إحكام الآمدي - الجزء الثاني
الأصل الثالث في الإجماع ويشتمل على مقدمة ومسائل: أما المقدمة ففي تعريف الإجماع وهو في اللغة باعتبارين: أحدهما العزم على الشيء والتصميم عليه ومنه يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى "فأجمعوا أمركم" "يونس 71" أي اعزموا وبقوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" أي يعزم وعلى هذا فيصح إطلاق اسم الإجماع على عزم الواحد. الثاني الاتفاق ومنه يقال: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه وعلى هذا فاتفاق كل طائفة على أمر من الأمور دينياً كان أو دنيوياً يسمى إجماعاً حتى اتفاق اليهود والنصارى. وأما في اصطلاح الأصوليين فقد قال النظام: هو كل قول قامت حجته حتى قول الواحد وقصد بذلك الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة وبين موافقته لما اشتهر بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع والنزاع معه في إطلاق اسم الإجماع على ذلك مع كونه مخالفاً للوضع اللغوي والعرف الأصولي آيل إلى اللفظ. وقال الغزالي: الإجماع عبارة عن اتفاق أمة محمد خاصة على أمر من الأمور الدينية وهو مدخول من ثلاثة أوجه: الأول أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة فإن أمة محمد جملة من اتبعه إلى يوم القيامة ومن وجد في بعض الأعصار منهم إنما يعم بعض الأمة لا كلها وليس ذلك مذهباً له ولا لمن اعترف بوجود الإجماع. الثاني أنه وإن صدق على الموجودين منهم في بعض الأعصار أنهم أمة محمد غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار عن أهل الحل والعقد وكان كل من فيه عامياً واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعاً شرعياً وليس كذلك. الثالث أنه يلزم من تقييده للإجماع بالاتفاق على أمر من الأمور الدينية أن لا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة شرعية وليس كذلك لما يأتي بيانه. والحق في ذلك أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع هذا إن قلنا إن العامي لا يعتبر في الإجماع وإلا فالواجب أن يقال الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد إلى آخر الحد المذكور. فقولنا اتفاق يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير وقولنا جملة أهل الحل والعقد احتراز عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق العامة وقولنا من أمة محمد احتراز عن اتفاق أهل الحل والعقد من أرباب الشرائع السالفة وقولنا في عصر من الأعصار حتى يندرج فيه إجماع أهل كل عصر وإلا أوهم ذلك أن الإجماع لا يتم إلا باتفاق أهل الحل والعقد في جميع الأعصار إلى يوم القيامة وقولنا على حكم واقعة ليعم الإثبات والنفي والأحكام العقلية والشرعية وإذا عرف معنى الإجماع فلنرجع إلى المسائل المتعلقة به. المسألة الأولى اختلفوا في تصور اتفاق أهل الحل والعقد على حكم واحد غير معلوم بالضرورة: فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون مصيراً منهم إلى أن اتفاقهم على ذلك الحكم إما أن يكون عن دليل قاطع لا يحتمل التأويل أو عن دليل ظني لا جائز أن يقال بالأول وإلا لكانت العادة محيلة لعدم نقله وتواطي الجمع الكثير على إخفائه فحيث لم ينقل دل على عدمه كيف وأنه لو نقل لكان كافياً في الدلالة عن إجماعهم ولا جائز أن يقال بالثاني لأنهم مع كثرتهم واختلاف أذهانهم ودواعيهم في الاعتراف بالحق والعناد فالعادة أيضاً تحيل اتفاقهم على الحكم الواحد كما أنها تحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد معين في يوم واحد وهو باطل فأنه إن كان إجماعهم عن دليل قاطع فإنما يمتنع عدم نقله أن لو دعت الحاجة إليه وإنما تدعو الحاجة إليه أن لو لم يكن الإجماع على ذلك الحكم كافياً عنه وهو محل النزاع.
وإن كان ذلك عن دليل ظني فلا يمتنع معه اتفاق الجمع الكبير على حكمه بدليل اتفاق أهل الشبه على أحكامها مع الأدلة القاطعة على مناقضتها كاتفاق اليهود والنصارى على إنكار بعثة محمد ﷺ واتفاق الفلاسفة على قدم العالم والمجوس على التثنية مع كثرة عددهم كثرة لا تحصى فالاتفاق على الدليل الظني الخالي عن معارضة القاطع له أولى أن لا يمتنع عادة وخرج عليه امتناع اتفاق الجمع الكثير على أكل طعام معين في وقت واحد في العادة لعدم الصارف إليه كيف وأن جميع ما ذكروه منتقض بما وجد من اتفاق جميع المسلمين فضلاً عن اتفاق أهل الحل والعقد مع خروج عددهم عن الحصر على وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ووجوب الزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام التي لم يكن طريق العلم بها الضرورة والوقوع دليل التصور وزيادة. المسألة الثانية المتفقون على تصور انعقاد الإجماع اختلفوا في إمكان معرفته والاطلاع عليه: فأثبته الأكثرون أيضاً ونفاه الأقلون ومنهم أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ولهذا نقل عنه أنه قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب اعتماداً منهم على أن معرفة اتفاقهم على اعتقاد الحكم الواحد متوقف على سماع الإخبار بذلك من كل واحد من أهل الحل والعقد أو مشاهدة فعل أو ترك منه يدل عليه وذلك كله يتوقف على معرفة كل واحد منهم وذلك مع كثرتهم وتفرقهم في البلاد النائية والأماكن البعيدة متعذر عادة وبتقدير المعرفة بكل واحد منهم فمعرفة معتقده إنما تكون بالوصول إليه والاجتماع به وهو أيضاً متعذر وبتقدير الاجتماع به وسماع قوله ورؤية فعله أو تركه قد لا يفيد ذلك اليقين بأنه معتقده لجواز أن يكون إخباره وما يشاهد من فعله أو تركه على خلاف معتقده لغرض من الأغراض وبتقدير حصول العلم بمعتقده فلعله يرجع عنه قبل الوصول إلى الباقين وحصول العلم بمعتقدهم ومع الاختلاف فلا إجماع. وطريق الرد عليهم أن يقال: جميع ما ذكرتموه باطل بالواقع ودليل الوقوع ما علمناه علماً لا مراء فيه من أن مذهب جميع الشافعية امتناع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي وأن مذهب جميع الحنفية نقيض ذلك مع وجود جميع ما ذكروه من التشكيكات والوقوع في هذه الصور دليل الجواز العادي وزيادة. فإن قيل إنما علمنا أن مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ذلك لأنا علمنا قول الشافعي وقول أبي حنيفة في ذلك وهو قول واحد يمكن الاطلاع عليه فعلمنا أن مذهب كل من يتبعه وهو مقلد له ذلك ولا كذلك في الإجماع لأنه لم يظهر لنا نص عن الله والرسول يكون مستند إجماعهم ولو عرف ذلك لكان هو الحجة. قلنا: هذا وإن استمر لكم هاهنا فلا يستمر فيما نقله قطعاً من اعتقاد النصارى واليهود من إنكار بعثة النبي عليه السلام فإن ذلك لم يظهر لنا فيه أنه قول موسى ولا عيسى ولا قول واحد معين حتى يكون اعتقادهم ذلك لاتباعهم له فما هو الجواب هاهنا فهو الجواب في محل النزاع. المسألة الثالثة اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم خلافاً للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة وقد احتج أهل الحق في ذلك بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فخمس آيات: الآية الأولى وهي أقواها وبها تمسك الشافعي رضي الله عنه وهي قوله تعالى "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" "النساء 115" ووجه الاحتجاج بالآية أنه تعالى توعد على متابعة غير سبيل المؤمنين ولو لم يكن ذلك محرماً لما توعد عليه ولما حسن الجمع بينه وبين المحرم من مشاقة الرسول عليه السلام في التوعد كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح.
فإن قيل لا نسلم أن من للعموم على ما سيأتي في مسائل العموم حتى يتناول كل من اتبع غير سبيل المؤمنين سلمنا أنها للعموم غير أن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إنما وقع مشروطاً بمشاقة الرسول والمشروط على العدم عند عدم الشرط سلمنا لحوق الذم باتباع غير سبيل المؤمنين على انفراده لكنه متردد بين أن يراد به عدم متابعة سبيل المؤمنين وتكون غير بمعنى إلا وبين أن يراد به متابعة سبيل غير المؤمنين وتكون غير هاهنا صفة لسبيل غير المؤمنين وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وبتقدير أن تكون غير صفة لسبيل غير المؤمنين فسبيل غير المؤمنين هو الكفر ونحن نسلم أن من شاقق الرسول وكفر فإنه يكون متوعداً بالعقاب وذلك لا يدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين سلمنا أن سبيل غير المؤمنين ليس هو الكفر ولكن ذلك لا يدل على التوعد على عدم اتباع سبيل المؤمنين بل غاية ما يلزم من تخصيص اتباع سبيل غير المؤمنين بالتوعد عدم التوعد على اتباع سبيل المؤمنين بمفهومه ولا نسلم أن المفهوم حجة وإن سلمنا أنه حجة لكن في عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين ونحن نقول به ولا يلزم من ذلك وجوب اتباعهم سلمنا أن المراد به عدم اتباع سبيل المؤمنين لكنه يتناول سبيل جميع المؤمنين وجميع المؤمنين كل من آمن بالله ورسوله إلى يوم القيامة وذلك لا يدل على أن ما وجد من الإجماع في بعض الأعصار حجة سلمنا أن المراد منه سبيل المؤمنين في كل عصر لكنه عام في كل مؤمن عالم وجاهل والجهال غير داخلين في الإجماع المتبع وما دون ذلك فالآية غير دالة عليه سلمنا أن المراد بالمؤمنين أهل الحل والعقد في أي عصر اتفق لكن لفظ السبيل مفرد لا عموم فيه فلا يقتضي اتباع كل سبيل سلمنا عمومه لكنه مما يمتنع حمله على متابعة كل سبيل وإلا لوجب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه من المباحات لأنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم عليه بالإباحة ولوجب اتباعهم في إجماعهم قبل الاتفاق على حكم من الأحكام على جواز الاجتهاد فيه لكل أحد واتباعهم في امتناع الاجتهاد فيه بعد اتفاقهم عليه وذلك تناقض محض وعند ذلك فيحتمل أنه أراد به متابعة سبيلهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته ويحتمل أنه أراد به اتباع سبيلهم في الإيمان واعتقاد دين الإسلام ويحتمل أنه أراد اتباع سبيلهم في الاجتهاد دون التقليد ونحن نقول بذلك كله كيف ويجب الحمل على ذلك لما فيه من العمل باللفظ في زمن النبي وفيما بعده ولو كان محمولاً على متابعتهم فيما اتفقوا عليه من الأحكام الشرعية لكان ذلك خاصاً بما بعد وفاة النبي عليه السلام لاستحالة الاحتجاج بالإجماع في زمانه سلمنا أن المراد به متابعتهم فيما أجمعوا عليه من الأحكام الشرعية لكنه مشروط بسابقة تبين الهدى بدليل قوله تعالى "من بعد ما تبين له الهدى" "النساء 115" والهدى مذكور بالألف واللام المستغرقة فيدخل فيه كل هدى حتى إجماعهم على الحكم الشرعي وإنما يتبين الهدى بدليله وإذا كان الإجماع من جملة الهدى فلا بد من تقدم بيانه بدليله ودليل كون الإجماع هدى لا يكون هو نفس الإجماع بل هو غيره وعند ذلك فظهور ذلك الدليل كاف في اتباعه عن اتباع الإجماع سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين مطلقاً لكن المراد بالمؤمنين الأئمة المعصومون لأن سبيلهم لا يكون إلا حقاً أو المؤمنين إذا كان فيهم الإمام المعصوم لأن سبيلهم سبيله وسبيل المعصوم لا يكون إلا حقاً فكان واجب الاتباع والثاني ممنوع سلمنا وجوب إتباع سبيل المؤمنين وإن لم يكن فيهم الإمام المعصوم ولكن إذا علم كونهم مؤمنين والإيمان هو التصديق وهو باطن لا سبيل إلى معرفته وإذا لم يعلم كونهم مؤمنين فالاتباع لا يكون واجباً لفوات شرطه سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" "النحل 89" وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" "النساء 59" اقتصر على الكتاب والسنة وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" "البقرة 188" وقوله "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" "البقرة 161" نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين وذلك يدل على تصورهما منهم ومن تتصور منه المعصية لا يكون قوله ولا فعله موجباً للقطع. وأما السنة فهو أن النبي عليه السلام أقر معاذاً لما سأله عن الأدلة المعمول بها على إهماله لذكر الإجماع ولو كان الإجماع دليلاً لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه وأيضاً فإنه قد ورد عن النبي عليه السلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن تقوم الحجة بقوله فمن ذلك قوله عليه السلام: "بدئ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ" وأيضاً قوله: "لا ترجعوا بعدي كفاراً" نهى الكل عن الكفر وهو دليل جواز وقوعه منهم وقوله: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وقوله: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى" وقوله عليه السلام "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" وقوله "خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم". وأما المعقول فما ذكرناه في المسألتين الأوليين وأيضاً فإن أمة محمد أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم وأيضاً فإن الأحكام الشرعية لا يصح إثباتها إلا بدليل فلا يكون إجماع الأمة دليلاً عليها كالتوحيد وسائر المسائل العقلية. والجواب: قولهم لا نسلم أن من للعموم سيأتي بيان ذلك في مسائل العموم قولهم إن التوعد إنما وقع على الجمع بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين فقد أجاب عنه بعض أصحابنا بأن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن مشروطاً بمشاقة الرسول فهو المطلوب وإن كان مشروطاً به فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين غير متوعد عليه عند عدم المشاقة مطلقاً وذلك باطل لأن مخالفة الإجماع وإن لم تكن خطأ لكن لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً وما لا يكون صواباً مطلقاً لا يكون جائزاً مطلقاً وليس بحق لأنه إذا سلم أن مخالفة الإجماع عند عدم المشاقة ليست خطأ فقوله لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً قلنا إن لم تكن صواباً فإما أن يكون عدم الصواب خطأ أو لا يكون خطأ: فإن كان الأول فقد ناقض وإن كان الثاني فما لا يكون خطأ لا يلزم التوعد عليه وقال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي أن من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل المؤمنين مع مشاقته للرسول ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي معصية على سبيل الرد عليه لأن من صدق النبي عليه السلام وفعل بعض المعاصي لا يقال إنه مشاق للرسول ومن كذب النبي عليه السلام لا يصح أن يعلم صحة الإجماع بالسمع ومن لا يصح عليه ذلك لا يصح أن يكون مأموراً باتباعه في تلك الحال وهو غير سديد. فإن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أن المفهوم من المشاقة للنبي تكذيبه وأن من كذب النبي لا يعلم بالسمع صحة الإجماع ولكن القول بأنه لا يكون مأموراً باتباع الإجماع مبني على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الإسلام وهو باطل بما سبق تقريره وقيل في جوابه أيضاً إن الوعيد إذا علق على أمرين اقتضى ذلك التوعد بكل واحد من الأمرين جملة وإفراداً ويدل عليه قوله تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً" "الفرقان 68" فإنه يقتضي لحوق المأثم بكل واحد من هذه الأمور جملة وبكل واحد على انفراده.
