و تلتف حولي دروب المدينة

و تلتفّ حولي دروب المدينة

​و تلتفّ حولي دروب المدينة​ المؤلف بدر شاكر السياب


و تلتفّ حولي دروب المدينة

حبالا من الطين يمضغن قلبي

و يعطين عن جمرة فيه طينة

حبالا من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة

و يحرقن جيكور في قاع روحي

و يزرعن فيها رماد الضغينة

دروب تقول الأساطير عنها

على موقد نام ما عاد منها

و لا عاد من ضفة الموت سار

كأن الصدى و السكينة

جناحا أبي الهول فيها جناحان من ضخرة في ثراها دفينة

ومن يرجع الله يوما إليها

و في الليل فردوسها المستعاد

إذا عرّش الصخر فيها غصونه

ورصّ المصابيح تفاح نار

و مد الحوانيت أوراق تينه

فمن يشعل الحبّ في كل در و في كلّ مقهى و في كل دار

و من يرجع المخلب الآدميّ يدا يمسح الطفل فيها جبينه

و تخضل من لمسها من ألوهية القلب فيها عروق الحجار

و بين الضّحى و انتصاف النهار

إذا سبّحت باسم ربّ المدينة

بصوت العصافير في سدرة يخلق الله منها قلوب صغار

رحى معدن في أكفّ التجار

لها ما لأسماك جيكور من لمعة و اسمها من معان كثار

فمن يسمع الروح؟ من يبسط الظل في لافح من هجير النضار

و من يهتدي في بحار الجليد إليها فلا يستبيح السفينة

و جيكور من غلق الدور فيها و جاء ابنها يطرق

الباب دونه

و من حول الدرب عنها فمن حيث دار اشرأبت إليه المدينة

و جيكور خضراء مس الأصيل ذرى النخل فيها

بشمس حزينة

يمدّ الكرى لي طريقا إليها

من القلب يمتدّ عبر الدهاليز عبر الدجى و القلاع الحصينة

و قد نام في بابل الراقصون

و نام الحديد الذي يشحذونه

و غشى على أعين الخازنين لهاث النّضار الذي يحرسونه

حصاد المجاعات في جنتيها

رحى من لظى مر دربي عليها

و كرم من عساليجه العاقرات شرايين تموز عبر المدينة

شرايين في كل دار و سجن و مقهى

و سجن و بار و في كل ملهى

و في كل مستشفيات المجانين

في كل مبغى لعشتار

يطلعن أزهارهن الهجينة

مصابيح لم يسرج الزيت فيها و تمسسه نار

و في كل مقهى و سجن و مبغى و دار

دمي ذلك الماء هل تشربونه

و لحمي هو الخبز لو تأكلونه

و تموز تبكيه لاة الحزينة

ترفع بالنواح صوتها مع السّحر

ترفع بالنواح صوتها كما تنهّد الشجر

تقول يا قطار يا قدر

قتلت إذ قتلته الربيع و المطر

و تنشر (الزمان) و (الحوادث) الخبر

و لاة تيسغيث بالمضمّد الحفر

أن يرجع ابنها يديه مقلتيه أيما أثر

و ترسل النواح يا سنابل القمر

دم ابني الزجاج في عروقه انفجر

فكهرباء دارنا أصابت الحجر

و صكه الجدار خضه رماه لمحة البصر

أراد أن ينير أن يبدد الظلام فانحدر

و ترسل النواح

ثم يصمت الوتر

و جيكور خضراء

مسّ الأصيل

ذرى النخل فيها

بشمس حزينة

و دربي إليها كومض البروق

بدا و اختفى ثم عاد الضياء فأذكاه حتى أنار المدينة

و عرى يدي من وراء الضماد كأن الجراحات فيها حروق

و جيكور من دونها قام سور

و بوابه

و احتوتها سكينة

فمن يخترق السور من يفتح الباب يدمي على كل قفل يمينه

و يمناي لا مخلب للصراع فأسعى بها في دروب المدينة

و لا قبضة لابتعاث الحياة من الطين

لكنها محض طينه

و جيكور من دونها قام السور

و بوابه

واحتوتها سكينة