبب باطل لأن الشارع لم يمنع تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع مصلحة فليست إذا بمشروعة في ذلك التسبب ولكن يبقى النظر هل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في القصد لقصد الشارع عينا حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب فتنشأ من هنا قاعدة المعاملة بنقيض المقصود ويطلق الحكم بإعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض وهو مقتضى الحديث في حرمان القاتل الميراث ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق وتفريق المجتمع خشية الصدقة 262 وكذلك ميراث المبتوته في المرض أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة إلى كثير من هذا أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة ولا يؤثر في ذلك قصد هذا القاصد فيستوي في الحكم مع الأول هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع نظر ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين فلنقبض عنان الكلام فيه النوع الثانى في الشروط والنظر فيه في مسائل المسألة الأولى أن المراد بالشرط في هذا الكتاب ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط أو فيما اقتضاه الحكم فيه كما نقول أن الحول أو امكان النماء 263 مكمل لمقتضى الملك أو لحكمة الغنى والإحصان مكمل لوصف الزنى في إقتضائه للرجم والتساوي في الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو لحكمة الزجر والطهارة والإستقبال وستر العورة مكملة لفعل الصلاة أو لحكمة الإنتصاب للمناجاة والخضوع وما أشبه ذلك وسواء علينا أكان وصفا 264 للسبب أو العلة أو المسبب أو المعلول أو لمحالها أو لغير ذلك مما يتعلق به مقتضى الخطاب الشرعي فإنما هو وصف من أوصاف ذلك المشروط ويلزم من ذلك أن يكون مغايرا له بحيث يعقل المشروط مع الغفلة عن الشروط وإن لم ينعكس كسائر الأوصاف مع الموصوفات حقيقة أو اعتبارا ولا فائدة في التطويل هنا فإنه تقرير اصطلاح 265 المسألة الثانية وإذ ذكر اصطلاح هذا الكتاب في الشرط فليذكر اصطلاحه في السبب والعلة والمانع فأما السبب فالمراد به ما وضع شرعا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم كما كان حصول النصاب سببا في وجوب الزكاة والزوال سببا في وجوب الصلاة والسرقة سببا في وجوب القطع والعقود أسبابا في إباحة الإنتفاع أو انتقال الأملاك وما أشبه ذلك وأما العلة فالمراد بها الحكم والمصالح التى تعلقت بها الأوامر أو الإباحة والمفاسد التى تعلقت بها النواهى فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة فعلى الجملة العلة هى المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنها كانت ظاهرة أو غير ظاهرة منضبطة أو غير منضبطة وكذلك نقول في قوله عليه الصلاة والسلام لا يقضي القاضي وهوغضبان فالغضب سبب وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ولا مشاحة في الاصطلاح وأما المانع فهو السبب المقتضى لعلة تنافي علة ما منع لأنه إنما يطلق 266 بالنسبة إلى سبب مقتض لحكم لعلة فيه فإذا حضر المانع وهو مقتض علة تنافي تلك العلة ارتفع ذلك الحكم وبطلت تلك العلة لكن من شرط كونه مانعا أن يكون مخلا بعلة السبب الذى نسب له المانع فيكون رفعا لحكمه فإنه إن لم يكن كذلك كان حضوره مع ما هو مانع له من باب تعارض سببين أو حكمين متقابلين وهذا بابه كتاب التعارض والترجيح فإذا قلنا الدين مانع من الزكاة فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدى به دينه وقد تعين فيما بيده من النصاب فحين تعلقت به حقوق الغرماء انتفت حكمة وجود النصاب وهى الغنى الذى هى علة وجوب الزكاة فسقطت وهكذا نقول في الأبوة المانعة من القصاص فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل العمد العدوان وما أشبه ذلك مما هو كثير المسألة الثالثة الشروط على ثلاثة أقسام أحدها العقلية كالحياة في العلم والفهم في التكليف والثانى العادية كملاصقة النار الجسم المحرق في الإحراق ومقابلة الرائي للمرئي وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار وأشباه ذلك والثالث الشرعية كالطهارة في الصلاة والحول في الزكاة والإحصان في الزنى وهذا الثالث هو 267 المقصود بالذكر فإن حدث التعرض لشرط من شروط القسمين الأولين فمن حيث تعلق به حكم شرعى في خطاب الوضع أو خطاب التكليف ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار فيدخل تحت القسم الثالث المسألة الرابعة افتقرنا إلى بيان أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف وليس بجزء والمستند فيه الإستقراء في الشروط الشرعية ألا ترى أن الحول هو المكمل لحكمة حصول النصاب وهى الغنى فإنه إذا ملك فقط لم يستقر عليه حكمه إلا بالتمكن من الإنتفاع به في وجوه المصالح فجعل الشارع الحول مناطا لهذا التمكن الذى ظهر به وجه الغنى والحنث في اليمين مكمل لمقتضاها فإنها لم يجعل لها كفارة إلا وفى الإقدام عليها جناية ما على اسم الله وان اختلفوا في تقريرها فعلى كل تقدير لا يتحقق مقتضى الجناية إلا عند الحنث فعند ذلك كمل مقتضى اليمين والزهوق أيضا مكمل لمقتضى إنفاذ المقاتل الموجب للقصاص أو الدية ومكمل لتقرر حقوق الورثة في مال المريض مرضا مخوفا والإحصان مكمل لمقتضى جناية الزنى الموجبة للرجم وهكذا سائر الشروط الشرعية مع مشروطاتها وربما يشكل هذا التقرير بما يذكر من أن العقل شرط التكليف والإيمان شرط في صحة العبادات والتقربات فإن العقل إن لم يكن فالتكليف محال عقلا أو سمعا كتكليف العجماوات والجمادات فكيف يقال إنه مكمل بل هو العمدة في صحة التكليف وكذلك لا يصح أن يقال أن الإيمان مكمل للعبادات فإن عبادة الكافر لا حقيقة لها يصح أن يكملها الإيمان وكثير من هذا 268 ويرتفع هذا الإشكال بأمرين أحدهما أن هذا من الشروط العقلية لا الشرعية وكلا منا في الشروط الشرعية والثانى أن العقل في الحقيقة شرط مكمل لمحل التكليف وهو الإنسان لا في نفس التكليف ومعلوم أنه بالنسبة إلى الإنسان مكمل وأما الإيمان فلا نسلم أنه شرط لأن العبادات مبنية عليه ألا ترى أن معنى العبادات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح وهذا فرع الإيمان فكيف يكون أصل الشىء وقاعدته التى ينبنى عليها شرطا فيه هذا غير معقول ومن أطلق هنا لفظ الشرط فعلى التوسع في العبارة وأيضا فإن سلم في الإيمان أنه شرط ففى المكلف لا في التكليف ويكون شرط صحة عند بعض وشرط وجوب عند بعض فيما عدا التكليف بالإيمان حسبما ذكره الأصوليون في مسألة خطاب الكفار بالفروع المسألة الخامسة الأصل المعلوم في الأصول أن السبب إذا كان متوقف التاثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه ويستوي في ذلك شرط الكمال وشرط الإجزاء فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط وهذا من كلامهم ظاهر فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطا فيه وقد فرض كذلك هذا خلف وأيضا لو صح 269 ذلك لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا وذلك محال وأيضا فإن الشرط من حيث هو يقتضى أنه لا يقع المشروط إلا عند حضوره فلو جاز وقوعه دونه لكان المشروط واقعا وغير واقع معا وذلك محال والأمر أوضح من الإطناب فيه ولكنه ثبت في كلام طائفة من الأصوليون أصل آخر وعزى إلى مذهب مالك أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا قولان اعتبارا باقتضاء السبب أو بتخلف الشرط فمن راعى السبب وهو مقتض لمسببه غلب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوعه مسببه لم يراع حضور السبب بمجرده ألا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك في اقتضائه وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف في هذا الأصل مطلقا ويمثلون ذلك بأمثلة منها أن حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة ودوران الحول شرطه ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف واليمين سبب في الكفارة والحنث شرطها ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين وإنفاذ المقاتل سبب في القصاص أو الدية والزهوق شرط ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب ولم يحكوا في هذه الصورة خلافا وفى المذهب إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هى في ملكه إن شاءت طلقت أو أبقت فاستأذنها في التزويج فأذنت له فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه وقال مالك ليس لها ذلك بناء على أنها 270 قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف في التصرف في أكثر من الثلث جاز مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت فالمرض هو السبب لتملكهم والموت شرط فينفذ إذنهم عند مالك خلافا لأبى حنيفة والشافعي وإن لم يقع الشرط ومن الناس من قال بإنفاذ إذنهم في الصحة والمرض فالسبب على رأى هؤلاء هو القرابة ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط وفى المذهب من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل ثم أنزل ففى وجوب الغسل عليه ثانية قولان ونفى الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره وقد اغتسل فلا يغتسل له مرة أخرى هذه حجة سحنون وابن المواز فالسبب هو الإنفصال والخروج شرط ولم يتعبر إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول فإن الأول يقضى بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق والثانى يقضى بأنه صحيح عند بعض العلماء وربما صح باتفاق كما في مسألة العفو قبل الزهوق ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق والمعلوم صحة الأصل الأول فلا بد من النظر في كلامهم في الأصل الثاني أما أولا فنفس التناقض بين الأصلين كاف في عدم صحته عند العلم بصحة الأصل الأول وأما ثانيا فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط فإنا نقول من أجاز تقديم الزكاة قبل حلول الحول مطلقا من غير أهل مذهبنا فبناء على أنه ليس بشرط في الوجوب وإنما هو شرط في الإنحتام فالحول كله كأنه وقت عند هذا القائل لوجوب الزكاة موسع ويتحتم في آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة وأما الإخراج قبل الحول بيسير على مذهبنا فبناء 271 على أن ما قرب من الشىء فحكمه حكمه فشرط الوجوب حاصل وكذلك القول في شرط الحنث من أجاز تقديم الكفارة عليه فهو عنده شرط في الإنحتام من غير تخيير لا شرط في وجوبها وأما مسألة الزهوق فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية لا أنه شرط في صحة العفو وهذا متفق عليه إذ العفو بعده لا يمكن فلا بد من وقوعه قبله إن وقع ولا يصح أن يكون شرطا إذ ذاك في صحته ووجه صحته أنه حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال فجاز عفوه عنه مطلقا كما يجوز عفوه عن سائر الجراح وعن عرضه إذا قذف وما أشبه ذلك والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق ولو كان كما قالوه لكان في هذه المسألة قولان وأما مسألة تمليك المرأة فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه لم يبق لها ما تتعلق به بعده لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها فيه بعد ما جرى سببه فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط وهو فقه ظاهر 272 ومسألة إذن الورثة بينة المعنى فإن الموت سبب في صحة الملك لا في تعلقه والمرض سبب في تعلق حق الورثة بمال الموروث لا في تملكهم له فهما سببان كل واحد منها يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر فمن حيث كان المرض سببا لتعلق الحق وإن لم يكن ملك كان إذنهم واقعا في محله لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث صارت لهم فيه شبهة ملك فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة لأنهم صاروا في الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض كالأجانب فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق كالثلث والقائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط لأنهم أذنوا قبل التمليك وقبل حصول الشرط فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها وأما مسألة الإنزال فيصح بناؤها على أنه ليس بشرط في هذا الغسل أو لأنه لا حكم له لأنه إنزال من غير اقتران لذة فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط 273 المسألة السادسة الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين أحدهما ما كان راجعا إلى خطاب التكليف إما مأمورا بتحصيلها كالطهارة للصلاة وأخذ الزينة لها وطهارة الثوب وما أشبه ذلك وإما منهيا عن تحصيلها كنكاح المحلل الذى هو شرط لمراجعة الزوج الأول والجمع بين المفترق والفرق بين المجتمع خشية الصدقة الذى هو شرط لنقصان الصدقة وما أشبه ذلك فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه فالأول مقصود الفعل والثاني مقصود الترك وكذلك الشرط المخير فيه إن اتفق فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف إن شاء فعله فيحصل المشروط وإن شاء تركه فلا يحصل والضرب الثاني ما يرجع إلى خطاب الوضع كالحول في الزكاة والإحصان في الزنى والحرز في القطع وما أشبه ذلك فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط ولا في عدم تحصيله فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال يجب علي إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه ولا مطلوب الترك أن يقال يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة وكذلك الإحصان لا يقال أنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى وأيضا فلو كان مطلوبا لم يكن من باب خطاب الوضع وقد فرضناه كذلك هذا خلف والحكم فيه ظاهر فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه من حيث هو فعل داخل تحت قدرته فلا بد من النظر في ذلك وهى 274 المسألة السابعة فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا فإن كان ذلك فلا إشكال فيه وتنبنى الأحكام التى تقتضيها الأسباب على حضوره وترتفع عند فقده كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة آخرى أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان إلى ما أشبه ذلك وإن كان فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الإقتضاء 275 فى السبب أن لا يترتب عليه أثره فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا فمن الأحاديث في هذا الباب قوله اخرجه البخاري وابو داود لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وقال البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله روى عن احمد وقال من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن تسبق 276 فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق فهو قمار رواه في التيسير عن أبو داود وقلل في حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط الحديث ونهى عليه الصلاة والسلام عن بيع وشرط وعن بيع وسلف وعن شرط في شرط وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها ومنه حديث من اقتطع مال امرىء مسلم بيمينه رواه الطبراني والحاكم وقال صحيح الاسناد وحديث إن اليمين على نية المستحلف رواه مسلم وابو داود والترمذي وعليه جاءت الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية وفى القرآن أيضا ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله الآية وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا وقال تعالى يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وما في معنى ذلك من الأحاديث وقال فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وما جاء من أحاديث لعن المحلل والمحلل له والتيس المستعار وحديث وذكره في التيسير عن ابي هريرة التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة 277 الدر وسائر أحاديث النهي عن الغش والخديعة والخلابة والنجش وحديث امرأة رفاعة القرظي حين طلقها وتزوجها عبد الرحمن بن الزبير والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا 278 وأيضا فإن هذا العمل يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة عبثا لا حكمة له ولا منفعة به وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح ومنها معتبرة في الأحكام وأيضا فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد وحصل في الوجود صار مقتضيا شرعا لمسببه لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل للسبب فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع في وضعه سببا وقد تبين أن مضادة قصد الشارع باطلة فهذا العمل باطل فإن قيل المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده كان كما لو لم يقصد ذلك ولا تأثير للقصد وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا كالحول في الزكاة فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط لا عند فقدها فإذا لم ينتهض سببا كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى من معاني الإنتفاع فلا تجب عليه الزكاة لأن السبب لم يقتض ايجابها لتوقفه على ذلك الشرط 279 الذي ثبت اعتباره شرعا فمن حيث قيل فيه إنه مخالف لقصد الشارع يقال إنه موافق وهكذا سائر المسائل فالجواب أن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب وأما مع القصد إلى ذلك فهو معنى غير معتبر لأن االشرع شهد له بالإلغاء على القطع ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهى عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الإفتراق ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرط يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج وكذلك قوله ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت له بسبب العقد وعن الإتيان بشرط الفرس المجلية للجعل بقصد أخذه لا بقصد المسابقة معه ومثله مسائل الشروط فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة فإن العقد 280 على الكتابة اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه ومن ذلك الولاء فمن شرط أن الولاء له من البائعين فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه وإذا كان منهيا عنه كان مضادا لقصد الشارع فيكون باطلا فصل هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا الجواب أن في ذلك تفصيلا وهو أن نقول لا يخلو أن يكون الشرط الحاصل في معنى المرتفع أو المرفوع في حكم الحاصل معنى أو لا فإن كان كذلك فالحكم الذي اقتضاه السبب عى حاله قبل هذا العمل والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه ولا حكم له مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ثم ترد إلى التفرقة أو المفرق بين المجتمع كذلك ثم يردها إلى ما كانت عليه وكالناكح لتظهر صورة الشرط ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا وأشباه ذلك لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ولا فائدة فيه تقصد شرعا وإن لم يكن كذلك فالمسألة محتملة والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه 281 أحدها أن يقال إن مجرد انعقاد السبب كاف فإنه هو الباعث على الحكم وإنما الشرط أمر خارجي مكمل وإلا لزم أن يكون الشرط جزء العلة والفرض خلافه وأيضا فإن القصد فيه قد صار غير شرعي فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع فهو في حكم ما لم يعمل فيه واتحد مع القسم الأول في الحكم فلا يترتب على هذا العمل حكم ومثال ذلك إن أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبة بتلة لم يرجع فيها أو جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول وما أشبه ذلك فقد علمنا حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم أنه قاصد لثبوت الحكم به فإذا أخذ هذا يرفع حكم السبب مع انتهاضه سببا كان مناقضا لقصد الشارع وهذا باطل وكون الشرط حين رفع أو وضع على وجه يعتبره الشارع على الجملة قد أثر فيه القصد الفاسد فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا فكان كالمعدوم بإطلاق والتحق بالقسم الأول والثاني أن يقال إن مجرد انعقاد السبب غير كاف فإنه وإن كان باعثا قد جعل في الشرع مقيدا بوجود الشرط فإذا ليس كون السبب باعثا بقاطع في أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه فإذا كان كذلك فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل في رفع الشرط 282 لم يناقض قصده قصد الشارع من كل وجه وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه وهو الشرط أو عدمه لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة قصد الشارع على الجملة لاعينا لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها وأيضا فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا في وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا في منع صاحبه منه وفى تملك الغاصب له ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا في ارتفاع ذلك الحكم وعلى هذ الأصل ينبنى صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة أو سافر في رمضان قصدا للإفطار أو أخر صلاة حضر عن وقتها الإختيارى ليصليها في السفر ركعتين أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها قال فجميع ذلك مكروه ولا يجب على هذا في السفر صيام ولا أن يصلي أربعا ولا على الحائض قضاؤها وعليه أيضا يجري الحكم في الحالف ليقضين فلانا حقه إلى شهر وحلف بالطلاق الثلاث فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث فلما انقضى الأجل راجعها فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث وليست بزوجة لأن الخلع ماض شرعا وإن قصد به قصد الممنوع والثالث أن يفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين فيبطل العمل في الشرط في حقوق الله وإن ثبت له في نفسه حكم شرعي كمسألة الجمع بن المفترق والفرق بين المجتمع ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول لأن الزكاة من حقوق الله وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله لغلبة حقوق الله في النكاح على حقوق الآدميين وينفذ مقتضى الشرط في حقوق الآدميين كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك 283 هذا كله مالم يدل دليل خاص على خلاف ذلك فإنه ان دل دليل خاص على خلافه صير إليه ولا يكون نقضا على الأصل المذكور لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله أو إلى حق الأدميين ويبقى بعد ما إذ اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد والله أعلم المسألة الثامنة الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون مكملا لحكمة المشروط وعاضدا لها بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال كاشتراط الصيام في الإعتكاف عند من يشترطه واشتراط الكفء والإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان في النكاح واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن في البيع واشتراط العهدة في الرقيق واشتراط مال العبد وثمرة الشجر وما أشبه ذلك وكذا اشتراط الحول في الزكاة والإحصان في الزنى وعدم الطول في نكاح الإماء والحرز في القطع فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعا لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضى حكما فإن الإعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على وجه لائق بلزوم المسجد كان للصيام فيه أثر ظاهر ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجيين والعصبة وأولى بمحاسن العادات كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح وهكذا الإمساك بمعروف وسائر تلك الشروط المذكورة تجري علىهذاالوجه فثبوتها شرعا واضح 284 والثاني أن يكون غير ملاءم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته بل هو على الضد من الأول كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب أو اشترط في الإعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأى مالك أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع أو إن انتفع فعلى بعض الوجود دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف وأن يصدقه في دعوى التلف وما أشبه ذلك فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله لأنه مناف لحكمة السبب فلا يصح أن يجتمع معه فإن الكلام في الصلاة مناف لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له وكذلك المشترط في الإعتكاف الخروج مشترط ما ينافى حقيقة الإعتكاف من لزوم المسجد واشترط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل وأضر بالزوجة فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤآلفة وهكذا سائر الشروط المذكورة إلا أنها إذا كانت باطلة فهل تؤثر في المشروطات أم لا هذا محل نظر يستمد من المسألة التي قبل هذه والثالث أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة وهو محل نظر هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة لأن الأصل 285 فيها التعبد دون الإلتفات إلى المعاني والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات فكذلك ما يتعلق بها من الشروط وما كان من العاديات يكتفي فيه بعدم المنافاة لأن الأصل فيها الإلتفات إلى المعاني دون التعبد والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه والله أعلم النوع الثالث في الموانع وفيه مسائل المسألة الأولى الموانع ضربان أحدهما مالا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب والثاني ما يمكن فيه ذلك وهو نوعان أحدهما يرفع أصل الطلب والثاني لا يرفعه ولكن يرفع انحتامه وهذا قسمان أحدهما أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا فيه لمن قدر عليه والآخر أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب فهذه أربعة أقسام فأما الأول فنحو زوال العقلي بنوم أو جنون أو غيرهما وهو مانع من أصل الطلب جملة لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه لأنه إلزام يقتضي التزاما وفاقد العقل لا يمكن إلزامه كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات فإن تعلق طلب يقتضى استجلاب مصلحة أو درء مفسدة فذلك راجع 286 إلى الغير كرياضة البهائم وتأديبها والكلام في هذا مبين في الأصول وأما الثاني فكالحيض والنفاس وهو رافع لأصل الطلب وإن أمكن حصوله معه لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به ألبتة كالصلاة ودخول المسجد ومس المصحف وما أشبه ذلك وأما ما يطلب به بعد رفع المانع فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور لا حاجة لنا إلى ذكره هنا والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان كذلك لاجتمع الضدان لأن الحائض ممنوعة من الصلاة والنفساء كذلك فلو كانت مأمورة بها أيضا لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شىء واحد وهو محال وأيضا إذا كانت مأمورة أن تفعل وقد نهيت أن تفعل لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا وهو محال وأيضا فلا فائدة في الأمر بشىء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ولا بعد ارتفاعه لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق وأما الثالث فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع من انحتام هذه العبادات الجارية في الدين مجرى التحسين والتزيين لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا بحكم 287 التبع فإن تمكنوا منها جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها وهم الأحرار الذكور وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها وأما مع عدم القدرة عليها فالحكم مثل الذي قبل هذا وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الإنحتام بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره تركه للجمعة وما أشبه ذلك المسألة الثانية الموانع ليست بمقصودة للشارع بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها وذلك أنها على ضربين ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجوب إخراج الزكاة وإن وجد النصاب فهو متوقف على فقد المانع وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما ومن الإعتداد بما طبق في حال كفره إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض 288 إلا بحقها فالنظر في هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة والضرب الثاني هو المقصود وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع ولا في عدم تحصيله فإن المديان ليس بمخاطب برفع الدين إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة كما أن مالك الناصب غير مخاطب بتحصيل الإستدانة لتسقط عنه لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب والدليل على ذلك أن وضع السبب مكمل الشروط يقتضى قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه وإلا فلو لم يكن كذلك لم يكن موضوعا على أنه سبب وقد فرض كذلك هذا خلف وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب هذا خلف فإن القصدين متضادان ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك لم يثبت في الشرع مانعا وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع لم يثبت حصوله معتبرا شرعا وإذا لم يعتبر لم يكن مانعا من جريان حكم السبب وقد فرض كذلك وهو عين التناقض فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه ففي ذلك تفصيل وهي المسألة الثالثة فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أومنهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا فإن كان الأول فظاهر كالرجل يكون بيده له نصاب لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع وإن كان الثاني وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا قصدا 289 لإسقاط حكم السبب المقتضى أن لا يترتب عليه ما اقتضاه فهوعمل غير صحيح والدليل على ذلك من النقل أمور من ذلك من النقل أمور من ذلك قوله جل وعلا إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا الآية فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين بتحريهم المانع من إتيانهم وهو وقت الصبح الذى لا يبكر في مثله المساكين عادة والعقاب إنما يكون لفعل محرم وقوله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا نزلت بسبب مضارة الزوجات بالإرتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا وأن لا تنقضى عدتها إلا بعد طول فكان الإرتجاع بذلك القصد إذ هو مانع من حلها للأزواج وفى الحديث قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها رواه الشيخان فباعوها وفى بعض الروايات وأكلوا أثمانها وقال عليه الصلاة والسلام ليشربن 290 ناس من أمتى الخمر ويسمونها بغير عن احمد اسمها وفى رواية ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر رواه البخاري في التيسير والمعازف الحديث وفى بعض الحديث يأتى على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنى بالنكاح والربا بالبيع فكأن المستحل هنا رأى أن المانع هو الإسم فنقل المحرم إلى اسم آخر حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له وقال تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار فاستثنى الإضرار فإذا أقر في مرضه بدين لوارث أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه كان مضارا والإضرار ممنوع باتفاق وقال تعالى ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية قال أحمد بن حنبل عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان يبطلون الأيمان بالحيل وفى الحديث لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ اخرجه الشيخان وفيه إذا سمعتم به يعنى الوباء بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا 291 تخرجوا فرارا منه رواه الترمذي والأدلة هنا في الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح رضى الله تعالى عنهم وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جار معناه في الموانع ومن هنالك يفهم حكمها وهل يكون العمل باطلا أم لا فينقسم إلى الضربين فلا يخلوا أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع أو لا فإن كان كذلك فالحكم متوجه كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به وإن لم يكن كذلك بل كان المانع واقعا شرعا كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه فهو محل نظر على وزان ما تقدم في الشروط ولا فائدة في التكرار النوع الرابع في الصحة والبطلان وفيه مسائل المسألة الأولى في معنى الصحة ولفظ الصحة يطلق باعتبارين أحدهما أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا كما نقول في العبادات إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة ومبرئة 292 للذمة ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء وما أشبه ذلك من العبادات المنبئة عن هذه المعانى وكما نقول في العادات إنها صحيحة بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك واستباحة الأبضاع وجواز الإنتفاع وما يرجع إلى ذلك والثانى أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة كترتب الثواب فيقال هذا عمل صحيح بمعنى أنه يرجى به الثواب في الآخرة ففي العبادات ظاهر وفى العادات يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع وقصد به مقتضى الأمر والنهى وكذلك في المخير إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره لا من حيث قصد مجرد حظه في الإنتفاع غافلا عن أصل التشريع فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى وهو وإن كان طلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك المسألة الثانية في معنى البطلان وهو ما يقابل معنى الصحة فله معنيان أحدهما أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا كما نقول في العبادات إنها غير مجزئة ولا مبرئة للذمة ولا مسقطه للقضاء فكذلك نقول إنها باطلة بذلك المعنى غير أن هنا نظرا فإن كون العبادة باطلة إنما هو 293 لمخالفتها لما قصد الشارع فيها حسبما هو مبين في موضعه ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة فيطلق عليها لفظ البطلان اطلاقا كالصلاة من غير نية أو ناقصة ركعة أو سجدة أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل وقد تكون راجعة إلى وصف خارجى منفك عن حقيقتها وإن كانت متصفة به كالصلاة في الدار المغصوبة مثلا فيقع الإجتهاد في اعتبار الإنفكاك فتصح الصلاة لأنها واقعة على الموافقة للشارع ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف أو في اعتبار الإتصاف فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هى المنفكة عن هذا الوصف وليس للصلاة في الدار المغصوبة كذلك وهكذا سائر ما كان في معناها ونقول أيضا في العادات إنها باطلة بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا من حصول أملاك واستباحة فروج وانتفاع بالمطلوب ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين أحدهما من حيث هى أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا والثانى من حيث هى راجعة إلى مصالح العباد فأما الأول فاعتبره قوم بإطلاق وأهملوا النظر في جهة المصالح وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق كالعبادات المحضة سواء وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد وسيأتى في كتاب المقاصد بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا وإذا كان كذلك فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير 294 مشروعة وغير المشروع باطل فهذا كذلك كما لم تصح العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع وأما الثاني فاعتبره قوم أيضا لا مع إهمال الأول بل جعلوا الأمر منزلا على اعتبار المصلحة بمعنى أن المعنى الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل بحيث لا يمكن التلافى فيه بطل العمل من أصله وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه لأن النهي يقتضى أن لا مصلحة للمكلف فيه وإن ظهرت مصلحته لبادىء الرأى فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام وإن ظنها العامل وإن لم يحصل مدة كان في حكم الحاصل لكن أمكن تلافيه لم يحكم بإبطال ذلك العمل كما يقول مالك في بيع المدبر إنه يرد إلا أن يعتقه المشترق فلا يرد فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق فلم يرد لذلك وكذلك الكتابة الفاسدة ترد مالم يعتق المكاتب وكذلك بيع الغاصب للمغصوب موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده لأن المنع إنما كان لحقه فإذا أجازه جاز ومثله البيع والسلف منهي عنه فإذا 295 أسقط مشترط السلف شرطه جاز ما عقداه ومضى على بعض الأقوال وقد يتلافى باسقاط الشرط شرعا كما في حديث بريرة وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة كنكاح الشغار والدرهم بالدرهمين ونحوهما إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي فصار العقد موافقا لقصد الشارع إما على حكم الإنعطاف إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول أو غير حكم الإنعطاف إن قلنا إن تصحيحه وقع الآن لا قبل وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد والثاني من الإطلاقين أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في الآخرة وهو الثواب ويتصور ذلك في العبادات والعادات فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول فلا يترتب عليها جزاء لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ولا يترتب عليها ثواب أيضا فالأول كالمتعبد رئاء الناس فإن تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب والثاني كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى وقد قال تعالى يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس الآية وقال لئن اشركت ليحبطن عملك وفى الحديث 296 أبلغى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب رواه احمد وضعفه الزرقاني على تأويل من جعل الإبطال حقيقة وتكون أعمال العادات باطلة أيضا بمعنى عدم ترتب الثواب عليها سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا فالأول كالعقود المفسوخة شرعا والثانى كالأعمال التى يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها كالأكل والشرب والنوم وأشباهها والعقود المنعقدة بالهوى ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعى بحكم الإتفاق لا بالقصد إلى ذلك فهى أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه وتبقى جهة قصد الإمتثال مفقودة فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا لأن الأعمال بالنيات والحاصل أن هذه الأعمال التى كان الباعث عليها الهوى المجرد إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت ما عندكم ينفد وما عند الله باق من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أذهبتم 297 طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر أو فيه إشارة إلى هذا المعنى فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة وانظر في الإحياء وغيره المسألة الثالثة ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثانى يحتمل تقسيما لكن بالنسبة إلى الفعل العادى إذ لا يخلو الفعل العادى إذا خلا عن قصد التعبد أن يفعل بقصد أو بغير قصد والمفعول بقصد إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل أو في المخالفة فيترك إما اختيارا وإما اضطرارا فهذه أربعة أقسام أحدها أن يفعل من غير قصد كالغافل والنائم فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير فليس فيه ثواب ولا عقاب لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا يترتب عليه ثمرته والثانى أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك كالأول وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا كأداء الديون ورد الوادائع والأمانات والإنفاق على الأولاد وأشباه ذلك ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع لأن الأعمال بالنيات وقد قال في الحديث رواه الشيخان فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ومعنى الحديث متفق عليه ومقطوع به في الشريعة فهذا القسم والذى قبله باطل 298 بمقتضى الإطلاق الثانى والثالث أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثانى لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرها فإنها صحيحة على الإطلاق الأول إذ كانت مسقطة للقضاء ومبرئة للذمة وباطلة على هذا الإطلاق الثانى وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا أو استحياء من الناس أو ما أشبه هذا ولذلك كانت الحدود كفارات فقط فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا على حال وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات والرابع أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح أما المأمور به يفعله بقصد الإمتثال أو المنهى عنه يتركه بذلك القصد أيضا فهو من الصحيح بالإعتبارين كما أنه لو ترك المأمور به 299 أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة فهو من الباطل بالإعتبارين فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه أحدها أن يكون صحيحا بالإعتبار الأول باطلا بالإعتبار الثاني وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه لا بالنظر إلى ما يستلزم والثانى أن يكون صحيحا بالإعتبارين معا بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه دون مالم يؤذن له فيه وعلى هذا نبه رواه مسلم الحديث في الاجر في وطء الزوجة وقولهم أيقضى شهوته ثم يؤجر فقال أرأيتم لو وضعها في حرام وهذا مبسوط في كتاب المقاصد من هذا الكتاب والثالث أن يكون صحيحا بالإعتبارين معا في المباح الذى هو مطلوب الفعل بالكل وصحيحا بالإعتبار الأول باطلا بالإعتبار الثاني في المباح الذى هو مطلوب الترك بالكل وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام ولكنه مع الذى قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح والأول بالنظر إليه في نفسه فصل وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالإعتبار الثانى فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة فإن كان عبادة فلا تقسيم فيه على الجملة وإن كان عادة فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ أو لا والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا فهذه ثلاثة أقسام أحدها ما لا يصحبه حظ فلا إشكال في صحته والثانى كذلك لأن الغالب هو الذى له الحكم وما سواه في حكم المطرح والثالث محتمل لأمرين أن يكون صحيحا بالإعتبار الثانى أيضا إعمالا للجانب المغلوب واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح فى 300 العاديات بخلاف العباديات وأن يكون صحيحا بالإعتبار الأول دون الثاني إعمالا لحكم الغلبة وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب والحمد لله النوع الخامس في العزائم والرخص والنظر فيه في مسائل المسألة الأولى العزيمة ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء ومعنى كونها كلية أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض ولا ببعض الأحوال دون بعض كالصلاة مثلا فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفى كل حال وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائرالإسلام الكلية ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع والإجارة وسائر عقود المعاوضات وكذلك أحكام الجنايات والقصاص والضمان وبالجملة جميع كليات الشريعة ومعنى شرعيتها ابتداء أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر فلا يسبقها حكم شرعى قبل ذلك فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير كان هذا الأخير كالحكم الإبتدائى تمهيدا للمصالح الكلية العامة 301 ولا يخرج عن هذا ما مكان من الكليات واردا على سبب فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك فإذا وجدت اقتضت أحكاما كقوله تعالى يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية وقوله فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه وما كان مثل ذلك فإنه تمهيد لأحكام وردت شيئا بعد شيء بحسب الحاجة إلى ذلك فكل هذا يشمله اسم العزيمة فإنه شرع ابتدائي حكما كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا كقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وقوله تعالى اقتلوا المشركين ونهى عن قتل النساء والصبيان هذا وما أشبهه من العزائم لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الإقتصار على مواضع الحاجة فيه فكونه مشروعا لعذر هو الخاصة التي ذكرها 302 علماء الأصول وكونه شاقا فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة فلا يسمى ذلك رخصة كشرعية القراض مثلا فإنه لعذر في الأصل وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض ويجوز حيث لا عذر ولا عجز وكذلك المساقاة والقرض والسلم فلا يسمى هذا كله رخصة وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي فلا يسمى رخصة أيضا وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة فمشروع في حقه الإنتقال إلى الجلوس وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة لكن بسبب المشقة استثنى فلم يتحتم عليه القيام فهذا رخصة محققة فإن كان هذا المترخص إماما فقد جاء في الحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به ثم قال وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون اخرجه في التيسير الخمسة الا الترمذي فصلاتهم جلوسا وقع لعذر إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه فلا يسمى مثل هذا رخصة وإن كان مستثنى لعذر وكون هذا المشروع لعذر مستثنى من أصل كلي يبين لك أن الرخص ليست بمشروعه ابتداء فلذلك لم تكن كليات في الحكم وإن عرض لها ذلك فبالعرض فإن المسافرإذا أجزنا له القصر والفطر فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم هذا وإن كانت 303 آيات الصوم نزلت دفعة واحدة فإن الإستثناء ثان عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى فمن اضطر الآية وكونه مقتصرا به على موضع الحاجة خاصة من خواص الرخص أيضا لابد منه وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية وما شرع من الرخص فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة فإن المصلى إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا وإذا قدر على على مس الماء لم يتيمم وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الإصطلاح لأنه مشروع أيضا وإن زال العذر فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الإقتراض وأن يساقى حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالإستئجار عليه وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالإستئجار وكذلك ما أشبهه فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي فصل وقد تطلق الرخصة على ما استثنى من أصل كلي يقتضى المنع مطلقا من غير اعتبار بكونه لعذر شاق فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد 304 الصاع من الطعام في مسألة المصراة وبيع العرية بخرصها تمرا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك وعليه يدل قوله نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل فيجري عليها حكمها في التسمية كما جرى عليها حكمها في الإستثناء من أصل ممنوع وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات لا من أصل الحاجيات فيطلق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات كالمصلي لا يقدر على القيام فإن الرخصة في حقه ضرورية لاحاجية وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه وهذا كله ظاهر فصل وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا وقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال 305 التي كانت عليهم فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث روي في التيسير عن البخاري ومسلم أنه عليه الصلاة والسلام صنع شيئا ترخص فيه ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة بالنسبة إلى ما حمله الأمم السالفة من العزائم الشاقة فصل وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا الآية وما كان نحو ذلك ما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل فحق عليهم التوجه إليه وبذل المجهود في عبادته لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه فإذا وهب لهم حظا ينالونه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود واعتناء بغير ما اقتضته العبودية فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم كانت الأوامر وجوبا أو ندبا والنواهي كراهة أو تحريما وترك 306 كل ما يشغل عن ذلك من المباحات فضلا عن غيرها لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف فالعزائم حق الله على العباد والرخص حظ العباد من لطف الله فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه وإثباتا لحظه وتصير المباحات عند هذا النظر تتعارض مع المندوبات على الأوقات فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله وحق الله هو المقدم والمقصود فإن على العبد بذل المجهود والرب يحكم ما يريد وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقى عن الأحوال وعليه يربون التلاميذ ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم واجتناب الرخص جملة حتى آل الحال بهم أن عدوا أصل الحاجيات كلها أو جلها من الرخص وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما 307 بان لك في هذا الإطلاق الأخير وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع إن شاء الله تعالى فصل ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس وما هو عام للناس كلهم فأما العام للناس كلهم فذلك الإطلاق الأول وعليه يقع التفريع في هذا النوع وأما الإطلاق الثاني فلا كلام عليه هنا إذ لا تفريع يترتب عليه وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي وكذلك الثالث وأما الرابع فلما كان خاصا بقوم لم يتعرض له على الخصوص إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى المسألة الثانية حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة والدليل على ذلك أمور أحدها موارد النصوص عليها كقوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم وقوله وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية وقوله من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان الآية إلى آخرها وأشباه ذلك من 308 النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله فلا إثم عليه وقوله فإن الله غفور رحيم ولم يرد في جميعها أمر يقتضى الإقدام على الرخصة بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة وهو الإثم والمؤآخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل كقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح وبجواز الإقدام خاصة وقال تعالى ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وفي الحديث كنا نسافر مع رسول الله فمنا المقصر ومنا المتم ولا يعيب بعضنا على بعض والشواهد على ذلك كثيرة والثاني أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه 309 حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى هو الذى خلق لكم ما في الأرض جميعا قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق متاعا لكم ولأنعامكم بعد تقرير نعم كثيرة وأصل الرخصة السهولة ومادة رخص للسهولة واللين كقولهم شىء رخص بين الرخوصة ومنه الرخص ضد الغلاء ورخص له في الأمر فرخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه فمال هو إلى ذلك وهكذا سائر استعمال المادة والثالث أنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا والحال بضد ذلك فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها فإذا كان كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة فإن قيل هذا معترض من وجهين أحدهما أن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشىء أن يكون ذلك الشىء مباحا فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا أما أولا فقد قال تعالى إن الصفا والمروة 310 من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما وهما مما يجب الطواف بينهما وقال تعالى ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى والتأخر مطلوب طلب الندب وصاحبه أفضل عملا من المتعجل إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى ولا يقال إن هذه المواضع نزلت على أسباب حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث عائشة لأنا نقول مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب وهي توهم الجناح كقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقوله ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى آخرها وقوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص فينبغى أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي والثاني أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة وأنه سنة وقيل في قصر المسافر إنه فرض أو سنة أو 311 مستحب وفي الحديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه وقال ربنا تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر إلى كثير من ذلك فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل فالجواب عن الأول أنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضى الإذن في التناول والإستعمال فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على إستقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم لإثم في الطواف بالبيت بالثياب وفي بعض المأكولات حتى نزل قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق وكذلك في الأكل من بيوت الآباء والأمهات وسائر من ذكر في الآية وفي التعريض بالنكاح في العدة وغير ذلك فكذلك قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما يعطى معنى الإذن وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله إن الصفا والمروة من شعائر الله أو من دليل آخر فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه ولنا أن نحمله على خصوص السبب 312 ويكون مثل قوله في الآية من شعائر قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع أما ماله سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه وعلى هذا الترتيب يجرى القول في الآية الأخرى وسائر ما جاء في هذا المعنى والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية لا إلى الرخص بعينها وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه ردا لنفسه من ألم الجوع فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه فلا شك أن الزوال عنه مطلوب وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ومثل هذا لا يسمى رخصة لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو ممور بإحياء نفسه فلا يسمى رخصة من هذا الوجه وإن سمى 313 رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة وهذا فرد من أفراده ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج وهذا فرد من أفرادها فلم تتحد الجهتان وإذا تعددت الجهات زال التدافع وذهب التنافى وأمكن الجمع وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة بل هو عزيمة متعبد بها عنده ويدل عليه حديث عائشة رضى الله عنها في القصر فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث اخرجه الستة الا النسائي كما في التفسير وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة لأنها شرعت في السماء خمسين ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة وذلك لا يكون كما تقدم فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة وأما قوله إن الله يحب أن تؤتى رخصة فسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى وأيضا فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية فلا تنافى وأما قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم 314 العسر وما كان نحوه فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج وبالله التوفيق المسألة الثالثة إن الرخصة إضافية