ولقائل أن يقول: لا نسلم ثبوت الإثم في كل واحد من هذه الأمور على انفراده بهذه الآية وإنما كان ذلك مستفاداً من الأدلة الخاصة الدالة على لزوم المأثم بكل واحد من هذه الأمور بخصوصه ولهذا فإنه لما لم يدل الدليل الخاص على مضاعفة العذاب بكل واحد من هذه الأمور لم تكن الآية مقتضية لتضاعف العذاب على كل واحد بتقدير الانفراد إجماعاً ولو كانت مقتضية لذلك لكان نفي المتضاعف بقوله "يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً" "الفرقان 69" على خلاف الدليل ولهذا فإنه لو قال لزوجته: "إن كلمت زيداً وعمراً أو إن كلمت زيداً ودخلت الدار فأنت طالق" فإنه لا يقع الطلاق بوجود أحد الأمرين ولولا أن الحكم المعلق على أمرين على العدم عند عدم أحدهما لكان انتفاء الحكم في هذه الصورة على خلاف الدليل وهو ممتنع والأقرب في ذلك أن يقال: لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين عند المشاقة وعند ذلك إما أن يكون لمفسدة متعلقة أو لا لمفسدة لا جائز أن يقال بالثاني فإن ما لا مفسدة فيه لا توعد عليه من غير خلاف وإن كان الأول فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن تكون من جهة مشاقة الرسول أو لا من جهة مشاقته فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التوعد كما قيل ولا حاجة إلى قوله "ويتبع غير سبيل المؤمنين" وإن كان الثاني لزم التوعد لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد. قولهم إن غير مترددة بين أن تكون بمعنى إلا أو بمعنى الصفة قلنا: لا يمكن أن تكون غير هاهنا صفة لأنه يلزم من ذلك تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين ويلزم من ذلك أن الأمة إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو وجوبه والمخالف لا يقول بذلك وبتقدير أن يكون المراد منه تحريم اتباع سبيل غير المؤمنين فذلك يعم تحريم كل سبيل هو غير سبيل المؤمنين لأنه سبيل غير المؤمنين ولهذا فإن من اختار لنفسه حالة وتمسك بها وكان معروفاً بها يقال إنها سبيله سواء تعددت الأحوال أو اتحدت وإذا قيل: فلان سلك سبيل التجار فهم منه أنه يفعل أفعالهم ويتزي بزيهم ويتخلق بأخلاقهم ويجر على عاداتهم وعلى هذا فيمتنع تخصيص السبيل المتوعد على اتباعه إذا كان غير سبيل المؤمنين بشيء معين من كفر أو غيره بل يعم ذلك ما كان مخالفاً لطريق الأمة وسبيلهم كيف وإنا لو لم نعتقد ذلك لزم منه أن يكون لفظ السبيل مبهماً وهو خلاف الأصل على ما سبق. قولهم إنه إنما يدل على عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين بمفهومه قلنا إذا سلم أنه يحرم اتباع كل سبيل سوى سبيل المؤمنين فلا نريد بكون الإجماع حجة سوى هذا. قولهم: المراد من سبيل المؤمنين كل من آمن به إلى يوم القيامة لا يصح لوجهين الأول أن الأصل تنزيل اللفظ على حقيقته ولفظ المؤمنين حقيقة يكون لمن هو متصف بالإيمان والاتصاف بالإيمان مشروط بالوجود والحياة ومن لا حياة له ممن مات أو لم يوجد بعد لا يكون مؤمناً حقيقة فلفظ المؤمنين حقيقة إنما يصدق على أهل كل عصر دون من تقدم أو تأخر وهذا وإن منع من الاحتجاج بإجماع أهل العصر على من بعدهم فلا يمنع من الاحتجاج به على من في عصرهم وهو خلاف مذهب الخصوم الثاني أن المقصود من الآية إنما هو الزجر عن مخالفة المؤمنين والحث على متابعتهم وذلك غير متصور عند حمل المؤمنين على كل من آمن إلى يوم القيامة إذ لا زجر ولا حث في يوم القيامة. قولهم: الآية وإن دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين في أي عصر كان غير أنها عامة في العالم والجاهل والجاهل غير مراد بالاتفاق ولا نسلم ذلك على ما يأتي وإن سلمنا ذلك غير أن الآية حجة في اتباع جملة المؤمنين إلا ما خصه الدليل فتبقى الآية حجة في الباقي. قولهم لفظ السبيل مفرد لا عموم فيه عنه جوابان: الأول أنه يجب اعتقاد عمومه لما سبق تقريره الثاني أنه إما أن يكون عاماً بلفظه أو لا يكون عاماً بلفظه فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو إن لم يكن عاماً بلفظه فهو عام بمعناه وإيمائه ذلك لأن اتباع سبيل المؤمنين أي سبيل كان مناسب لكونه مصلحياً وقد رتب الحكم على وفقه في كلام الشارع فكان علة لوجوب الاتباع مهما تحقق. قولهم: يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه وحكموا بكونه مباحاً وهو تناقض قلنا: الآية وإن دلت على وجوب اتباع المؤمنين في كل سبيل لهم ففعلهم للمباح سبيل وحكمهم بجواز الترك سبيل ولا يلزم من مخالفة الآية في إيجاب الفعل اتباعاً لفعلهم له مخالفتها في اتباعهم في اعتقاد جواز تركه. قولهم: يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع في جواز الاجتهاد وتحريمه قلنا: سنبين أنه مهما انعقد إجماع الأمة على حكم أنه يستحيل انعقاد إجماعهم على مخالفته. قولهم: يحتمل أنه أراد متابعتهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته أو اتباعهم في الإيمان أو في الاجتهاد قلنا: اللفظ يعم كل سبيل على ما قررناه وما ذكروه تخصيص لعموم الاتباع من غير دليل فلا يقبل قولهم إنه مشروط بسابقة تبين الهدى إلى آخره فجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن تبين الهدى إنما هو مشروط في الوعيد على المشاقة لا في الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين وذلك لأن المشاقة لا تكون إلا بعد تبين الهدى ومعرفته بدليله ومن لم يعرف ذلك لا يوصف بالمشاقة. الثاني أن تبين الأحكام الفروعية ليس شرطاً في مشاقة الرسول بدليل أن من تبين صدق النبي وحاد عنه ورد عليه فإنه يوصف بالمشاقة وإن كان جاهلاً بالفروع غير متبين لها وإذا لم تكن معرفة أحكام الفروع شرطاً في المشاقة فلا تكون مشترطة في لحوق الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين فيها. الثالث هو أن الآية إنما خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين بإلحاق الذم باتباع غير سبيلهم فلو كان ذلك مشروطاً بتبين كونه هدى ولم يكن اتباعهم في سبيلهم لأجل أنه سبيل لهم بل لمشاركتهم فيما ذهبوا إليه لتبين كونه هدى لبطلت فائدة تعظيم الأمة الإسلامية وتميزهم بذلك فإن كل من ظهر الهدى في قوله واعتقاده فالوعيد حاصل بمخالفته وإن لم يكن من المسلمين وذلك كالوعيد على عدم مشاركة اليهود فيما ظهر كون معتقدهم فيه هدى كإثبات الصانع واعتقاد كون موسى رسولاً كريماً. قولهم المراد من المؤمنين الأئمة المعصومون أو من كان فيهم الإمام المعصوم عنه جوابان: الأول أنه مبني على وجود الإمام المعصوم وهو باطل بما حققناه في علم الكلام الثاني أن الآية عامة فتخصيصها بالأئمة وبالمؤمنين الذين فيهم الإمام المعصوم من غير دليل غير مقبول كيف وأن الآية دالة على الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين وعندهم التوعد إنما هو بسبب اتباع غير سبيل الإمام وحده دون غيره وهو خلاف الظاهر. قولهم سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن إذا علم أنهم مؤمنون قلنا: المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل المؤمنين والزجر عن مخالفته فإن كان سبيلهم معلوماً فلا إشكال وإن لم يكن معلوماً فالتكليف باتباع ما لا يكون معلوماً إما أن لا يكتفي فيه بالظن أو يكتفي فيه بالظن فإن كان الأول فهو تكليف بما لا يطاق وهو خلاف الأصل وإن كان الثاني فهو المطلوب وأما ما ذكروه من المعارضة بالآية الأولى فليس في بيان كون الإجماع حجة متبعة بالآية التي ذكرها ما ينافي كون الكتاب تبياناً لكل شيء وأصلاً له وأما الآية الثانية فهي دليل عليهم لأنها دليل على وجوب الرد إلى الله والرسول في كل متنازع فيه وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع النزاع فيه وقد رددناه إلى الله تعالى حيث أثبتناه بالقرآن وهم مخالفون في ذلك وأما الآية الثالثة والرابعة فلا نسلم أن النهي فيهما راجع إلى اجتماع الأمة على ما نهوا عنه بل هو راجع إلى كل واحد على انفراده ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة سلمنا أن النهي لجملة الأمة عن الاجتماع على المعصية ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلاً ولا يلزم من الجواز الوقوع ولهذا فإن النبي عليه السلام قد نهي عن أن يكون من الجاهلين بقوله تعالى "فلا تكونن من الجاهلين" "الأنعام 35" وقال تعالى لنبيه: "لئن أشركت ليحبطن عملك" "الزمر 65" إذ ورد ذلك في معرض النهي مع العلم بكونه معصوماً من ذلك وأيضاً فإنا نعلم أن كل أحد منهي عن الزنى وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق إلى غير ذلك من المعاصي ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر عنه بعض المعاصي نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتي بتلك المعصية فكان معصوماً عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتي بها ومع ذلك فهو منهي عنها.
وأما خبر معاذ فإنما لم يذكر فيه الإجماع لأنه ليس بحجة في زمن النبي عليه السلام فلم يكن مؤخراً لبيانه مع الحاجة إليه وقوله عليه السلام "بدئ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ" لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة بقوله بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون وقوله: "لا ترجعوا بعدي كفاراً" فيحتمل أنه خطاب مع جماعة معينين وإن كان خطاباً مع الكل فجوابه ما سبق في آيات المناهي للأمة. وقوله "حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً" الحديث إلى آخره غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء ونحن لا ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء وإنما الكلام في اجتماع من كان من العلماء وعلى هذا يكون الجواب عن باقي الأحاديث الدالة على خلو الزمان من العلماء كيف وإن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار عمن تقوم الحجة بقوله وهو قوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال" وأيضاً ما روي أنه قال: "واشوقاه إلى إخواني قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال أنتم أصحابي إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس". وما ذكروه من المعقول في المسألتين السابقتين فقد سبق جوابه قولهم: إنها أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم فقد ذهب أبو إسحاق الأسفرايني وغيره من أصحابنا وجماعة من العلماء إلى أن إجماع علماء من تقدم من الملل أيضاً حجة قبل النسخ وإن سلمنا أنه ليس بحجة فلأنه لم يرد في حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد في علماء هذه الأمة فافترقا وأما الحجة الأخيرة فلا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع. وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه بل في الأحكام الشرعية لا غير غير أن الفرق بينهما أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامي للعالم وإنما يرجع إلى أدلة يشترك فيها الكل وهي أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجب على العامي الأخذ بقول العالم فيها وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان الأخذ بقول الجماعة أولى. الآية الثانية قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" "البقرة 143" وصف الأمة بكونهم وسطاً والوسط هو العدل ويدل عليه النص واللغة أما النص فقوله تعالى: "قال أوسطهم ألم أقل لكم" "القلم 28" أعدلهم وقال عليه السلام خير الأمور أوساطها وأما اللغة فقول الشاعر: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
أي عدول ووجه الاحتجاج بالآية أنه عدلهم وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم كما جعل الرسول حجة علينا في قبول قوله علينا ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى كون أقوالهم حجة على غيرهم فإن قيل إنما وصفهم بالعدالة ليكونوا شهداء في الآخرة على الناس بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة وذلك يقتضي عدالتهم وقبول شهادتهم في يوم القيامة حالة ما يشهدون دون حالة التحمل في الدنيا سلمنا أنه وصفهم بذلك في الدنيا ولكن ليس في قوله: "لتكونوا شهداء على الناس" "البقرة 143" لفظ عموم يدل على قبول شهادتهم في كل شيء بل هو مطلق في المشهود به وهو غير معين فكانت الآية مجملة ولا حجة في المجمل سلمنا أنها ليست مجملة ولكنا قد عملنا بها في قبول شهادتهم على من بعدهم بإيجاب النبي عليه السلام العبادات عليهم وتكليفهم بما كلفهم به فلا يبقى حجة في غيره لتوفية العمل بدلالة الآية سلمنا قبول شهادتهم في كل شيء غير أن الآية تدل على عدالة كل واحد من الأمة وقبول شهادته وهو مخصص بالإجماع بالفساق والنساء والصبيان والمجانين والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما سيأتي لكن ليس في ذلك ما يدل سلمنا أنها تبقى حجة بعد التخصيص على عدالتهم وعصمتهم عن الخطأ باطناً بل ظاهراً فإن ذلك كان في قبول الشهادة سلمنا أن ذلك يدل على عصمتهم عن الخطأ مطلقاً لكن فيما يشهدون به لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد فإن ذلك ليس من باب الشهادة في شيء وهو محل النزاع سلمنا قبول قولهم مطلقاً غير أن الخطاب إما أن يكون مع جميع أمة محمد إلى يوم القيامة وإما مع الموجودين في وقت الخطاب فإن كان الأول فلا حجة في إجماع كل عصر إذ ليسوا كل الأمة وإن كان الثاني فلا يكون إجماع من بعدهم حجة وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن الوحي بالإجماع وإنما يكون حجة بعد النبي عليه السلام وذلك يتوقف على بقاء كل من كان من المخاطبين بذلك في زمن النبي بعد النبي وأن يعرف مقاله كل واحد فيما ذهب إليه وهو متعذر جداً. والجواب عن السؤال الأول أن وصف أمة محمد بالعدالة إنما كان في معرض الامتنان والإنعام عليهم وتعظيم شأنهم وذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الأخرى أو فيهما لا جائز أن يكون في الأخرى لا غير لوجهين: الأول أن جميع الأمم عدول يوم القيامة بل معصومون عن الخطأ لاستحالة ذلك منهم وفيه إبطال فائدة التخصيص الثاني أنه لو كان كذلك لقال: سنجعلكم عدولاً لا أن يقول جعلناكم وإن كان القسم الثاني والثالث فهو المطلوب. وعن الثاني من وجهين: الأول أنه يجب اعتقاد العموم في قبول الشهادة نفياً للإجمال عن الكلام الثاني إن الاحتجاج ليس في قوله "لتكونوا شهداء على الناس" "البقرة 143" بل في وصفهم بالعدالة ومهما كانوا عدولاً وجب قبول قولهم في كل شيء وبه يخرج الجواب عن السؤال الثالث. وأما الرابع فجوابه أن الآية تدل على وصف جملة الأمة بالعدالة ومقتضى ذلك عدالتهم فيما يقولونه جملة وآحاداً غير أنا خالفناه في بعض الآحاد فتبقى الآية حجة في عدالتهم فيما يقولونه جملة وهو المطلوب قولهم العام بعد التخصيص لا يبقى حجة سنبطله فيما يأتي. وأما السؤال الخامس فجوابه أن الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولاً والأصل أن يكون كذلك حقيقة في نفس الأمر لكونه عالماً بالخفيات فإن الحكيم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل. وجواب السادس أنه إذا ثبت وصفهم بالعدالة في نفس الأمر فيما يخبرون به مما يرونه من الأحكام الشرعية يجب صدقهم فيه وإلا لما كانوا عدولاً في نفس الأمر وإذا كانوا صادقين فيه فهو صواب لكونه حسناً فهو حسن عند الله لقوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن عند الله" وإذا كان صواباً كان خلافة خطأ وهو المطلوب. وجواب السابع أنه لا سبيل إلى حمل لفظ الأمة على كل من آمن بالرسول إلى يوم القيامة لما سبق في الآية الأولى ولا على من كان موجوداً في زمن النبي عليه السلام لا غير لأن أقوالهم غير محتج بها في زمنه ولا وجود لهم بعد وفاته فإن كثيراً منهم مات بعد الخطاب بهذه الآية قبل وفاة النبي عليه السلام فلا يبقى لقوله تعالى: "لتكونوا شهداء على الناس" "البقرة 143" فائدة فيجب حمله على أهل كل عصر عصر تحقيقاً لفائدة كونهم شهداء.
الآية الثالثة قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" "آل عمران 110" والألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس عمت على ما سيأتي ومقتضى صدق الخبر بذلك أمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر فإذا أمروا بشيء إما أن يكون معروفاً أو منكراً لا جائز أن يكون منكراً وإلا لكانوا ناهين عنه ضرورة العمل بالعموم الذي ذكرناه لا أمرين به وإن كان معروفاً فخلافه يكون منكراً وهو المطلوب وإذا نهوا عن شيء فإما أن يكون منكراً أو معروفاً لا جائز أن يكون معروفاً وإلا لكانوا أمرين به ضرورة ما ذكرناه من العموم لا ناهين عنه وإن كان منكراً فخلافه يكون معروفاً وهو المطلوب فإن قيل: لا نسلم أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق على ما سيأتي وعلى هذا فلا تكون الآية عامة في الأمر بكل معروف ولا النهي عن كل منكر سلمنا أنها للعموم لكن قوله كنتم يدل على كونهم متصفين بهذه الصفة في الماضي ولا يلزم من ذلك اتصافهم بذلك في الحال بل ربما دل على عدم اتصافهم بذلك في الحال نظراً إلى قاعدة المفهوم وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم لا نعلم أنه كان قبل نزول الآية فيكون حجة أو بعدها فلا يكون حجة سلمنا اتصافهم بذلك في الماضي والحال ولكن ليس فيه ما يدل على استدامتهم لذلك في المستقبل وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم مما لا يعلم أنه كان في حالة كونه حجة أو في غيرها سلمنا دلالة الآية على ذلك في جميع الأزمان لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ولا يلزم مثله في حق من بعدهم سلمنا أنه خطاب مع الكل لكن ذلك يستدعي كون كل واحد منهم على هذه الصفة ونحن نعلم خلاف ذلك ضرورة وإذا كان المراد بالآية بعض الأمة فذلك البعض غير معين ولا معلوم فلا يكون قوله حجة. والجواب عن السؤال الأول ما سيأتي في العمومات كيف وأن الآية إنما وردت في معرض التعظيم لهذه الأمة وتمييزها على غيرها من الأمم فلو كانت الآية محمولة على البعض دون البعض لبطلت فائدة التخصيص فإنه ما من أمة إلا وقد أمرت بالمعروف كاتباع أنبيائهم وشرائعهم ونهت عن المنكر كنهيهم عن الإلحاد وتكذيب أنبيائهم. وعن الثاني أنه إما أن تكون كان هاهنا زائدة أو تامة أو زمانية فإن كانت زائدة كما في قول الفرزدق: فكيف إذا مررت بدار قوم وجيران لنا كانوا كرامـا فإنه جعل كراماً نعتاً للجيران وألغى كان فهي دالة على اتصافهم بذلك حالاً لا في الماضي وإن أفادت نصب خير أمة كما في قوله تعالى: "كيف نكلم من كان في المهد صبياً" "مريم 19". وإن كانت تامة وهي التي تكون بمعنى الوقوع والحدوث ويكتفى فيها باسم واحد لا خبر فيه كما في قوله تعالى: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" "البقرة 280" معناه حضر أو وقع ذو عسرة وكقول الشاعر: إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء فيكون معنى قوله: "كنتم خير أمة" "آل عمران 110" أي وجدتم ويكون قوله: "خير أمة" نصباً على الحال فيكون ذلك دليلاً على اتصافهم بذلك في الحال لا في الماضي. وإن كانت زمانية وهي الناقصة التي تحتاج إلى اسم وخبر فكان وإن دلت على الماضي فقوله: "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" "آل عمران 110" يقتضي كونهم كذلك في كل حال لورود ذلك في معرض التعظيم لهذه الأمة على ما سبق تقريره في جواب السؤال الذي قبله. وعن الثالث أن قوله: "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" "آل عمران 110" فعل مضارع صالح للحال والاستقبال ويجب أن يكون حقيقة فيهما على العموم نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ. وعن الرابع أنه إذا سلم كون الآية حجة في إجماع الصحابة فهو كاف إذ هو من جملة صور النزاع. وعن الخامس إن الخطاب إذا كان مع الأمة كان ذلك حجة في ما وجد من أمرهم ونهيهم جملة وذلك هو المطلوب وإن لم يكن ذلك حجة في الأفراد. الآية الرابعة قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" "آل عمران 103" ووجه الاحتجاج بها أنه تعالى نهى عن التفرق ومخالفة الإجماع تفرق فكان منهياً عنه ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته فإن قيل: لا نسلم وجود صيغة النهي وإن سلمناها ولكن لا نسلم أن النهي يدل على التحريم كما سيأتي تقريره في النواهي سلمنا دلالة النهي على التحريم ولكن لا نسلم عموم النهي عن التفرق في كل شيء بل التفرق في الاعتصام بحبل الله إذ هو المفهوم من الآية ولهذا فإنه لو قال القائل لعبيده: ادخلوا البلد أجمعين ولا تتفرقوا فإنه يفهم منه النهي عن التفرق في دخول البلد وما لم يعلم أن ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله فلا يكون التفرق منهياً عنه سلمنا أن النهي عام في كل تفرق ولكنه مخصوص بما قبل الإجماع فإن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه وإذا كانت الظنون والآراء مختلفة كان التفرق مأمورا به لا منهياً عنه والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة على ما سيأتي سلمنا صحة الاحتجاج به لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يكون متناولاً لمن بعدهم وإجماع الموجودين في زمن النبي غير محج به في زمانه إجماعاً ولا تحقق لوجودهم بجملتهم بعد وفاته حتى يكون إجماعهم حجة على ما سبق تقريره. والجواب عن السؤال الأول والثاني ما سيأتي في النواهي. وعن الثالث: أن قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعاً" "آل عمران 103" أمر بالاعتصام بحبل الله وقوله: "ولا تفرقوا" "آل عمران 103" نهي عن التفرق في كل شيء ويجب الحمل عليه وإلا كان النهي عن التفرق في الاعتصام بحبل الله مفيداً لما أفاده الأمر بالاعتصام به فكان تأكيداً والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد. وعن الرابع: بيان كون العام حجة بعد التخصيص كما يأتي في العمومات وعلى هذا فيبقى حجة في امتناع التفرق بعد الإجماع وفي امتناع مخالفة من وجد بعد أهل الإجماع لهم وهو المطلوب. وعن الخامس: بأن الأمر والنهي إنما هو مع أهل كل عصر بتقدير وجودهم وفهمهم على ما سيأتي تقريره في الأوامر. الآية الخامسة قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" "النساء 59" ووجه الاحتجاج بالآية أنه شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة والمشروط على العدم عند عدم الشرط وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة: ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى هذا. فإن قيل: سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند الاتفاق على الحكم بناء على الكتاب والسنة أو من غير بناء عليهما فإن كان الأول فالكتاب والسنة كافيان في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع وإن كان الثاني ففيه تجويز وقوع الإجماع من غير دليل وذلك محال مانع من صحة الإجماع كيف وإنا لا نسلم انتفاء الشرط فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا وجد التنازع ممن تأخر من المجتهدين لإجماع المتقدمين. قلنا: وإن كان الإجماع لا بد له من دليل فلا نسلم انحصار دليله في الكتاب والسنة ليصح ما ذكروه لجواز أن يكون مستندهم في ذلك إنما هو القياس والاستنباط على ما يأتي بيانه وإن سلمنا انحصار دليل الإجماع في الكتاب والسنة ولكن ليس في ذلك ما يدل على عدم اكتفاء من وجد بعد أهل الإجماع أو اكتفاء من وجد في عصرهم من المقلدة بإجماعهم عن معرفة الكتاب والسنة. وأما السؤال الثاني فمشكل جداً واعلم أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع ومن زعم أن المسألة قطعية فاحتجاجه فيها بأمر ظني غير مفيد للمطلوب وإنما يصح ذلك على رأي من يزعم أنها اجتهادية ظنية.
