​أم البروم​ المؤلف بدر شاكر السياب


رأيت قوافل الأحياء ترحل عن مغانيها

تطاردها وراء الليل أشباح الفوانيس

سمعت نشيج باكيها

و صرخة طفلها و ثغاء صاد مواشيها

وفي وهج الظهيرة صارخا يا حادي العيس

وعلى ألم مغنيها

و لكن لم أر الأموات يطردهن حفار

من الحفر العتاق و يترع الأكفان عنها أو يغطيها

و لكن لم أر الأموات قبل ثراك يجليها

مجون مدينة و غناء راقصة و خمّار

يقول رفيقي السكران دعها تأكل الموتى

مدينتا لتكبر تحضن الأحياء تسقينا

شرابا من حدائق برسفون تعلّنا حتى

تدور جماجم الأموات من سكر مشى فينا

مدينتنا منازلها رحى و دروبها نار

لها من لحمنا المعروك خبز فهو يكفيها

علام تمد للأموات أيديها و تختار

تلوك ضلوعها و تقيئها للريح تسفيها

تسلّل ظلها الناريّ من سجن و مستشفى

ومن مبغى و من خمارة من كل ما فيها

و سار على سلالم نومنا زحفا

ليهبط في سكينة روحنا ألما فيبكيها

و كانت إذ يطلّ الفجر تأتيك العصافير

تساقط كالثمار على القبور تنقّر الصمتا

فتحلم أعين الموتى

بكركرة الضياء و بالتلال يرشّها النور

و تسمع ضجة الأطفال أمّ ثلاثة ضاعوا

يتامى في رحاب الأرض إن عطشوا و إن جاعوا

فلا ساق و لا من مطعم في الكوخ ظلوا و اعتلى النعش

رؤوس القوم و الأكتاف ..أفئدة و أسماع

و لا عين ترى الأمّ التي منها خلا العشّ

و في الليل

إذا ما ذرذر الأنوار في أبد من الظلمة

ودبّت طفلة الكفّين عارية الخطى نسمة

تلمّ من المدينة كالمحار و كالحصى من شاطئ رمل

نثار غنائها و بكائها لم تترك العتمة

سوى زبد من الأضواء منثور

يذوب على القبور كأنه اللبنات في سور

يباعد عالم الأموات عن دنيا من الذلّ

من الأغلال و البوقات و الآهات و الزّحمة

و أوقدت المدينة نارها في ظلّة الموت

تقلّع أعين الأموات ثم تدسّ في الحفر

بذور شقائق النعمان تزرع حبة الصمت

لتثمر بالرنين من النقود و ضجّة السفر

و قهقهة البغايا و السكارى في ملاهيها

و عصّرت الدفين من النهود بكل أيديها

تمزّقهن بالعجلات و الرقصات و الزمر

و تركلهنّ كالأكر

تفجرها الرياح على المدارج في حواشيها

و حيث تلاشت الرعشات و الأشواق و الوجد

و عاد الحب ملمس دودة و أنين إعصار

تثاءبت المدينة عن هوى كتوقد النار

تموت بحرها ورمادها و دخانها الهاري

و يا لغة على الأموات أخفى من دجى الغابة

ترددها المقاهي ذلك الدلال جاء يريد أتعابه

إذا سمعوك رن كأنه الجرس الجديد يرن في السحر

صدى من غمغمات الريف حول مواقد السمر

إذا ما هزت الأنسام مهد السنبل الغافي

و سال أنين مجداف

كأن الزورق الأسيان منه يسيل في حلم

عصرت يديّ من ألم

فأين زوارق العشاق من سيارة تعدو

ببنت هوى ؟ و أين موائد الخمار من سهل يمد موائد القمر ؟

على أمواتك المتناثرين بكل منحدر

سلام جال فيه الدمع و الآهات و الوجد

على المتبدلات لحودهم و الغاديات قبورهم طرقا

و طيب رقادهم أرقا

يحنّ إلى النشور و يحسب العجلات في الدرب

و يرقب موعد الربّ