يا بني الفقر سلاما عاطرا

يا بني الفقر سلاماً عاطراً

​يا بني الفقر سلاماً عاطراً​ المؤلف مصطفى لطفي المنفلوطي


يا بني الفقر سلاماً عاطراً
من بني الدنيا عليكم وثناء
وسقى العارضُ من أكواخِكم
معهدَ الصدق ومَهد الأتقياء
كنتمُ خير بني الدنيا ومن
سعدوا فيها وماتُوا سُعداء
عشتم من فقرِكم في غبطةٍ
ومن القلةِ في عيشٍ رَخاء
لا خصامٌ لا مِراءٌ بينكم
لا خداعٌ لانفاقٌ لا رياء
خلقٌ بَرٌ وقلبٌ طاهرٌ
مثل كأس الخمرِ معنىً وصَفاء
ووفاءٌ تثبَتَ الحبُّ به
وثباتُ الحبِّ في الناسِ الوفاء
أصبحت قصتكم معتبراً
في البرايا وعزاءَ البؤساء
يجتلي الناظر فيها حكمةً
لم يُسطِرها يَراعُ الحُكَمَاء
حِكَمٌ لم تقرءوا في كتبها
غيرَ أن طالعتُمُ صُحفَ الفَضاء
وكتابُ الكونِ فيه صُحفٌ
يقرأ الحكمةَ فيها العُقلاء
إن عيش المَرء في وَحدَتهِ
خيرُ عَيش كافِلٍ خَيرَ هَنَاء
فالورى شرٌ وهمٌ دائمٌ
وشقاءٌ ليس يَحكِيه شَقَاء
وفقيرٌ لِغَنىً حاسدٌ
وغنىٌ يستذلَّ الفقراء
وقويٌّ لضعيفٍ ظالمٌ
وضعيفٌ مِن قوىٍّ في عناء
في فضاء الأرض منأى عنهمُ
ونجاءٌ منهمُ أي نَجاء
إن عيش المرءِ فيهم ذلةٌ
وحياةُ الذلِ والموتُ سواء
ليت فرجيني أطاعت بولسا
وأنالته مناهُ في البقاء
ورثت للأدمعِ اللاتي جَرَت
من عيونٍ ما دَرَت كيفض البُكاءِ
لم يكن من رأيها فُرقَتُه
ساعةً لكنه رأيُ القضاء
فارقتهُ لم تكن عالِمةً
أن يومَ المُلتقى يومُ اللقاء
ما لفرجيني وباريس أما
كانَ في القفرِ عن الدنيا غَناء
إن هذا المال كأسٌ مُزِجَت
قطرةُ الصهباءِ فيه بدِماء
لا ينالُ المرءُ مِنه جُرعَةً
لم يَكن في طيّها داءٌ عَيَاء
عَرَضوا المجدَ عليها بَاهِراً
يَدهَشُ الألبابَ حُسناً ورُواء
وأَرُوها زخرفَ الدنيا وما
راقَ فيها مِن نعيمٍ وَثَراء
فأبته وأبى الحبُّ لها
نَقضَ ما أبرَمَه عَهدُ الإِخاء
ودَعَاها الشَوق للقفر وما
ضمَّ مِن خَيرٍ إليهِ وهَناء
فَغَدت أهواؤُها طائرةً
بجناحِ الشوقِ يُزجِيها الرَّجاء
يأمُلُ الإِنسانُ ما يَأمُلُه
وقضاءُ اللَه في الكونِ وراء
ما لِهذا الجوّ أمسى قاتِماً
يُنذرُ الناسَ بويلٍ وبَلاء
ما لِهذا البحر أضحى مائجاً
كَبِنَاءٍ شامخٍ فوقَ بِنَاء
وكأَنَّ الفُلكَ في أمواجِه
رِيشةٌ تحملُها كفُّ الهواء
وَلِفرجِيني يدٌ مبسوطةٌ
بدعاءٍ حين لا يُجدي دُعاء
لَهَفِي والماءُ يَطفو فَوقَه
هيكلُ الحُسنِ وتِمثَالُ الضيّاء
زهرةٌ في الرّوضِ كانت غَضَّةً
تملأُ الدُّنيا جَمالا وبَهاء
من يَراها لا يَراها خُلِقَت
مثلَ خَلقِ الناس من طِينٍ وماء
ظَنَّتِ البحرَ سماءً فهوت
لتُبارى فيه أَملاكَ السّماء
هكذا الدنيا وهذا مُنتهى
كلِّ حيٍّ ما لحيٍّ من بَقاء