هذا ما يتعلق بالكتاب وأما السنة وهي أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة فمن ذلك ما روى أجلاء الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة كقوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على الخطأ أمتي لا تجتمع على الضلالة ولم يكن الله بالذي يجمع أمتي على الضلالة لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ وسألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيه" وقوله "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" "يد الله على الجماعة" ولا يبالي بشذود من شذ ومن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم "وإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد" "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يظهر أمر الله ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم خلاف من خالفهم" "ومن خرج عن الجماعة وفارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" "ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية عليكم بالسواد الأعظم" وقوله "تفترق أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة" قيل يا رسول الله ومن تلك الفرقة قال "هي الجماعة" إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا تحصى كثيرة ولم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة معمولاً بها لم ينكرها منكر ولا دفعها دفع. فإن قيل هذه كلها أخبار آحاد تبلغ مبلغ التواتر ولا تفيد اليقين وإن سلمنا التواتر ولكن يحتمل أنه أراد به الخطأ والضلالة عن الأمة عصمة جميعهم عن الكفر لا بتأويل ولا شبهة ويحتمل أنه أراد بهم عصمتهم عن الخطأ في الشهادة في الآخرة أو فيما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد سلمنا دلالة هذه الأخبار على عصمتهم عن كل خطأ وضلال لكن يحتمل أنه أراد بالأمة كل من آمن به إلى يوم القيامة وأهل كل عصر ليسوا كل الأمة فلا يلزم امتناع الخطأ والضلال عليهم سلمنا انتفاء الخطأ والضلال عن الإجماع في كل واحد من الأعصار ولكن لم قلتم إنه يكون حجة على المجتهدين وأنه لا تجوز مخالفته مع أن كل مجتهد في الفرعيات مصيب على ما يأتي تحقيقه ولا يجب على أحد المصيبين اتباع المصيب الآخر سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ودليله ما سبق من الآيات والأخبار والمعقول في الآية الأولى. والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد يجوز تطرق الكذب إليه إلا أن كل عاقل يجد من نفسه العلم الضروري من جملتها قصد رسول الله عليه السلام تعظيم هذه الأمة وعصمتها عن الخطأ كما علم بالضرورة سخاء حاتم وشجاعة علي وفقه الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم وميل رسول الله إلى عائشة دون باقي نسائه بالأخبار التي آحادها آحاد غير أنها نازلة منزلة التواتر. الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة ومن بعدهم متمسكاً بها فيما بينهم في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها ولا نكير إلى زمان وجود المخالفين والعادة جارية بإحالة اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف هممهم ودواعيهم ومذاهبهم على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من أصول الشريعة وهو الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد على فساده وإبطاله وإظهار النكير فيه. فإن قيل من المحتمل أن أحداً أنكر هذه الأخبار ولم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال فلا قطع قولكم إن الصحابة والتابعين استدلوا بها على الإجماع لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون استدلالهم على الإجماع لا بهذه الأحاديث بل بغيرها سلمنا استدلالهم بها على ذلك لكنه دور لما فيه من الاستدلال بالأحاديث على الإجماع والاستدلال على صحة الأحاديث بالإجماع ثم ما ذكرتموه في الدلالة على صحتها من عدم النكير معارض بما يدل على عدم صحتها وذلك أنها لو كانت معلومة الصحة مع أن الحاجة داعية إلى معرفتها لبناء هذا الأصل العظيم عليها لإحالة العادة أن لا تعرف الصحابة للتابعين طريق صحتها قطعاً للشك والارتياب.
قلنا جواب الأول: أن الإجماع من أعظم أصول الدين فلو وجد فيما يستدل به عليه نكير لاشتهر ذلك فيما بينهم وعظم الخلاف فيه كاشتهار خلافهم فيما هو دونه من مسائل الفروع كاختلافهم في دية الجنين وقوله أنت علي حرام وحد الشرب ومسائل الجد والأخوة إلى غير ذلك ولو كان كذلك لكانت العادة تحيل عدم نقله بل كان نقله أولى من نقل ما خولف فيه من مسائل الفروع بل أولى من نقل خلاف النظام في ذلك مع خفائه وقلة الاعتبار بقوله. وجواب الثاني: ما ظهر واشتهر من تمسك الصحابة والتابعين والاحتجاج بهذه الأخبار في معرض التهديد لمخالف الجماعة والزجر عن الخروج عنهم ظهوراً لا ريب فيه. وجواب الثالث: أن الاستدلال على صحة الأخبار لم يكن بالإجماع بل بالعادة المحيلة لعدم الإنكار على الاستدلال بما لا صحة له فيما هو من أعظم أصول الأحكام والاستدلال بالعادة غير الاستدلال بالإجماع وذلك كالاستدلال بالعادة على إحالة دعوى وجود معارض للقرآن واندراسه ووجود دليل يدل على إيجاب صلاة الضحى وصوم شوال ونحوه. وجواب الرابع: أنه يحتمل أن تكون الصحابة قد علمت صحة الأخبار المذكورة وكونها مفيدة للعلم بعصمة الأمة لا بصريح مقال بل بقرائن أحوال وأمارات دالة على ذلك لا سبيل إلى نقلها ولو نقلت لتطرق إليها التأويل والاحتمال واكتفوا بما يعلمه التابعون من أن العادة تحيل الاعتماد على ما لا أصل له فيما هو من أعظم الأصول قولهم: يحتمل أنه نفى عنهم الضلال والخطأ بمعنى الكفر. قلنا: هذه الأخبار نعلم أنها إنما وردت تعظيماً لشأن هذه الأمة في معرض الامتنان والإنعام عليهم وفي حملها على نفي الكفر عنهم خاصة إبطال فائدة اختصاصهم بذلك لمشاركة بعض آحاد الناس للأمة في ذلك وإنما يصح ذلك أن لو أراد بها العصمة عما لا يعصم عنه الآحاد من أنواع الخطأ والكذب ونحوه وما ذكروه من باقي التأويلات فباطل فإن فائدة هذه الأخبار إنما وردت لإيجاب متابعة الأمة والحث عليه والزجر عن مخالفته ولو لم يكن ذلك محمولاً على جميع أنواع الخطأ بل على بعض غير معلوم من ألفاظ الأخبار لامتنع إيجاب متابعتهم فيه لكنه غير معلوم ولبطلت فائدة تخصيص الأمة بما ظهر منه قصد تعظيمها لمشاركة آحاد الناس لهم في نفي بعض أنواع الخطأ عنهم على ما سبق تعريفه وعن السؤال الثالث: ما سبق في المسائل المتقدمة. وعن الرابع: أنه إذا ثبت انتقاء الخطأ عن الإجماع فيما ذهبوا إليه قطعاً فمخالفه يكون مخطئاً قطعاً والمخطئ قطعاً في أمور الدين إذا كان عالماً به لا يخرج عن التبديع والتفسيق ولا معنى لكون الإجماع حجة على الغير سوى ذلك كيف وإنه إذا ثبت انتفاء الخطأ عن أهل الإجماع فيما ذهبوا إليه فقد أجمعوا على وجوب اتباعهم فيما ذهبوا إليه فكان واجباً نفياً للخطأ عنهم وعن المعارضات النقلية ما سبق في أول المسألة. وأما المعقول فهو أن الخلق الكثير وهم أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم قضية وجزموا به جزماً قاطعاً فالعادة تحيل على مثلهم الحكم الجزم بذلك والقطع به وليس له مستند قاطع بحيث لا يتنبه واحد منهم إلى الخطأ في القطع بما ليس بقاطع ولهذا وجدنا أهل كل عصر قاطعين بتخطئة مخالف ما تقدم من إجماع من قبلهم ولولا أن يكون ذلك عن دليل قاطع لاستحال في العادة اتفاقهم على القطع بتخطئة المخالف ولا يقف واحد منهم على وجه الحق في ذلك ومن سلك هذه الطريقة المعنوية لم ير انعقاد الإجماع عندما إذا كان عدد المجمعين ينقص عن عدد التواتر ويلزمه أن لا يكون الإجماع المحتج به خصيصاً بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين بل هو عام في إجماع كل من بلغ عددهم عدد التواتر وإن لم يكونوا مسلمين فضلاً عن أهل الحل والعقد وقد احتج الشيعة على صحة الإجماع بأن ما من عصر إلا ولا بد فيه من إمام معصوم على ما قررناه من قاعدتهم في ذلك في أبكار الأفكار فإذا أجمع أهل الحل والعقد من أهل العصر على حكم حادثة فلا بد وأن يكون فيهم الإمام المعصوم لكونه سيد العلماء وإلا لما كان الاتفاق من جميع أهل الحل والعقد وهو خلاف الفرض وإذا كان كذلك فالإمام المعصوم لا يقول إلا حقاً مقطوعاً به وما وافقه من قول باقي الأمة أيضاً يكون مقطوعاً به لكونه موافقاً للمقطوع به ومخالف القاطع مخط لا محالة.
ولقائل أن يقول: أما الحجة الأولى فالعادة لا تحيل الخطأ على الخلق الكثير بظنهم ما ليس قاطعاً قاطعاً ولهذا فإن اليهود والنصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن حد التواتر قد أجمعوا على تكذيب محمد عليه السلام وإنكار رسالته وليس ذلك إلا لخطئهم في ظن ما ليس قاطعاً قاطعاً وبالجملة فإما أن يقال باستحالة الخطأ عليهم فيما ذهبوا إليه أو لا يقال باستحالته فإن كان الأول لزم أن لا يكون محمد نبياً حقاً لإجماعهم على تكذيبه وإن كان الثاني فهو المطلوب. فإن قيل: ما ذكرتموه في إبطال التمسك هاهنا بالعادة لازم عليكم فيما ذكرتموه في الاحتجاج بالسنة على كون الإجماع حجة فإن حاصله آئل إلى الاحتجاج بالعادة وفيه إبطال ما قررتموه. قلنا: الذي تمسكنا به من العادة إحالة اتفاق الأمة على إسناد المقطوع إلى الأخبار التي مستند العلم بها وبمدلولها السماع المحسوس أو قرائن الأحوال والذي لا نحيله في العادة هاهنا إنما هو الغلط بظن ما ليس مقطوعاً مقطوعاً به فيما هو نظري وطرقه مختلفة وهو غير محسوس ولا مستند العلم به قرائن الأحوال فافترق البابان وأما حجة الشيعة فمبنية على وجود الإمام المعصوم في كل عصر وقد أبطلنا ذلك بالاعتراضات القادحة والإشكالات المشكلة على جهة الوفاء والاستقصاء في موضعه اللائق به من الإمامة في علم الكلام فعليك بمراجعته. المسألة الرابعة اتفق القائلون بكون الإجماع حجة على أنه لا اعتبار بموافقة من هو خارج عن الملة ولا بمخالفته وأنه لا يشترط فيه اتفاق كل أهل الملة إلى يوم القيامة. أما الأول فلأن الإجماع إنما عرف كونه حجة بالأدلة السمعية على ما سبق وهي مع اختلاف ألفاظها لا إشعار لها بإدراج من ليس من أهل الملة في الإجماع ولا دلالة لها إلا على عصمة أهل الملة ولأن الكافر غير مقبول القول فلا يكون قوله معتبراً في إثبات حجة شرعية ولا إبطالها وإذا تم الإجماع دونه فلا اعتبار بمخالفته. وأما الثاني فلأن الإجماع حجة شرعية يستدل به على الأحكام الشرعية فلو اعتبر فيه إجماع كل أهل الملة إلى يوم القيامة لما أمكن الاحتجاج به: أما قبل يوم القيامة فلعدم كمال المجمعين وأما يوم القيامة فلأنه لا تكليف ولا استدلال. المسألة الخامسة ذهب الأكثرون إلى أنه لا اعتبار بموافقة العامي من أهل الملة في انعقاد الإجماع ولا بمخالفته واعتبره الأقلون وإليه ميل القاضي أبي بكر وهو المختار وذلك لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ بما دلت عليه الدلائل السمعية من قبل ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة وإذا كان كذلك فلا يلزم أن تكون العصمة الثابتة للكل ثابتة للبعض لأن الحكم الثابت للجملة لا يلزم أن يكون ثابتاً للأفراد. فإن قيل يجب تخصيص ما ورد من النصوص الدالة على عصمة الأمة بأهل الحل والعقد منهم دون غيرهم لستة أوجه: الأول: إن العامي يلزمه المصير إلى أقوال العلماء بالإجماع فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد فيه. الثاني: أن الأمة إنما كان قولها حجة إذا كان ذلك مستنداً إلى الاستدلال لأن إثبات الأحكام من غير دليل محال والعامي ليس أهلاً للاستدلال والنظر فلا يكون قوله معتبراً كالصبي والمجنون. الثالث: أن قول العامي في الدين من غير دليل خطأ مقطوع به والمقطوع بخطئه لا تأثير لموافقته ولا لمخالفته. الرابع: أن أهل العصر الأول من الصحابة علماؤهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بموافقة العامي ولا بمخالفته. الخامس: أن الأمة إنما عصمت عن الخطأ في استدلالها لأن إثبات الأحكام الشرعية من غير استدلال ودليل خطأ والعامي ليس هو من أهل الاستدلال فلا يتصور ثبوت عصمة الاستدلال في حقه. السادس: هو أن العامي لا يتصور منه الإصابة إذا كان قائلاً بالحكم من غير دليل فلا يتصور عصمته لأن العصمة مستلزمة للإصابة. والجواب عن الوجه الأول: أنه وإن كان يجب على العامي الرجوع إلى أقوال العلماء فليس في ذلك ما يدل على أن أقوال العلماء دونه حجة قاطعة على غيرهم من المجتهدين من بعدهم لجواز أن يكون الاحتجاج بأقوالهم على من بعدهم مشروطاً بموافقة العامة لهم وإن لم يكن ذلك شرطاً في وجوب اتباع العامة فيما لهم يفتون به.
وعن الثاني: أنه وإن كان لا بد في الإجماع من الاستدلال لكن من أهل الاستدلال أو مطلقاً: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فلا يمتنع أن تكون موافقة العامة للعلماء المستدلين شرطاً في جعل الإجماع حجة وإن لم يكن العامي مستدلاً ولا يلزم من عدم اشتراط موافقة الصبيان والمجانين عدم اشتراط موافقة العامة لما بينهما من التفاوت في قرب وإنما المؤثر في حق العامة الموجب للتكليف وبعده في حق الصبيان والمجانين المانع من التكليف. وعن الثالث: أنه وإن كان قول العامي في الدين من غير دليل خطأ فلا يمنع ذلك من كون موافقته للعلماء في أقوالهم شرطاً في الاحتجاج بها على غيرهم. وعن الرابع: أنه دعوى لم يقم عليها دليل. وعن الخامس أن العامي وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يمتنع أن تكون موافقته من غير استدلال شرطاً في كون الإجماع حجة. وعن السادس: أنه وإن كان العامي إذا انفرد بالحكم لا يتصور منه الإصابة فما المانع من تصويبه مع الجماعة بتقدير موافقته لهم في أقوالهم ولا شك أن العامي مصيب في موافقته للعلماء وعلى هذا جاز أن تكون موافقته شرطاً في جعل الإجماع حجة على ما سبق تقريره. وبالجملة فهذه المسألة اجتهادية غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوام فيه يكون قطعياً وبدونهم يكون ظنياً وعلى هذا فمن قال بإدخال العوام في الإجماع قال بإدخال الفقيه الحافظ لأحكام الفروع فيه وإن لم يكن أصولياً وبإدخال الأصولي الذي ليس بفقيه بطريق الأولى لما بينهما وبين العامة من التفاوت في الأهلية وصحة النظر هذا في الأحكام وهذا في الأصول. ومن قال بأنه لا مدخل للعوام في الإجماع اختلفوا في الفقيه والأصولي نفياً وإثباتاً: فمن أثبت نظر إلى ما اشتملا عليه من الأهلية التي لا وجود لها في العامي ودخولهما في عموم لفظ الأمة في الأحاديث السابق ذكرها ومن نفى نظر إلى عدم الأهلية المعتبرة في أئمة أهل الحل والعقد من المجتهدين كالشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ومنهم من فصل بين الفقيه والأصولي وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من اعتبر قول الفقيه الذي ليس بأصولي وألغى قول الأصولي الذي ليس بفقيه ومنهم من عكس الحال واعتبر قول الأصولي دون الفقيه لكونه أقرب إلى مقصود الاجتهاد لعمله بمدارك الأحكام على اختلاف أقسامها وكيفية دلالاتها وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها ومفهومها ومعقولها بخلاف الفقيه ومن اعتبر قول الأصولي والفقيه اعتبر قول من بلغ رتبة الاجتهاد وإن لم يكن مشتهراً بالفتوى بطريق الأولى وذلك كواصل بن عطاء ونحوه وفيه خلاف والمتبع في ذلك كله ما غلب على ظن المجتهد. المسألة السادسة المجتهد المطلق إذا كان مبتدعاً لا يخلو إما أن لا يكفر ببدعته أو يكفر فإن كان الأول فقد اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفته نفياً وإثباتاً ومنهم من قال: الإجماع لا ينعقد عليه بل على غيره فيجوز له مخالفة إجماع من عداه ولا يجوز ذلك لغيره والمختار أنه لا ينعقد الإجماع دونه لكونه من أهل الحل والعقد وداخلاً في مفهوم لفظ الأمة المشهود لهم بالعصمة وغايته أن يكون فاسقاً وفسقه غير مخل بأهلية الاجتهاد والظاهر من حاله فيما يخبر به عن اجتهاده الصدق كإخبار غيره من المجتهدين كيف وإنه قد يعلم صدق الفاسق بقرائن أحواله في مباحثاته وفلتات لسانه وإذا علم صدقه وهو مجتهد كان كغيره من المجتهدين. فإن قيل: إذا كان فاسقاً فالفاسق غير مقبول القول إجماعاً فيما يخبر به فكان كالكافر والصبي ولأنه لا يجوز تقليده فيما يفتي به فلا يعتبر خلافه كالصبي. قلنا: إنما لا يقبل قوله فيما يخبر به إذا لم يكن متأولاً وكان عالماً بفسقه وأما إذا لم يكن كذلك فلا وعلى هذا فلا نسلم امتناع قبول فتواه بالنسبة إلى من ظهر صدقه عنده وأما الصبي فإنما لم يعتبر قوله لعدم أهليته بخلاف ما نحن فيه.