لا أصلية بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يحد فيها حد شرعى فيوقف عنده وبيان ذلك من أوجه أحدها أن سبب الرخصة المشقة والمشاق تختلف بالقوة والضعف وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها وبحسب الأزمان وبحسب الأعمال فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة وأرض مأمونة وعلى بطء وفى زمن الشتاء وقصر الأيام كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشتقاته يختلف فرب رجل جلد ضرى على قطع المهامة حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ولا يتألم بسببها يقوى على عباداته وعلى أدائها على كمالها وفى أوقاتها ورب رجل بخلاف ذلك وكذلك في الصبر على الجوع والعطش ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة وغير ذلك من الأمور التى لا يقدر على ضبطها وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر 315 لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد أي إن كان قصر أو فطر ففى السفر وترك كثيرا منها موكولا إلى الإجتهاد كالمرض وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر وهذا لا مرية فيه فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلى ولا ضابطا مأخوذ باليد بل هو إضافى بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك هذا وجه والثانى أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم حرصا عليها واغتناما لها طمعا في رضى المحبوبين واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم بل لذة لهم ونعيم وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات والثالث ما يدل على هذا من الشرع كالذى جاء في وصال الصيام وقطع الأزمان في العبادات فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد ثم فعله من بعد النبى علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ولايقطعهم عن سلوك طريقهم فلا حرج في حقهم وإنما الحرج في حق من 316 يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها وهو غير منتهض إلا أن يجعله منضما إلى ما قبله فالإستدلال بالمجموع صحيح حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة فإن قيل الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة أو لا يمكن له ذلك على حسب ما أمر به أو يكون غير مؤثر بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه فإن كان الأول فظاهر أنه محل الرخصة إلا أنه يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه وإذا كانت مأمورا بها فلا تكون رخصة كما تقدم بل عزيمة وإن كان الثانى فلا حرج في العمل ولا مشقة إلا ما في الأعمال المعتادة وذلك ينفى كونه حرجا 317 ينتهض علة للرخصة وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما ارتفعت الرخصة من أصلها والإتفاق على وجودها معلوم هذا خلف فما انبنى عليه مثله فالجواب من وجهين أحدهما أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر لأنه يقتضى أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جار فيها فإذا كان مشترك الإلزام لم ينهض دليلا ولم يعتبر في الإلزامات والثانى أنه إن سلم فلا يلزم السؤال لأمرين أحدهما أن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه لإمكان قسم ثالث بينهما وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل ولا يكون المكلف رخى البال عنده كل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم مع أنه لا يقطعه عن سفره ولا يخل به في مرضه ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل وكذلك سائر ما يعرض من الرخص جار فيه هذا التقسيم والثالث هو محل الإباحة إذ لا جاذب يجذبه لأحد الطرفين والآخر أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه ليس من 318 جهة كونه رخصة بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها أو كونها تؤدى إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا فالطلب من حيث النهى عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام ومع مدافعة الأخبثين ونحو ذلك فالرخصة باقية على أصل الإباحة من حيث هى رخصة فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة والله أعلم المسألة الرابعة الإباحة المنسوبة إلى الرخصة هل هى من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك فالذى يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر وذلك ظاهر في قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله في الآية الأخرى فإن الله غفور رحيم فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك وإنما ذكر أن التناول في حال الإضطرار يرفع الإثم وكذلك قوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ولم يقل فله الفطر ولا فليفطر ولا يجوز له بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر فعدة من أيام آخر وكذلك قوله فليس عليكم جناح أن تقصروا 319 من الصلاة على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات ولم يقل فلكم أن تقصروا أو فإن شئتم فاقصروا وقال تعالى في المكره من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية إلى قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله فالتقدير أن من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولم يقل فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق وفى الحديث أكذب امرأتى قال له لا خير في الكذب قال له أفأعدها وأقول لها قال لا جناح عليك ولم يقل له نعم ولا أفعل إن شئت اخرجه مالك والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور أن الجمهور أو الجميع يقولون من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الاكراه مأجور وفى أعلى الدرجات والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر فكذلك غيره من المواضع المذكورة وسواها 320 وأما الإباحة التى بمعنى التخيير ففى قوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم يريد كيف شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب فهذا تخيير واضح وكذلك قوله وكلا منها رغدا حيث شئتما وما اشبه ذلك وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين فإن قيل ما الذى ينبنى على الفرق بينهما قيل ينبنى عليه فوائد كثيرة ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا الرخصة مخير فيها حقيقة لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير وليس كذلك إذا قلنا إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير ألا ترى أنه موجود مع الواجب وإذا كان كذلك تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا فإذا عمل بها لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الإنتقال وسيأتى لهذا بسط إن شاء الله تعالى المسألة الخامسة الترخص المشروع ضربان أحدهما أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا كالمرض الذى يعجز معه استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا أو عن الصوم لفوت النفس أو شرعا كالصوم المؤدى إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها وما أشبه ذلك والثانى أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها وأمثلته ظاهرة 321 فأما الأول فهو راجع إلى حق الله فالترخص فيه مطلوب ومن هنا جاء ليس من البر الصيام في السفر الخمسة الا الترمذي وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان وإذا حضرالعشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء عن الشيخان إلى ما كان نحو ذلك فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل ولا كلام أن الرخصة ههنا جارية مجرى العزائم ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف وأن من لم يفعل ذلك فمات دخل النار وأما الثاني فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ إلا أنه على ضربين أحدهما أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها كالجمع بعرفة والمزدلقة فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم حتى عده الناس سنة لا مباحا لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافى كونها رخصة كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر فإذا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة وفى حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم والثاني أن لا يختص بالطلب بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج فهو على أصل الإباحة فاللمكلف الأخذ بأصل العزيمة وإن تحمل في ذلك مشقة وله الأخذ بالرخصة والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة فلا حاجة إلى إيرادها 322 فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك فنقول أما الأول فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها فالإتيان بما قدر عليها منها وهو مقتضى الرخصة هو المطلوب وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب وأما الثاني فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب العمل بها على الخصوص خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة في نفسها كما ثبت عند مالك طلب الجمع بعرفة والمزدلفة فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة ولا كلام فيه وأما الثالث فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن في الرخصة أو في رفع الإثم عن فاعلها المسألة السادسة حيث قيل بالتخيير بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة 323 فللترجيح بينهما مجال رحب وهو محل نظر فلنذكر جملا مما يتعلق بكل طرف من الأدلة فأما الأخذ بالعزيمة فقد يقال إنه أولى لأمور أحدها أن العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به وورود الرخصة عليه وإن كان مقطوعا به أيضا فلا بد أن يكون سببها مقطوعا به في الوقوع وهذا المقدار بالنسبة إلى كل مترخص غير متحقق إلا في القسم المتقدم وما سواه لا تحقق فيه وهو موضع اجتهاد فإن مقدار المشقة المباح من أجلها الترخص غير منضبط ألا ترى أن السفر قد اعتبر في مسافته ثلاثة أميال فأكثر كما اعتبر أيضا ثلاثة أيام بلياليهن وعلة القصر المشقة وقد اعتبر فيها أقل ما ينطلق عليه اسم المشقة واعتبر في المرض أيضا أقل ما ينطلق عليه الإسم فكان منهم من أفطر لوجع أصبعه كما كان منهم من قصر في ثلاثة أميال واعتبر آخرون ما فوق ذلك وكل مجال الظنون لا موضع فيه للقطع وتتعارض فيه الظنون وهو محل الترجح والإحتياط فكان من مقتضى هذا كله أن لا يقدم على الرخصة مع بقاء إحتمال في السبب والثاني أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي لأنه مطلق عام على 324 الأصالة في جميع المكلفين والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر وبحسب بعض الأحوال وبعض الأوقات في أهل الأعذار لا في كل حالة ولا في كل وقت ولا لكل أحد فهو كالعارض الطارىء على الكلي والقاعدة المقررة في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي مقدم لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة كلية ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها فمسألتنا كذلك إذ قد علم أن العزيمة بالنسبة إلى كل مكلف أمر كلي ثابت عليه والرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية وحيث يتحقق الموجب وما فرضنا الكلام فيه لا يتحقق في كل صورة تفرض إلا والمعارض الكلي ينازعه فلا ينجى من طلب الخروج عن العهدة إلا الرجوع إلى الكلي وهو العزيمة والثالث ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردا والصبر على حلوه ومره وإن انتهض موجب الرخصة وأدلة ذلك لا تكاد تنحصر من ذلك قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فهذا مظنة التخفيف فأقاموا على الصبر والرجوع إلى الله فكان عاقبة ذلك ما أخبر الله به وقال تعالى إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر إلى آخر القصة حيث قال رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمدحهم بالصدق 325 مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر وقد عرض النبي على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار المدينة لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر فأبوا من ذلك وتعززوا بالله وبالإسلام فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم وارتدت العرب عند وفاة النبي فكان الرأى من الصحابة رضى الله تعالى عنهم أو من بعضهم غير أبي بكر استئلافهم بترك أخذ الزكاة ممن منعها منهم حتى يستقيم أمر الأمة ثم يكون ما يكون فأبى أبو بكر رضى الله عنه فقال والله لأقاتلهن حتى تنفرد سالفتي والقصة مشهورة وأيضا قال الله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية فأباح التكلم بكلمة الكفر مع أن ترك ذلك أفضل 326 عند جميع الأمة أو عند الجمهور وهذا جار في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الأمر مستحب والأصل مستتب وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس لكن يزول الإنحتام ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك ومن الأدلة قوله عله الصلاة والسلام إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا اخرجه الطبراني بإسناد لا بأس به فحمله الصحابة رضي الله عنهم على عمومه ولا بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة ولم يأخذوه إلا على عمومه حتى اقتدى بهم الأولياء منهم أبو حمزة الخراساني فاتفق له ما ذكره القشيري وغيره من وقوعه في البئر وقد كان هذا النمط مما يناسب استثناؤه من ذلك 327 الأصل وقصة الثلاثة الذين خلفوا حتى أتوا رسول الله وصدقوه ولم يعتذروا له في مواطن كان مظنة للإعتذار فمدحوا لذلك وأنزل الله توبتهم ومدحهم في القرآن بعد ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ولكن ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ففتح لهم باب القبول وسماهم صادقين لأخذهم بالعزيمة دون الترخص وقصة عثمان بن مظعون وغيره ممن كان في أول الإسلام