ألا من لشوق أنت بالليل ذاكره

​ألا من لشوق أنت بالليل ذاكره​ المؤلف الفرزدق


ألا مَنْ لِشَوْقٍ أنتَ باللّيلِ ذاكِرُهْ،
وَإنْسانِ عَيْنٍ ما يُغَمِّضُ عائِرُهْ
وَرَبْعٍ كجثمانِ الحَمامةِ أدرَجَتْ
عَلَيْهِ الصَّبَا حَتى تَنَكّرَ داثِرُهْ
بِهِ كُلُّ ذَيّالِ العَشِيّ كَأنّهُ
هِجَانٌ دَعَتْهُ للجُفُورِ فَوادِرُهْ
خَلا بَعْدَ حَيٍّ صَالحينَ، وَحَلَّهُ
نَعَامُ الحِمَى بَعدَ الجميعِ وَباقِرُهْ
بمَا قَدْ نَرَى لَيلى، وَلَيْلى مُقِيمَةٌ
بِهِ في خَليطٍ لا تَناثَى حَرَائِرُهْ
فَغَيّرَ لَيْلى الكَاشِحُونَ، فأصْبَحَتْ
لهَا نَظَرٌ دُوني مُرِيبٌ تَشَازُرُهْ
أرَاني إذا مَا زُرْتُ لَيْلى وبَعْلَهَا
تَلَوّى مِنَ البَغْضَاءِ دوني مَشافرُهْ
وَإنْ زُرْتُها يَوْماً فَلَيْسَ بِمُخْلِفي
رَقِيبٌ يَرَاني أوْ عَدُوٌّ أُحَاذِرُهْ
كَأنّ على ذي الطِّنْءِ، عَيْناً بَصِيرَةً
بمَقْعَدِهِ، أوْ مَنْظرٍ هُوَ نَاظِرُهْ
يُحَاذِرُ حَتى يَحْسِبَ النّاسَ كلَّهم
مِنَ الخَوْفِ لا تخفى عَلَيهم سرَائرُهْ
غَدا الحَيُّ مِنْ بَينِ الأُعَيْلامِ بَعدما
جرَى حَدَبُ البُهمى وَهاجتْ أعاصرُهْ
دعَاهُمْ لسِيفِ البحرِ أوْ بَطنِ حائلٍ
هوىً من نَوى حَيٍّ أُمِرَّتْ مرَايرُهْ
عَدوْنَ برهنٍ من فؤادي، وَقَد غَدَتْ
بِهِ قَبلَ أترَابِ الجَنوبِ تُماضِرُهْ
تَذَكّرْتُ أتْرَاب الجَنوبِ وَدُونَها
مَقاطعُ أنْهارٍ دَنَتْ وَقَنَاطِرُهْ
حَوَارِيّةٌ بَينَ الفُرَاتَينِ دَارُهَا،
لهَا مَقْعَدٌ عالٍ بَرُودٌ هَوَاجِرُهْ
تَساقَطُ نَفْسِي إثْرَهُنّ، وَقَدْ بَدَا
من الوَجدِ ما أُخفي وَصَدري مُخامِرُهْ
إذا عَبْرَةٌ وَرّعْتُهَا فَتَكفْكَفَتْ
قَليلاً جَرَتْ أُخْرَى بدَمْعٍ تُبادِرُهْ
فَلَوْ أنّ عَيْناً مِنْ بُكاءٍ تحَدّرَتْ
دَماً، كانَ دَمعي، إذْ رِدائيَ ساتِرُهْ
متَى مَا يَمُتْ عَانِيكِ، يالَيْلَ، ثعْليمي
مُصَابةٍ مَا يُسْيدي لِعَانيكِ نَائِرُه
تَرَيْ خَطَأً ممّا ائتَمَرْتِ وَتَضْمَني
جَرِيرَةَ مَوْلىً لا يُغَمِّضُ ثائِرُهْ
فَلَمْ يَبْقَ مِنْ عانِيكِ إلاّ بَقِيّةٌ،
شَفاً، كَجَناحِ النّسْرِ مُرّطَ سائِرُهْ
ألا هلْ للَيْلى في الفِدَاءِ، فَإنّني
أرَى رَهْنَ لَيْلى لا تُبَالي أوَاصِرُهْ
لعَمرِي لَئن أصْبَحتُ في السّيرِ قاصِداً
لَقَد كانَ يَحلُو لي لعَيْني جائِرُهْ
لعَمرِي لَئن أصْبَحتُ في السّيرِ قاصِداً
لَقَدَ كانَ يَحلُو لي لعَيْني جائِرُهْ
وَجَوْنٍ عَلَيْهِ الجَصُّ فيهِ مَرِيضَةٌ،
تَطَلّعُ مِنْهُ النّفسُ وَالموْتُ حاضرُهْ
