مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى/في دمشق


في دمشق

وفي ١٩١٩/٥/٣ غادر بيروت قاصداً دمشق . وقد استقبل على طول الطريق بأسمى مظاهر الترحيب والتأييد . ودخل دمشق دخول الغزاة العظام ، ونهض لاستقباله معظم السكان من شيب وشبان ونساء وأطفال وكانت الورود والرياحين التي تلقى عليه من الكثرة بحيث أصبحت تعرقل سير موكبه ·

ودعا الأمير وفود مستقبليه ورجالات البلاد وأهل الرأي فيها للاجتماع في بهو سراي دمشق الكبير بعد عصارى الخامس من أيار ١٩١٩ ثم ألقي في الاجتماع الخطبة الهامة الآتية :

و أتشرف بأن التي بضع كلمات على مسامعكم الكريمة . وهذه الكلمات ستكون تاريخية بالنسبة لحياة الأمة العربية الجديدة ومستقبلها . وأرجو العفو والعذر اذا سمعتم بعض أغلاط تقع مني في أثناء الحديث الكوني لست من رجال هذا الموقف الخطابي وأرجوكم أن تنظروا إلي بعين العذر وقد دفعني الى الكلام : من أولاً ـ ان أكثر هؤلاء الكرام الذين أتشرف بمخاطبتهم مجتمعون وقد أتوا الى بيروت لملاقاتي وأداء التحية كافة أنحاء سوريا باسم جميع المواطنين الذين ينوبون عنهم ، وحضروا الى هنا ليسمعوا مني ما حصل في الغرب في مؤتمر السلام بخصوص بلاد العرب عامة وسورية خاصة . ولا شك بأنني مجبر على القاء هذه الكلمات لأطمئن أهل البلاد على بلادهم وعلى استقلالهم مع اني في بعض الأحيان لا يمكنني أن أصرح بكل شيء لبعض الموانع السياسية التي تجبرني على السكوت عنها أمامكم . ولما كان أكثر الذوات لا يعرفون ما في الحركة الثورية التي قامت في الحجاز وما هو السبب والدافع اليها ، ولربما انهم قبل يومنا هذا كانت أفكار بعضهم ممن لا اطلاع لهم على السياسة العمومية داعية الى اتهام هذه الثورة بتهم لا محل لذكرها ، وبقول ان من قام بهذه الحركة أتى بخيانة للوطن أو للجامعة العثمانية التي كنا نحن من أفرادها . ولكن على أثر انكسار الاتحاديين وتشتت شمل الحلف الجرمني ، علم المجموع من قام بالثورة هو رجل أو رجال عالمون بسير الحركة السياسية والعسكرية في العالم . وأن من قام بهذا ما قام إلا لحفظ قسم من جسم البلاد العثمانية وانقاذه مما سيقع به بعد الحرب . ولا شك أن المسؤول في الحركة أي الحركة الثورية العربية هو أولاً والدي ثم أن هنا C 6 الحجازيون مادة ، الذين قاموا بها فعلا ً . أما السوريون فانهم مسؤولون عنها معنى لانهم قد شوقوا الحجازيين لهذه الحركة ، فنري ولله الحمد أن الفخر وان كان أولاً للحجازيين فهو فخر للجميع ، لان هذه الثورة ثورة قومية لا يمكن أن نسندها إلا الى الامة جمعاء . نعم ! ان والذي قام بالثورة في أثناء النزاع العظيم العالمي ، بعد ما رأى أن الاتراك انقادوا الى التيار الالماني وأوردوا الامة العثمانية موارد الهلاك ورأى أن دوام العرب في الحرب مع الاتراك المتحدين الالمان سيوقع البلاد التركية في ذات الموقع ، ورأى أن الأمة العربية التي طالما تمنت الخروج من نير الاستعباد والنهوض الى ما كانت عليه في سابق التاريخ طامحة بأنظارها الى الافلات من أشراك أعدائها . لهذا قام بالحركة بعد