وإن كان الثاني فلا خلاف في أنه غير داخل في الإجماع لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه وعلى هذا فلو خالف في مسألة فرعية وبقي مصراً على المخالفة حتى تاب عن بدعته فلا أثر لمخالفته لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه كما لو أسلم ثم خالف إلا على رأي من يشترط في الإجماع انقراض عصر المجمعين ولو ترك بعض الفقهاء العمل بالإجماع بخلاف هذا المبتدع المكفر فهو معذور إن لم يعلم ببدعته ولا يؤاخذ بالمخالفة كما إذا عمل الحاكم بشهادة شاهد الزور من غير علم بتزويره وإن علم ببدعته وخالف الإجماع لجهله بأن تلك البدعة مكفرة فهو غير معذور لتقصيره عن البحث والسؤال عن ذلك لعلماء الأصول العارفين بأدلة الإيمان والتكفير حتى يحصل له العلم بذلك بدليله إن كانت له أهلية فهمه وإلا قلدهم فيما يخبرون به من التكفير وأما ماذا يكفر به من البدع فقد استقصينا الكلام فيه في حكايات مذاهب أهل الملل والنحل في أبكار الأفكار فعليك بمراجعته. المسألة السابعة ذهب الأكثرون من القائلين بالإجماع إلى أن الإجماع المحتج به غير مختص بإجماع الصحابة بل إجماع أهل كل عصر حجة خلافاً لداود وشيعته من أهل الظاهر ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. والأول هو المختار ويدل عليه أن حجة كون الإجماع حجة غير خارجة كما ذكرناه من الكتاب والسنة والمعقول وكل واحد منها لا يفرق بين أهل عصر وعصر بل هو متناول لأهل كل عصر حسب تناوله لأهل عصر الصحابة فكان إجماع أهل كل عصر حجة. فإن قيل: حجة كون الإجماع حجة غير خارجة عن الآيات والأخبار السابق ذكرها وقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" "آل عمران 110" وقوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" "البقرة 143" خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا يكون متناولاً لغيرهم وقوله تعالى: "ويتبع غير سبيل المؤمنين" "النساء 115" والأخبار الدالة على عصمة الأمة خاصة بالصحابة الموجودين في زمن النبي عليه السلام إذا هم كل المؤمنين وكل الأمة فإن من لم يوجد بعد لا يكون موصوفاً بالإيمان وبكونه من الأمة وأما التابعون وكذلك من بعدهم إذا أجمعوا على حكم فليس هم كل المؤمنين ولا كل الأمة فلا يكون الخطاب متناولاً لهم وحدهم بل مع من تقدم من المؤمنين قبلهم ضرورة اتصافهم بذلك حالة وجودهم وبموتهم لم يخرجوا عن كونهم من المؤمنين ومن الأمة وكذلك فإنه لو ذهب واحد من الصحابة إلى حكم واتفق التابعون على خلافه لم يكن إجماعهم منعقداً ولو خرج بموته عن الأمة والمؤمنين لما كان كذلك وإذا لم يكن التابعون كل الأمة ولا كل المؤمنين فما اتفقوا عليه لا يكون هو قول كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون حجة وسواء وجد لمن تقدم قول أو لم يوجد فمخالفهم لا يكون مخالفاً لكل الأمة ولا لكل المؤمنين فلا يكون بذلك مستحقاً للذم والتوعد سلمنا دلالة الآيات والأخبار على انعقاد إجماع من بعد الصحابة حجة لكنه معارض بما بدل على عدمه وبيانه من ستة أوجه: الأول: أن إجماع التابعين لا بد له من دليل وذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً. فإن كان إجماع من تقدم فالحكم ثابت بإجماع الصحابة لا بإجماع التابعين وإن كان قياساً فيستدعي أن يكون متفقاً عليه بين جميع التابعين ليكون مناط إجماعهم وليس كذلك لوقوع الخلاف فيه فيما بينهم. وإن كان نصاً فلا بد وأن تكون الصحابة عالمة به ضرورة أنه لا طريق إلى معرفة التابعين به إلا من جهة الصحابة ولو كان ذلك دليلاً يمكن التمسك به في إثبات الحكم لما تصور تواطئ الصحابة على تركه وإهماله. الثاني: هو أن الأصل أن لا يرجع إلى قول أحد سوى الصادق المؤيد بالمعجزة لتطرق الخطأ والكذب إلى من عداه غير أنه لما ورد الثناء من النبي عليه السلام على الصحابة بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" والذم لأهل الأعصار المتأخرة بقوله عليه السلام: "ثم يفشو الكذب وأن الرجل يصبح مؤمناً ويمسي كافراً" وأن الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ويشهد قبل أن يستشهد وأن الناس يكونون كالذئاب إلى غير ذلك من أنواع الذم التي سبق ذكرها أوجب قصر الاحتجاج على إجماع الصحابة دون غيرهم.
الثالث: أن الاحتجاج بالإجماع إنما يمكن بعد الاطلاع على قول كل واحد من أهل الحل والعقد ومعرفته في نفسه وذلك إنما يتصور في حق الصحابة لأن أهل الحل والعقد منهم كانوا معروفين مشهورين محصورين لقلتهم وانحصارهم في قطر واحد بخلاف التابعين ومن بعدهم لكثرتهم وتشتتهم في البلاد المتباعدة. الرابع: أن الإجماع من الصحابة واقع على أن كل مسألة لا تكون مجمعاً عليها ولا فيها نص قاطع أنه يجوز الاجتهاد فيها فإذا لم يكن إجماع من الصحابة ولا ثم نص قاطع وإلا لما ساغ من الصحابة تركه وإهماله فتكون المسألة مجمعاً على جواز الاجتهاد فيها منهم فلو أجمع التابعون على حكم تلك المسألة فإن منعنا من اجتهاد غيرهم فيها فقد خرقنا إجماع الصحابة وإن جوزنا فإجماع التابعين لا يكون حجة وهو المطلوب. الخامس: أنه لو كان في الأمة من هو غائب فإنه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي ولا إثبات لا ينعقد الإجماع دونه في تلك المسألة لكونه لو كان حاضراً لكان له فيها قول فكذلك الميت من الصحابة قبل التابعين. السادس: أنه لو كان قد خالف واحد من الصحابة فإن إجماع التابعين بعده لا ينعقد وإذا لم ينقل خلاف من تقدم لا ينعقد الإجماع لاحتمال أن أحداً ممن تقدم خالف ولم ينقل خلافه وإذا احتمل واحتمل فالإجماع لا يكون متيقناً. والجواب عن السؤال الأول: قولهم في الآيات إنها خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام يلزمهم عليه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجوداً عند نزول هذه الآيات لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت نزولها وأن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزولها لكونه خارجاً عن المخاطبين وقد أجمعنا على أن إجماع من بقي من الصحابة بعد رسول الله يكون حجة قولهم: التابعون ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين يلزم عليه أن لا ينعقد إجماع من بقي من الصحابة بعد موت رسول الله لأن من مات من الصحابة أو استشهد في حياة رسول الله داخل في مسمى المؤمنين والأمة وهو خلاف المجمع عليه بين القائلين بالإجماع وليس ذلك إلا لأن الماضي إذا لم يكن له قول غير معتبر كما أن المستقبل غير منتظر وعلى هذا فنقول: إنه إذا ذهب واحد من الصحابة إلى حكم في مسألة ثم مات وأجمع التابعون على خلافه في تلك المسألة فقد قال بعض الأصوليين إنه ينعقد إجماع التابعين ولا اعتبار بقول الماضي وليس بحق لأنه يلزم منه أنه إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ماتوا وأجمع التابعون على خلاف إجماع الماضين أنه ينعقد وهو محال مخالف لإجماع القائلين بالإجماع وإنما الحق في ذلك أن يقال: إذا حكم الواحد من الصحابة بحكم ثم حكم التابعون بخلافه فحكم التابعين ليس هو حكم جميع الأمة المعتبرين في تلك المسألة التي وقع الخوض فيها وإن كان حكمهم في مسألة لم يتقدم فيها خلاف بعض الصحابة فهو حكم كل الأمة المعتبرين وهذا كما لو أفتى الصحابي بحكم ثم مات وأجمع باقي الصحابة على خلافه فإنه لا ينعقد إجماعهم وإن انعقد إجماعهم إذا مات من غير مخالفة لأن حكمهم في الأول ليس هو حكم كل الأمة المعتبرين بخلاف حكمهم في الثاني. والجواب عن المعارضة الأولى أنه وإن كان دليل التابعين معلوماً للصحابة غير أنه لا يمتنع أن تكون واقعة الحكم لم تقع في زمن الصحابة فلم يتعرضوا لحكمها وإنما وقعت في زمن التابعين فتعرضوا لإثبات حكمها بناء على ما وجدوه من الدليل الذي كان معلوماً للصحابة. وعن الثانية أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة لا تفرق بين أهل عصر وعصر وقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" لا يدل على عدم الاهتداء بغيرهم إلا بطريق مفهوم اللقب والمفهوم ليس بحجة فضلاً عن مفهوم اللقب على ما سيأتي في مسائل المفهوم. وكذلك الكلام في قوله: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" كيف وأن ذلك مما يوجب كون إجماع أبي بكر وعمر مع مخالفة باقي الصحابة لهم حجة قاطعة وهو خلاف الإجماع من الصحابة. قولهم إنه ذم أهل الأعصار المتأخرة قلنا غاية ما في ذلك غلبة ظهور الفساد والكذب وليس فيه ما يدل على خلو كل عصر ممن تقوم الحجة بقوله وأنه إذا اتفق أهل ذلك العصر على حكم لا يكونون معصومين عن الخطأ فيه. وعن الثالثة ما سبق في مسألة تصور الاطلاع على إجماعهم ومعرفتهم.
وعن الرابعة أنه إن أجمع الصحابة على تجوير الخلاف مطلقاً فلا يتصور انعقاد إجماع التابعين على الحكم في تلك المسألة لما فيه من التعارض بين الإجماعين القاطعين وإن أجمعوا على تسويغ الاجتهاد مشروطاً بعدم الإجماع فلا تناقض. وعن الخامسة أنها منتقضة بالواحد من الصحابة فإنه لو مات انعقد الإجماع من باقي الصحابة دونه ولو كان غائباً لم ينعقد وإنما كان كذلك لأن الغائب في الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة بخلاف الميت. وعن السادسة أنها باطلة بالميت الأول من الصحابة فإنه يحتمل أنه خالف ولم ينقل خلافه ومع ذلك فإن إجماع باقي الصحابة بعده يكون منعقداً كيف وأن النظر إلى مثل هذه الاحتمالات البعيدة مما لا التفات إليه وإلا لما انعقد إجماع الصحابة لاحتمال أن يكون واحد منهم قد أظهر الموافقة وأبطن المخالفة لأمر من الأمور كما نقل عن ابن عباس في موافقته لعمر في مسألة العول وإظهار النكير بعده. المسألة الثامنة اختلفوا في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد وذهب محمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخياط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه إلى انعقاده وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد بالإجماع دونه وإلا كان معتداً به وقال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتداً به كخلاف ابن عباس في مسألة العول وإن أنكرت الجماعة عليه ذلك كخلاف ابن عباس في المتعة والمنع من تحريم ربا الفضل لم يكن خلافه معتداً به ومنهم من قال أن قول الأكثر يكون حجة وليس بإجماع ومنهم من قال أن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه. والمختار مذهب الأكثرين ويدل عليه أمران: الأول أن التمسك في إثبات الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة في السنة الدالة على عصمة الأمة على ما سبق تقريره وعند ذلك فلفظ الأمة في الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين من المسلمين في أي عصر كان ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر منهم: غير أن حمله على الجميع مما يوجب العمل بالإجماع قطعاً لدخول العدد الأكثر في الكل ولا كذلك إذا حمل على الأكثر فإنه لا يكون الإجماع مقطوعاً به لاحتمال إرادة الكل والأكثر ليس هو الكل. الثاني أنه قد جرى مثل ذلك في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير الأخذ به لما كان كذلك فمن ذلك اتفاق أكثر الصحابة على امتناع قتال ما نعي الزكاة مع خلاف أبي بكر لهم وكذلك خلاف أكثر الصحابة لما انفرد به ابن عباس في مسألة العول وتحليل المتعة وأنه لا ربا إلا في النسيئة وكذلك خلافهم لابن مسعود فيما انفرد به في مسائل الفرائض ولزيد بن أرقم في مسألة العينة ولأبي موسى في قوله: النوم لا ينقض الوضوء ولأبي طلحة في قوله بأن أكل البرد لا يفطر إلى غير ذلك. ولو كان إجماع الأكثر حجة لبادروا بالإنكار والتخطئة وما وجد منهم من الإنكار في هذه الصور لم يكن إنكار تخطئة بل إنكار مناظرة في المأخذ كما جرت عادة المجتهدين بعضهم مع بعض ولذلك بقي الخلاف الذي ذهب إليه الأقلون جائزاً إلى وقتنا هذا وربما كان ما ذهب إليه الأقل هو المعول عليه الآن كقتال مانعي الزكاة ولو كان ذلك مخالفاً للإجماع المقطوع به لما كان ذلك سائغاً وقد تمسك بعضهم هاهنا بطريقة أخرى فقال إنه لو انعقد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل فإما أن ينعقد الإجماع عليه فيلزم منه ترك ما علمه بالدليل والرجوع إلى التقليد وذلك في حق المجتهد ممتنع وإن لم ينعقد الإجماع عليه فلا يكون الإجماع حجة مقطوعاً بها فإنه لو كان مقطوعاً به لما ساغت مخالفته بالاجتهاد.
ولقائل أن يقول: إذا فرضنا أن انعقاد الإجماع من الأكثر دون الأقل حجة قاطعة فالقول برجوع المجتهد الواحد إليه وإن كان على خلاف ما أوجبه اجتهاده لا يكون منكراً لما فيه من ترك الاجتهاد بالرجوع إلى الإجماع القاطع ولهذا فإنه لو أجمعت الأمة على حكم ثم جاء من بعدهم مجتهد يرى في اجتهاده ما يخالف إجماع الأمة السابقة لم يجز له الحكم به بل وجب عليه الرجوع إلى الأمة احتج المخالفون بالنصوص والإجماع والمعقول: أما من جهة النصوص فمنها ما ورد من الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ولفظ الأمة يصح إطلاقه على أهل العصر وإن شذ منهم الواحد والاثنان كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر فكان إجماعهم حجة لدلالة النصوص عليه ومنها قوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم عليكم بالجماعة" "يد الله مع الجماعة" "إياكم والشذوذ" والواحد والاثنان بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ "الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد" ونحو ذلك من الأخبار. وأما الإجماع فهو أن الأمة اعتمدت في خلافة أبي بكر على انعقاد الإجماع عليه لما اتفق عليه الأكثرون وإن خالف في ذلك جماعة كعلي وسعد بن عبادة ولولا أن إجماع الأكثر حجة مع مخالفة الأقل لما كانت إمامة أبي بكر ثابتة بالإجماع. وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه: الأول: أن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم عدد التواتر يفيد العلم فليكن مثله في باب الاجتهاد والإجماع. الثاني: أن الكثرة يحصل بها الترجيح في رواية الخبر فليكن مثله في الاجتهاد. الثالث: أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد والاثنين لما انعقد الإجماع أصلاً لأنه ما من إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين فيه إما سراً وإما علانية. الرابع: أن الإجماع حجة في العصر الذي هم فيه وفيما بعد وذلك يقتضي أن يكون فيهم مخالف حتى يكون حجة عليه. الخامس: أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافه في ربا الفضل في النقود وتحليل المتعة والعول ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه فإنه ليس للمجتهد الإنكار على المجتهد. والجواب: قولهم: لفظ الأمة يصح إطلاقه على الأكثر. قلنا بطريق المجاز ولهذا يصح أن يقال: إذا شذ عن الجماعة واحد ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد وعلى هذا فيجب حمل لفظ الأمة على الكل لكون الحجة فيه قطعية لما بيناه في حجتنا وعلى هذا فيجب حمل قوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" على جميع أهل العصر لأنه لا أعظم منه. فإن قيل: فظاهر هذا الخبر يقتضي أن يكون السواد الأعظم حجة على من ليس من السواد الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في عصرهم مخالف لهم. قلنا: هو حجة على من يأتي بعدهم أقل عدداً منهم وعلى هذا يكون الجواب عن قوله: "عليكم بالجماعة يد الله على الجماعة" وحيث قال عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" إنما أراد به انعقاد جماعة الصلاة بهما وقوله: "إياكم والشذوذ" قلنا: الشاذ هو المخالف بعد الموافقة لا من خالف قبل الموافقة وقوله: "الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد" أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ولهذا قال: "والثلاثة ركب". وما ذكروه في عقد الإمامة لأبي بكر فلا نسلم أن الإجماع معتبر في انعقاد الإمامة بل البيعة بمحضر من عدلين كافية كيف وإنا لا نسلم عدم انعقاد إجماع الكل على بيعة أبي بكر فإن كل من تأخر عن البيعة إنما تأخر لعذر وطرؤ أمر مع ظهور الموافقة منه بعد ذلك وقد استقصينا الكلام في هذا المعنى في الإمامة من علم الكلام. والجواب: عن الحجة الأولى من المعقول أنه إن كان صدق الأكثر فيما يخبرون به عن أمر محسوس مفيد للعلم فلا يلزم مثله في الإجماع الصادر عن الاجتهاد مع أن الاحتجاج فيه إنما هو بقول الأمة والأكثر ليس هم كل الأمة على ما سبق ثم لو كان كل من أفاد خبره اليقين يكون قوله إجماعاً محتجاً به لوجب أن يكون إجماع كل أهل بلد محتجاً به مع مخالفة أهل البلد الآخر لهم لأن خبر أهل كل بلد يفيد العلم.
وعن الثانية أنه لا يلزم من الترجيح بالكثرة في الرواية التي يطلب منها غلبة الظن دون اليقين مثله في الإجماع مع كونه يقينياً كيف وإنه لو اعتبر في الإجماع ما يعتبر في الرواية لكان مصير الواحد إلى الحكم وحده إجماعاً كما أن روايته وحده مقبولة وليس كذلك. وعن الثالثة أن الاحتجاج بالإجماع إنما يكون حيث علم الاتفاق من الكل إما بصريح المقال أو قرائن الأحوال وذلك ممكن حسب إمكان العلم باتفاق الأكثر وأما حيث لا يعلم فلا وإن قيل إن ذلك غير ممكن فمثله أيضاً جار في الأكثر ويلزم من ذلك أن لا ينعقد الإجماع أصلاً وهو خلاف الأصلين. وعن الرابعة أنه يكون حجة على من خالف منهم بعد الوفاق في زمنهم وعلى من يوجد بعدهم ثم إن كان الإجماع لا يكون حجة إلا مع الخلاف فليزم منه أنه إذا لم يكن خلاف لا يكون إجماع وهو ظاهر الإحالة. وعن الخامسة أن إنكار الصحابة على ابن عباس فيما ذهب إليه لم يكن بناء على إجماعهم واجتهادهم بل بناء على مخالفة ما رووه له من الأخبار الدالة على تحريم ربا الفضل ونسخ المتعة على ما جرت به عادة المجتهدين في مناظراتهم والإنكار على مخالفة ما ظهر لهم من الدليل حتى يبين لهم المأخذ من جانب الخصم وذلك كما قال ابن عباس: من شاء باهلني باهلته والذي أحصى رمل عالج عدداً ما جعل الله في الفريضة نصفاً ونصفاً وثلثاً هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث وقال آخر: ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وليس ذلك لأن العود إلى قوله واجب على من خالفه بل بمعنى طلب الكشف عن مأخذ المخالفة وإذا عرف أنه لا يكون اتفاق الأكثر إجماعاً فيمتنع أن يكون حجة لخروجه عن الأدلة المتفق عليها وهي النص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس وعدم دليل يدل على صحة الاحتجاج به ولذلك لا يكون أولى بالاتباع لأن الترجيح بالكثرة وإن كان حقاً في باب رواية الأخبار لما فيه من ظهور أحد الظنين على الآخر فلا يلزم مثله في باب الاجتهاد لما فيه من ترك ما ظهر له من الدليل لما لم يظهر له فيه دليل أو ظهر غير أنه مرجوح في نظره. المسألة التاسعة اختلفوا في التابعي إذا كان من أهل الاجتهاد في عصر الصحابة هل ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته أم لا فمنهم من قال: لا ينعقد بإجماعهم مع مخالفته ثم اختلف هؤلاء. فمن لم يشترط انقراض العصر قال إن كان من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة لا يعتد بخلافه وهذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة ومذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. ومن شرط انقراض العصر قال لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته سواء كان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم أو صار مجتهداً بعد إجماعهم لكن في عصرهم. وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلاً وهو مذهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في رواية. والمختار أنه إن كان من أهل الاجتهاد حالة إجماع الصحابة لا ينعقد إجماعهم دون موافقته وقد استدل كثير من أصحابنا بقولهم إن الصحابة سوغت للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الحادثة في عصرهم كسعيد بن المسيب وشريح القاضي والحسن البصري ومسروق وأبي وائل والشعبي وسعيد بن جبير وغيرهم حتى إن عمر وعلياً وليا شريحاً القضاء ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه وحكم على علي في خصومة عرضت له عنده على خلاف رأي علي ولم ينكر عليه. وروي عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة فقال: اسألوا سعيد بن جبير فإنه أعلم بها مني وسئل الحسين بن علي كرم الله وجهه عن مسألة فقال: اسألوا الحسن البصري وسئل ابن عباس عن نذر ذبح الولد فقال: اسألوا مسروقاً فلما أتاه السائل بجوابه اتبعه. وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: تذاكرت أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس: عدتها أبعد الأجلين وقلت أنا: عدتها أن تضع حملها وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع أبي هريرة إلى غير ذلك من الوقائع.
