مقدمة ابن الصلاح/النوع التاسع والثلاثون


النوع التاسع والثلاثون: معرفة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

هذا علم كبير قد ألف الناس فيه كتبا كثيرة، ومن أجلِّها وأكثرها فوائد كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، لولا ما شانه به من إيراده كثيرا مما شجر بين الصحابة، وحكاياته عن الإخباريين لا المحدثين. وغالب على الإخباريين الإكثار والتخليط فيما يروونه.

وأنا أورد نكتا نافعة - إن شاء الله تعالى - قد كان ينبغي لمصنفي كتب الصحابة أن يتوجوها بها، مقدمين لها في فواتحها:

إحداها: اختلف أهل العلم في أن الصحابي من ؟

فالمعروف من طريقة أهل الحديث: أن كل مسلم رأى رسول الله فهو من الصحابة.

قال البخاري في صحيحه: من صحب النبي أو رآه من المسلمين، فهو من أصحابه.

وبلغنا عن أبي المظفر السمعاني المروزي أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة، وهذا لشرف منزلة النبي ، أعطوا كل من رآه حكم الصحبة.

وذكر: أن اسم الصحابي - من حيث اللغة والظاهر - يقع على من طالت صحبته للنبي وكثرت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ عنه. قال: وهذا طريق الأصوليين.

قلت: وقد روينا عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وكأن المراد بهذا - إن صح عنه - راجع إلى المحكي عن الأصوليين. ولكن في عبارته ضيق، يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم، ممن لا نعرف خلافا في عدِّه من الصحابة.

وروينا عن شعبة عن موسى السبلاني - وأثنى عليه خيرا - قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب رسول الله أحد غيرك ؟ قال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه فأما من صحبه فلا. إسناده جيد، حدَّث به مسلم بحضرة أبي زرعة.

ثم إن كون الواحد منهم صحابيا: تارة يعرف بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه - بعد ثبوت عدالته - بأنه صحابي، والله أعلم.

الثانية: للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي: أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.

قال الله تبارك وتعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» الآية. قيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله

وقال تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس». وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ.

وقال سبحانه وتعالى: «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار» الآية.

وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة، منها: حديث أبي سعيد المتفق على صحته: أن رسول الله قال: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».

ثم إن الأمة مجمعة علي تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم: فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكان الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم.

الثالثة: أكثر الصحابة حديثا عن رسول الله أبو هريرة روي ذلك عن سعيد بن أبي الحسن و أحمد بن حنبل، وذلك من الظاهر الذي لا يخفي على حديثي، وهو أول صاحب حديث بلغنا عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني قال: رأيت أبا هريرة في النوم، وأنا بسجستان أصنف حديث أبي هريرة فقلت: إني لأحبك، فقال: أنا أول صاحب حديث كان في الدنيا. وعن أحمد بن حنبل أيضا رضي الله عنه قال: ستة من أصحاب النبي أكثروا الرواية عنه وعمَّروا أبو هريرة وابن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وأبو هريرة أكثرهم حديثا، وحمل عنه الثقات.

ثم إن أكثر الصحابة فُتْيا تروى ابن عباس. بلغنا عن أحمد بن حنبل قال: ليس أحد من أصحاب النبي يروى عنه في الفتوى أكثر من ابن عباس. وروينا عن أحمد بن حنبل أيضا أنه قيل له: من العبادلة ؟ فقال: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو. قيل له: فابن مسعود ؟ قال: لا، ليس عبد الله بن مسعود من العبادلة.

قال الحافظ أحمد البيهقي فيما رويناه عنه وقرأته بخطه: وهذا لأن ابن مسعود تقدم موته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم. فإذا اجتمعوا على شيء قيل هذا قول العبادلة أو هذا فعلهم.

قلت: ويلتحق بابن مسعود في ذلك سائر العبادلة المسمين بعبد الله من الصحابة، وهم نحو مائتين وعشرين نفسا، والله أعلم.

وروينا عن علي بن عند الله المديني قال: لم يكن من أصحاب النبي له أصحاب يقومون بقوله في الفقه إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم. كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقوله ويفتون الناس.

وروينا عن مسروق قال: وجدت علم أصحاب النبي  انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأُبيّ، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين: علي، وعبد الله.

وروينا نحوه عن مطرِّف، عن الشعبي، عن مسروق لكن ذكر أبا موسى بدل أبي الدرداء.