أن أتيت الى سورية وقابلت بعض الرجال الذين منهم كثيرون في مجلسنا هذا سواء من البدو أو من الحضر عقب مجيئي الى هنا ، ولا شك في انهم يذكرون ذلك هي . ولما وصلت الي دمشق ورأيت ما رأيته من رجال الثورة رجعت الى الحجاز وأخبرت والدي كيف انهم قاموا بواجبهم ، وعليه قام . ولكن تقدير الباري جعل السوريين في موقف لا يمكنهم من مؤازرة الحجاز بما قام به لأسباب تعلمونها وهو ضغط الاتراك عليهم وما أتوه من الافعال التي سيسطرها التاريخ ويخلد ذكر من قتل ومن استشهد في تلك الاثناء من السوريين بأحرف ذهبية قام والدي ولم يفكر فيها يقع على الحجاز والحجازيين من القيام ضد الاتراك ولم يتيقن من النتيجة . إلا أن الباري سبحانه وتعالى يشر هذه الامور ، فجلا الاتراك عن سورية 6 ا لا شك أنه قبل ذلك قام ببعض مذاكرات ومعاهدات بينه وبين الأمم المحالفة أمم الحلفاء . واتكالاً على الباري سبحانه وتعالى ثم على العهود التي اخذها قام بالواجب الى أن انتهى الحرب وبدأ الصلح . ذهبت عن والدي الى باريس عقب جلاء الاتراك وكانت نفذت الخطط العسكرية في البلاد السورية المحتلة ، وجعلت البلاد السورية مقسمة الى ثلاث مناطق ، وهذا لتنفيذ الخطط العسكرية ليس إلا . وأسست الحكومة العربية العسكرية في داخلية سورية ، وهي ليست حكومة دائمة . ولذلك ذهبت الى المؤتمر الذي انعقد في باريس لأخذ لكل مستحق حقه . وصلت باريس ودخلت المؤتمر وجمعية الأمم البث رغائب الشعب على قدر امكانياتنا واجتهادي ، وتمكنت من قول ما أريد . وعند ذهابي رأيت أمم الغرب في حالة جهل عميق عن أحوال العرب . كانوا لا يعرفون عن العرب إلا ما كانوا يعرفونه عنهم في حكايات الف ليلة وليلة ليس إلا . كانوا يظنون العرب عبارة عن الأمم العربية السالفة ولا يفتكرون د الاسم العربية الحاضرة ، ولا يعرفون شيئا الافكار السياسية العربية والنهضة التي حصلت فيها . يفتكرون العرب هم عبارة عن عرب البادية الذين يسكنون الصحراء ، وأما باقي سكان البلاد المعمورة فهم يعدونهم غير عرب . ولا شك أن جهلهم هذا جعلني أصرف وقتاً طويلا لا فهم هذه الأمم الحقيقة وأثبت أن العرب أمة واحدة تقطن في البلاد التي تحدها البحار من الشرق والجنوب والغرب وتحدها جبال طوروس من الشمال ، . بوجود عن و قلت هذا المؤتمرين وأخبرتهم بمقاصد العرب ونواياهم . و ما أنهم - ۱۱۲ --قاموا لانصاف المظلوم ، فبعد أن فهموا المقاصد والمطالب وما فعله العرب من المعاونة للحلفاء في هذه الحرب ، اعترفوا باستقلال العرب مبدئيا ، ولكونهم ليسوا عالمين الدرجة التي حازتها الائمة العربية اليوم في الرقي السياسي والادبي ، والتأمين السلم في البلاد بأجمعها ، رأوا أن ينتدبوا هيئة دولية لترى الحقيقة بأبصارها وها هي قادمة اليكم ( كانت مدافعاتي عن بلاد العرب على قسمين : الأول ، ان البلاد العربية لا يمكن تجزئتها ، والقسم الثاني : ما أن البلاد العربية تختلف في درجة علم وتعليم سكانها في مختلف أقطارهم ليس إلا ، فالظروف ليست مساعدة لادارتهم كأمة واحدة ، لذلك رأيت الدفاع عن حقوقنا كما يلي : ان سوريا