ولو كان قول التابعي باطلاً لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع إليه وفي هذه الحجة نظر فإن لقائل أن يقول: إنما كان الاجتهاد مسوغاً للتابعي عند اختلاف الصحابة ولا يلزم من الاعتداد بقوله مع الاختلاف الاعتداد بقوله مع الاتفاق وهو محل النزاع ولهذا فإن قول التابعي معتبر بعد انقراض عصر الصحابة إذا لم يكن منهم اتفاق وغير معتبر إذا كان على خلاف اتفاقهم. والمعتمد في ذلك أن يقال: الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة إنما هي الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ على ما سبق وهذا الاسم لا يصدق عليهم مع خروج التابعين المجتهدين عنهم فإنه لا يقال إجماع جميع الأمة بل إجماع بعضهم فلا يكون حجة احتج الخصوم بالنص والمعقول والآثار: أما النص فقوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" وقوله: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" وقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". وأما المعقول فهو أن الصحابة لهم مزية الصحبة وشهادة التنزيل وسماع التأويل وأنهم مرضي عنهم على ما قال تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" وقد قال النبي في حقهم: "لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهباً لما بلغ مد أحدهم" وذلك يدل على أن الحق معهم لا مع مخالفهم. وأما الآثار فمنها أن علياً عليه السلام نقض على شريح حكمه في ابني عم أحدهما أخ لأم لما جعل المال كله للأخ ومنها ما روي عن عائشة أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم وزجرته عن ذلك وقالت: فروج يصيح مع الديكة. والجواب عن النصوص ما سبق في مسألة انعقاد إجماع غير الصحابة. وعن المعقول: قولهم إن الصحابة لهم مزية الصحبة والفضيلة والدرجة الرفيعة قلنا: لو كان ذلك مما يوجب اختصاص الإجماع بهم لما اعتبر قول الأنصار مع المهاجرين ولا قول المهاجرين مع قول العشرة ولا قول باقي العشرة مع قول الخلفاء الأربعة ولا قول عثمان وعلي مع قول أبي بكر وعمر ولا قول غير الأهل مع الأهل ولا قول غير الزوجات مع الزوجات لوقوع التفاوت والتفاضل ولم يقل به قائل. وعن الآثار أما نقض علي على شريح حكمه فليس لأن قوله غير معتبر ولهذا فإنه لما حكم عليه في مخاصمته بخلاف رأيه لم ينكر عليه وإنما نقض حكمه بمعنى أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض كما يقال نقض فلان كتاب فلان وكلامه إذا اعترض عليه ويحتمل أنه نقضه بنص اطلع عليه أوجب نقض حكمه. وأما إنكار عائشة على أبي سلمة فيحتمل أنه كان ذلك بخلافه فيما سبق فيه إجماع الصحابة أو لأنه لم يكن قد بلغ رتبة الاجتهاد أو بطريق التأديب مع الصحابة أو لأنها رأت ذلك مذهباً لها فلا حجة فيه. المسألة العاشرة اتفق الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافاً لمالك فإنه قال: يكون حجة ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم ومنهم من قال أراد به أن يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول الله ﷺ. والمختار مذهب الأكثرين وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة على ما عرف في المسائل المتقدمة احتج من نصر مذهب مالك بالنص والمعقول: أما النص فقوله عليه السلام "إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد" والخطأ من الخبث فكان منفياً عنها وقال عليه السلام: "إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" وقال عليه السلام: "لا يكايد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء". وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه: الأول: هو أن المدينة دار هجرة النبي عليه السلام وموضع قبره ومهبط الوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها. الثاني أن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال الرسول من غيرهم فوجب أن لا يخرج الحق عنهم. الثالث: أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان إجماعهم حجة على غيرهم.
والجواب عن النص الأول أنه وإن دل على خلوص المدينة عن الخبث فليس فيه ما يدل على أن من كان خارجاً عنها لا يكون خالصاً عن الخبث ولا على كون إجماع أهل المدينة دونه حجة وتخصيصه للمدينة بالذكر إنما كان إظهاراً لشرفها وإبانة لخطرها وتمييزاً لها عن غيرها لما اشتملت عليه من الصفات المذكورة في الوجه الأول من المعقول وهو الجواب عن باقي النصوص. وعن الوجه الأول من المعقول أن غايته اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها وليس في ذلك ما يدل على انتفاء الفضيلة عن غيرها ولا على الاحتجاج بإجماع أهلها ولهذا فإن مكة أيضاً مشتملة على أمور موجبة لفضلها كالبيت المحترم والمقام وزمزم والحجر المستلم والصفا والمروة ومواضع المناسك وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه ومولد إسماعيل ومنزل إبراهيم ولم يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها على مخالفيهم إذ لا قائل به وإنما الاعتبار بعلم العلماء واجتهاد المجتهدين ولا أثر للبقاع في ذلك. وعن الوجه الثاني أن ذلك لا يدل على انحصار أهل العلم فيها والمعتبرين من أهل الحل والعقد ومن تقوم الحجة بقولهم فإنهم كانوا منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم فيما يرجع إلى النظر والاعتبار سواء ولهذا قال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ولم يخصص ذلك بموضع دون موضع لعدم تأثير المواضع في ذلك. وعن الوجه الثالث أنه تمثيل من غير دليل موجب للجمع بين الرواية والدراية كيف وإن الفرق حاصل وذلك من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن الرواية يرجح فيها بكثرة الرواة حتى إنه يجب على كل مجتهد الأخذ بقول الأكثر بعد التساوي في جميع الصفات المعتبرة في قبول الرواية ولا كذلك في الاجتهاد فإنه لا يجب على أحد من المجتهدين الأخذ بقول الأكثر من المجتهدين ولا بقول الواحد أيضاً. وأما من جهة التفصيل فهو أن الرواية مستندها السماع ووقوع الحوادث المروية في زمن النبي عليه السلام وبحضرته ولما كان أهل المدينة أعرف بذلك وأقرب إلى معرفة المروي كانت روايتهم أرجح. وأما الاجتهاد فإن طريقه النظر والبحث بالقلب والاستدلال على الحكم وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ولا يختلف باختلاف الأماكن وعلى ما ذكرناه فلا يكون إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة حجة على مخالفيهم وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل. المسألة الحادية عشرة لا يكفي في انعقاد الإجماع اتفاق أهل البيت مع مخالفة غيرهم لهم خلافاً للشيعة للدليل السابق في المسائل المتقدمة احتج المثبتون بالكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" "الأحزاب 33" أخبر بذهاب الرجس عن أهل البيت بإنما وهي للحصر فيهم وأهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين ويدل على هذا أنه لما نزلت هذه الآية أدار النبي عليه السلام الكساء على هؤلاء وقال: "هؤلاء أهل بيتي" والخطأ والضلال من الرجس فكان منتفياً عنهم. وأما السنة فقوله عليه السلام: "إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي" حصر التمسك بهما فلا تقف الحجة على غيرهما. وأما المعقول فهو أن أهل البيت اختصوا بالشرف والنسب وأنهم أهل بيت الرسالة ومعدن النبوة والوقوف على أسباب التنزيل ومعرفة التأويل وأفعال الرسول وأقواله لكثرة مخالطتهم له عليه السلام وأنهم معصومون عن الخطأ على ما عرف في موضعه من الإمامة والآية المذكورة أولاً فكانت أقوالهم وأفعالهم حجة على غيرهم بل قول الواحد منهم ضرورة عصمته عن الخطأ كما في أقوال النبي عليه السلام وأفعاله.
والجواب عن التمسك بالآية أنها إنما نزلت في زوجات النبي عليه السلام لقصد دفع التهمة عنهن وامتداد الأعين بالنظر إليهن ويدل على ذلك أول الآية وآخرها وهو قوله تعالى: "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً" "الأحزاب 32" إلى قوله "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" "الأحزاب 33" وقوله عليه السلام: "هؤلاء أهل بيتي" لا ينافي كون الزوجات من أهل البيت ويدل عليه الآية المخاطبة لهم بأهل البيت. والخبر وهو ما روي عن أم سلمة أنها قالت للنبي عليه السلام: "ألست من أهل البيت" قال: "بلى إن شاء الله". فإن قيل: لو كان المراد بقوله: "ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" الزوجات لقال عنكن. قلنا: إنما قال عنكم لأن أول الآية وإن كان خطاباً مع الزوجات غير أنه لما خاطبهن بأهل البيت أدخل معهن غيرهن من الذكور كعلي والحسن والحسين فجاء بخطاب التذكير لأن الجمع إذا اشتمل على مذكر ومؤنث غلب جمع التذكير وصار كما في قوله تعالى في حق زوجه إبراهيم: "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا: أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت" "هود 71 - 72" فكان ذلك عائداً إليها وإلى من حواه بيت إبراهيم من ذكر وأنثى. وعن الخبر أنه من باب الآحاد وعندهم أنه ليس بحجة وإن كان حجة ولكن لا نسلم أن المراد بالثقلين الكتاب والعترة بل الكتاب والسنة على ما روي أنه قال: "كتاب الله وسنتي" وإن كان كما ذكروه غير أنه أمكن حمله على الرواية عنه عليه السلام وروايتهم حجة ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة وإنما خصهم بذلك لأنهم أخبر بحاله من أقواله وأفعاله. ثم ما ذكروه معارض بقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" وبقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وبقوله: "خذوا شطر دينكم عن الحميراء" وليس العمل بما ذكرتموه أولى مما ذكرناه. وعن المعقول أما اختصاصهم بالشرف والنسب فلا أثر له في الاجتهاد واستنباط الأحكام من مداركها بل المعول في ذلك إنما هو على الأهلية للنظر والاستدلال ومعرفة المدارك الشرعية وكيفية استثمار الأحكام منها وذلك مما لا يؤثر فيه الشرف ولا قرب القرابة. وأما كثرة المخالطة للنبي عليه السلام فذلك مما يشارك العترة فيه الزوجات ومن كان يصحبه من الصحابة في السفر والحضر من خدمه وغيرهم وأما العصمة فلا يمكن التمسك بها لما بيناه في الكتب الكلامية. وأما الآية فقد بينا أن المراد بنفي الرجس إنما هو نفي الظنة والتهمة عن زوجات النبي عليه السلام وذلك بمعزل عن الخطأ والضلال في الاجتهاد والنظر في الأحكام الشرعية وعلى هذا فقد بطل أن يكون قول الواحد منهم أيضاً حجة ويؤيد ذلك أن عليا عليه السلام لم ينكر على أحد ممن خالفه فيما ذهب إليه من الأحكام ولم يقل له إن الحجة فيما أقول مع كثرة مخالفيه ولو كان ذلك منكراً فقد كان متمكناً من الإنكار فيما خولف فيه في زمن ولايته وظهور شوكته فتركه لذلك يكون خطأ منه ويخرج بذلك عن العصمة وعن وجوب اتباعه فيما ذهب إليه. المسألة الثانية عشرة لا ينعقد إجماع الأئمة الأربعة مع وجود المخالف لهم من الصحابة عند الأكثرين خلافاً لأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وللقاضي أبي حازم من أصحاب أبي حنيفة وكذلك لا ينعقد إجماع الشيخين أبي بكر وعمر مع مخالفة غيرهما لهما خلافاً لبعض الناس ودليل ذلك ما سبق في المسائل المتقدمة. حجة من قال بانعقاد إجماع الأئمة الأربعة قوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" أوجب اتباع سنتهم كما أوجب اتباع سنته والمخالف لسنته لا يعتد بقوله فكذلك المخالف لسنتهم. وحجة من قال بانعقاد إجماع الشيخين قوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر".
والجواب عن الخبر الأول أنه عام في كل الخلفاء الراشدين ولا دلالة فيه على الحصر في الأئمة الأربعة وإن دل على الحصر فهو معارض بقوله عليه السلام: "أصابي كالنجوم" الحديث وليس العمل بأحد الخبرين أولى من الآخر وإذا تعارض الخبران سلم لنا ما ذكرناه وبهذا يبطل الاستدلال بالخبر الآخر أيضاً. المسألة الثالثة عشرة اختلفوا في اشتراط عدد التواتر في الإجماع فمن استدل على كون الإجماع حجة بدلالة العقل وهو أن الجمع الكثير لا يتصور تواطئهم على الخطأ كإمام الحرمين وغيره فلا بد من اشتراط ذلك عنده لتصور الخطأ على من دون عدد التواتر وأما من احتج على ذلك بالأدلة السمعية فقد اختلفوا: فمنهم من شرطه ومنهم من لم يشترطه والحق أنه غير مشترط لما بيناه من أن إثبات الإجماع بطريق العقل غير متصور وأنه لا طريق إليه سوى الأدلة السمعية من الكتاب والسنة وعلى هذا فمهما كان عدد الإجماع أنقص من عدد التواتر صدق عليهم لفظ الأمة والمؤمنين وكانت الأدلة السمعية موجبة لعصمتهم عن الخطأ عليهم ووجب اتباعهم. فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يصح بتقدير عود عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر وذلك غير متصور مهما دام التكليف من الله تعالى بدين الإسلام وذلك لأن التكليف به إنما يكون مع قيام الحجة على ذلك والحجة على ذلك إنما تكون بالنقل المفيد لوجود محمد وتحديه بالرسالة وما ورد على لسانه من معجز الكتاب والسنة وأدلة الأحكام يقيناً ولا يفيد ذلك غير التواتر من أخبار المسلمين لعدم نقل غيرهم لذلك ومبالغتهم في محو ذلك وإعدامه. سلمنا إمكان انتفاء التكليف مع عود عدد المجمعين إلى ما دون عدد التواتر ولكن ما دون عدد التواتر مما لا يعلم إسلامهم وإيمانهم بأقوالهم ومن لا يعلم إيمانه لا يعلم صدقه في الخبر عن الدين. سلمنا إمكان حصول العلم بأقوال من عددهم دون عدد التواتر فلو لم يبق من الأمة سوى واحد هل تقوم الحجة بقوله أم لا؟ والجواب عن الأول أنا إن قلنا إن أهل الإجماع هم أهل الحل والعقد فلا يلزم من نقصان عددهم عن عدد التواتر انقطاع الحجة بالتكليف لإمكان حصول المعرفة بذلك من أخبار المجتهدين والعامة جميعاً فإنه ليس من شرط التواتر أن يكون ناقله مجتهداً وإن قلنا إن العوام داخلة في الإجماع ومع ذلك فعدد الجميع دون عدد التواتر فلا يلزم أيضاً انقطاع ذلك لإمكان إدامة الله ذلك بأخبار المسلمين وأخبار الكفار معهم وإن كانوا لا يعترفون بنبوة محمد عليه السلام وبخبر العدد القليل لاحتفاف القرائن المفيدة للعلم بأخبارهم ويدل على ذلك قوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي تقوم بالحق حتى يأتي أمر الله" وبتقدير عدم ذلك كله فانقطاع التكليف وانتهاء الإسلام غير ممتنع عقلاً ولا شرعاً ولذلك قال عليه السلام: "أول ما يفقد من دينكم الأمانة وآخر ما يفقد الصلاة" وقال عليه السلام: "إن الله لا ينزع العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فإذا سئلوا أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". وعن السؤال الثاني أنه لا بعد في حصول العلم بخبرهم بما يحتف به من القرائن بل ولا بعد في ذلك وأن كان المخبر واحداً وأن يخلق الله لنا العلم الضروري بذلك. وعن السؤال الثالث أن ذلك مما اختلف فيه جواب الأصحاب فمنهم من قال إن قوله يكون حجة متبعة لأنه إذا لم يوجد من الأمة سواه صدق عليه إطلاق لفظ الأمة ودليله قوله تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً" "النحل 120" أطلق لفظ الأمة عليه وهو واحد والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذا كان أمة كانت النصوص السابق ذكرها متناولة له حسب تناولها للجمع الكثير ومنهم من أنكر ذلك مصيراً منه إلى أن لفظ الإجماع مشعر بالاجتماع وأقل ما يكون ذلك من اثنين فصاعداً. المسألة الرابعة عشرة اختلفوا فيما إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وعرف به أهل عصره ولم ينكر عليه منكر: هل يكون ذلك إجماعاً؟ فذهب أحمد بن حنبل وأكثر أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي والجبائي إلى أنه إجماع وحجة لكن من هؤلاء من شرط في ذلك انقراض العصر كالجبائي وذهب الشافعي إلى نفي الأمرين وهو منقول عن داود وبعض أصحاب أبي حنيفة وذهب أبو هاشم إلى أنه حجة وليس بإجماع وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أنه إن كان ذلك حكماً من حاكم لم يكن إجماعاً وإن كان فتياً كان إجماعاً وقد احتج النافون لكونه إجماعاً بأن سكوت من سكت يحتمل أن يكون لأنه موافق ويحتمل أنه لم يجتهد بعد في حكم الواقعة ويحتمل أنه اجتهد لكن لم يؤده اجتهاده إلى شيء وإن أدى اجتهاده إلى شيء فيحتمل أن يكون ذلك الشيء مخالفاً للقول الذي ظهر لكنه لم يظهره: إما للتروي والتفكر في ارتياد وقت يتمكن من إظهاره وإما لاعتقاده أن القائل بذلك مجتهد ولم ير الإنكار على المجتهد لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب أو لأنه سكت خشية ومهابة وخوف ثوران فتنة كما نقل عن ابن عباس أنه وافق عمر في مسألة العول وأظهر النكير بعده وقال هبته وكان رجلاً مهيباً وإما لظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار وهو مخطئ فيه ومع هذه الاحتمالات فلا يكون سكوتهم مع انتشار قول المجتهد فيما بينهم إجماعاً ولا حجة. وأما حجة ابن أبي هريرة أن العادة جارية بأن الحاضر مجالس الحكام يحضر على بصيرة من خلافهم له فيما ذهب إليه من غير إنكار لما في الإنكار من الافتيات عليهم ولأن حكم الحاكم يقطع الخلاف ويسقط الاعتراض بخلاف قول المفتي فإن فتواه غير لازمة ولا مانعة من الاجتهاد وفي هاتين الحجتين نظر: أما الأولى فما ذكر فيها من الاحتمالات وإن كانت منقدحة عقلاً فهي خلاف الظاهر من أحوال أرباب الدين وأهل الحل والعقد أما احتمال عدم الاجتهاد في الواقعة فبعيد من الخلق الكثير والجم الغفير لما فيه من إهمال حكم الله تعالى فيما حدث مع وجوبه عليهم وإلزامهم به وامتناع تقليدهم لغيرهم مع كونهم من المجتهدين فإنه معصية والظاهر عدم ارتكابها من المتدين المسلم وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شيء من الأحكام فبعيد أيضاً لأن الظاهر أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وإمارات تدل عليه والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد إنما هو الاطلاع عليها والظفر بها. وأما احتمال تأخير الإنكار للتروي والتفكر وإن كان جائزاً غير أن العادة تحيل ذلك في حق الجميع ولا سيما إذا مضت عليهم أزمنة كثيرة حتى انقرض العمر من غير نكير. وأما احتمال السكوت عنه لكونه مجتهداً فذلك مما لا يمنع من مباحثته ومناظرته وطلب الكشف عن مأخذه لا بطريق كالعادة الجارية من زمن الصحابة إلى زمننا هذا بمناظرة المجتهدين وأئمة الدين فيما بينهم لتحقيق الحق وإبطال الباطل كمناظرتهم في مسائل الجد والأخوة وقوله: أنت علي حرام والعول ودية الجنين ونحو ذلك من المسائل. وأما احتمال التقية فبعيد أيضاً وذلك لأن التقية إنما يكون فيما يحتمل المخافة ظاهراً وليس كذلك لوجهين: الأول أن مباحث المجتهدين غير مستلزمة لذلك وذلك لأن الغالب من حال المجتهد وهو من سادات أرباب الدين أن مباحثته فيما ذهب إليه لا توجب خيفة على نفسه ولا حقداً في صدره تخاف عاقبته إذ هو خلاف مقتضى الدين. الثاني أنه إما أن يكون خاملاً غير مخوف فلا تقية بالنسبة إليه وإن كان ذا شوكة وقوة كالإمام الأعظم فمحاباته في ذلك تكون غشاً في الدين والكلام معه فيه يعد نصحاً والغالب إنما هو سلوك طريق النصح وترك الغش من أرباب الدين كما نقل عن علي في رده على عمر في عزمه على إعادة الجلد على أحد الشهود على المغيرة بقوله: إن جلدته فأرجم صاحبك ورد معاذ عليه في عزمه على جلد الحامل بقوله: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلاً فما جعل لك على ما في بطنها سبيلاً حتى قال عمر: لولا معاذ لهلك عمر ومن ذلك رد المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة في مهور النساء بقولها أيعطينا الله تعالى بقوله: "وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً" "النساء 20" ويمنعنا عمر حتى قال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته ومن ذلك قول عبيدة السلماني لعلي عليه السلام لما ذكر أنه قد تجدد له رأي في بيع أمهات الأولاد: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك إلى غير ذلك من الوقائع.
