أحوال أبي عمر المقدسي

​أحوال أبي عمر المقدسي​ المؤلف الضياء المقدسي
ملاحظات:



بسم الله الرحمن الرحيم

مولده ووفاته

سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بجماعيل، شاهدته بخط والده أحمد رحمه الله.

ووفاته عشية يوم الاثنين، الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة سبع وستمائة، بجبل قاسيون ظاهر دمشق، وبهذا الجبل دفن.

ذكر شيوخه

سمع الحديث الكثير بدمشق، ومصر، فسمع بدمشق والده، وأبا المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن هلال الأزدي، وأبا تميم سلمان بن علي بن عبد الرحمن الرحبي ثم الدمشقي، وأبا الفهم عبد الرحمن بن عبد العزيز الأزدي، وأبا نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف البغدادي، وخلقاً يطول ذكرهم.

وبمصر الإمام أبا محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي اللغوي، وأبا الطاهر إسماعيل بن قاسم الزيات وغيرهما.

باب في ذكر اجتهاده ورغبته في أفعال الخير

كان -رحمه الله تعالى- لا يكاد يسمع دعاءً إلا حفظه ودعا به، ولا يسمع ذكر صلاة إلا صلاها، ولا يسمع حديثاً إلا عمل به، وقد كان يصلي بالناس في نصف شعبان مئة ركعة، وهو شيخ كبير، وكان أنشط الجماعة، وكان لا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته.

1- سمعت والدتي أم أحمد قالت: حدثتني بهية بنت الفقيه طرخان -وهو ابن أبي الحسن الدمشقي- قالت: لما جئتم من بلادكم، جاء والدي ومعه الشيخ أبو عمر، وكان شاباً ومعه غيره من أقربائكم، فقال لي أبي: تغسلي ثيابهم، فكرهت ذلك -تعني: ثقل عليها- قالت: فباتوا عندنا، فقام أبو عمر من الليل يصلي ويقرأ، فلما سمعت قراءته وقعت قراءته في قلبي، وأحببتهم حباً شديداً، أو ما هذا معناه.

2- وقد سمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن طرخان يحدث عن أخته بنحو هذا.

سافرت مرة مع خالي الإمام أبي عمر إلى الغزاة، فبتنا عند قرية فأراد بعضنا أن يسهر ويحرسنا، فقال له الشيخ: نم، وقام هو يصلي.

3- وسمعت أبا العباس أحمد بن يونس بن حسن المقدسي قال: كنت في سفر مع الشيخ أبي عمر، وكان معنا أحمد بن الصابوني، ومعه قماش، فجئنا إلى موضع مخوف، فأردنا السهر، فقال الشيخ أبو عمر: ناموا أنتم، فنمنا وقام يصلي إلى وقت رحيلنا.

4- وسمعت الفقيه أبا محمد عبد الحميد بن محمد بن ماضي المقدسي يقول: جاء الشيخ أبو عمر إلينا، إلى نابلس، فكان يتعشى بعد العشاء الآخرة، ثم نتذاكر في الفقه إلى هوى من الليل، ثم يقوم فيصلي زماناً طويلاً.

5- سمعت الشيخ أبا بكر بن أحمد البغدادي يقول: دخلنا إلى عند الشيخ أبي عمر في مرضه الذي مات فيه، وهو يعقد بأصابعه -يعني يسبح- فلما خرجنا من عنده إلى خارج الدار، قالوا: توفي.

6- وسمعت أم عبد الله آسية بنت محمد - وهي التي كانت تدور به في مرضه تقول: إنه قلل الأكل قبل موته، حتى عاد كالعود، وقالت: مات وهو عاقد على أصابعه -تعني يسبح-.

7- وسمعتها تحدث عن أم عبد الرحمن -تعني زوجته- قالت: كان يقوم بالليل، فإذا جاءه النوم، عنده قضيب يضرب به على رجله، فيذهب عنه النوم.

وكان -رحمة الله عليه- كثير الصيام في الحضر والسفر، ورأيته في السفر قل ما كان يفطر فيه.

8- وحدثني ولده الإمام عبد الله أنه في آخر عمره سرد الصوم، فكان لا يفطر إلا في عيد أو مرض أو عذر، فلامه أهله في ذلك، فقال: إنما أصوم أغتنم أيامي، لأني إن ضعفت عجزت عن الصوم، وإن مت انقطع عملي.

وكان يحرص على صلاة الجماعة بعد ضعفه، ويخرج إليها في الظلام، فربما صدمه بعض الحيطان من ضعفه وكثرة الظلام.

9- ولقد حدثني بعض أهله: أنه خرج ليلة للصلاة في الظلمة، فوقع في الدرجة التي لهم، وبقي مطروحاً لا يقدر على القيام، قال: حتى مضيت إلى ابنه وحكيت له وقوعه، فقال ابنه: هذه الساعة كنت أرى نوراً ينزل على ناحيته، وجئنا بسراج فشلناه، أو ما هذا معناه.

وكان لا يكاد يسمع بجنازة إلا حضرها، قريبة أو بعيدة، ولا مريضاً إلا عاده.

10- ولقد حدثني عبد الغني بن عمر بن فتيان الجدياني المؤذن قال: لما ماتت أمي حملناها إلى الجبل، فجئت إلى الشيخ أبي عمر وهو في يوم حار، فمضى معي ليصلي عليها -يعني وكان الموضع بعيداً-.

قلت: وكان هذا في آخر عمره وضعفه، وكان -رحمه الله تعالى- لا يكاد يسمع بجهاد إلا خرج فيه، رحمة الله عليه.

ذكر طرف من أوراده

وكان يقرأ في كل ليلة سبعاً من القرآن، مرتلاً في الصلاة، ويقرأ في النهار سبعاً بين الظهر والعصر، وكان إذا صلى الفجر وفرغ من الدعاء والتهليل والتسبيح قرأ آيات الحرز، ويس، والواقعة، و{تبارك الذي بيده الملك} و{قل هو الله أحد}، والمعوذات، وكان قد كتب ذلك في كراسة وهي معلقة في المحراب، ربما قرأ فيها خوفاً من النعاس، ثم يقرئ القرآن ويلقن الناس إلى وقت ارتفاع النهار، ثم يقوم فيصلي الضحى صلاة طويلة بتمام ركوع وسجود.

11- وسمعت ولده الإمام أبا محمد عبد الله يقول: كان يسجد سجدتين طويلتين، إحداهما في الليل، والأخرى في النهار، يطيل فيها السجود، ولم نعلم ما كان يقول في سجوده.

