ألا لا تلمه اليوم أن يتألما

ألا لا تلمهُ اليومَ أن يتألما

​ألا لا تلمهُ اليومَ أن يتألما​ المؤلف مصطفى صادق الرافعي


ألا لا تلمهُ اليومَ أن يتألما
فإن عيونَ الحي قد ذرفتْ دما
رأى من صروفِ الدهرِ في الناسِ ما أرى
وعلمه الدهر الأسى فتعلما
ولم يكُ ممن يملكُ الهمُ قلبَهُ
ولكنْ أتاهُ الهم من جانبِ الحمى
هنالكَ حيٌّ كلما عنَّ ذكرهُمْ
تقسمَ من أحشائهِ ما تقسما
يمثلهم في قلبهِ كلُّ لاعجٍ
وترمي بهِ ذكراهم كل مرتمى
فمن مرسلٍ عينيهِ يبكي وقد جرتْ
مدامعهُ بينَ الغضا لتضرما
ومن واجدٍ طاوٍ على حسراتهِ
ولو انها في شامخٍ لتهدما
ومن ذي غنىً يشكو إلى الله أمرهُ
وقد باتَ محتاجاً إلى الناسِ معدما
ومن ذاتِ خدرٍ لم تجدْ غيرَ كفِها
نقاباً ولم تترك لها النارُ محتمى
جرتْ في مآقيها الدموعُ غفيفةً
وقد كشفتْ للناسِ كفاً ومعصما
وباتتْ وباتَ القومُ عنها بمعزلٍ
مناجيةً رباً أبرَّ وأرحما
وعذراء زفتها المنونُ فلم تجدْ
سوى القبر من صهرٍ أعفَ وأكرما
فحطَّتْ أكفَّ الموتِ عنها لثامها
وهيهاتَ بعدَ الموتِ أن تتلثما
ومن والدٍ برٍّ وأمٍّ رحيمةٍ
تنوحُ على من غالهُ الموتُ منهما
فجيعانِ حتى لا عزاءَ سوى الرِّضا
وكانَ قضاءُ اللهِ من قبلُ مبرما
فإن رأيا طفلاً تجشمتِ البكا
على طفلها بعدَ الرضا وتجشما
وإن هجعا أرضاهما الوهمُ في الكرى
وساءَهما بعد الكرى ما توهما
ووالدةٌ ثكلى وزوجٌ تأيمتْ
ومرضعةٌ حسرى وطفلٌ تيتما
وقومٌ وراءَ الليلِ لا يطرقُ الكرى
عيونهمُ إن باتتِ الناسُ نوّما
فمن مطرقٍ يروي الثرى بدموعهِ
كأنَّ الثرى يشكو إليهِ من الظما
ومن طامحٍ للأفقِ حتى كأنهُ
على العدمِ يستجدي من الأفقِ أنجما
حنانيكَ يا رباهُ كم باتَ سيدٌ
يمدُّ يديهِ يسألُ الناسَ مطعما
وكم من أشمِّ الأنفِ أرغمَ أنفهُ
وما كانَ يوماً يطرقُ الرأسَ مرغما
إذا همَّ بالتسآلِ أمسكَ بعدها
حياءً فلم يفتح بمسألةٍ فما
وكم من فتىً غلتْ يداهُ عن العلا
وقد كانَ مجدولَ الذراعينِ ضيغما
أتتهمم وراءَ النارِ كلُّ فجيعةٍ
تسوقُ لهم في ميت غمرٍ جهنما
إذا عصفتْ شدَّت إلى الناسِ شدّةً
فلم تبقَ بينَ البائسينَ منعما
وإن زفرتْ شابَ الوليدُ لهولها
وكانَ خليقاً أن يشيبَ ويهرما
يحومُ عليها الموتُ من كلِّ جانبٍ
وقد نطرَ الأرواح أقبلتَ حوّما
فلو كانَ يستسقى الغمامُ بمثلها
لأغرقنا من صيّبِ الغيثِ ما هما
سلامٌ على تلكَ الديارِ وقد غدتْ
طلولاً تناجيها الدموعُ وأرسُما
فكم طللٍ قد باتَ يرثي لصحبهِ
ولو أنهُ استطاع الكلامَ تكلما
وكم منزلٍ قد باتَ قبراً لأهلهِ
وباتوا بهِ جلداً رفاةً وأعظما
سلامٌ على الباكينَ مما دهاهم
على حينِ لا تجدي دموعُ ولا دما
سلامٌ عليهم إن في مصرَ عصبةٌ
سراعاً إلى دفعِ الردى أين خيّما
فكم فرجوا عن كلِّ نفسٍ حزينةٍ
فما غبسَ المحزونُ حتى تبسما