وأما حجة ابن أبي هريرة فإنما تصح بعد استقرار المذاهب وأما قبل ذلك فلا نسلم أن السكوت لا يكون إلا عن رضى. وعلى هذا فالإجماع السكوتي ظني والاحتجاج به ظاهر لا قطعي. المسألة الخامسة عشرة إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم في مسألة ولم ينتشر بين أهل عصره لكنه يعرف له مخالف هل يكون إجماعاً؟ اختلفوا فيه والأكثر على أنه ليس بإجماع وهو المختار وذلك لأنه إنما يتخيل كونه إجماعاً من أهل العصر إذا علموا بقوله وسكتوا عن الإنكار على ما تقدم في المسألة التي قبلها وأما إذا لم يعلموا به فيمتنع رضاهم به أو سخطهم ومع ذلك فيحتمل أن لا يكون لهم في تلك المسألة قول لعدم خطورها ببالهم وإن كان لهم فيها قول احتمل أن يكون موافقاً للمنقول إلينا واحتمل أن يكون مخالفاً له احتمالاً على السواء ومن لا قول له في نفس الأمر في المسألة أو له قول لكنه متردد بين الموافقة والمخالفة فلا تتحقق منه الموافقة والإجماع وإذا لم يكن ذلك إجماعاً فهل يكون ما نقل إلينا من قول الصحابي حجة متبعة أو لا فسيأتي الكلام فيه فيما بعد. المسألة السادسة عشرة اختلفوا في انقراض العصر: هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا؟ فذهب أكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة إلى أنه ليس بشرط. وذهب أحمد بن حنبل والأستاذ أبو بكر بن فورك إلى اعتباره شرطاً ومن الناس من فصل وقال: إن كان قد اتفقوا بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما لا يكون انقراض العصر شرطاً وإن كان الإجماع بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره فيما بينهم فهو شرط وهذا هو المختار. لكن قد احتج القائلون بعدم الاشتراط بمسلكين ضعيفين لا بد من الإشارة إليهما ووجه ضعفهما ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. المسلك الأول: أنهم قالوا: وقع الإجماع على كون الإجماع حجة بعد انقراض العصر إذا لم يوجد لهم مخالف فالحجة إما أن تكون في نفس الاتفاق أو نفس انقراض العصر أو مجموع الأمرين لا جائز أن يقال بالثاني وإلا كان انقراض العصر دون الاتفاق حجة وهو محال ولا جائز أن يقال بالثالث وإلا كان موتهم مؤثراً في جعل أقوالهم حجة وهو محال كما في موت النبي عليه السلام فلم يبق سوى الأول وهو ثابت قبل انقراض العصر وذلك هو المطلوب. ولقائل أن يقول: ما المانع أن تكون الحجة في اتفاقهم مشروطاً بعدم المخالف لهم في عصرهم ولا يخفى أن دعوى إحالة ذلك غير محل النزاع ولا يلزم من عدم اشتراط عدم مخالفة النبي عليه السلام في صحة الاحتجاج بقوله عدم اشتراط ذلك فيما نحن فيه إذ هو تمثيل من غير جامع صحيح كيف والفرق حاصل من جهة أن قول النبي مستند إلى الوحي على ما قال تعالى: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" "النجم 3" وقول غيره ليس عن وحي حتى يقع في مقابلة قوله وأما قول غيره فمستند إلى الاجتهاد وقول المخالف له أيضاً مستند إلى الاجتهاد وليس أحدهما أولى من الآخر فافترقا. المسك الثاني: هو أن القول باشتراط انقراض العصر يفضي إلى عدم تحقق الإجماع مطلقاً مع كونه حجة متبعة وكل شرط أفضى إلى إبطال المشروط المتفق على تحقيقه كان باطلاً. وبيان ذلك أن من اشترط انقراض العصر جوز لمن حدث من التابعين لأهل ذلك العصر إذا كان من أهل الاجتهاد مخالفتهم وشرط في صحة إجماعهم موافقته لهم وإذا صار التابعي من أهل الإجماع فقد لا ينقرض عصرهم حتى يحدث تابع التابعي والكلام فيه كالكلام في الأول وهلم جراً إلى يوم القيامة ومع ذلك فلا يكون الإجماع متحققاً في عصر من الأعصار. ولقائل أن يقول: القائلون باشتراط انقراض العصر اختلفوا في إدخال من أدرك المجمعين من التابعين لهم في إجماعهم: فذهب أحمد بن حنبل إلى أنه لا مدخل للتابعي في إجماع أهل ذلك العصر في إحدى الروايتين عنه مع أنه يشترط انقراض العصر وفائدة اشتراطه لذلك إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم عما حكموا به أولاً لا لجواز وجود مجتهد آخر وعلى هذا فالإشكال يكون مندفعاً وبتقدير تسليم دخول التابع لهم في إجماعهم فلا يمتنع أن يكون الشرط هو انقراض عصر المجمعين عند حدوث الحادثة واعتبار موافقة من أدرك ذلك العصر من المجتهدين لا عصر من أدرك عصرهم وعلى هذا فالإشكال لا يكون متجهاً.
والمعتمد في ذلك أن يقال: إذا اتفق إجماع أمة عصر من الأعصار على حكم حادثة فهم كل الأمة بالنسبة إلى تلك المسألة وتجب عصمتهم في ذلك عن الخطأ على ما سبق من النصوص في مسألة إثبات كون الإجماع حجة وذلك غير متوقف على انقراض عصرهم هذا فيما إذا اتفقوا على الحكم بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما. وأما إن حكم واحد بحكم وانتشر حكمه فيما بينهم وسكتوا عن الإنكار وإن كان الظاهر الموافقة على ما سبق تقريره فذلك مما لا يمنع من إظهار بعضهم المخالفة في وقت آخر لاحتمال أن يكون في مهلة النظر وقد ظهر له الدليل عند ذلك ويدل على ظهور هذا الاحتمال إظهاره للمخالفة فإنه لو كان سكوته عن موافقة ودليل لكان الظاهر عدم مخالفته لذلك الدليل وأما إن حدث تابعي مخالف مع إصرار الباقين على السكوت فالظاهر أنه لا يعتد بمخالفته في مقابلة الإجماع الظاهر. احتج المخالفون بالنص والآثار والمعقول: أما النص فقوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" "البقرة 143" ووجه الدلالة أنه جعلهم حجة على الناس ومن جعل إجماعهم مانعاً لهم من الرجوع فقد جعلهم حجة على أنفسهم. وأما الآثار فمنها ما روي عن علي عليه السلام أنه قال اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا تباع أمهات الأولاد والآن فقد رأيت بيعهن أظهر الخلاف بعد الوفاق ودليله قول عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك وقول عبيدة دليل سبق الإجماع ومنها أن عمر خالف ما كان عليه أبو بكر والصحابة في زمانه من التسوية في القسم وأقره الصحابة أيضاً على ذلك ومنها أن عمر حد الشارب ثمانين وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من الحد أربعين. وأما المعقول فمن أربعة أوجه: الأول أن إجماعهم ربما كان عن اجتهاد وظن ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده وإلا كان الاجتهاد مانعاً من الاجتهاد وهو ممتنع وذلك لأن العادة جارية بأن الرأي والنظر عند المراجعة وتكرر النظر يكون أوضح وأصح ويدل عليه قوله تعالى: "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" "هود 27" جعلوا بادي الرأي ذماً وطعناً فلا يجوز أن يكون محكماً على الرأي الثاني. الوجه الثاني أنه لو لم تعتبر المخالفة في عصرهم لبطل مذهب المخالف لهم في عصرهم بموته لأن من بقي بعده كل الأمة وذلك خلاف الإجماع. الوجه الثالث أن قول الجماعة لا يزيد على قول النبي عليه السلام ووفاة النبي شرط في استقرار الحجة فيما يقوله فاشتراط ذاك في استقرار قول الجماعة أولى. الوجه الرابع أنه لو لم يشترط انقراض العصر وإلا فبتقدير أن يتذكر واحد منهم أو جماعة منهم أو جملتهم حديثاً عن رسول الله على خلاف إجماعهم فإن جاز رجوعهم إليه كان الإجماع الأول خطأ وإن لم يجز الرجوع كان استمرارهم على الحكم مع ظهور دليل يناقضه وهو أيضاً خطأ ولا مخلص منه إلا باشتراط انقراض العصر والجواب عن الآية من وجهين: الأول أنه لا يلزم من وصفهم بأنهم شهداء على الناس وحجة على غيرهم امتناع كون أقوالهم حجة على أنفسهم إلا بطريق المفهوم ولا حجة فيه على ما يأتي بل ربما كان قبول قولهم على أنفسهم أولى من قبوله على غيرهم لعدم التهمة وتكون فائدة التخصيص التنبيه بالأدنى على الأعلى ولهذا فإنه قد يقبل إقرار المرء على نفسه وإن كان لا تقبل شهادته على غيره. الثاني أن المراد بجعلهم شهداء على الناس في يوم القيامة بإبلاغ الأنبياء إليهم فلا يكون ذلك حجة فيما نحن فيه. وعن الآثار: أما قول علي فليس فيه ما يدل على اتفاق الأمة وإلا قال: رأيي ورأي الأمة والذي يدل على ذلك أنه قد نقل أن جابر بن عبد الله كان يرى جواز بيعهن في زمن عمر ومع مخالفته فلا إجماع وقول السلماني ليس فيه أيضاً ما يدل على اتفاق الجماعة على ذلك لأنه يحتمل أنه أراد به رأيك مع رأي الجماعة ويحتمل أنه أراد به رأيك في زمن الجماعة والألفة والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة وتشتيت الكلمة نفياً للتهمة عن علي في تطرقها إليه في مخالفة الشيخين وبتقدير أن يكون علي قد خالف بعد انعقاد الإجماع فلعله كان ممن يرى اشتراط انقراض العصر ولا حجة في قول المجتهد الواحد في محل النزاع.
وأما قضية التسوية فلا نسلم أن عمر خالف فيها بعد الوفاق فإنه روي أنه خالف أبا بكر في ذلك في زمانه وقال له: أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وإنما أجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر وإنما فضل في زمانه وعود الأمر إليه لأنه كان مصراً على المخالفة. وأما حده للشارب ثمانين فغايته أنه خالف الإجماع السكوتي ونحن نقول بجواز ذلك لكونه كان من جملة الساكتين على ما بيناه في المسألة المتقدمة. وعن الحجة الأولى من المعقول أنه وإن كان مصير كل واحد من المجتهدين إلى الحكم عن اجتهاد وظن ولكن بعد اتفاقهم على الحكم إنما يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد أن لو لم يصر الحكم بإجماعهم قطعياً وأما إذا صار قطعياً فيمتنع العود عنه وتركه بالاجتهاد الظني وهذا بخلاف العود عن الاجتهاد الظني بالاجتهاد الظني. وعن الثانية أنه قد ذهب بعض من نص هذا المذهب إلى إبطال مذهب المخالف بموته وقال بانعقاد إجماع من بقي ومنهم من قال إنما لم يبطل مذهبه ولا ينعقد الإجماع بعده لأن من بعده ليس هم كل الأمة بالنسبة إلى هذه المسألة التي خالف فيها الميت فإن فتواه لا تبطل بموته وهو الحق. وعن الثالثة بالفرق بين النبي عليه السلام والأمة أن قوله إنما لم يستقر قبل موته لإمكان نسخه من الله تعالى وهو مرتقب وذلك إنما هو بالوحي القاطع ورفع القاطع بالقاطع على طريق النسخ غير ممتنع بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد. وعن الرابعة أن ما فرضوه من تذكر الخبر المخالف لإجماعهم فهو فرض محال بل الله تعالى يعصم الأمة عن الإجماع على خلاف الخبر وذلك يوجب إما عدم الخبر المخالف أو أن يعصم الراوي له عن النسيان إلى تمام انعقاد الإجماع وعلى هذا يكون الحكم فيما يقال من اطلاع التابعين على خبر مخالف للإجماع السابق. المسألة السابعة عشرة اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافاً لطائفة شاذة فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند وقد احتج النافون لذلك بمسالك: المسلك الأول إنهم قالوا مع فقد الدليل والمستند لا يجب الوصول إلى الحق أي لا يلزم ولقائل أن يقول: متى لا يلزم ذلك إذا لم تجمع الأمة على الحكم أو إذا أجمعت؟ الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع فإنه ما المانع أنهم إذا اتفق إجماعهم أن يوفقهم الله تعالى للصواب ضرورة استحالة إجماعهم على الخطأ لما سبق في المسالك السمعية والكلام إنما هو في جواز ذلك لا في وقوعه. المسلك الثاني إن الصحابة ليسوا بآكد حالاً من النبي عليه السلام ومعلوم أنه لا يقول ولا يحكم إلا عن وحي على ما نطق به النص فالأمة أولى أن لا تقول إلا عن دليل ولقائل أن يقول: إذا دل الدليل على امتناع الخطأ على الرسول فيما يقول وكذلك الأمة فلو قال الرسول قولاً وحكم بحكم عن غير دليل لما كان إلا حقاً ضرورة استحالة الخطأ عليه غير أنه امتنع منه الحكم والقول من غير دليل لقوله تعالى: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" "النجم 3" وأما الأمة فقد دل الدليل على استحالة الخطأ عليهم فيما أجمعوا عليه ولم يدل على أنهم لا يحكمون إلا عن دليل فافترقا. المسلك الثالث إنه لو جاز أن يحكموا من غير مستند لجاز ذلك لكل واحد منهم فإنهم إنما يجمعون على الحكم بأن يقول كل واحد به ولو جاز ذلك لآحادهم لم يكن للجمع في ذلك مزية على الآحاد. ولقائل أن يقول: المزية للجمع على الآحاد من وجهين: الأول أن إجماعهم يكون حجة بخلاف قول كل واحد من الآحاد الثاني أن جواز ذلك للآحاد مشروط بضم قول الباقي إليه لا أنه جائز من غير ضم ولا كذلك قول الجميع فإنه جائز على الإطلاق. المسلك الرابع إن القول في الدين من غير دلالة ولا أمارة خطأ فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك محال قادح في الإجماع ولقائل أن يقول: متى يكون ذلك خطأ إذا لم تجمع الأمة عليه أو إذا أجمعت؟ الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع.