ويصلي بعد أذان الظهر قبل سنتها في كل يوم ركعتين، يقرأ في الركعة الأولى أول المؤمنون، وفي الثانية بآخر الفرقان من قوله {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً}، وكان يصلي بين المغرب والعشاء أربع ركعات، يقرأ فيهن السجدة، وتبارك، ويس، والدخان، ويصلي كل ليلة جمعة بين العشاءين صلاة التسابيح أربع ركعات، ويطيل فيها، وكان يصلي يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة ركعتين، كل ركعة يقرأ فيها قل هو الله أحد خمسين مرة.

12- وحكى ولده -بارك الله في عمره- عن أهله أنه كان يصلي في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة.

13- ومما حكي عن أهله -أم عبد الرحمن- أنه كان يقرأ كل يوم -{قل هو الله أحد} ألف مرة، ويقول سبحان الله وبحمده ألف مرة، وسبحان الله العظيم ألف مرة، ويقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ألف مرة، ولا إله إلا الله الملك الحق المبين ألف مرة، وكان إذا دخل منزله قرأ {قل هو الله أحدٌ} خمس مرات، ولا يجلس حتى يركع ركعات، إلا أن يكون مريضاً فيصلي جالساً. قلت: وكان يزور المقابر كل جمعة بعد العصر، ولا يكاد يأتي إلا ومعه شيء من الشيح في مئزره، أو شيء من نبات الأرض.

وكان يقرأ كل ليلة بعد عشاء الآخرة آيات الحرز، لا يكاد يتركها، وسمعت بعض أصحابنا يقول وقت قراءة الشيخ آيات الحرز: قد وجدناه بقراءة هذه الآيات خيراً كثيراً، فإن الناس ينهبون ويسرقون ونحن لا نرى إلا خيراً، وذلك زمان قتال السلاطين بعضهم بعضاً، وكان النهب كثيراً.

وسمعت أنه كان إذا دخل منزله قرأ آية الكرسي، وعوذ بكلمات، وأشار بيده إلى ما حوله من الدور والجبل، يحوطها بذلك، ولا ينام إلا على طهارة، وإن أحدث قبل النوم بجنابة أو غيرها لم ينم حتى يتوضأ، وإذا آوى إلى فراشه قرأ الحمد، وآية الكرسي، والواقعة، وتبارك، وقل يا أيها الكافرون، وربما قرأ يس، ويسبح لله ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبره أربعاً وثلاثين، ويقول: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.

وكان يقول بين صلاة سنة الفجر والفرض أربعين مرة يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت، وكان يستفتح الوضوء ببسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إني أسألك الأمن والبركة، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون.

14- وسمعت أم عبد الله آسية بنت محمد -بنت ابنته- تقول: كان سيدي لا يترك الغسل يوم الجمعة، وكان لا يكاد يخرج إلا ومعه شيء يتصدق به. -تعني يوم الجمعة-.

15- وسمعت ولده الإمام الورع أبا محمد عبد الله بن محمد يقول: كان والدي إذا عبر في الدير يقف على باب بيت فلان وباب بيت فلان -يعني الذين ماتوا من مدة- فيسترجع.

قلت: وإنما يفعل ذلك للحديث المأثور عن النبي  :

((ما من مسلم يصاب بمصيبة، فيذكر مصيبته وإن قدم عهدها فيحدث عندها استرجاعاً إلا أعطاه الله عز وجل مثل أجر مصيبته يوم أصيب بها)).

ذكر ذكائه واشتغاله

16- سمعت خالي الإمام العالم موفق الدين يقول: لما قدمنا من أرض بيت المقدس كنا نتردد إلى القاضي ابن عصرون مع أخي، نسمع درسه في الخلاف ثم إننا انقطعنا عنه لأنه بعض الناس عيرنا بمضينا إليه وقالوا لنا: أنتم قد صرتم أشاعرة، قال: فلقي القاضي أخي يوماً فقال له: لم انقطعت عن الاشتغال؟ فقال له أخي: قالوا إنك أشعري، فقال: ما أنا أشعري، ولكن لو اشتغلت علي سنة ما كان أحد يكون مثلك، أو قال: كنت تصير إماماً أو كما قال.

وكنا يوماً [في] صحبة خالي في بعض القرى حول دمشق فقال: تعالوا حتى نقرأ الخرقي، فقرأنا فيه فقال: لي اليوم سنة ما قرأته، وكان يحفظه، ويكتبه من حفظه.

وكان قد جمع الله له معرفة الفقه، والفرائض، والنحو، مع الزهد والعمل، وقضاء حوائج الناس.

وكان يقرأ القرآن بقراءة أبي عمرو، وسمعته يقرأ في بعض النوافل بقراءة نافع.

17- وسمعت أبا محمد مسعود بن أبي بكر المقدسي يقول: كنت بقرية -سماها- أصلي بهم، فرأيت شاباً حسن الشباب لا يصلي، فقلت لهم: ما لهذا لا يصلي؟ فقالوا: هذا من أمراء التيامنة، قال: فاتفق أنني ذكرت له الصلاة وحرضته عليها، فقال:

أنا لا أعرف، فقلت: أنا أعرفك، وأمرته بالشهادة والغسل ففعل، وجاء فصلى ولم يقطعها بعد ذلك، قال: فتعجب أهل القرية من ذلك كثيراً، وقالوا لي: فهذا قد تزوج امرأة أخيه ولم تقض العدة، إنما تركها بعد موت أخيه عشرة أيام، فسألته: فقال: نعم، فجئت إلى الشيخ الموفق فقال: يعتزلها حتى تقضي العدة، قال: ثم إن الشيخ الموفق سأل عني، وسأل الجماعة عن هذه المسألة فكل من يقول: تحتاج إلى العدة، فقال الشيخ أبو عمر: إن كانت المرأة قد أسلمت مثله وقت إسلامه لم تحتج إلى عدة، وحكمها حكم المشركين، فقال الشيخ الموفق: هكذا هو الحكم، لأن هؤلاء القوم ليسوا بمسلمين ولا أ هل كتاب، أو ما هذا معناه.

فمضيت إلى القرية فسألته عن المرأة، فقال: إنها أسلمت وقت إسلامه، فقلت: لا حاجة إلى العدة.

18- وسمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد يصف الشيخ أبا عمر بالذكاء الوافر، وأنه لو كان اشتغل كثيراً ما كان مثله أحد، أو ما هذا معناه. وكان يحفظ من الأدعية والحكايات شيئاً كثيراً جداً.

ذكر همته واهتمامه بأمور الناس والأهل

كان الإمام خالي -رحمة الله عليه- يحمل هم الأهل والأصحاب، ومن سافر منهم يتفقد أهاليهم، ويدعو للمسافرين، ويقوم بمصالح الناس، وكان الناس يأتون إليه في الخصومات والقضايا وغير ذلك، فيصلح بينهم، ويتفقد الأشياء التي فيها نفع العام والخاص من النهر والمصانع والسقاية ومواضع حفر التراب، وكانت له هيبة في قلوب الخلق.

