أم القرى

​أم القرى​ المؤلف إيليا أبو ماضي


أبصرتها، و الشمس عند شروقها
فرأيتها مغمورة بالنار
و رأيتها عند الغروب غريقه
في لجّة من سندس و نضار
و رأيتها تحت الدجى، فرأيتها
في بردتين: سكينة ووقار
فتنبّهت في النفس أحلام الصبى
و غرقت في بحر من التّذكار
نفسي لها من جنّة خلّابة
نسجت غلائلها يد الأمطار
أنّى مشيت نشقت مسكا أزفرا
في أرضها و سمعت صوت هزار
ذات الجبال الشّامخات إلى العلا
يا ليت في أعلى جبالك داري
لأرى الغزالة قبل سكان الحمى
و أعانق النّسمات في الأسحار
لأرى رعاتك في المروج و في الربى
و الشّاء سارحة مع الأبقار
لأرى الطيور الواقعات على الثرى
و النحل حائمة على الأزهار
لأساجل الورقاء في تغريدها
و تهزّ روحي نفحة المزمار
لأسامر الأقمار في أفلاكها
تحت الظّلام إذا غفا سمّاري
لأراقب " الدلوار " في جريانه
و أرى خيال البدر في " الدلوار "
بئس المدينة إنّها سجن النّهى
و ذوي النّهى، و جهنّم الأحرار
لا يملك الإنسان فيها نفسه
حتّى يروّعه ضجيج قطار
وجدت بها نفسي المفاسد و الأذى
في كلّ زاوية و كلّ جدار
لا يخدعنّ الناظرين برجها
تلك البروج مخابيء للعار
لو أنّ حاسد أهلها لاقى الذي
لاقيت لم يحسد سوى " بشّار "
غفرانك اللّهم ما أنا كافر
فلم تعذّب مهجتي بالنّار؟
لله ما أشهى القرى و أحبّها
لفتى بعيد مطارح الأفكار
إن شئت تعرى من قيودك كلّها
فانظر إلى صدر السّماء العاري
و امش على ضوء الصّباح، فإن خبا
فامش على ضوء الهلال السّاري
عش في الخلا تعش خليّا هانئا
كالطّير... حرا، كالغدير الجاري
عش في الخلاء كما تعيش طيوره
الحرّ يأبى العيش تحت ستار!
شلّال " ملفرد " لا يقرّ قراره
و أنا لشوقي لا يقرّ قراري
فيه من السيف الصقيل بريقه
و له ضجيج الجحفل الجرّار
أبدا يرش صخوره بدموعه
أتراه يغسلها من الأوزار؟
فاذا تطاير ماؤه متناثرا
أبصرت حول السفح شبه غبار
كالبحر ذي التّيار يدفع بعضه
و يصول كالضرغام ذي الأظفار
من قمّة كالنهد، أيّ فتى رأى
نهدا يفيض بعارض مدرار؟
فكأنّما هي منبر و كأنّه
" ميراب " بين عصائب الثوّار
من لم يشاهد ساعة و ثباته
لم يدر كيف تغطرس الجبّار
ما زلت أحسب كلّ صمت حكمة
حتّى بصرت بذلك الثرثار
أعددت، قبل أراه، وقفة عابر
لاه فكانت وقفة استعبار!..
يا أخت دار الخلد؛ يا أم القرى،
يا ربّة الغابات و الأنهار
لله يوم فيك قد قضّيته
مع عصبة من خيرة الأنصار
نمشي على تلك الهضاب ودوننا
بحر من الأغراس و الأشجار
تنساب فيه العين بين جداول
و خمائل و مسالك و ديار
آنا على جبل مكين راسخ
راس، و آنا فوق جرف هار
تهوي الحجارة تحتنا من حالق
و نكاد أن نهوي مع الأحجار
لو كنت شاهدنا نهرول من عل
لضحكت منّا ضحكة استهتار
الريح ساكنة و نحن نظنّنا
للخوف مندفعين مع إعصار
و الأرض ثابتة و نحن نخالها
تهتزّ مع دفع النسيم السّاري
مازال يسند بعضنا بعضا كما
يتماسك الروّاد في الأسفار
ويشدّ هذا ذاك من أزراره
فيشدّني ذيّاك من أزراري
حتى رجعنا سالمين و لم نعد
لو لم يمدّ الله في الأعمار
و لقد وقفت حيال نهرك بكرة
و الطير في الركنات و الأوكار
متهيّبا فكأنّني في هيكل
و كأنّه سفر من الأسفار
ما كنت من يهوى السكوت و إنّما
عقلت لساني رهبة الأدهار
مرّ النسيم به فمرّت مقلتي
منه بأسطار على أسطار
فالقلب مشتغل بتذكاراته
و الطرف مندفع مع التيّار
حتى تجلّت فوق هاتيك الربى
شمس الصباح تلوح كالدّينار
فعلى جوانبه وشاح زبرجد
و على غراربه و شاح بهار
لو أبصرت عيناك فيه خيالها
لرأيت مرآة بغير إطار
يمّمته سحرا و أسراري معي
و رجعت في أعماقه أسراري!..
إنّي حسدت على القرى أهل القرى
و غبطت حتّى نافخ المزمار
ليل و صبح بين إخوان الصّفا
ما كان أجمل ليلتي و نهاري!