و محدودها الطبيعية ، والحجاز والعراق قطعات عربية ، ويطلب أهل كل قطعة منها الاستقلال . وقلت ان نجداً والبلاد المساوية للحجاز في حالتها الاجتماعية من الأقطار العربية هي تابعة للحجاز ليس إلا ، وهذه يرأسها والدي . أما سورية فيجب أن تكون مستقلة ، . وكذلك العراق برند استقلاله ، ولا يريد معاونته أو حمايته ، وهما تقرران الارتباط الواجب قيامه بينهما نحن لا نرضى في سوريا أن نبيع استقلالنا بما نحتاج اليه من المعاونات ابتداء تكويننا ، بل ان الأمة السورية هي وتأخذ ما تحتاجه من المعاونة بثمنه ، أي بدراهم معدودات أن تستقل دافعت هذا الدفاع ، وعلى هذه الاسس ، ولا حاجة الى ذكر غير ی ذلك هنا لأن اجتماعنا هذا خاص بسورية استقلال دافعت عن سورية بحدودها الطبيعية ، وقلت ان السوريين يطلبون يريدون أن يشاركهم فيه شريك . وقد الطبيعية ، ولا بلادهم توفقنا والحمد لله مع أن العرب أمة واحدة وكلنا يعلم ان المقاطعات العربية في نظر التاريخ والجغرافية والصلات القومية هي بلاد واحدة ويجب أن تكون جمارك ومصالح هذه المقاطعات الاقتصادية موحدة لا حاجز يحجز الروابط الاقتصادية والمناسبات الودية بينها . كانت مدافعاتي عن البلاد بهذه الصورة وكانت الأم تنظر الى طلباتي نظر الارتياح والقبول . وان ما حصل من جدل ليس هو إلا من عدم معرفة تلك الأئم مقاصد العرب وطواياها ، وخوفا من وقوع ما لا تحمد عقباه ما بذره الاتراك ، ولكون الأمم الغربية تنظر الى ا المجموع العثماني كوحدة مسؤولة ، ويظنون العرب مسؤولين عن أعمال وقفوا على حقيقة الأمر اذعنوا للمطالب العربية . الاتراك . وبعد أن ( وها أنا بين ايديكم قد قدمت اليكم من مؤتمر السلم لا بلغكم ما تم لي وستصل اليكم الهيئة الدولية ، فاعربوا لها عما في ضمائركم ، لأن ا الأمم لا تريد اليوم أن تحكم أمة أخرى إلا وفق رغباتها . فالموقف اليوم هو بيدكم • الى أن قال : هل تسمح وفود الامة أن ادر الحكومة الموقتة مع السياسة الخارجية والداخلية بعد اليوم أم لا ؟ فكان جواب الجميع تأييد الأمير التام . واشترك في التأييد جميع البطارقة ، ثم تابع الامير كلامه قائلا : بعد أن قلت هذا الاعتماد سأثابر على أعمالي حتى انعقاد المؤتمر العام - 114 ی الذي سينعقد قريبا والذي سيسن القوانين التي توضع لادارة شؤون سوريا كافة . وأنا أرى أن تكون مطالب الاقلية من الشعب مصانة بل مرجحة على رغائب الأكثرية . وهذا للتغلب على ما ذر الاتراك من الشقاق بين العناصر ، وأن تقسم الى مناطق بموجب الحالة الجغرافية والسياسية التي اكتسبها السكان بالنسبة الى اختلاف مناطقهم ، وقولي هذا قول شخصي لاني فرد من أفراد الامة . ولا فرق عندي بين أفرادها بل أرى الصالح والمتعلم مقدمين في نظري ، وليس لأحد منا أن يقول كنت كذا ، ناظراً لشأنه العائلي ، بل لينظر كل منا الى النفع العام الذي يجب أن يقدم على المصالح الخاصة ، والعمل يجب أن يكون بالعلم ، والعمل العام عائد الأمة جمعاء ، ولا يمكن ادخال الشخصيات في العموميات . وأختم كلامي برجائكم رجاء خاصاً بالاتحاد وجمع الكلمة ، ولا