19- وسألت خالي موفق الدين عنه، فكتب لي بخطه وسمعته عليه: أخي وشيخنا، ربانا وعلمنا، وحرص علينا، وكان للجماعة كوالدهم، يحرص عليهم، ويقوم بمصالحهم، ومن غاب منهم عن أهله كان الشيخ قائماً بهم، وكان أبي -رحمه الله- قد تخلى عن أمور الدنيا وهمومها، وكان كثير المرض، فما كان المرجع في مصالح الأهل إلا إليه، وهو الذي هاجر بنا، وهو الذي سفرنا إلى بغداد، وهو الذي كان يقوم في بناء الدير، وحين رجعنا من بغداد زوجنا، وبنى لنا دورنا الخارجة عن الدير، وكان مسارعاً إلى الخروج في الغزوات، قل ما يتخلف عن غزاة.

20- وسمعت أبا العباس أحمد بن يونس يقول: كان للشيخ أبي عمر همة عظيمة، لما شرعوا في بناء المسجد -يعني المعروف بالمدرسة- شرع في عمل المصنع التي فيها، لم يشغله بناء المسجد عن عملها.

21- وسمعت ولده الإمام أبا محمد عبد الله: أن الشيخ جاءته امرأة يوماً فشكت إليه أن أخاها حبس وأذي، فأطالت الشكوى، فسقط مغشياً عليه، وحمل إلى البيت، وذلك لرقة قلبه وشدة اهتمامه بالدير وأهله.

22- وشاهدت بخط ابن أخيه الإمام أبي الحسن أحمد بن عبيد الله بن أحمد -رحمه الله- في ذكر عمه أبي عمر: ذكر له أن الكفار حاصروا بتنين، فكان قائماً فغشي عليه، يعني من شفقته على المسلمين وحزنه عليهم.

23- وحدثني أبو محمد بن يونس قال: كلمته من أجل اختلاف جماعة من أهل بلاد بيت المقدس، وأنك لو مضيت إليهم رجوت أن يصطلحوا، فقال: نمضي إليهم، قال: وسافرت معه من دمشق إلى جبل نابلس حتى أصلح بينهم.

24- وسمعت الإمام أبا أحمد محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدسي يقول: رأيت رجلاً مقعداً بالدير الشرقي فسلمت عليه، وعرفته أنا، وجرى ذكر الشيخ أبي عمر فبكى، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: أبكي على من كان يتفقدني وأنا ها هنا، فقلت: كان يجيء إليك؟ فقال: نعم.

25- ولقد حدثني ( .. .. )1 أنه كان يمشي إلى دير البياتمة يتفقد المساكين فيه.

ذكر إيثاره وقلة حرصه على الأشياء لنفسه

كان -رحمه الله- يعطي أهله ثيابه، وأقام بالجبل طول عمره، والجبل واسع، والناس يعلمون في الجبل مواضع، ما عرفت أنه علم موضعاً إلا أن يكون فيه نفع للجماعة كلهم.

26- وسمعت ولده الإمام يقول: إنه كان يؤثر بما عنده لأقاربه وغيرهم.

وكان كثيراً من زمانه يتصدق ببعض ثيابه، ويبقى معوزاً، وتكون جبته في الشتاء بغير ثوب من تحتها، يتصدق بالتحتاني ليخفى، وكثيراً من وقته بغير سراويل كذلك.

وكانت عمامته قطعة بطانة من وبر، أو قريباً منها، فإذا احتاج أحد إلى شيء من الخرق، أو مات صغيراً، قطع له قطعة من عمامته على قدر حاجتهم، ويتصدق بالثياب الجيدة، ويلبس الخشن منها، ويعطي فراشه، وينام على الحصير، وربما تصدق بالشيء وأهل بيته محتاجون إليه أكثر من حاجة من أخذه منه.

وإذا قدم من سفر ومعه شيء لأهله كان أهل بيته وجيرانه فيه سواء.

قلت: وكان يكون ثوبه إلى نصف ساقه، وكم قميصه إلى رسغه، لا يتعدى ذلك.

27- وسمعت والدي يقول: مكثنا زماننا لا يأكل أهل الدير إلا من بيت أخي، تطبخ عمتك، ويأكل الرجال جميعاً، والنساء جميعاً.

قلت: وكان إذا جاء شيء إلى بيته فرقوه على العام والخاص، قد شاهدت ذلك أنا زماناً.

28- وسمعت الإمام بهاء الدين أبا محمد عبد الرحمن يقول: لما ماتت أمي ما كنت أنا وأخ لي وأخت إلا في بيت الشيخ أبي عمر ونفقته، فأحسن إلينا، فلم أذكر أنه انتهرني ولا أوجع لي قلباً قط.

ذكر شيء من كلامه

29- سمعت الفقيه الإمام الزاهد أبا الثناء محمود بن همام ابن محمود الأنصاري جزاه الله خيراً بجامع دمشق يقول: سمعت الشيخ أبا عمر -رحمه الله تعالى- قال:

يقول الناس: لا علم إلا ما دخل مع صاحبه إلى ( .. .. )2، وأنا أقول لا علم إلا ما دخل مع صاحبه القبر.

وكان الإمام أبو الثناء يستحسن هذا القول كثيراً ويعجبه.

30- وسمعت ولده الإمام أبا محمد عبد الله يحكي عن امرأة أبيه أم عبد الرحمن أن الشيخ كان يقول لهم:

إن لم يكن معطي الصدقة يعلم أنه إلى صدقته أحوج من الفقير إليها، لم تنفعه صدقته.

قالوا: وكيف ذلك:

قال: لأنكم إذا لم تتصدقوا، لم يتصدق أحد عنكم، وأما السائل فإن لم تعطوه أنتم، أعطاه غيركم.

31- وسمعت ولده يحكي عن أم عبد الرحمن أنها قالت له: لأي شيء ما أنت زاهد؟

قال:

أنا زاهد في الحرام.

قالت: فأنت تحب الشيء الطيب.

قال: نعم ولكن ما أحصله لنفسي.

32- وسمعت من يحدث عنه قال: إذا كان الرجل يحدث بكل ما يجري بينه وبين أهله إيش الفرق بينه وبين العوام، أو ما هذا معناه.

ذكر أهله وما في معناه

33- سمعت خالي قبل موته بسنين يقول لي: نحو عشر سنين ما احتلمت ولا أتخنت.

وسمعت أنه كان يأكل كل يوم شيئاً معلوماً، ثم ترك نصفه وتصدق بالنصف الباقي.