المسلك الخامس إن المقالة إذا لم تستند إلى دليل لا يعلم انتسابها إلى وضع الشارع وما يكون كذلك لا يجوز الأخذ به ولقائل أن يقول: إما أن يراد بأنه لا يعرف انتسابها إلى وضع الشارع أنه لا يعرف ذلك عن دليل شرعي أو أنه لا يعلم كونها مصيبة لحكم الشارع أو معنى آخر: الأول مسلم وهذا هو عين صورة الواقع المختلف فيه والثاني دعوى محل النزاع والثالث فلا بد من تصويره والدلالة عليه. المسلك السادس أنه لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد في قول المجمعين معنى وهو محال لأن اشتراط الاجتهاد مجمع عليه ولقائل أن يقول: الاجتهاد مشترط لا حالة الإجماع أو حالة الإجماع الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع فإن الخصم إذا قال بجواز الإصابة وامتناع الخطأ على الإجماع من غير دليل كيف يسلم اشتراط الاجتهاد في مثل هذه الصورة فهذه جملة ما ظفرت به من مسالك النافين وليس شيء منها موجباً لاستبعاد مقالة المخالف والحكم ببعده عن الصواب وأما المثبتون فقد احتجوا بمسلكين: الأول أن الإجماع حجة فلو افتقر في جعله حجة إلى دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة في إثبات الحكم المجمع عليه ولم يكن في إثبات كون الإجماع حجة فائدة وهو باطل من ثلاثة أوجه. الأول أنه أمكن أن يقال فائدة كون الإجماع حجة جواز الأخذ به وإسقاط البحث عن ذلك الدليل وحرمة المخالفة الجائزة قبل الاتفاق. الثاني أن ما ذكروه يوجب عدم انعقاد الإجماع عن الدليل ولم يقولوا به. الثالث أنه ينتقض بقول الرسول فإنه حجة بالاتفاق مع أنه لا يقول ما يقوله إلا عن دليل وهو ما يوحى به إليه على ما نطق به النص. المسلك الثاني استدلالهم بالواقع وهو أنهم قالوا: قد انعقد الإجماع من غير دليل كإجماعهم على أجرة الحمام وناصب الحباب على الطريق وأجرة الحلاق وأخذ الخراج ونحوه. ولقائل أن يقول: لا نسلم وقوع شيء من الإجماعات إلا عن دليل غايته أنه لم ينقل الاكتفاء بالإجماع عنه وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالواجب أن يقال: إنهم إن أجمعوا عن غير دليل فلا يكون إجماعهم إلا حقاً ضرورة استحالة الخطأ عليهم وأما أن يقال إنه لا يتصور إجماعهم إلا عن دليل أو يتصور فذلك مما قد ظهر ضعف المأخذ فيه من الجانبين. المسألة الثامنة عشرة القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اختلفوا في جواز انعقاده عن الاجتهاد والقياس فجوزه الأكثرون لكن اختلفوا في الوقوع نفياً وإثباتاً والقائلون بثبوته اختلفوا فمنهم من قال إن الإجماع مع ذلك يكون حجة تحرم مخالفته وهم الأكثرون ومنهم من قال لا تحرم مخالفته لأن القول بالاجتهاد في ذلك يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه وذهبت الشيعة وداود الظاهري وابن جرير الطبري إلى المنع من ذلك ومن الناس من قال بجواز ذلك بالقياس الجلي دون الخفي. والمختار جوازه ووقوعه وأنه حجة تمتنع مخالفته. أما دليل الجواز العقلي فهو أنا قد وجدنا الخلق الكثير الزائد على عدد التواتر مجمعين على أحكام باطلة لا تستند إلى دليل قطعي ولا دليل ظني كما ذكرناه في مسألة تصور انعقاد الإجماع فجواز انعقاد الإجماع عن الدليل الظني الظاهر أولى كيف وأنا لو قدرنا وقوع ذلك لما لزم عنه لذاته محال عقلاً ولا معنى للجائز سوى هذا. وأما دليل الوقوع فهو أن الصحابة أجمعت على إمامة أبي بكر من طريق الاجتهاد والرأي حتى قال جماعة منهم رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ وقال بعضهم إن تولوها أبا بكر تجدوه قوياً في أمر الله ضعيفاً في بدنه وأيضاً فإنهم اتفقوا على قتال مانعي الزكاة بطريق الاجتهاد حتى قال أبو بكر: والله لا فرقت بين ما جمع الله قال الله "أقيموا الصلاة وآتو الزكاة" وأجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياساً على تحريم لحمه وأجمعوا على إراقة الشيرج والدبس السيال إذا وقعت فيه فأرة وماتت قياساً على فأرة السمن وعلى تأمير خالد بن الوليد في موضع كانوا فيه باجتهادهم وأجمعوا في زمن عمر على حد شارب الخمر ثمانين بالاجتهاد حتى قال علي عليه السلام إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يقام عليه حد المفترين وقال عبد الرحمن بن عوف: هذا حد وأقل الحدود ثمانون وأجمعوا أيضاً بطريق الاجتهاد على جزاء الصيد ومقدار أرش الجناية ومقدار نفقة القريب وعدالة الأئمة والقضاة ونحو ذلك. وإذا ثبت الجواز والوقوع وجب أن يكون حجة متبعة لما ثبت في مسألة كون الإجماع حجة. فإن قيل: ما ذكرتموه من دليل الجواز معارض بما يدل على عدمه وبيانه من خمسة أوجه: الأول أنه ما من عصر إلا وفيه جماعة من نفاة القياس وذلك مما يمنع من انعقاد الإجماع مستنداً إلى القياس. الثاني أن القياس أمر ظني وقوى الناس وأفهامهم مختلفة في إدراك الوقوف عليه وذلك مما يحيل اتفاقهم على إثبات الحكم به عادة كما يستحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد في وقت واحد لاختلاف أمزجتهم. الثالث أن الإجماع دليل مقطوع به حتى إن مخالفه يبدع ويفسق والدليل المظنون الثابت بالاجتهاد على ضده وذلك مما يمنع إسناد الإجماع إليه. الرابع أن الإجماع أصل من أصول الأدلة وهو معصوم عن الخطأ والقياس فرع وعرضة للخطأ واستناد الأصل وما هو معصوم عن الخطأ إلى الفرع وما هو عرضة للخطأ ممتنع. الخامس أن الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد أو قياس لحرمت المخالفة الجائزة بالإجماع وذلك تناقض. وأما ما ذكرتموه من دليل الوقوع فلا نسلم أن إجماعهم في جميع صور الإجماع كان عن القياس والاجتهاد بل إنما كان ذلك عن نصوص ظهرت للمجمعين منها ما ظهر لنا وذلك كتمسك أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله تعالى: "أقيموا الصلاة" "البقرة 43" "وآتوا الزكاة" "آل عمران 5" وباستثناء النبي عليه السلام وهو قوله إلا بحقها من قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وكاستدلال الصحابة على تقديم أبي بكر بفعل النبي عليه السلام حيث قالوا: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ومنها ما لم يظهر لنا للاكتفاء بالإجماع عن نقله. والجواب: عن الوجه الأول أنا لا نسلم وقوع الخلاف في القياس في العصر الأول ليصح ما ذكروه ووجدوه الخلاف بعده في القياس غايته المنع من وقوع انعقاد الإجماع على القياس بعد ظهور الخلاف فيه ولا يمنع من ذلك مطلقاً كيف وهو منقوض بخبر الواحد فإنه مختلف فيه وفي أسباب تزكيته ومع ذلك فقد وافقوا على انعقاد الإجماع بناء عليه. وعن الثاني أن القياس إذا ظهر وعدم الميل والهوى فلا يبعد اتفاق العقلاء عليه ويكون داعياً إلى الحكم به وإن تعذر ذلك في وقت معين لتفاوت أفهامهم وجدهم في النظر والاجتهاد فلا يتعذر ذلك في أزمنة متطاولة كما لا يتعذر اتفاقهم على العمل بخبر الواحد مع أن عدالته مظنونة بما يظهر من الإمارات الدالة عليها والأسباب الموجبة لتزكيته وهذا بخلاف اتفاق الكافة على أكل طعام واحد فإن اختلاف أمزجتهم موجب لاختلاف أغراضهم وشهواتهم ولا داعي لهم إلى الاجتماع عليه كما وجد الداعي لهم عند ظهور القياس إلى الحكم بمقتضاه. وعن الثالث من وجهين: الأول أن الأمة إذا اتفقت على ثبوت حكم القياس فإجماعهم على ذلك يسبقه إجماعهم على صحة ذلك القياس وبذلك يخرج عن كونه ظنياً فإذا استناد الإجماع القطعي إنما هو إلى قطعي لا إلى ظني الثاني أن ما ذكروه ينتقض بما وافقوا عليه من انعقاد الإجماع بناء على خبر الواحد مع كونه ظنياً والإجماع المستند إليه قطعي فما هو الجواب في صورة الإلزام يكون جواباً في محل النزاع. وعن الرابع أن القياس الذي هو مستند الإجماع ليس هو فرعاً للإجماع بل لغيره من الكتاب والسنة وذلك لا يتحقق معه بناء الإجماع على فرعه قولهم إن القياس عرضة للخطأ بخلاف بالإجماع فجوابه ما سبق في جواب الوجه الذي قبله. وعن الخامس أن الإجماع إنما انعقد على جواز مخالفة المجتهد المنفرد باجتهاده كالواحد والاثنين دون اجتهاد الأمة.
قولهم الأمة في الصورة المذكورة إنما أجمعت على نصوص قلنا وإن أمكن التشبث بما أوردوه من النصوص في بعض الصور فما العذر فيما لا يظهر فيه نص مع تصريحهم بالقياس وإلحاق صورة بصورة فيما ذكرناه ولو كان لهم فيها نص لما عدلوا عنه إلى التصريح بالقياس وإذا ثبت جواز انعقاد الإجماع عن القياس وعن غيره من الأدلة الظنية فلو ظهر دليل من الأدلة الظنية ورأينا الأمة قد حكمت بمقتضاه وإن غلب على الظن كونه هو المستند فلا يجب تعينه لجواز أن المستند غيره لتكثر الأدلة في نفس الأمر خلافاً لأبي عبد الله البصري. المسألة التاسعة عشرة إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ اختلفوا فيه: فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك خلافاً لبعض الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر وذلك كما لو قال بعض أهل العصر إن الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيباً يمنع الرد وقال بعضهم بالرد مع العقر فالقول بالرد مجانا قول ثالث وكذلك لو قال بعضهم: الجد يرث جميع المال مع الأخ وقال بعضهم بالمقاسمة فالقول بأنه لا يرث شيئاً قول ثالث وكذلك إذا قال بعضهم: النية معتبرة في جميع الطهارات وقال البعض النية معتبرة في البعض دون البعض فالقول بأنها لا تعتبر في شيء من الطهارات قول ثالث. وفي معنى هذا ما لو قال بعضهم: بجواز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة وقال البعض لا يجوز الفسخ بشيء منها فالقول بالفسخ بالبعض دون البعض قول ثالث وكذلك إذا قال بعضهم في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين للأم ثلث الأصل في المسألتين وقال بعضهم لها ثلث ما يبقي بعد نصيب الزوج والزوجة فالقول بأن لها ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث ما يبقى في المسألة الأخرى قول ثالث. احتج الغزالي على امتناع القول الثالث بأنه لو جاز القول الثالث فإما أن لا يكون له دليل أو له دليل. فإن كان الأول فالقول به ممتنع وإن كان الثاني يلزم منه نسبته الخطأ إلى الأمة بنسبتهم إلى تضييعه والغفلة عنه وهو محال وهو ضعيف فإنه إنما يلزم من ذلك نسبة الأمة إلى الخطأ أن لو كان الحق في المسألة معيناً وهو ليس كذلك على ما سيأتي وإذا كان كل مجتهد مصيباً فالتخطئة تكون ممتنعة. واحتج القاضي عبد الجبار على ذلك بأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت من جهة المعنى على المنع من إحداث قول ثالث لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو بقول مخالفها ويحرم الأخذ بغير ذلك وهو ضعيف أيضاً وذلك لأن الخصم إنما يسلم إيجاب كل واحدة من الطائفتين الأخذ بقولها أو قول مخالفها بتقدير أن لا يكون اجتهاد الغير قد يفضي إلى القول الثالث. والمختار في ذلك إنما هو التفصيل وهو أنه إن كان القول الثالث مما يرفع ما اتفق عليه القولان فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع وذلك كما في مسألة الجارية المشتراة فإنه إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما امتناع الرد والرد مع العقر فالقولان متفقان على امتناع الرد مجاناً فالقول به يكون خرقاً للإجماع السابق وكذلك في مسألة الجد فإنه إذا اتفقت الأمة على قولين وهما استقلاله بالميراث ومقاسمته للأخ فقد اتفق الفريقان على أن للجد قسطاً من المال فالقول الحادث أنه لا يرث شيئاً يكون خرقاً للإجماع وكذلك في مسألة النية في الطهارة إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما اعتبار النية في جميع الطهارات وعلى اعتبارها في البعض دون البعض فقد اتفق القولان على اعتبارها في البعض فالقول المحدث النافي لاعتبارها مطلقاً يكون خرقاً للإجماع السابق.
وأما إن كان القول الثالث لا يرفع ما اتفق عليه القولان بل وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع وذلك كما لو قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات وقال البعض بنفي اعتبارها في جميع الطهارات فالقول الثالث وهو اعتبارها في البعض دون البعض لا يكون خرقاً للإجماع لأن خرق الإجماع إنما هو القول بما يخالف ما اتفق عليه أهل الإجماع وهاهنا ليس كذلك فإن القائل بالنفي في البعض والإثبات في البعض قد وافق في كل صورة مذهب ذي مذهب فلم يكن مخالفاً للإجماع لا في صورة اعتبار النية لكونه موافقاً لقول من قال باعتبارها في الكل ولا في صورة النفي لكونه موافقاً لمن قال بنفي الاعتبار في الكل وكذلك لو قال بعضهم بأنه لا يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقال بعضهم بجواز قتل المسلم بالذمي وبصحة بيع الغائب فمن قال بجواز قتل المسلم بالذمي وبنفي صحة بيع الغائب أو بالعكس لم يكن خارقاً للإجماع من غير خلاف وكان ذلك جائزاً له وعلى هذا يكون الحكم في مسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة. فإن قيل: فمن قال بالإثبات مطلقاً لم يقل بالتفصيل وكذلك من قال بالنفي مطلقاً فالقول بالتفصيل قول لم يقل به قائل. قلنا: وعدم القائل به مما لا يمنع من القول به وإلا لما جاز أن يحكم واقعة متجددة بحكم إذا لم يكن قد سبق فيها لأحد قول وهو خلاف الإجماع. فإن قيل: فكل من القائلين بالنفي والإثبات مطلقاً قائل بنفي التفصيل فالقول بالتفصيل يكون خرقاً للإجماع. قلنا: لا نسلم ذلك فإن قول كل واحد منهما بنفي التفصيل إما أن يعرف من صريح مقاله أو من قوله بالنفي أو الإثبات مطلقاً: الأول ممنوع حتى أن كل واحد من الفريقين لو صرح بنفي التفصيل لما ساغ القول بالتفصيل والثاني غير مستلزم للقول بنفي التفصيل وإلا لامتنع القول بالتفصيل فيما ذكرناه من مسألة المسلم بالذمي وبيع الغائب وهو ممتنع. فإن قيل: القول بالتفصيل فيه تخطئة كل واحد من الفريقين في بعض ما ذهب إليه وتخطئة الفريقين تخطئة للأمة وذلك محال. قلنا: المحال إنما هو تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه وأما تخطئة كل بعض فيما لم يتفق عليه لا يكون محالاً وعلى هذا يجوز انقسام الأمة إلى قسمين وكل قسم مخطئ في مسألة لما ذكرناه وإن خالف فيه الأكثرون. شبه المخالفين الأولى أن اختلاف الأمة على قولين دليل تسويغ الاجتهاد والقول الثالث حادث عن الاجتهاد فكان جائزاً. الثانية أنهم قالوا: أجمعنا على أن الصحابة لو انقرض عصرهم وكانوا قد استدلوا في مسألة من المسائل بدليلين فإنه يجوز للتابعي الاستدلال بدليل ثالث فكذلك القول الثالث. الثالثة أنهم قالوا: دليل جواز إحداث قول ثالث الوقوع من غير إنكار من الأمة فمن ذلك أن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين فقال ابن عباس للأم ثلث الأصل بعد فرض الزوج والزوجة وقال الباقون للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة وقد أحدث التابعون قولاً ثالثاً فقال ابن سيرين بقول ابن عباس في زوج وأبوين دون الزوجة والأبوين وقال تابعي آخر بالعكس ومن ذلك أن الصحابة اختلفوا في قوله "أنت علي حرام" على ستة أوجه فأحدث مسروق وهو من التابعين مذهباً سابعاً وهو أنه لا يتعلق بقوله حكم. والجواب عن الشبهة الأولى أن ذلك يدل على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم؟ الأول مسلم والثاني ممنوع. وعن الثانية بالفرق وبيانه من وجهين: الأول أن الاستدلال بدليل ثالث يؤكد ما صارت إليه الأمة من الحكم ولا يبطله بخلاف القول الثالث على ما حققناه الثاني أن اتفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ومع ذلك فإن اتفاقهم على حكم واحد مانع من إبداع حكم آخر مخالف له فافترقا.
وعن الثالثة: أما مسألة الزوج والزوجة مع الأبوين فهي من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه الفريقان بل قول ابن سيرين وغيره من التابعين فيما ذهبا إليه غير مخالف للإجماع بل هو قائل في كل صورة بمذهب ذي مذهب كما قررناه وبتقدير أن يكون رافعاً لما اتفق عليه الفريقان فلا يخلو إما أن يكون لم يستقر قول جميع الصحابة على القولين بل قول البعض أو قد استقر عليهما قول جميع الصحابة فإن كان الأول فليس فيه مخالفة الإجماع بل مخالفة البعض وإن كان الثاني فإما أن يكون قد خالفهم في وقت اتفاقهم على القولين أو بعد ذلك فإن كان الأول فهو من أهل الإجماع وقد خالفهم حالة اتفاقهم على القولين فلا يكون بذلك خارقاً للإجماع وإن قدر إحداث قوله بعد ذلك فهو مردود غير مقبول وعدم نقل الإنكار لا يدل على عدمه في نفسه وعلى هذا يكون الجواب في مسألة "أنت علي حرام". المسألة العشرون إذا استدل أهل العصر في مسألة بدليل أو تأولوا تأويلاً فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟ لا يخلو إما أن يكون أهل ذلك العصر قد نصوا على إبطال ذلك الدليل وذلك التأويل أو على صحته أو سكتوا عن الأمرين. فإن كان الأول لم يجز إحداثه لما فيه من تخطئة الأمة فيما أجمعوا عليه وإن كان الثاني جاز إحداثه إذ لا تخطئة فيه وإن كان الثالث فقد ذهب الجمهور إلى جوازه ومنع منه الأقلون. والمختار جوازه إلا إذا لزم من ذلك القدح فيما أجمع عليه أهل العصر ودليل ذلك أنه إذا لم يلزم منه القدح فيما أجمعوا عليه كان ذلك جائزاً كما لو لم يسبقه تأويل أو دليل آخر ولهذا فإن الناس في كل عصر لم يزالوا يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعاً. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: "ويتبع غير سبيل المؤمنين" "النساء 115" والدليل والتأويل الثاني ليس هو سبيل المؤمنين وأيضاً قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف" "آل عمران 110" دل على أنهم يأمرون بكل معروف لأنه ذكر المعروف بالألف واللام المستغرقة للجنس ولو كان الدليل والتأويل الثاني معروفاً لأمروا به وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفاً فكان منكراً. وأما السنة فقوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على الخطأ" وقد ذهبوا عن الدليل والتأويل الثاني فلا يكون ذهابهم عنه خطأ ولو كان دليلاً صحيحاً أو تأويلاً صحيحاً لكان الذهاب عنه خطأ وهو محال. وأما المعقول فهو أنه لو جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني لجاز أن يوحي الله تعالى إلى النبي عليه السلام بدليلين على حكم واحد والنبي عليه السلام يشرع الحكم لأحد الدليلين ويذهب عن الآخر وهو ممتنع. والجواب عن الآية الأولى أن الذم فيها إما أن يكون على ترك العمل بما اتفقوا عليه من إثبات أو نفي وإما بسلوك ما لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات الأول مسلم غير أنه لا تحقق له فيما نحن فيه فإن المحدث للدليل والتأويل الثاني غير تارك لدليل أهل العصر الأول ولا لتأويلهم بل غايته ضم دليل إلى دليل وتأويل إلى تأويل ولا هو تارك لما نهوا عنه من الدليل والتأويل الثاني إذ الكلام فيما إذا لم يكن قد نهوا عنه والثاني مما لا سبيل إلى حمل الآية عليه لما فيه من إلحاق الذم بما لا تعرض فيه لإبطال الإجماع لا بنفي ولا إثبات. وعن الآية الثانية أنها مشتركة الدلالة وذلك لأن قوله "وتنهون عن المنكر" يقتضي كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق ولو كان الدليل والتأويل الثاني منكراً لنهوا عنه: ولم ينهوا عنه فلا يكون منكراً. وعن السنة أن ذهابهم عن الدليل والتأويل الثاني مع صحته إنما يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم. وعن المعقول أنه قياس من غير جامع صحيح فلا يقبل كيف وإنه لا يخلو إما أن يكون مع تعريفه الحكم الواحد بدليلين قد كلف إثبات الحكم بهما أو بأحدهما فإن كان الثاني فلا مانع من إثباته للحكم بأحدهما دون الآخر وإن كان الأول فلا يلزم من امتناع إثباته للحكم بأحد الدليلين مع تكليفه إثبات الحكم بهما امتناع إثبات الأمة للحكم بأحد الدليلين دون الآخر إلا أن يكونوا قد كلفوا بذلك وهو غير مسلم. المسألة الحادية والعشرون إذا اختلف أهل عصر من الأعصار في مسألة من المسائل على قولين واستقر خلافهم في ذلك ولم يوجد له نكير: فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين بحيث يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر أم لا؟ ذهب أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وإمام الحرمين والغزالي وجماعة من الأصوليين إلى امتناعه وذهب المعتزلة وكثير من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى جوازه. والأول هو المختار وذلك لأن الأمة إذا اختلفت على القولين واستقر خلافهم في ذلك بعد تمام النظر والاجتهاد فقد انعقد إجماعهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين باجتهاد أو تقليد وهم معصومون من الخطأ فيما أجمعوا عليه على ما سبق من الأدلة السمعية فلو أجمع من بعدهم على أحد القولين على وجه يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر مع أن الأمة في العصر الأول مجمعة على جواز الأخذ به ففيه تخطئة أهل العصر الأول فيما ذهبوا إليه ويستحيل أن يكون الحق في جواز الأخذ بذلك القول والمنع من الأخذ به معاً فلا بد وأن يكون أحد الأمرين خطأ أو يلزمه تخطئة أحد الإجماعين القاطعين وهو محال فثبت أن إجماع التابعين على أحد قولي أهل العصر الأول يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً لكن ليس هذا الامتناع عقلياً بل سمعياً. فإن قيل: اتفاق أهل العصر على قولين لا يلزم منه اتفاقهم على تجويز الأخذ بكل واحد منهما لأن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ لقوله عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" وإجماع الأمة على تجويز الأخذ بالخطأ خطأ وإن سلمنا إجماعهم على ذلك ولكن ما المانع أن يقال بأن أهل العصر الأول إنما اتفقوا على تسويغ الاجتهاد والأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يظهر إجماع كاتفاقهم على أن فرض العادم للماء هو التيمم مشروطاً بعدم الماء فإذا وجد الماء زال حكم ذلك الإجماع. سلمنا أن إجماعهم على ذلك غير مشروط ولكن إجماعهم على ذلك يدل على جواز الأخذ بأحد القولين فإذا أجمع أهل العصر الثاني على أحد القولين فإجماعهم عليه موافق لإجماع أهل العصر الأول على جواز الأخذ به إلا أنه مخالف لإجماعهم وما يكون موافقاً للإجماع لا يكون ممتنعاً سمعاً. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على الامتناع لكنه معارض بما يدل على جوازه وبيانه بالوقوع وذلك أن الصحابة اتفقوا على دفن رسول الله ﷺ في بيت عائشة بعد اختلافهم في موضع دفنه واتفقوا على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم في من يكون إماماً واتفقوا على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم في ذلك واتفق التابعون على منع بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة في ذلك ولو كان الاتفاق بعد الخلاف ممتنعا لما كان ذلك واقعاً. والجواب عن السؤال الأول: لا نسلم أن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ بل كل مجتهد في مسائل الاجتهاد مصيب على ما يأتي تحقيقه وما ذكروه من الخبر فسيأتي تأويله كيف وإنه يجب اعتقاد الإصابة نظراً إلى إجماع الأمة على جواز الأخذ بكل واحد من أقوال المجتهدين ولو لم يكن صواباً وإلا كان إجماعهم على تجويز الأخذ بالخطأ وهو محال. وعن السؤال الثاني: أنه لو جوز مثل هذا الاشتراط في إجماعهم على مثل هذا الحكم مع أن الأمة أطلقوا ولم يشترطوا لساغ مثل ذلك في كل إجماع ولساغ أن تتفق الأمة على قول واحد ومن بعدهم على خلافه لجواز أن يكون إجماعهم مشروطاً بأن لا يظهر إجماع مخالف له بل ولجاز للواحد من المجتهدين من بعدهم المخالفة لما قيل من الشرط وهو محال لأن الإجماع منعقد على أن كل من خالف الإجماع المطلق الذي لم يظهر فيه ما ذكروه من الشرط فهو مخطئ آثم وبه إبطال ما صار إليه أبو عبد الله البصري من جواز انعقاد الإجماع على خلاف الإجماع السابق. وعن السؤال الثالث أن إجماع أهل العصر الثاني لم يكن محالاً لنفس إجماعهم على أحد القولين بل لما يستلزمه من امتناع الأخذ بالقول الآخر.