استقلال لكم إلا بالسكون والعمل والسلام عليكم . . ثم انصرف الامير الى تقوية جهاز الحكم في سورية ، وقد كان أفضل منه في العراق وفلسطين ولبنان ، فارتاح لذلك كل الناطقين بالضاد ، كما أن الحركة الوطنية برئاسته نشطت كثيراً ، وكانت الحرية العامة مكفولة ، فكثر عدد الصحف والاندية التي تعمل على بث الروح القومية ومقاومة كل دعاية أجنبية 6 ( ( وكانت الهيئة الادارية لجمعية الفتاة تقوم بواجبها بكل أمانة واخلاص ، ويعمل أعضاؤها آناء الليل وأطراف النهار . وبعد تغيب رفيق التميمي في بيروت ، ورستم حيدر في باريس ، حل محلهما سعيد حيدر ، وأحمد مريود . وأصبحت الهيئة الادارية مشكلة من ياسين الهاشمي وعزة دروزة وشكري القوتلي وتوفيق الناطور والدكتور أحمد قدري وأحمد مريود KCA حمر وسعيد حيدر . وكانت هذه اللجنة مرجع تشكيلات الدعاية للقضية العربية . ويلاحظ أن رضا باشا الركابي لم يكن من أعضاء الهيئة الادارية بسبب تأثير المراكز الادارية الكبيرة التي كان شغلها على تفكيره وعدم انسجام ارائه مع آراء اخوانه من أعضائها وكنا نستعين بفيصل رئيسنا الأعلى لتنفيذ الخطط المرسومة . ولما كان لا يوجد فواصل ركية بين سورية العربية ولبنان وفلسطين ، فكان قد تم الاتفاق بمعرفة القيادة الخليفة العليا على أن تدفع الادارة القائمة في لبنان (150) الف جنيه والقائمة في فلسطين (150) الف جنيه مصري اخرى الى الحكومة العربية لقاء ما تستورده سورية عن طريق تلك البلاد اذ ان سلطات الجمارك في الموانىء اللبنانية والفلسطينية تحصل الضرائب الجمركية وفقاً ا كان متبعاً في العهد العثماني . وبالنظر لكون الامير فيصل هو ممثل القيادة الحليفة في سورية ، فكانت هذه المبالغ تسلم لسموه وهو يسلمها الى الموظفين المختصين بعد أن تقتطع منها نفقات الامير وما تستلزمه الاعمال الوطنية التي ليست من اختصاص الحكومة كالدعاية الوطنية واستمالة الاشخاص المزعزعي الايمان الوطني ولا سيما في الساحل . وكنت انا المكلف من جمعية الفتاة بمراجعة الامير في ذلك ، فأتسلم اوامر صرف المبالغ المخصصة للغايات المذكورة ، واسامها فوراً للهيئة الإدارية فيقبضها خازنها ، كما ان ياسين الهاشمي ايضا كان يضطلع احياناً بهذه المهمة وذلك الدالة التي كانت لنا عند الامير اسلم ... ( ولما كان حزب الاستقلال العربي قد تشكل ليكون المظهر الخارجي لجمعية الفتاة السرية فقد توسع كثيراً وكان يقوم بكل ما تود الفتاة نشره - 116 من مبادىء وطنية وخطط للوصول الى الغاية الكبرى من تحقيق استقلال ووحدة الوطن العربي ·

وبالنظر للفائدة العظمى التي تجنبها الحركة الوطنية من وجود نواد عربية تضم شمل الشباب وتبث فيهم الروح الوطنية فقد تأسس في كل من دمشق وحلب ناد عربي كبير ، كما تأسست في بقية المدن نواد مشابهة · وكان لولب النادي العربي في دمشق الشيخ عبد القادر المظفر اليافي المولد ، وكان المظفر خطيباً كثير النشاط ، دائب الحركة ، منتسباً لعلماء الدين ، الأمر الذي سهل عليه القيام بواجبه في النادي وترويج الدعاية الوطنية التي كانت الظروف تستوجب اتباعها ·