وحكي لي عن أنه كان يحب اللبن إذا صفي بمئزر، فكانوا يعملونه له، وكان يأكله، ثم وضع له بعد ذلك مرات فلم يأكله، فقيل: أو ما تحبه؟ فقال: بلى، ما أحب شيئاً من المأكولات مثله، ولكن لحبي إياه تركته حتى يأكله غيري، فلم يذقه بعد ذلك.

ذكر إفادته للعلم واستفادته وتحصيله للكتب

كان -رحمة الله عليه- يسمعنا على المشايخ، ويقرأ لنا ولغيرنا، وكانت قراءته قراءة عاجلة بغير لحن، ولا يكاد أحد يقدم من سفر قد سمع شيئاً إلا قرأ عليه شيئاً من مسموعاته، سواء أكان عالياً أو نازلاً.

وكتب الكثير بخطه المليح من المصاحف والكتب الكبار، مثل ((الحلية)) لأبي نعيم، و((الإبانة)) لابن بطة، و((تفسير البغوي))، ((والمغني)) لأخيه الإمام موفق الدين، وغير ذلك.

34- وسمعته يقول: ربما كتبت في اليوم كراستين بالقطع الكبير، وكان يكتب لأهله المصاحف، وللناس الخرقي بغير أجر، كتب من ذلك الكثير -رحمه الله تعالى-.

35- سمعت ولده الإمام أبا محمد عبد الله بن الشيخ أبي عمر يقول: رأيت أبي في النوم كأنه في بيته، وأنا عنده ورجل آخر، فقلت لوالدي:

لا أعرف خطبك التي كنت تنشئها وتخطب بها، أشتهي أن أعرفها، فقال: لما كنت في الحياة كنت أعلمكم، ثم التفت إلى الرجل وقال له: ليس عند الله أرفع منزلة ممن يعلم الناس الخير ونحن منهم، أنا كنت أقرئ الناس القرآن. أو ما هذا معناه.

ذكر بركة كتبه ورقاعه

36- سمعت الشيخ الزاهد العابد أبا أحمد نصر بن سليمان -المجاب الدعوة- يقول: كتب لي الشيخ أبو عمر كتابين، فكنت على أي شيء تركتهما من الأمراض يبرأ بإذن الله تعالى. أو ما في معناه.

37- وسمعت أبا العباس أحمد بن عبد الرحمن بن بلال المقدسي يقول: ما رأيت مثل كتب الشيخ أبي عمر، كنت آخذ الكتاب من وقت ما أعلقه علي تخليني الحمى.

38- وسمعت أبا محمد مسعود بن أبي بكر يقول: رأيت يوماً المعتمد -يعني المتولي- بدمشق قد لقي الشيخ أبا عمر، فقال: يا شيخ، أنت تكتب إلينا رقاعاً في ناس لا نريد أن نقبل فيهم شفاعة، ونشتهي أن لا نرد رقعتك. أو ما هذا معناه، فقال الشيخ: أما أنا فقد قضيت حاجتي، إني قد قضيت حاجة من قصدني، وأنتم إن أردتم أن تقبلوا رقعتي، وإلا فلا، فقال له: لا نقدر نرد رقعتك، أو كما قال.

وقد سمعت أن الناس كانوا يأتون إليه يقولون: اكتب لنا إلى فلان -يعني بعض الأمراء- فيقول: أنا لا أعرفه، فيقال: إنما نريد بركة رقعتك، فيكتب إلى ذلك، فيقبل رقعته وإن كان لا يعرفه.

وسمعت أن ميموناً القصري الأمير وكان بنابلس أو بالقدس، وكان الشيخ يكتب إليه رقاعاً كثيرة -يعني شفاعات للناس- فأرسل إليه من جهة كثرة الرقاع، فقال له نحواً مما قال للمعتمد، فأرسل إليه بعد ذلك: اكتب لمن شئت فإنا لا نرد رقعتك.

ذكر بركة الطعام عند حضوره

39- سمعت الفقيه الإمام الزاهد أبا عبد العزيز عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أحمد بأرض الجزيرة، يحدث عن أمه أم يحيى بنت إسماعيل بن أحمد قالت: لما جئنا من تلك البلاد سكنا في الدير، فعملنا ليلة في صحن فطيرة بسمن، وقلت لأبي يحيى: لو قلت لابن عمتي -تعني الشيخ أبا عمر- يجيء إلينا، قالت: فجاء فأبصر الصحن، فرأيته قد جعل أصبعه فيه، ثم غطاه وقال: ادعوا أهل الدير، فدعوناهم، فلقد أكل منه أهل الدير، وفضل ما فرقنا منه. وهذا معنى ما سمعته منه.

40- وسمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن الشيخ أبي عمر، قال: حدثني ابن الصوري صديق والدي قال: جئنا يوماً إلى والدك ونحن جياع، وكنا ثلاثة، فأخرج لنا سكرجة فيها لبن، وسكرجة فيها عسل، وكسيرات، قال: فأكلنا وشبعنا، ثم نظرت إليه، كأنه لم يتغير ولم ينقص.

ذكر فراسته وتكلمه على المغيبات وكراماته

41- سمعت خالي الشيخ الإمام الزاهد أبا عمر -رحمه الله تعالى- يوماً بعد ما صلينا الفجر خلفه، وقد ذكر الجماعة حال يونس الأبار، وكان مريضاً، فقال الشيخ: إنه قد مات، فلما طلع النهار جاء الخبر أنه مات تلك الليلة بالليل.

42- وسمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن عمر بن أبي بكر يقول: دعاني الشيخ أبو عمر ليلة وكنت أخاف من ضرر الأكل، فابتدأني وقال: إذا قرأ إنسان قبل الأكل {شهد الله أنه لا إله إلا هو}، و{لإيلاف قريش} ثم أكل فإنه لا يضره أو كما قال.

43- وسمعت أبا محمد أحمد بن يونس بن يوسف بن حسن يقول: كان لما كانت أهلي حاملاً بابني محمد، أرسل الشيخ -يعني أبا عمر- امرأته إلى أهلي وقالت: قال الشيخ: قولي لبنت خالي تطيب قلبها، فإنها تلد في هذه المرة ابناً، قال: فولدت ابني محمداً، ثم قال لنا: لا تحدثوا بهذا، فإن هذا اتفاق أو كما قال.

قلت: وكان أحمد هذا أكثر أولاده بنات.

44- وسمعت الإمام أبا بكر بن أحمد بن عمر البغدادي، قال: جاء الشيخ أبو عمر مرة إلي وقال: تمضي معي إلى كفر بطنا، وكنت مشتغلاً بقراءة القرآن، فقلت في نفسي أمشي معه فأشتغل عن القراءة بالحديث في الطريق، قال: فلما خرجنا من البلدة قال لي: تعال أنا وأنت نقرأ حتى لا نشتغل عن القراءة، فقرأت أنا وهو في الطريق.