وروينا عن الشعبي قال: كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول الله وكان عمر، وعبد الله، وزيد، يشبه علم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي، والأشعري، وأبي، يشبه علم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض.

وروينا عن الحافظ أحمد البيهقي: أن الشافعي ذكر الصحابة في رسالته القديمة، وأثنى عليهم بما هم أهله، ثم قال: وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأُولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم.

الرابعة: روينا عن أبي زرعة الرازي: أنه سئل عن عدة من روى عن النبي فقال: ومن يضبط هذا ؟ شهد مع النبي حجة الوداع أربعون ألفا، وشهد معه تبوك سبعون ألفا.

وروينا عن أبي زرعة - أيضا - أنه قيل له: أليس يقال: حديث النبي أربعة آلاف حديث ؟ قال: ومن قال ذا قلقل الله أنيابه ؟ هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله قبض رسول الله عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة، ممن روي عنه وسمع منه. وفي رواية: ممن رآه وسمع منه. فقيل له: يا أبا زرعة، هؤلاء أبن كانوا و أين سمعوا منه ؟ قال: أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع كل رآه وسمع منه بعرفة.

قال المؤلف: ثم إنه اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم، والنظر في ذلك إلى السبق بالإسلام، والهجرة، وشهود المشاهد الفاضلة مع رسول الله بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا هو .

وجعلهم الحاكم أبو عبد الله: اثنتي عشرة طبقة، ومنهم من زاد على ذلك ولسنا نطول بتفصيل ذلك، والله أعلم.

الخامسة: أفضلهم على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر. ثم إن جمهور السلف على تقديم عثمان على علي، وقدم أهل الكوفة من أهل السنة عليا على عثمان، وبه قال بعض السلف، منهم سفيان الثوري أولا، ثم رجع إلى تقديم عثمان، روي ذلك عنه وعنهم الخطابي. وممن نقل عنه من أهل الحديث تقديم علي على عثمان محمد بن إسحاق بن خزيمة. وتقديم عثمان هو الذي استقرت عليه مذاهب أصحاب الحديث وأهل السنة.

وأما أفضل أصنافهم صنفا: فقد قال أبو منصور البغدادي التميمي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

قلت: وفي نص القرآن تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا إلى القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة. وفي قول الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان. وعن محمد بن كعب القرظي وعطاء بن يسار أنهما قالا: هم أهل بدر، روى ذلك عنهما ابن عبد البر فيما وجدناه عنه، والله أعلم.

السادسة: اختلف السلف في أولهم إسلاما:

فقيل: أبو بكر الصديق، روي ذلك عن ابن عباس، وحسان بن ثابت، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.

وقيل: علي أول من أسلم، روي ذلك عن زيد بن أرقم، وأبي ذر، والمقداد، وغيرهم.

وقال الحاكم أبو عبد الله: لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب أولهم إسلاما، واستنكر هذا من الحاكم.

وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري.

وقيل: أول من أسلم خديجة أم المؤمنين، روي ذلك من وجوه عن الزهري. وهو قول قتادة، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وجماعة. وروي أيضا عن ابن عباس. وادعى الثعلبي المفسر فيما رويناه أو بلغنا عنه: اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو في أول من أسلم بعدها.

والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال، والله أعلم.

السابعة: أخرهم على الإطلاق موتا أبو الطفيل عامر بن واثلة مات سنة مائة من الهجرة.

وأما بالإضافة إلى النواحي:

فآخر من مات منهم بالمدينة: جابر بن عبد الله، رواه أحمد بن حنبل عن قتادة. وقيل: سهل بن سعد، وقيل: السائب بن يزيد.

وآخر من مات منهم بمكة عبد الله بن عمر، وقيل: جابر بن عبد الله. وذكر علي بن المديني أن أبا الطفيل مات بمكة، فهو إذا الآخر بها.

وآخر من مات منهم بالبصرة: أنس بن مالك. قال أبو عمر بن عبد البر: ما أعلم أحدا مات بعده ممن رأى رسول الله إلا أبا الطفيل.

وآخر من مات منهم بالكوفة: عبد الله بن أبي أوفى.

وبالشام: عبد الله بن بسر، وقيل: بل أبو أمامة.