حَليلَةُ ذي ألْفَينِ شَيْخٍ يَرَى لَهَا
كَثِيرَ الّذي يُعْطي قَليلاً يُحاقِرُهْ
نَهَى أهْلَهُ عَنْهَا الّذي يَعْلَمُونَهُ
إلَيها، وَزَالَتْ عَنْ رَجاها ضَرَائرُهْ
أتَيْتُ لهَا من مُخْتِلٍ كُنْتُ أدّرِي
بهِ الوَحشَ، ما يُخشَى عليّ عَوَاثرُهْ
فَمَا زِلْتُ حَتى أصْعَدتْني حِبَالُهَا
إلَيْها، وَلَيْلي قَدْ تخَامصَ آخِرُهْ
فَلَمّا اجْتَمَعْنَا في العَلاليّ، بَيْنَنَا
ذَكيٌّ أتَى من أهلِ دارِينَ تَاجِرُهْ
نَقَعْتُ غَلِيلَ النّفْسِ إلاّ لُبَانَةً
أبَتْ من فؤادي لمْ تَرِمها ضَمائرُهْ
فَلَمْ أرَ مَنْزُولاً بِهِ بَعْدَ هَجْعَةٍ
ألَذَّ قِرىً لَوْلا الذي قَدْ نُحاذِرُهْ
أُحاذِرُ بَوّابَينِ، قَدْ وُكّلابَهَا،
وَأسْمَرَ مِنْ سَاجٍ تَئِطّ مَسامِرُهْ
فَقُلْتُ لهَا: كَيْفَ النّزُولُ؟ فإنني
أرى اللّيلَ قد وَلّى وَصَوّتَ طائِرُهْ
فَقَالَتْ: أقاليدُ الرِّتَاجَينِ عِنْدَهُ،
وَطَهْمَانُ بالأبوابِ، كيفَ تُساوِرُهْ
أبالسّيْفِ أمْ كَيفَ التّسَنّي لمُوثَقٍ،
عَلَيْهِ رَقِيبٌ دائِبُ اللّيْلِ ساهرُهْ
فَقُلْتُ: ابتٍغي مِنْ غَيرِ ذاكَ مَحالَةً،
وَللأمْرِ هَيْئاتٌ تُصَابُ مَصَادِرُهْ
لَعلّ الّذي أصْعَدْتِني أنْ يَرُدَّني
إلى الأرْضِ إنْ لمْ يَقدِرِ الحَينَ قادرُهْ
فَجَاءتْ بِأسْبابٍ طِوَالٍ وأشْرَفَتْ
قَسِيمَةُ ذي زَوْرٍ مَخُوفٍ تَرَاتِرُهْ
أخَذْتُ بأطْرَافِ الحِبَالِ، وَإنّمَا
على الله مِنْ عَوْصِ الأمورِ مَياسرُهْ
فَقُلْتُ: اقْعُدا إنّ القِيَامَ مزلّةٌ،
وَشُدّا مَعَاً بِالحَبْلِ. إني مُخاطِرُهْ
إذا قُلْتُ قَدْ نِلْتُ البَلاطَ تذَبذَبَتْ
حِباليَ في نِيقٍ مَخوفٍ مَخاصِرُهْ
مُنِيفٍ تَرَى العِقْبَانَ تَقْصُرُ دونَهُ
ودونَ كُبَيْداتِ السّمَاءِ مَناظِرُهْ
فلمّا استَوَتْ رِجلايَ في الأرْضِ نادتا:
أحَيٌّ يُرَجّى أمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ؟
فَقُلْتُ: ارْفَعا الأسبابَ لا يشعرُوا بِنا،
وَوَلّيْتُ في أعْجَازِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ
هُمَا دَلّتَاني مِنْ ثَمانينَ قَامَةً،
كما انقَضّ بازٍ أقتمُ الرّيشِ كاسرُهْ
فأصْبحتُ في القوْمِ الجلوسِ، وَأصْبحتْ
مُغلَّقَةً دُوني عَلَيْها دَسَاكِرُهْ
وَبَاتَتْ كَدَوْداة الجَوَارِي، وَبَعْلُها
كَثيرٌ دَوَاعي بَطْنِهِ وَقَرَاقِرُهْ
وَيَحسبُها باتَتْ حَصَاناً؛ وَقد جَرَتْ
لَنَا بُرَتَاها بالذي أنَا شَاكِرُهْ
فَيا رَبِّ إنْ تَغْفِرْ لَنا لَيْلَةَ النَّقَا،
فكُلُّ ذُنُوبي أنتَ يا رَبِّ غَافِرُهْ