45- وسمعته يقول: أرسلني بعض المشايخ من بغداد إلى الشيخ أبي عمر وقال لي: تكون عنده، فلما وصلت إليه أكرمني لما رآني، وكأنه قد عرفني فكنت أقول في نفسي: ليس معي كتاب إليه، أو ما هذا معناه.

46- وسمعت الإمام الزاهد أبا بكر عبد الله بن الحسن بن الحسن الأنصاري، المعروف بابن النحاس يقول: كان والدي يحب الشيخ أبا عمر، وبينه وبينه محبة، قال: فقال لي يوم جمعة: أنا أصلي الجمعة خلف الشيخ أبي عمر، ومذهبي أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة، ومذهبه أنها ليست من الفاتحة، وأخاف أن يكون في صلاتي نقص، فقلت له: اليوم قد ضاق الوقت، نصلي اليوم عنده وبعد هذا ننظر في هذا ، قال: فمضينا إلى المسجد فوجدنا الشيخ أبا عمر في المسجد، فسلم على والدي وعانقه ثم قال: يا ( .. .. )3 صل وأنت طيب القلب، فإنني ما تركت بسم الله الرحمن الرحيم في فريضة ولا نافلة مذ أممت بالناس، فالتفت إلي والدي وقال: احفظ، وهذا معنى ما سمعته منه.

47- وسمعت والدي -رحمه الله تعالى- يقول: حدثني رجل من أهل المدرسة -سماه أبي وأنسيته- قال: رأيت للشيخ أبي عمر كرامة، قال: كنا مع الشيخ أبي عمر في بستان عبد الباقي ننقل حطباً، فحمل بعض الجماعة حزمة حطب ومضى، وكنا في أسفل البستان، فقال لنا الشيخ إن فلاناً - يعني الذي حمل الحزمة قد وقعت منه وهو لا يقدر على شيلها، فامضوا إليه، قال: فمضينا فوجدناه في أعلى البستان، والحزمة قد وقعت منه، وهو لا يقدر على شيلها كما قال الشيخ، فحدثت بهذه الحكاية لأبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار، فقال أنا حضرت ذلك وكنت معهم.

وسمعت الشيخ يقول ذلك، وهذا البستان من يكون في أسفله لا يرى من علاه ألبتة.

48- وسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن حامد بن عبد الرحيم الواعظ البسراوي يقول: سكنت مرة في الجبل، فأصابني مرض شديد بالقولنج، وكان في رمضان فحرضوا بي على أن أفطر، فلم أفعل، فخرجت من شدة ما أصابني إلى موضع الجامع، وكان مصلى، فأنا قاعد فإذا الشيخ أبو عمر قد أقبل من الجبل فلما رآني أسرع إلي وفي يده حشيشة فمدها إلي وقال: شم هذه تنفعك، فأخذتها وشممتها، فزال عني المرض، فلما كان وقت العشاء صليت معه، فقال: الذي أصابك أظنه كان ريحاً، قال: وهذه كرامة أعرفها للشيخ أبي عمر، فإن أحداً ما أعلمه بمرضي.

49- وسمعت أبا غالب مظفر بن أسعد بن حمزة بن القانس بدمشق قال: كان والدي يرسل إلى الشيخ أبي عمر بشيء من النفقة كل سنة، فأرسل إليه مرة بدينارين، فردهما الشيخ أبو عمر، قال: فضاق صدر والدي ثم فكر فيهما فوجدهما من جهة غير طيبة، فبعث إليه غيرها من جهة طيبة، فقبلها، وهذا معنى ما حكاه لي.

50- حدثني الفقيه الإمام أبو محمد عبد الله بن الشيخ أبي عمر محمد قال: حكت زوجته -يعني أم عبد الرحمن آمنة بنت أبي موسى- أنها لم تحمل بولد قط إلا علمت من كلامه وحاله ما حملها من ذكر أو أنثى، فمرة أتاه رجل بغنمة هدية فقال هذه نتركها حتى تلدي، ونشتري أخرى ونذبحها عقيقة، قال: ويحيى لنا ابن، فضحك، فولد له بعد أيام ابن سماه سليمان، وفي مرة أخرى لما حملت قال: كذا اسم أبي أحمد بن محمد، وفي هذه النوبة أسمي ابني أحمد فيكون أحمد بن محمد، فولدت من ذلك الحمل ولده أحمد، ومرة أخرى حملت ورآها وهي تخاصم ابنةً لها، فقال لها: هذا حالك وهي واحدة فكيف إذا صارت اثنتين، فولدت بنتاً. وأمثال ذلك.

51- وسمعت أبا محمد عبد الحميد بن عبد الهادي بن أبي يوسف، قال: سمعت والدي يقول: لما شرع القاضي في بناء هذه المدرسة التي عندنا في الجبل قلت للشيخ أبي عمر: والله إن هذه المدرسة تغيظنا، فقال: إنه لا يتمها، قال: فقضى أنه مات ولم يتمها.

52- وسمعت أبا العباس أحمد بن عبد الملك بن عثمان قال: جاء أبو رضوان ورجل آخر سماه إلى الشيخ أبي عمر، وقالا له: إن قراجا قد أخذ فلاناً القواس وحبسه، فنشتهي أن تدعو عليه، قال: فباتا عند الشيخ، فلما كان الغد قال: قضيت حاجتكم، فلما كان بعد ساعة إذا جنازة قراج عابرة. أو ما هذا معناه.

53- وسمعت الإمام أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الغني يقول: حدثني رجل ببغداد، قال: جئت مرة إلى دمشق ولم يكن لي إلا ابنة واحدة، فأتاني الخبر إلى دمشق أنها مريضة على القبلة، فضاق صدري، وبقي لا يرقأ دمعي، فصعدت إلى الشيخ أبي عمر، ولم أكن رأيته قبل ذلك، فقال لي: طيب قلبك من الأمر الذي أنت فيه، ما يكون إلا ما يطيب به قلبك، قال: فبلغني بعد ذلك أنها عوفيت، أو كما قال.

54- وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد الطحان يقول: كان قد هرب لي غلام إلى حلب، فأرسلت رجلاً في طلبه، فلم يلقه، ثم ذكر أنه في حلب عند أناس، فأضمرت في نفسي أنني أمضي إليه، ولا أعلم أحداً، وكنت قد صعدت إلى الجبل في جنازة، فصليت الظهر مع الشيخ أبي عمر في المصلى، فلما تفرق الناس، وبقي الشيخ، سلمت عليه، فقال: إن كنت أضمرت في نفسك أنك تمشي خلف الغلام فلا تفعل، وأحسب أن الله يدفع به عنك أو ما هذا معناه، وكان ذلك اليوم يوم الاثنين، قال: فقعدت ولم أمض، فلما كان يوم الأربعاء أصبحنا وقد وقع كثير من الثلج، ففرحت بالقعود، وعلمت أن هذا ببركة الشيخ.