وتبسط بعضهم فقال: آخر من مات من أصحاب رسول الله بمصر: عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي. وبفلسطين: أبو أبيّ بن أم حرام. وبدمشق: واثلة بن الأسقع. وبحمص: عبد الله بن بسر. وباليمامة: الهرماس بن زياد. وبالجزيرة: العرس بن عَميرة. وبأفريقية: رويفع بن ثابت. وبالبادية في الأعراب: سلمة بن الأكوع، رضي الله عنهم أجمعين.

وفي بعض ما ذكرناه خلاف لم نذكره، وقوله في رويفع بأفريقية لا يصح، إنما مات في حاضرة برقة وقبره بها. ونزل سلمة إلى المدينة قبل موته بليال فمات بها، والله أعلم.

مقدمة ابن الصلاح
المقدمة | النوع الأول معرفة الصحيح | النوع الثاني معرفة الحسن | النوع الثالث معرفة الضعيف | النوع الرابع معرفة المسند | النوع الخامس معرفة المتصل | النوع السادس معرفة المرفوع | النوع السابع معرفة الموقوف | النوع الثامن معرفة المقطوع | النوع التاسع معرفة المرسل | النوع العاشر معرفة المنقطع | النوع الحادي عشر معرفة المعضل | النوع الثاني عشر معرفة التدليس وحكم المدلس | النوع الثالث عشر معرفة الشاذ | النوع الرابع عشر معرفة المنكر | النوع الخامس عشر معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد | النوع السادس عشر معرفة زيادات الثقات وحكمها | النوع السابع عشر معرفة الأفراد | النوع الثامن عشر معرفة الحديث المعلل | النوع التاسع عشر معرفة المضطرب | النوع العشرون معرفة المدرج | النوع الحادي والعشرون معرفة الموضوع | النوع الثاني والعشرون معرفة المقلوب | النوع الثالث والعشرون معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد | النوع الرابع والعشرون معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله | النوع الخامس والعشرون في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده | النوع السادس والعشرون في صفة رواية الحديث وشرط أدائه | النوع السابع والعشرون معرفة آداب المحدث | النوع الثامن والعشرون معرفة آداب طالب الحديث | النوع التاسع والعشرون معرفة الإسناد العالي والنازل | النوع الموفي ثلاثين معرفة المشهور من الحديث | النوع الحادي والثلاثون معرفة الغريب والعزيز | النوع الثاني والثلاثين معرفة غريب الحديث | النوع الثالث والثلاثون معرفة المسلسل من الحديث | النوع الرابع والثلاثون معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه | النوع الخامس والثلاثون معرفة المصحَّف | النوع السادس والثلاثون معرفة مختلف الحديث | النوع السابع والثلاثون معرفة المزيد في متصل الأسانيد | النوع الثامن والثلاثون معرفة المراسيل الخفي إرسالها | النوع التاسع والثلاثون معرفة الصحابة | النوع الموفي أربعين معرفة التابعين | النوع الحادي والأربعون معرفة الأكابر الرواة عن الأصاغر | النوع الثاني والأربعون معرفة المدبج | النوع الثالث والأربعون معرفة الإخوة والأخوات | النوع الرابع والأربعون معرفة رواية الآباء عن الأبناء | النوع الخامس والأربعون معرفة رواية الأبناء عن الآباء | النوع السادس والأربعون معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان | النوع السابع والأربعون معرفة من لم يرو عنه إلا راو واحد | النوع الثامن والأربعون معرفة من ذكر بأسماء مختلفة | النوع التاسع و الأربعون معرفة المفردات الآحاد | النوع الموفي خمسين معرفة الأسماء والكنى | النوع الحادي والخمسون معرفة كني المعروفين بالأسماء دون الكنى | النوع الثاني والخمسون معرفة ألقاب المحدثين | النوع الثالث والخمسون معرفة المؤتلف والمختلف | النوع الرابع والخمسون معرفة المتفق والمفترق | النوع الخامس والخمسون نوع يتركب من النوعين اللذين قبله | النوع السادس والخمسون معرفة الرواة المتشابهين | النوع السابع والخمسون معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم | النوع الثامن والخمسون معرفة النسب التي باطنها على خلاف ظاهرها | النوع التاسع والخمسون معرفة المبهمات | النوع الموفي ستين معرفة تواريخ الرواة | النوع الحادي والستون معرفة الثقات والضعفاء | النوع الثاني والستون معرفة من خلط في آخر عمره | النوع الثالث والستون معرفة طبقات الرواة والعلماء | النوع الرابع والستون معرفة الموالي | النوع الخامس والستون معرفة أوطان الرواة وبلدانهم