لا يقدر على دخول مكة إلا بجوار ثم تركوا الجوار رضي بجوار الله مع ما نالهم من المكروه ولكن هانت عليهم أنفسهم في الله فصبروا إيمانا بقوله إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقال تعالى لتبلون في أمولكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وقال ولمن انتصر بعد ظلمه فاؤلئك ماعليهم من سبيل ثم قال ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ولما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية شق ذلك على الصحابة فقيل لهم قولوا سمعنا وأطعنا فقالوها فألقى الله الإيمان في قلوبهم فنزلت آمن الرسول بما أنزل إليه 328 من ربه الآية وجهز النبى أسامة في جيش إلى الشام قبيل موته فتوقف خروجه بمرضه عليه السلام ثم جاء موته فقال الناس لأبى بكر إحبس أسامة بجيشه تستعين به على من حاربك من المجاورين لك فقال لو لعب الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ما رددت جيشا أنفذه رسول الله ولكن سأل أسامة أن يترك له عمر ففعل وخرج فبلغ الشام ونكأ في العدو بها فقالت الروم إنهم لم يضعفوا بموت نبيهم وصارت تلك الحالة هيبة في قلوبهم لهم وأمثال هذا كثيرة مما يقتضى الوقوف مع العزائم وترك الترخص لأن القوم عرفوا أنهم مبتلون وهو الوجه الرابع وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع 329 للمكلفين من أنواع المشاق هي مما يقصدها الشارع في أصل التشريع أعني أن المقصود في التشريع إنما هو جار على توسط مجاري العادات وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون مقصودا له لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرا إلى أصل الحاجيات بحسب الإجتهاد والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي ولذلك لم يعمل العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره كالصنائع الشاقة في الحضر مع وجود المشقة التى هى العلة في مشروعية الرخصة فإذا لا ينبغى الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التى لا تطرد ولا تدوم لأن ذلك جار أيضا في العوائد الدنيوية ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية فصار عارض المشقة إذا لم يكن كثيرا أو دائما مع أصل عدم المشقة كالأمر المعتاد أيضا فلا يخرج عن ذلك بالأصل لا يقال كيف يكون اجتهاديا وفيه نصوص كثيرة كقوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية إن الله يحب أن تؤتى رخصه إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما في معناه لأنا نقول حالة الإضطرار قد تبين أنه الذى يخاف معه فوت الروح وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات وهو في نفسه عذر أيضا 330 وما سوى ذلك فمحمول على تحقق المشقة التى يعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو الدنيوية بحيث ترجع العزيمة إلى نوع من تكليف ما لا يطاق وهو منتف سمعا وما سوى ذلك من المشاق مفتقر إلى دليل يدل على دخوله تحت تلك النصوص وفيه تضطرب أنظار النظار كما تقدم فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه وسبب ذلك وهو روح هذا الدليل هو أن هذه العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاء واختبارا لإيمان المؤمنين وتردد المترددين حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة ممن هو في شك ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت لانخرمت الكليات كما تقدم ولم يظهر لنا شىء من ذلك ولم يتميز الخبيث من الطيب فالإبتلاء في التكاليف واقع ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة فيبتلى المرء على قدر دينه قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم الآية لتبلون في أموالكم وأنفسكم ثم قال وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين إلى آخرها فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها ولم يخرجوا بها عن أصل ما حملوه إلى غيره وقوله ولنبلونكم بشىء يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى جمهور الأحوال كما تقدم في أحوال التكليف فإذا كان المعلوم من الشرع في مثل هذه الأمور طلب الإصطبار عليها والتثبت فيها حتى يجري التكليف على مجراه الأصلى كان 331 الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل العمل على أصالته لتكميل الأجر والخامس أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه بيان الأول أن الخير عادة والشر لجاجة وهذا مشاهد محسوس لا يحتاج إلى إقامة دليل والمتعود لأمر يسهل عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره كان خفيفا في نفسه أو شديدا فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها وهذا ظاهر وقد وقع هذا المتوقع في أصول كلية وفروع جزئية كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز وغير ذلك مما نبه عليه في أثناء الكتاب أو لم ينبه عليه وبيان الثانى ظاهر أيضا مما تقدم فإنه ضده وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة فربما عدها شديدة وهى خفيفة في نفسها فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد وصار عمله ضائعا وغير مبني على أصل وكثيرا ما يشاهد الإنسان ذلك فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبة وليست كذلك إلا بمحض التوهم ألا ترى أن المتيمم لخوف لصوص أو سباع إذا وجد الماء في الوقت أعاد عند مالك لأنه عده مقصرا لأن هذا يعتري في أمثاله مصادمة الوهم المجرد الذى لا دليل عليه بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع وقد منعته من الماء فلا إعادة هنا ولا يعد هذا مقصرا ولو تتبع الإنسان الوهم لرمى به في مهاو بعيدة 332 ولأبطل عليه أعمالا كثيرة وهذا مطرد في العادات والعبادات وسائر التصرفات وقد تكون شديدة ولكن الإنسان مطلوب بالصبر في ذات الله والعمل على مرضاته وفى الصحيح من يصبر يصبره الله وجاء في آية الانفال في وقوف الواحد للإثنين بعد ما نسخ وقوفه للعشرة والله مع الصابرين قال بعض الصحابة لما نزلت نقص من الصبر بمقدار ما نقص من العدد هذا بمعنى الخبر وهو موافق للحديث والآية والسادس أن مراسم الشريعة مضادة للهوى من كل وجه كما تقرر في كتاب المقاصد من هذا الكتاب وكثيرا ما تدخل المشقات وتتزايد من جهة مخالفة الهوى واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة فالمتبع لهواه يشق عليه كل شىء سواء أكان في نفسه شاقا أم لم يكن لأنه يصده عن مراده ويحول بينه وبين مقصوده فإذا كان المكلف قد ألقى هواه ونهى نفسه عنه وتوجه إلى العمل بما كلف به خف عليه ولا يزال بحكم الإعتياد يداخله حبه ويحلو له مره حتى يصير ضده ثقيلا عليه بعد ما كان الأمر بخلاف ذلك فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض الملكف فرب صعب يسهل لموافقة الغرض وسهل يصعب لمخالفته فالشاق على الإطلاق في هذا المقام وهو ما لا يطيقهه من حيث هو مكلف كان مطيقا له بحكم البشرية أم لا هذا لا كلام فيه إنما الكلام في غيره مما هو إضافى لا يقال فيه إنه مشقة على الإطلاق ولا إنه ليس بمشقة على الإطلاق وإذا كان دائرا بين الأمرين وأصل العزيمة حقيقى ثابت فالرجوع 333 إلى أصل العزيمة حق والرجوع إلى الرخصة ينظر فيه بحسب كل شخص وبحسب كل عارض فإذا لم يكن في ذلك بيان قطعى وكان أعلى ذلك الظن الذى لا يخلو عن معارض كان الوجه الرجوع إلى الأصل حتى يثبت أن المشقة المعتبرة في حق هذا الشخص حق ولا تكون حقا على الإطلاق حتى تكون بحيث لا يستطيعها فتلحق حينئذ بالقسم الأول الذي لا كلام فيه هذا إذا لم يأت دليل من خارج يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقا كفطره عليه الصلاة والسلام في السفر حين أبى الناس من الفطر وقد شق الصوم عليهم فهذا ونحوه أمر آخر إلى ما تقدم من الأقسام وإنما الكلام في غيره فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى والأخذ بها في محال الترخص أحرى فإن قيل فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو المندوب على الإطلاق أم ثم أنقسام فالجواب أن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات وهي المسألة السابعة فالمشقات التي هى مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين أحدهما أن تكون حقيقية وهو معظم ما وقع فيه الترخص كوجود المشقة المرضية والسفرية وشبه ذلك مما له سبب معين واقع والثاني أن تكون توهمية مجردة بحيث لم يوجد السبب المرخص لأجله ولا وجدت 334 حكمته وهى المشقة وإن وجد منها شىء لكن غير خارج عن مجاري العادات فأما الضرب الأول فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أوشرعا ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما أو لا فإن كان الأول فرجوعه إلى الرخصة مطلوب ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه لأن الرخصة هنا حق لله وإن كان الثاني وهو أن يكون مظنونا فالظنون تختلف والأصل البقاء على أصل العزيمة ومتى قوى الظن ضعف مقتضى العزيمة ومتى ضعف الظن قوي كالظل أنه غير قادر على الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه ولكن إما أن يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين وهو أنه دخل في الصوم مثلا فلم يطق الإتمام أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام فقعد فهذا هو الأول إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه وإما أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ من الكثرة والسبب موجود عينا بمعنى أن المرض حاضر ومثله لا يقدر معه على الصيام ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة من غير أن يجرب نفسه في شىء من ذلك فهذا قد يلحق بما قبله ولا يقوي قوته أما لحوقه به فمن جهة وجود السبب وأما مفارقته له فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد عنده لأنه إنما يظهر عند التلبس 335 بالعبادة وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب في العزيمة حتى يتبين له قدرته عليها وعدم قدرته فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة إلى أن يظهر بعد ما ينبني عليه وأما الضرب الثاني وهو أن تكون توهمية بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة في أنه يوجد بعد أو لا فإن كان الأول فلا يخلو أن يوجد أو لا فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف أعني في إجزاء العمل بالرخصة لا في جواز الإقدام ابتداء إذ لا يصح أن يبني حكم على سبب لم يوجد بعد بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه وإن وجد السبب وهو المقتضى للحكم فكيف إذا لم يوجد نفس السبب وإنما الكلام في نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها فيفطر قبل مجيئها وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضها ستأتي ذلك اليوم وهذا كله أمر ضعيف جدا وقد استدل بعض العلماء على صحة هذا الإعتبار في إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم بأن الغنائم ستباح لهم وهذا غير ما نحن فيه لأن كلامنا فيما يترتب على المكلف من الأحكام الشرعية وترتب العذاب هنا ليس براجع إلى ترتب شرعي بل هو أمر الهي كسائر العقوبات اللاحقة للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه من قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة فلا إشكال هنا والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى 336 قسم التوهمات وهي مختلفة وكذلك أهواء النفوس فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة فإن الصبر أولى مالم يؤد ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه وحقيقة ذلك ان لا يقدر على الصبر لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه فأنت ترى بالإستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها بل حكمها أضعف بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الأحوال فإذا ليست المشقة بحقيقية والمشقة الحقيقية هى العلة الموضوعة للرخصة فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم إلا إذا قامت المظنة وهى السبب مقام الحكمة فحينئذ يكون السبب منتهضا على الجواز لا على اللزوم لأن المظنة لا تستلزم الحكمة التى هى العلة على كمالها فالأحرى البقاء مع الأصل وأيضا فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على المشقة الحقيقية والحقيقية ليست في الوقوع على وزان واحد فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا فإنها ضد الأولى إذ قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهواءها وعوائدها فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل من هويت نفسه أمرا ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص كقوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى الآية لأن الجد بن قيس قال ائذن لى في التخلف عن الغزو ولا تفتنى ببنات الأصفر فإنى لا أقدر على الصبر عنهن وقوله تعالى وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا الآية ثم 337 بين العذر الصحيح في قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدوون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله الآيات فبين أهل الأعذار هنا وهم الذين لا يطيقون الجهاد وهم الزمنى والصبيان والشيوخ والمجانين والعميان ونحوهم وكذلك من لم يجد نفقة أصلا ولا وجد من يحمله وقال فيه إذا نصحوا لله ورسوله ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله ألا ترى إلى قوله تعالى انفروا خفافا و ثقالا وقال إلا تنفروا يعذبكم الآية فما ظنك بمن كان عذره هوى نفسه نعم وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم وأحوالهم وتنعماتهم على وجه لا يفضى إلى مفسدة ولا يحصل بها المكلف على مشقة ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم والقراض والمساقاة وغير ذلك مما هو توسعة عليه وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجا وإليه سبيلا فلم يأته من بابه كان هذا هوى شيطانيا واجبا عليه الانفكاك عنه كالمولع بمعصية من المعاصي فلا رخصة له ألبتة لأن الرخصة هنا هى عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها وإذا لم يوجد شرطها فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل العزيمة إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب وتارة تكون من باب الوجوب والله أعلم 338 فصل ومن الفوائد في هذه الطريقة الإحتياط في اجتناب الرخص في القسم المتكلم فيه والحذر من الدخول فيه فإنه موضع التباس وفيه تنشأ خدع الشيطان ومحاولات النفس والذهاب في اتباع الهوى على غير مهيع ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم وهو أصل صحيح مليح مما أظهروا من فوائدهم رحمهم الله وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات أو كان ابتدائيا كالمساقاة والقرض لأنه حاجي وما سوى ذلك فاللجأ إلى العزيمة ومنها أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها فقوله عليه الصلاة والسلام إن الله يحب أن تؤتى رخصة فالرخص التى هى محبوبة ما ثبت الطلب فيها فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التى قال في مثلها رسول الله ليس من البر الصيام في السفر كان موافقا لقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم بعد ما قال في الأولى وأن تصوموا خير لكم وفى الثانية وأن تصبروا خير لكم فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق ليكون على بينة في المجارى الشرعيات ومن تتبع الأدلة الشرعية في هذا المقام تبين له ما ذكر أتم بيان وبالله التوفيق هذا تقرير وجه النظر في هذا الطرف 339 فصل وقد يقال إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه أحدها أن أصل العزيمة وإن كان قطعيا فأصل الترخص قطعي أيضا فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للإعتبار فقد قام الدليل القطعى على أن الدلائل الظنية تجرى في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية ولا يقال إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن لأنا نقول إنما ذلك في باب تعارض الأدلة بحيث يكون أحدهما رافعا لحكم الآخر جملة أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص أو المطلق مع المقيد فلا ومسألتنا من هذا الثانى لا من الأول لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا حرج فإن كان الحرج صح اعتباره واقتضى العمل بالرخصة وأيضا فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق كما إذا كان الأصل التحريم في الشىء ثم طرأ سبب محلل ظنى فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد وأن أمكن أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره فالعمل على مقتضى الظن صحيح وإنما كان هذا لأن الأصل وإن كان قطعيا فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع وجود الظن هنا بل مع الشك فكذلك ما نحن فيه 340 وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقى للقطع المتقدم حكما وغلبات الظنون معتبرة فلتكن معتبرة في الترخص والثاني أن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها فذلك غير مؤثر وإلا لزم أن تقدح فيما أمر به بالترخص بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي فهو معتبر في نفسه لأنه من باب التخصيص للعموم أو من باب التقييد للإطلاق وقد مر في الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني فهذا أولى وأيضا إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني دون أصل العموم وهو قطعي فكذلك هنا وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته كما هو مقرر في موضعه من هذا الكتاب فكذلك هنا وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها وذلك فاسد فكذلك ما أدى إليه والثالث أن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع كقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وسائر ما يدل على هذا المعنى كقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى 341 كانت عليهم وقد سمى هذا الدين الحنيفية السمحة لما فيها من التسهيل والتيسير وأيضا قد تقدم في المسائل قبل هذا أدلة إباحة الرخص وكلها وأمثالها جارية هنا والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكم من غير دليل ولا يقال إن المشقة إذا كانت قطعية فهى المعتبرة دون الظنية فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم وإنما يقع الفرق في التعارض ولا تعارض في اعتبارهما معا ههنا وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى بل قد يقال الأولى الأخذ بالرخصة لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا فإن العبادة المأمر بها واقعة لكن على مقتضى الرخصة لا أنها ساقطة رأسا بخلاف العزيمة فإنها تضمنت حق الله مجردا والله تعالى غني عن العالمين وإنما العبادة راجعة إلى حظ العبد في الدنيا والآخرة فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها والرابع أن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده بخلاف الطرف الآخر فإنه مظنة التشديد والتكلف والتعمق المنهى عنه في الآيات كقوله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقوله ولا يريد بكم العسر وفى التزام المشاق تكليف وعسر وفيها روى عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل لو ذبجوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم وفى الحديث هلك المتنطعون اخرجه مسلم أبو داود ونهى 342 عن التبتل وقال من رغب عن سنتي فليس مني بسبب من عزم على صيام النهار وقيام الليل واعتزال النساء إلى أنواع الشدة التي كانت في الأمم فخففها الله علهيم بقوله ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقد ترخص رسول الله بأنواع من الترخص خاليا وبمرأى من الناس كالقصر والفطر في السفر والصلاة جالسا حين جحش شقه وكان حين بدن يصلي بالليل في بيته قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ شيئا ثم ركع وجرى أصحابه رضى الله عنهم ذلك المجرى من غير عتب ولا لوم كما قال ولا يعيب بعضنا على بعض والأدلة في هذا المعنى كثيرة والخامس أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الإنقطاع عن الإستباق إلى الخير والسآمة والملل والتنفير عن الدخول في العبادة وكراهية العمل وترك الدوام وذلك مدلول عليه في الشريعة بأدلة كثيرة فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طلب أو قيل له فيه كره ذلك ومله وربما عجز عنه في بعض الأوقات فإنه قد يصبر أحيانا وفى بعض الأحوال ولا يصبر في بعض والتكليف دائم فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق وسد عنه ما سوى ذلك عد الشريعة شاقة وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا وقد قال تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من 343 الأمر لعنتم وقال يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا قيل إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس فسمى اعتداء لذلك وفى الحديث خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا رواه الستة وما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا إختار أيسرهما ما لم يكن إثما البخاري الحديث ونهى عن الوصال فلما لم ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوأ الهلال فقال لو تأخر الشهر لزدتكم اخرجه البخاري في اختلاف بعض اللفظ كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا وقال لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يعد المتعمقون تعمقهم وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص حين كبر يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله وفى الحديث هذه الخولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال عليه الصلاة والسلام لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون الحديث اخرجه في التفسير عن عائشة بالفظ فلانه ولم يصرح بأسمها فأنكر فعلها كما ترى وحديث إمامة معاذ حين قال له النبى أفتان أنت يا معاذ رواه الخمسة الا الترمذي وقال رجل والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت رسول الله في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ثم قال إن منكم منفرين الحديث اخرجه البخاري وحديث الحبل المربوط بين ساريتين سأل عنه عليه الصلاة والسلام قالوا حبل لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به 344 فقال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد وأشباه هذا كثير فترك الرخصة من هذا القبيل ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ليس من البر الصيام في السفر فإذا كان كذلك ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى وإن سلم أنه ليس بأولى فالعزيمة ليست بأولى والسادس أن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى كما تبين في موضعه من هذا الكتاب فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا لمراسم الشريعة وليس كلامنا فيه فإن كان موافقا فليس بمذموم ومسألتنا من هذا فإنه إذا نصب لنا الشرع سبب لرخصة وغلب على الظن ذلك فأعملنا مقتضاه وعملنا بالرخصة فأين اتباع الهوى في هذا وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي وليس أحدهما بأولىمن الآخر والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء فإن كانت غلبة الظن في العزائم معتبرة كذلك في الرخص وليس أحدهما أحرى من الآخر ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع هذا تقرير هذا الطرف 345 فصل وينبنى عليه أن الأولوية في ترك الترخص إذا تعين سببه بغلبة ظن أو قطع وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع وقد يستويان وأما إذا لم يكن ثم غلبة ظن فلا إشكال في منع الترخص وأيضا فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولة على عمومها وإطلاقها من غير تخصيص ببعض الموارد دون بعض ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل المعتبر العلة التي هي المشقة من غير اعتبار بالسبب الذي هو المظنة وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة التى هي السبب كالسفر والمرض فعلى هذا إذا كانت العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه وكثيرا ما يرجع هنا إلى أصل الإحتياط فإنه ثابت معتبر حسبما هو مبين في موضعه 346 فصل فإن قيل الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة وذلك وضع إشكال في المسألة فهل له مخلص أم لا قيل نعم من وجهين أحدهما أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد فإنما أورد هنا استدلال كل فريق من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح فيبقى موقوفا على المجتهد حتى يترجح له أحدهما مطلقا أو يترجح له أحدهما في بعض المواضع والآخر في بعض المواضع أو بحسب الأحوال والثاني أن يجمع بين هذا الكلام وما ذكر في كتاب المقاصد في تقرير أنواع المشاق وأحكامها فإنه إذا تؤمل الموضعان ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله وبالله التوفيق المسألة الثامنة كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له كان ممتثلا لأمر الشارع آخذا بالحزم في أمره وإن لم يفعل ذلك وقع في محظورين أحدهما مخالفته لقصد الشارع كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح والثاني سد أبواب التيسير عليه وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له وبيان ذلك من أوجه 347 أحدها أن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد شرع له أيضا توابع وتكميلات ومخارج بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات حتى يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا ولولا أنها كذلك لم يكن في شرعها زيادة على الأمور الإبتدائية ومن نظر في التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل فإذا كان كذلك فالمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومالا على القطع في الجملة فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا لا حالا ولا مآلا لا على الجملة ولا على التفصيل إذ لو كان كذلك لكان مشروعا أيضا والفرض أنه ليس بمشروع فثبت أن طالب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له والثاني أن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع فيكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه والقصد إلى ذلك يمن وبركة كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع يكفيه في عدم حصول مقصوده شؤم قصده ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا خرج إسماعيل القاضي عن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل من أشجع إلى النبي فذكر الجهد فقال له النبي اذهب فاصبر وكان ابنه أسيرا في أيدي المشركين فأفلت من أيديهم فأتاه بغنيمة فأتى النبي فأخبره فقال له النبي طيبة فنزلت الآية ومن يتق الله الآية وعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال له إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا فقال أرأيت إن أحلها له رجل فقال من يخادع يخدعه الله وعن الربيع بن خثيم في قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا قال من كل شىء ضاق على الناس 348 وعن ابن عباس من يتق الله ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة وقيل من يتق الله والمعصية يجعل له مخرجا إلى الحلال وخرج الطحاوي عن أبي موسى قال قال رسول الله ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى ولا توتوا السفهاء أموالكم ورجل داين بدين ولم يشهد ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع وأن لا نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما يكره ولم يجب دعاؤه لأنه لم يأت الأمر من بابه والآثار في هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا المعنى وقد روى عن ابن عباس أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتلا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن حتى بلغ يجعل له مخرجا وأنت لم تتق الله لم أجد لك مخرجا وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد الله بن مسعود فقال إني طلقت امرأتي ثمان تطليقات فقال ابن مسعود فماذا قيل لك قال قيل لي أنه قد بانت مني فقال ابن مسعود صدقوا من طلق كما أمره الله فقد بين الله له ومن لبس على نفسه لبسا جعلنا لبسه به لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون وتأمل حكاية أبى يزيد البسطامي حين أراد أن يدعو الله أن يرفع عنه 349 شهوة النساء ثم تذكر أن النبى لم يفعل ذلك فأمسك عنه فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق بين المرأة والحجر والثالث أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدى طريق المخرج فكان قاصدا لضد ما طلب من حيث صد عن سبيله ولا يتأتى من قبل ضد المقصود إلا ضد المقصود فهو إذا طالب لعدم المخرج وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الإستهزاء والمكر والخداع كقوله ومكروا ومكر الله وقوله الله يستهزىء بهم وقوله يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ومنه قوله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وقوله فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنؤتيه أجرا عظيما من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها إلى سوى ذلك مما في هذا المعنى وجميعه محقق كما تقدم من أن المتعدى على طريق المصلحة المشروع ساع في ضد تلك المصلحة وهو المطلوب والرابع أن الصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة أو يكون فيها مفسدة ترني في الموازنة على المصلحة فلا يقوم خيرها بشرها وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا ولا يجنى منه ثمرة أصلا وهو معلوم مشاهد بين العقلاء فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال بخلاف الرجوع إلى ما خالفه وهذه المسألة 350 بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته ولكن سيق لتعلقه بالموضع في طلب الترخص من وجه لم يؤذن فيه أو طلبه في غير موضعه فإن من الأحكام الثابتة عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص وقد تقدم منه في أثناء الكتاب في هذا النوع مسائل كثيرة ومنها ما فيه ترخيص وكل موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى وأيضا فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ولا يكون في الشرع كذلك فربما ترخص بغير سبب شرعي ولهذا الأصل فوائد كثيرة في الفقهيات كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود وغيرها من مسائل الحيل وما كان نحوها المسألة التاسعة أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ولامقصودة الرفع لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية فهي إما موانع للتحريم أو التأثيم وإما أسباب لرفع الجناح أو إباحة ما ليس بمباح فعلى كل تقدير إنما هي موانع لترتب أحكام العزائم مطلقا وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب ففعله غير صحيح ويجري فيه التفصيل المذكور في الشروط فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص من غير فرق المسألة العاشرة إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة 351 صارت العزيمة معها من الواجب المخير إذ صار هذا المترخص يقال له إن شئت فافعل العزيمة وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبا في حقه على وزان خصال الكفارة فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج فليست الرخصة معها من ذلك الباب لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب وإذا كان كذلك تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الإنتقال إلى الرخصة وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة فذلك بالقصد الثاني والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان إحداهما في نفس الأمر عادلة والأخرى غير عادلة فإن العزيمة عليه أن يحكم بم أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى وأشهدوا ذوى عدل منكم وقال ممن ترضون من الشهداء فإن حكم بأهل العدالة أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين وإ ن حكم بالأخرى فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر وله أجر في اجتهاده وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين فكما لا يقال في الحاكم إنه مخير بين الحكم بالعدل والحكم بمن ليس بعدل كذلك لا يقال هنا إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة فإن قيل كيف يقال إن شرع الرخص بالقصد الثاني وقد ثبت قاعدة رفع الحرج مطلقا بالقصد الأول كقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين 352 من حرج وجاء بعد تقرير الرخصة يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قيل كما يقال إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني مع قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وقوله وجعل منها زوجها ليسكن إليها وأيضا فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه مع كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة فهو تيسير أيضا ورفع حرج وأيضا فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة وهو مقتضى قوله وما جعل عليكم في الدين من حرج ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات فكذلك نقول في محال الرخص إنها ليست بكليات وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة 353 فإذا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية إن قصده الشارع بالرخصة فمن جهة القصد الثاني والله أعلم المسألة الحادية عشرة إذا اعتبرنا العزائم مع الرخص وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد أما الأول فظاهر فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها وبالصيام في وقته المحدود له أولا وبالطهارة المائية على ما جرت به العادة من الصحة ووجود العقل والإقامة في الحضر ووجود الماء وما أشبه ذلك وكذلك سائر العادات والعبادات كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر ولا إشكال فيه وأما الثاني فمعلوم أيضا من حيث علم الأول فالمرض والسفر وعدم الماء أو الثوب أو المأكول مرخص لترك ما أمر بفعله أو فعل ما أمر بتركه وقد مر تفصيل ذلك فيما مر من المسائل ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب المقاصد بحمد الله إلا أن انخراق العوائد على ضربين عام وخاص فالعام ما تقدم والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها فذلك إنما يكون في 354 الأكثر على حكم الرخصة كانقلاب الماء لبنا والرمل سويقا والحجر ذهبا وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض فيتناول المفعول له ذلك ويستعمله فإن استعماله له رخصة لا عزيمة والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها كان الأمر فيها كذلك إذ كان مخالفة هذ الشرط مخالفة لقصد الشارع إذ ليس من شأنه أن يترخص ابتداء وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر فههنا أولى لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية وإنما وضعت لأمر آخر فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى وأيضا فقد ذكر في كتاب المقاصد أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة بمعنى أنها عامة في كل مكلف لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض والحمد لله ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي لإظهار الخارق كرامة ومعجزة لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس وكذلك نقول إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بأن يكون بحسب القصد وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال حسبما دل عليه الإستقراء فأما إذا لم يكن هذا فالشرط معتبر بلا اشكال وليس بمختص بالعموم بل هو في الخصوص أولى فإن قيل الولي إذا انخرقت له العادة فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة فإن الذي هيىء له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساو لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي إنه في التناول مترخص كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة إذا لا فرق بينهما وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط 355 فالجواب من وجهين أحدهما أن الأدلة المنقولة دلت على ترك أميثال هذه الأشياء لا إيجابا ولكن على غير ذلك فإن النبي خير بين الملك والعبودية فاختار العبودية وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة فلم يختر ذلك وكان عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة فلو شاء له لدعا بما يحب فيكون فلم يفعل بل اختار الحمل على مجارى العادات يجوع يوما فيتضرع إلى ربه ويشبع يوما فيحمده ويثني عليه حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر وكثيرا ما كان عليه الصلاة والسلام يرى أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين وكفاية من أزمات الأوقات وكان عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية والطلبات محضرة له حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما أرى الله إلا يسارع في هواك وكان لما أعطاه الله من شرف المنزلة متمكنا منها فلم يعول إلا على مجارى العادات في الخلق كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن 356 لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء لم يكن حتما على الأولياء لأنهم الورثة في هذا النوع والثاني أن فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين ويصحبها الإبتلاء الذي هو لازم للتكليف كلها وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه لأنها آيات من آيات الله تعالى برزت على عموم العادات حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيى الموتى الآية وكما قال نبينا محمد عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر يرحم الله أخي موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما فإذا كانت هذه فائدتها كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج فهو في التناول والإستعمال بحكم الخيرة فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة وإن قبل الصدقة فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها وأيضا فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا فإذاجاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب وتخفيف عنه فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف بالكسب وتخفيفا عنه فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شىء آخر وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله كما كانت النعم العادية الإكتسابية 357 ابتلاء أيضا وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ الرخص كما تبين وجهه فهذا من ذلك القبيل فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين فلأجل هذا لم يستندوا إليها ولم يعولوا عليها من هذه الجهة بل قبلوها واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله وتركوا منها ما سوي ذلك إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة تضمنت تكليفا وابتلاء وقد حكى القشيري من هذا المعنى فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بفناء داره رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات قال فحملت معي شيئا وطلبته فلما وقعت عينه علي تبسم وأشار بيده إلى الأرض فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع ثم قال هات ما معك فناولته وهالني أمره وهربت وحكى عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة فوجدها وقد التزق الشطان فانصرف وقال وعزتك لا أجوزها إلا في زورق وعن سعيد بن بحيى البصري قال أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل فقلت له لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل فقال ربي أعلم بمصالح عباده ثم أخذ حصى من الأرض ثم قال اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت فإذا هي والله في يده ذهب فألقاها إلي وقال أنفقها أنت فلا خير في الدنيا إلأ للآخرة بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها والتشوف إليها كم يحكى عن أبي يزيد البسطامي ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات من حيث 358 شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة وواردة من جهة مجرد الإنعام فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات فكيف يتشوف إلى خارقة ومن بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته مثلها مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد وعدوا من ركن إليها مستدرجا من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة حكى القشيري عن أبي العباس الشرفي قال كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابنا أنا عطشان فضرب برجله الأرض فإذا عين ماء زلال فقال الفتى أحب أن أشربه بقدح فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانا وما زال القدح معنا إلى مكة فقال لي أبو تراب يوما ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده فقلت ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها فقال من لا يؤمن بها فقد كفر إنما سألتك من طريق الأحوال فقلت ما أعرف لهم قولا فيه فقال بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق وليس الأمر كذلك إنما الخدع في حال السكون إليها فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها فتلك مرتبة الربانيين وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة لا في حكم العزيمة فليتفطن لهذا المعنى فيها فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد ولا تعد من المقامات ولا هي معدودة في النهايات ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية والإنتصاب للإفادة كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية ولا هي دليل على بلوغ النهاية والله أعلم تم الجزء الأول