55- وسمعت الإمام أبا أحمد محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدسي يقول: جئت مرة إلى الشيخ أبي عمر، وقد احتجت، فقلت: أقترض منه شيئاً أشتري به دخناً للعيال، فجئت إليه، فإذا هو قائم يصلي في المدرسة، فقلت لنفسي: لا أقعد قريباً منه أشغله، فدخلت في الدرابزين وأغلقت علي، فلما فرغ من الصلاة ناداني باسمي، فجئت إليه، فقال: إيش حاجتك، فذكرت له، فأعطاني ديناراً مصرياً وقال: خذ هذا، قد فتح الله به، فقلت: قرض، قال: لا هو لك.

56- وسمعت أبا العباس أحمد بن عمر بن أبي بكر بن عبد الله يقول: كان قد جاء المطر، ووكف بيتنا، ثم جاء مطر أكثر من ذلك، فقلت: لا يبقى في بيتنا شيء إلا أصابه، وربما لا نقدر نقعد فيه، ثم قلت: اللهم اغفر لي، وبحرمة الشيخ أبي عمر، والعماد لا ينطف علينا، قال: فما وكف شيئاً، أو ما هذا معناه.

57- وسمعت الشيخ أبا محمد بن عبد الرزاق بن هبة الله الدمشقي يقول: كان الشيخ أبو عمر كثيراً يتكلم بكلام يكون فيه إشارات إلى ما في نفوس من حضره، لا يفهمه كل أحد.

58- وسمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله محمد بن محمود بن عبد المنعم ( .. .. ) قال: حدثني الأمير المعروف برأس الكبش قال: جئت مع جماعة إلى الشيخ أبي عمر، فدخلوا إليه إلى المسجد، وكنت أنا واقفاً على الباب، فقال: ادخل أيها الأمير، فسلم علي ورحب بي، وقال لي: أنت تحج هذه السنة، وكنت أشتهي الحج وأقول: كيف يحصل لي الحج، فلقيت جماعة قد عزموا على الحج، فقالوا لي: تجيء تحج معنا، فمضيت معهم تلك السنة، فحججت، ورجعت معهم وهذا معنى ما حكاه لي.

ذكر أنه صار قطب الأبدال وما في معناه

رأيت النبي فيما يرى النائم، وكنا في صحن جامع دمشق، ومعه رجل طويل أسود، شبهته بعبد الرحمن بن غنم، وقد فرحت فرحاً كثيراً، وكلنا نمضي معه إلى دعوة، فخرجنا نحو درج جيرون، ونزلنا في الدرج، ثم إن النبي مضى في حاجة، ومضينا نحن إلى بيت الداعي، ثم قلت أنا: ألا أمضي إلى النبي وأقول له يجيء، فمضيت ووصلت إلى اللبادين القبلية، فإذا به يمشي ، فأعلمته، ثم نظرت إليه فإذا هو الشيخ أبو عمر رحمه الله تعالى.

وكان المنام في حال حياته، فقلت لبعض أصحابنا هذا المنام، فقال: هذا كما يقال إن بعض الأولياء من قلبه على قلب بعض الأنبياء.

59- سمعت الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن عتيق علي بن عامر سنة أربع وست مائة قال: كنت في مراغة من ست سنين أو ست ونصف، فرأيت رجلاً متزهداً يقال له أبو الحسن، فذكر عنده الزهاد فقال: ليس مثل الشيخ أبي عمر الذي بجبل قاسيون، فقلت له: إيش من فضله، أو كما قال: فقال: تعرفه، فقلت: أنا أقرب الناس إليه في المعرفة، فقال: جاءنا الخبر من الشيخ أبي الفرج من سرنديل كذا، قال: إن الشيخ أبا عمر قطب من سنة ونصف.

قال: فمضيت إلى مكة، وحدثت الشيخ ربيع فقال: هو أحق الناس بذلك، أو كما قال: قلت: وقد وصف لي الشيخ ربيع بالزهد والورع.

60- وسمعت الشيخ أبا محمد بن عبد الرزاق بن هبة الله بن كتائب الدمشقي، قال: سمعت رجلاً من الصالحين يقول: أقام الشيخ أبو عمر في القطابة ست سنين.

ذكر نصيحته للناس الخاص والعام

كان رحمه الله لا يكاد يسمع بشيء لا يجوز قد عمل إلا اجتهد في تغييره. وإن كان بعض الملوك قد فعله، كتب إليه في ذلك، حتى لقد سمعنا عن بعض ملوك الشام قال: هذا الشيخ شريكي في ملكي، أو كما قال.

ولم يكن يستحي من قول الحق عند من كان.

ذكر هيبته في قلوب الناس

كان رحمه الله له هيبة عظيمة، حتى إن كان أحدنا ليشتهي أن يسأله عن شيء فما يجسر أن يسأله، وكان إذا دخل المسجد يسكت كل من في المسجد، لا يجسر أحد أن يرفع صوته بحديث ولا غيره، وإذا عبر في طريق والصبيان يلعبون هربوا من بين يديه، وكان إذا أمر بشيء لا يجسر أحد يخالفه، ولا يتعدى ما يأمر في الجبل، وكل من نابه شيء أو تعدى أحد على أحد وغير ذلك إنما يأتي إليه.

61- ولقد سمعت خالي الإمام موفق الدين أبا محمد عبد الله بن أحمد بعد موت أخيه الشيخ أبي عمر يقول: كان أخي -رحمه الله- يكفينا أشياء كثيرة، وما نقوى لما كان يفعل أو ما هذا معناه.

ذكر ما وضع الله له من المحبة في قلوب الخلق

كان الله عز وجل قد وضع له المحبة في قلوب الخلق:

62- سمعت بعض أصحابنا، وأظنه والدي -رحمه الله- يقول: كان أصحابنا يقولون: من كان له صديق فلا يعرفه للشيخ أبي عمر ولا لأحمد بن سالم، فإنه لا ينتفع به بعد معرفتهما أو كما قال. وقد رأيت الشيخ أبا عمر -رحمه الله- كان إذا دخل إلى عند أحد من الناس يفرح بدخوله فرحاً كثيراً.

63- وسمعت والدي -رحمه الله- يقول: قال الشيخ أبو عمر: ربما أقمت مدة لا أشتري شيئاً أو ما هذا معناه، فقال: والدي: ليس نحن مثل الشيخ، فإن الشيخ يدخل السوق يريد أن يشتري شيئاً فيعطاه بغير ثمن -يعني من محبة الناس له، وكثرة رغبتهم فيه، لا يأخذون منه شيئاً-.

ذكر هيئته وأولاده وزوجاته

كان الشيخ أبو عمر -رحمه الله تعالى- ليس بالطويل ولا بالقصير، أزرق العينين، وليس بالكثير، يميل إلى الثغرة، عالي الجبهة، حسن الشعر، صبيح الوجه، كث اللحية، نحيف الجسم.

تزوج أول زوجاته أم عمر فاطمة بنت أحمد بن عبد الرحمن -عمتي- وكانت أكبر سناً منه، وبقيت حتى كبرت وأقعدت، وماتت قبل موته بأعوام، وولدت له عمر وخديجة وآمنة، وأولاداً ذكوراً وإناثاً ماتوا صغاراً، وتزوج عليها طاوس من البيرة -بيرة العرب- من أرض بيت المقدس وولدت ابنتين وماتت هي وابنتاها في حياته، ثم تزوج أم عبد الله فاطمة بنت أبي المجد من أهل دمشق، وولدت له عبد الله وزينب، وماتت في حياته وحياة أم عمر، ثم تزوج أم عبد الرحمن آمنة بنت أبي موسى فولدت له أولاداً ذكوراً وإناثاً، عاش منهم حتى كبر أحمد وعبد الرحمن وعائشة وحبيبة وخديجة الصغرى، وقد عاش له ابن قبل أحمد اسمه عبد الرحمن حتى كبر قليلاً ثم مات، وكذلك خديجة قبل حبيبة، عاشت حتى قاربت البلوغ ثم ماتت، وربما وجد اسم عبد الرحمن الأول وخديجة الأولى في الإجازات، فيشتبها على من لا يعرف ذلك، والله أعلم.

ومولد عبد الرحمن الثاني في محرم سنة سبع وتسعين وخمس مائة، وخديجة أصغر منه فليعلم ذلك.

ذكر شيء من شعره

أنشدنا الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: أنشدنا الشيخ أبو عمر محمد بن أحمد -رحمه الله- لنفسه:

ألم تك منهاةً عن الزهو أنني
بدا لي شيب الرأس والضعف والألم
ألمَّ بي الخطب الذي لو بكيته
حياتي حتى ينفد الدمع لم أُلم

قلت: وهذا تجانس حسن، فإن كل أول بيت مثل آخره، وله مراثي في ولده عمر، كتبها في ذكر ولده رحمه الله.

وأنشدنا الإمام الحافظ أبو موسى عبد الله بن الحافظ، قال: أنشدنا خالي الفقيه الإمام العالم الزاهد أبو عمر لنفسه:

إني أقول فاسمعوا بياني
يا معشر الأصحاب والإخوان
أوصيكم بالعدل والإحسان
والبر والتقوى مع الإيمان
فاستمسكوا بطاعة الرحمن
واجتنبوا الرجس من الأوثان
واجتنبوا مكائد الشيطان
فإنه يأمر بالعدوان
والكفر والفسوق بالعصيان
والبغي والفحشاء والبهتان
يزين الغرور للإنسان
ثم قصاراه إلى الخذلان
كفعله يوم التقى الجمعان
ما هذه الدنيا لكم بشان
فارفضوها لتقى الرحمن
فإنها دار أولي الأضغان
وذمها في محكم الفرقان
سرورها قد شيب بالأحزان
وكل من عليها فان
إن الغني والفقير يعرفان
عند ظهور الربح والخسران
بعد عبور الجسر والميزان
هنالك العالم فرقتان
ففرقةٌ في غرف الجنان
مسرورة بالعفو والغفران
محبوةٌ بالبشر والرضوان
محبوةٌ بالروح والريحان
وفرقةٌ في ظلل النيران
قد دفعوا لمالك الغضبان
وجوههم مسودة الألوان
شبرابهم من الحميم الآن
ثيابهم فيها من القطران
يدعون بالثبور والخذلان
ووصف ما خص به الصنفان
في سورة الرحمن مذكوران
أوصيكم بالقول في القرآن
بقول أهل الحق والإيقان
ليس بمخلوقٍ ولا بفان
لكن كلام الملك الديان
آياته مشرقة المعاني
متلوةٌ لله باللسان
مكتوبةٌ في الصحف بالبنان
محفوظةٌ في الصدر والجنان
والقول في الصفات يا إخواني
الوجه والتنزيل واليدان
كالذات والعلم مع الإتيان
ثم استوى في سورة الفرقان
وغيرها من سور المثاني
إمرارها من غير ما كفران
من غير تشبيه ولا عدوان
وما لنا على التأويل من برهان
لأن أهل الحفظ والإتقان
أصحاب خير الخلق من عدنان
والتابعين القوم بالإحسان
كذاك كل عالمٍ رباني
أمروها كما جاءت مع العرفان
لم يختلف كذاك اثنان
وهم لنا القدوة في الأديان
وفي زيادة الإيمان والنقصان
دليل حق جاء في القرآن
في سورة
التوبة آيتان

ذكر موته وجنازته وما لمن تبعها وكثرة الخلق فيها

64- سمعت أم عبد الله آسية بنت محمد بن خلف تقول: لما كان اليوم الذي توفي فيه سيدي وصانا فيه، واستقبل القبلة، وقال اقرؤوا سورة يس، وكان يقول إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، الله يثبتكم على الكتاب والسنة.

65- سمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار يقول: رأيت في النوم -إما قال: وقت موت الشيخ أبي عمر، أو بعد موته- كأننا قد جئنا إلى عيادته، وكأنه مريض، فدخلنا إليه، وإذا إنسان يستأذن على الباب، فخرجت إليه، فرأيت إنساناً لم أر أحسن منه، وعليه ثياب -وصف حسنها- فقال: استأذن لي على الشيخ، فقلت له: من أنت، فقال: أنا ملك الموت، فأخذتني منه فزعة، فقال بعض الجماعة: من هذا؟، فقال الشيخ: هذا ملك الموت، ادخل فدخل ومعه منديل كأنها من نور من حسنها، فمسح بها فهم الشيخ.

66- وسمعت أهلنا يقولون: إن الماء الذي كان يخرج من تغسيله من السدر وغيره نشفه الناس في خرقهم ومقانعهم.

67- وسمعت أبا محمد مسعود بن أبي بكر يقول: لما كان اليوم الذي توفي فيه الشيخ أبو عمر، وخرجوا لجنازته، وكان يوماً حاراً، أرسل الله سبحانه سحابة أظلت الناس، وكنت أسمع الصوت والدوي من السماء أكثر مما كنت أسمعه من الأرض.

68- وسمعت غير واحد من أصحابنا يقول: كنا نسمع دوياً كدوي النحل من السماء.

69- وسمعت الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر ببلاد العجم غير مرة يقول: حزرت من حضر جنازة الشيخ أبي عمر عشرين ألفاً.

70- وسمعت مسعود بن أبي بكر المقدسي ووصف الموضع الذي اجتمع فيه الناس في الجنازة، وأراني الموضع فقال: هذا كله كان فيه الناس، فقلت: كم تقديرهم؟ قال: لا أدري، وقال: ما رأيت قط في جنازة مثل ما رأيت في جنازة الشيخ أبي عمر رحمه الله تعالى.

والموضع الذي أراني مسعود يسع أكثر من عشرين ألفاً، الذي قال إبراهيم إنه حزرهم.

71- وسمعت أبا محمد إسحاق بن خضر بن كامل يقول: كان ابن محارب وغلمانه، والمعتمد وغلمانه، وعبدان غلام أسامة وغلمانه يمنعون الناس عن الجنازة - يعني من كثرة تزاحم الخلق على الجنازة.

72- وسمعت أبا محمد وثاب بن رافع بن وثاب السلمي يقول: ليلة مات الشيخ أبو عمر، قمت فتوضأت وصليت ثم نمت، فرأيت نوراً عظيماً قد أضاءت له الدنيا، ورأيت رجلاً فسألته ما هذا، أو قال: هو ابتدأني، فقال: هذا لمن تبع جنازة الشيخ أبي عمر، فلما كان الليلة الثانية رأيت رجلين، فقالا لي: تعجب من النور الذي رأيت البارحة، لو رأيت الملائكة التي نزلت من السماء كنت تعجب أكثر، وهذا معنى ما حدثني به.

73- وسمعت الشيخ عبد الله بن شداد بن علي الزرعي يقول: رأيت قبل موت الشيخ أبي عمر كأنه قد مات، وحملنا جنازته إلى القبر، وأخذناه لندليه في القبر، فقلت: ما في القبر أحد، وأنا أقول: عرج به، فإذا راية عظيمة قد نزلت من السماء، ونصبت على جانب قبره.

74- وسمعت الإمام الحافظ أبا الفتح محمد بن الحافظ عبد الغني يقول: إن رجلاً رأى قبل موت الشيخ أبي عمر بأيام، كأن الجبل قد وقع، أو قال: زال عن موضعه، ففسره بعض المعبرين بموت الشيخ أبي عمر.

ذكر أنه حي في قبره، وارتفاع العذاب عن الموتى بعد موته

75- سمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن طرخان بن أبي الحسن الدمشقي، وأبا محمد مسعود بن أبي بكر المقدسي أن عبد الولي بن محمد بن طرخان حدثهم: أنه كان يقرأ عند قبر الشيخ أبي عمر سورة البقرة، وكان وحده، فبلغ إلى قوله: {بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ}، قال: فقلت: لا ذلول -يعني غلط- قال: فرد علي الشيخ أبو عمر من القبر، قال: فخفت وفزعت، وارتعدت وقمت، وهذا لفظ حكاية أبيه عنه، وقال مسعود: فصاح علي الشيخ ونهرني، والمعنى واحد، وهذه الحكاية مشتهرة.

قال والده: فبقي بعد ذلك أياماً ثم مات.

76- سمعت الشيخ محمد بن حسين العراقي خادم الشيخ علي القرشي قال: جئت بالشيخ علي إلى قبر الشيخ أبي عمر، فقال الشيخ علي: صاحب هذا القبر حي في قبره.

77- وسمعت علي بن ملاعب بن حراز العراقي المؤذن قال: كنت عند قبر الشيخ أبي عمر، فقرأت سورة الكهف إلى آخرها، فسمعته من القبر يقول لا إله إلا الله.

78- سمعت أبا محمد إسحاق بن خضر بن كامل، أن أهل بيته حدثته -وهي عزرة بنت أحمد بن يونس- أنها رأت في المنام امرأة كانت قد ماتت، وكانت الميتة ربما قطعت الصلاة، فسألتها عن حالها؟ فقالت: كيف أنت، فقالت: قد أثقلنا الحديد، ثم رأتها بعد موت الشيخ أبي عمر، فسألتها عن حالها؟ فقالت: قد ارتفعت الأرض، أو قالت: العذاب، عنا كارتفاع السماء عنكم بسبب هذا الرجل الزاهد، فقلت: من هو؟ فقالت: الشيخ أبو عمر.

ذكر بعض المنامات التي رؤيت له

79- سمعت الشيخ محمد بن أبي بكر الشعيري، يقول: حدثني ابن الدرجي -وهو عبد الرحيم بن إبراهيم بن يحيى إمام مقصورة الحنفية- قال: رأيت ليلة كأن قد فتح من السماء باب، وإذا صوت يقول: هذا من أهل الجنة، فنظرت فإذا الشيخ أبو عمر.

80- وحدثني أبو محمد إسحاق بن خضر قال: كنت يوم الجمعة أمضي إلى المدينة، فلقيني ابن الدرجي -يعني عبد الرحيم- فقال: لأي شيء تخلي الصلاة خلف الشيخ أبي عمر وتقول: تصلي في المدينة، رأيت ثلاث ليالي في النوم النبي يقول -أو كأن قائلاً- يقول لي -شك إسحاق-: الزم الصلاة خلف الشيخ أبي عمر، فإنه من أهل الجنة، أو ما هذا معناه.

81- وسمعت الإمام الرباني موفق الدين أبا محمد عبد الله يحدث عن رجل من أهل حمص: أن أختاً له ماتت، وكانت صالحة، فرآها أخوها بعد موتها، فقال لها: كيف أنتم، فقالت: نحن من أصحاب الشيخ أبي عمر ونحن في الجنة، قال: فقلت لها: الوديعة التي كانت عندك؟، فقالت: هي في الموضع الفلاني، قال: فوجدتها في الموضع الذي قالت، وهذا معنى الحكاية.

قلت: وقد قيل لي إن الناس رأوا له منامات كثيرة أنسوها، وكنت أنا وقت موته بأصبهان رحمة الله عليه.

انتهى ملخصاً من خط جامعه الحافظ ضياء الدين المقدسي رحمه الله تعالى.

آمين آمين آمين

في يوم خامس عشر ذي القعدة من سنة: إحدى وسبعين وثمان مائة

اللهم أحسن عاقبتها


هامش

  1. كلمة غير واضحة.
  2. كلمة غير واضحة، ولعلها الحمام، ولم أتبين معناها.
  3. بياض.