وعن السؤال الرابع أن الاتفاق فيما ذكروه من مسألة الدفن والإمامة وقتال مانعي الزكاة لم يكن بعد استقرار الخلاف فيما بينهم واستمرار كل واحد من المجتهدين على الجزم بما ذهب إليه بل إنما كان ذلك الخلاف على طريق المشورة كما جرت به العادة في حالة البحث عما ينبغي أن يعمل بين العقلاء بخلاف ما وقع النزاع فيه سلمنا أنه كان ذلك الاتفاق بعد استقرار الخلاف غير أنه اتفاق من المختلفين بأعيانهم ومن شرط في الإجماع انقراض عصر المجتهدين لم يمنع من رجوعهم أو رجوع بعضهم عما أجمعوا عليه والخلاف معه إنما يتصور في المجمعين على خلافهم بعد انقراض عصر الأولين غير أن الجواب الأول هو المختار. وأما مسألة أمهات الأولاد وإن كان خلاف الصحابة قد استقر واستمر إلى انقراض عصرهم فلا نسلم إجماع التابعين قاطبة على امتناع بيعهن فإن مذهب علي في جواز بيعهن لم يزل بل جميع الشيعة وكل من هو من أهل الحل والعقد على مذهبه قائل به وإلى الآن وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه. المسألة الثانية والعشرون إذا اختلف الصحابة أو أهل أي عصر كان في المسألة على قولين فهل يجوز اتفاقهم بعد استقرار خلافهم على أحد القولين والمنع من جواز المصير إلى القول الآخر. اختلفوا فيه: فمن اعتبر انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه ومن لم يعتبر انقراض العصر اختلفوا: فمنهم من جوزه بشرط أن يكون مستند اتفاقهم على الخلاف القياس والاجتهاد لا دليلاً قاطعاً ومنهم من منع ذلك مطلقاً ولم يجوز انعقاد إجماعهم على أحد أقوالهم وهو المختار وذلك لأنا بينا أن اتفاق الأمة على الحكم ولو في لحظة واحدة كان ذلك مستند إلى دليل ظني أو قطعي أنه يكون حجة قاطعة مانعة من مخالفته وقد بينا في المسألة المتقدمة أن الأمة إذا استقر خلافهم في المسألة على قولين فهو إجماع منهم على تجويز الأخذ بكل واحد من القولين فلو تصور إجماعهم على أحد القولين بعد ذلك لزم منه المحال الذي بيناه في تقرير المسألة التي قبلها. وكل ما ورد في المسألة المتقدمة من الاعتراض والانفصال فهو بعينه متوجه هاهنا فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا. غير أن هذه المسألة تختص بسؤال آخر وهو أن يقال إذا اتفق جميع الصحابة أو أهل أي عصر كان على حكم وخالفهم واحد منهم فإنه لا يمتنع أن يظهر لذلك الواحد ما ظهر لباقي الأمة ومع ظهور ذلك له إن منعناه من المصير إلى مقتضاه فقد منعناه من الحكم بالدليل الذي ظهر له ولباقي الأمة معه وأوجبنا عليه الحكم بما يخالف ذلك ويقطع ببطلانه وهو محال وإن لم نمنعه من العمل به فقد حصل الوفاق منهم بعد الخلاف وهو المطلوب. قلنا: لو ظهر له ما ظهر للأمة فنحن لا نحيل عليه الرجوع إليه ولكنا نقول باستحالة ظهوره عليه لا من جهة العقل بل من جهة السمع وهو ما يفضي إليه من تعارض الإجماعين ولزوم الخطأ في أحدهما كما بيناه في المسألة المتقدمة ولا فارق بينهما إلا من جهة أن أهل الإجماع في هذه المسألة هم الراجعون بأعيانهم عما أجمعوا عليه والمخالفون لأنفسهم بخلاف المسألة الأولى وأن المخالف في المسألة الأولى قد يتوهم أن بعض الأمة الخائضين في تلك المسألة التي اتفقوا عليها وفي هذه المسألة المجمعون هم كل الأمة ولذلك كان الإشكال في هذه المسألة أعظم منه في الأولى. وعلى هذا نقول إنه إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين ثم مات أحد القسمين وبقي القسم الآخر فإنه لا يكون قولهم إجماعاً مانعاً من الأخذ بالقول الآخر والوجه في تقريره ما سبق وإن خالف فيه قوم. المسألة الثالثة والعشرون هل يمكن وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به؟ اختلفوا فيه: فمنهم من جوزه مصيراً منه إلى أنهم غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر لهم ولم يبلغهم فاشتراكهم في عدم العلم به لا يكون خطأ فإن عدم العلم ليس من فعلهم وخطأ المكلف من أوصاف فعله ومنهم من أحاله مصيراً منه إلى أنهم لو اشتركوا في عدم العلم به لكان ذلك سبيلاً لهم ولوجب على غيرهم اتباعه وامتنع تحصيل العلم به لقوله تعالى: "ويتبع غير سبيل المؤمنين" "النساء 115" الآية.
والمختار أنه لا مانع من اشتراكهم في عدم العلم به وإن كان عملهم موافقاً لمقتضاه لعدم تكليفهم بمعرفة ما لم يبلغهم ولم يظهر لهم وأما الآية فلا حجة فيها هاهنا لأن سبيل كل طائفة ما كان من الأفعال المقصودة لهم المتداولة فيما بينهم باتفاق منهم على ما هو المتبادر إلى الفهم من قول القائل سبيل فلان كذا وسبيل فلان كذا وعدم العلم ليس من فعل الأمة فلا يكون سبيلاً لهم كيف وإنا نعلم أن المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل المؤمنين ولو كان عدم العلم بالدليل سبيلاً لهم لكانت الآية حاثة على متابعته والشارع لا يحث على الجهل بأدلته الشرعية إجماعاً وأما إن كان عملهم على خلافه فهو محال لما فيه من إجماع الأمة على الخطأ المنفي بالأدلة السمعية. المسألة الرابعة والعشرون اختلفوا في تصور ارتداد أمة محمد عليه السلام في عصر من الأعصار نفياً وإثباتاً ولا شك في تصور ذلك عقلاً وإنما الخلاف في امتناعه سمعاً. والمختار امتناعه لقوله عليه السلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة أمتي لا تجتمع على الخطأ" إلى غير ذلك من الأحاديث السابقة الدالة على عصمة الأمة عن فعل الخطأ والضلال. فإن قيل: حال ارتدادهم ليس هم من أمته عليه السلام فلا تكون الأخبار متناولة لهم. قلنا: الأخبار دالة على أن أمة محمد لا يصدق عليهم الاتفاق على الخطأ وإذا ارتدت الأمة صدق قول القائل إن أمة محمد قد اتفقت على الردة والردة عين الخطأ وذلك ممتنع. المسألة الخامسة والعشرون اختلف العلماء في دية اليهودي: فمنهم من قال إنها مثل دية المسلم ومنهم من قال إنها على النصف منها ومنهم من قال إنها على الثلث. فمن حصرها في الثلث كالشافعي رحمة الله عليه اختلفوا فيه فظن بعض الفقهاء أنه متمسك في ذلك بالإجماع وليس كذلك بل الحصر في الثلث مشتمل على وجوب الثلث ونفي الزيادة فوجوب الثلث مجمع عليه ولا خلاف فيه وأما نفي الزيادة فغير مجمع عليه لوقوع الخلاف فيه بل نفيه عند من نفى إنما هو مستند إما إلى ظهور دليل في نظره بنفيه من وجود مانع أو فوات شرط أو عدم المدارك والاعتماد على استصحاب النفي الأصلي وليس ذلك من الإجماع في شيء. المسألة السادسة والعشرون اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر الواحد فأجازه جماعة من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله والحنابلة وأنكره جماعة من أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحابنا كالغزالي مع اتفاق الكل على أن ما ثبت بخبر الواحد لا يكون إلا ظنياً في سنده وإن كان قطعياً في متنه وحجة من قال بجوازه النص والقياس: أما النص فقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" ذكر الظاهر بالألف واللام المستغرقة فدخل فيه الإجماع الثابت بخبر الواحد لكونه ظاهراً ظنياً. وأما القياس فهو أن خبر الواحد عن الإجماع مفيد للظن فكان حجة كخبره عن نص الرسول. وحجة المانعين من ذلك أن كون الإجماع المنقول على لسان الآحاد أصل من أصول الفقه كالقياس وخبر الواحد عن الرسول وذلك مما لم يرد من الأمة فيه إجماع قاطع يدل على جواز الاحتجاج به ولا نص قاطع من كتاب أو سنة وما عدا ذلك من الظواهر فغير محتج بها في الأصول وإن احتج بها في الفروع وبالجملة فالمسألة دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعاً به وعلى عدم اشتراطه فمن اشترط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيداً في نقل الإجماع ومن لم يشترط ذلك كان الإجماع المنقول على لسان الآحاد عنده حجة والظهور في هذه المسألة للمعترض من الجانبين دون المستدل فيها. المسألة السابعة والعشرون اختلفوا في تكفير جاحد الحكم المجمع عليه فأثبته بعض الفقهاء وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب للتكفير. والمختار إنما هو التفصيل وهو أن حكم الإجماع إما أن يكون داخلاً في مفهوم اسم الإسلام كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة أو لا يكون كذلك كالحكم بحل البيع وصحة الإجازة ونحوه فإن كان الأول فجاحده كافر لمزايلة حقيقة الإسلام له وإن كان الثاني فلا. خاتمة فيما يكون الإجماع حجة فيه وما لا يكون وأن الإجماع في الأديان السالفة كان حجة أم لا.
أما الأول فهو أن المجمع عليه لا يخلو إما أن تكون صحة الإجماع متوقفة عليه أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فالاحتجاج بالإجماع على ذلك الشيء يكون ممتنعاً لتوقف صحة كل واحد منهما على الآخر وهو دور وذلك كالاستدلال على وجود الرب تعالى وصحة رسالة النبي عليه السلام من حيث إن صحة الإجماع متوقفة على النصوص الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ كما سبق تقريره وصحة النصوص متوقفة على وجود الرب المرسل وكون محمد رسولاً فإذا توقفت معرفة وجود الرب ورسالة رسوله محمد على صحة الإجماع كان دوراً. وإن كان من القسم الثاني فالمجمع عليه إما أن يكون من أمور الدين أو الدنيا فإن كان من أمور الدين فهو حجة مانعة من المخالفة إن كان قطعياً من غير خلاف عند القائلين بالإجماع وسواء كان ذلك المتفق عليه عقلياً كرؤية الرب لا في جهة ونفي الشريك لله تعالى أو شرعياً كوجوب الصلاة والزكاة ونحوه. وأما إن كان المجمع عليه من أمور الدنيا كالإجماع على ما يتفق من الآراء في الحروب وترتيب الجيوش وتدبير أمور الرعية فقد اختلف فيه قول القاضي عبد الجبار بالنفي والإثبات: فقال تارة بامتناع مخالفته وتارة بالجواز وتابعه على كل واحد من القولين جماعة. والمختار إنما هو المنع من المخالفة وإنه حجة لازمة لأن العمومات الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ووجوب اتباعهم فيما أجمعوا عليه عامة في كل ما أجمعوا عليه. وأما أن الإجماع في الأديان السالفة كان حجة أم لا فقد اختلف فيه الأصوليون والحق في ذلك أن إثبات ذلك أو نفيه مع الاستغناء عنه لم يدل عليه عقل ولا نقل فالحكم بنفيه أو إثباته متعذر وهذا آخر في الكلام الإجماع. بسم الله الرحمن الرحيم الأصل الرابع فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع وهو نوعان يتعلق أحدهما بالنظر في السند والآخر بالنظر في المتن النوع الأول النظر في السند وهو الإخبار عن المتن ويشتمل على ثلاثة أبواب: الباب الأول في حقيقة الخبر وأقسامه أما حقيقة الخبر فاعلم أولاً أن اسم الخبر قد يطلق على الإشارات الحالية والدلائل المعنوية كما في قولهم عيناك تخبرني بكذا والغراب يخبر بكذا ومنه قول الشاعر: وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تـكـذب وقد يطلق على قول مخصوص لكنه مجاز في الأول وحقيقة في الثاني بدليل تبادره إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر. والغالب إنما هو اشتهار استعمال اللفظ في حقيقته دون مجازه ثم القول المخصوص قد يطلق على الصيغة كقول القائل قام زيد وقعد عمرو وقد يطلق على المعنى القائم بالنفس المعبر عنه بالصيغة كما قررناه في الكلاميات. والأشبه أنه في اللغة حقيقة في الصيغة لتبادرها إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر وإذا عرف مسمى الخبر حقيقة فما حده؟ اختلفوا فيه: فمن أصحابنا من قال: لا سبيل إلى تحديده بل معناه معلوم بضرورة العقل ودل على ذلك بأمرين. الأول أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه موجود وأنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون موجوداً معدوماً ومطلق الخبر جزء من معنى الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفاً على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك. الثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة لما كان كذلك وهو ضعيف. أما قوله إنه معلوم بالضرورة فدعوى مجردة وهي مقابلة بنقيضها وما ذكره من الدلالة على ذلك فهو دليل على أن العلم به غير ضروري لأن الضروري هو الذي لا يفتقر في العلم به إلى نظر ودليل يوصل إليه وما يفتقر إلى ذلك فهو نظري لا ضروري. فإن قيل: ما ذكرناه إنما هو بطريق التنبيه لا بطريق الدلالة لأن من الضروريات ما يفتقر إلى نوع تذكير وتنبيه على ما علم في مواضعه فهو باطل من وجهين: الأول أنه لو قيل ذلك لأمكن دعوى الضرورة في كل علم نظري وأن ما ذكروه من الدليل إنما هو بطريق التنبيه دون الدلالة وهو محال. الثاني أن ما ذكره في معرض التنبيه غير مفيد أما الوجه الأول فهو باطل من وجهين: الأول أن علم الإنسان بوجود نفسه وإن كان ضرورياً وكذلك العلم باستحالة كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً معاً فغايته أنه علم ضروري بنسبة خاصة أو بسلب نسبة خاصة ولا يلزم منه أن يكون ذلك علماً بحقيقة الخبر من حيث هو خبر وهو محل النزاع. فإن قيل: إذا كانت تلك النسبة الخاصة معلومة بالضرورة فلا معنى لكون ذلك المعلوم خبراً سوى تلك النسبة الخاصة فهو عود إلى التحديد وترك لما قيل. الثاني إنا وإن سلمنا أن مثل هذه الأخبار الخاصة معلومة بالضرورة فلا يلزم أن يكون الخبر المطلق من حيث هو خبر كذلك قوله لأن الخبر المطلق جزء من الخبر الخاص ليس كذلك لأن الخبر المطلق أعم من الخبر الخاص فلو كان جزءاً من معنى الخبر الخاص لكان الأعم منحصراً في الأخص وهو محال. فإن قيل: الأعم لا بد وأن يكون مشتركاً فيه بين الأمور الخاصة التي تحته ولا معنى لاشتراكها فيه سوى كونه جزءاً من معناها. قلنا: أما أولاً فإنه لا معنى لكون الأعم مشتركاً فيه أنه موجود في الأنواع أو الأشخاص التي هي أخص منه بل بمعنى لحد أن حد الطبيعة التي عرض لها إن كانت كلية مطلقة مطابق طبائع الأمور الخاصة تحتها وأما ثانياً فلأنه ليس كل عام يكون جزءاً من معنى الخاص ومقوماً له بجواز أن يكون من الأعراض العامة الخارجة عن مفهوم المعنى الخاص كالأسود والأبيض بالنسبة إلى ما تحتهما من معنى الإنسان والفرس ونحوه. وأما الوجه الثاني فباطل أيضاً من جهة أن العلم الضروري إنما هو واقع بالتفرقة بين ما يحسن فيه بيان الأمر وبيان ما يحسن فيه الخبر بعد معرفة الأمر والخبر أما قبل ذلك فهو غير مسلم نعم غاية ما في ذلك أنه يعلم التفرقة بين ما يجده في نفسه من طلب الفعل والنسبة بين أمرين على وجه خاص وليس هو العلم بحقيقة الأمر والخبر فإن قيل إنه لا معنى للأمر والخبر سوى ذلك المعلوم الخاص فهو أيضاً عود إلى التحديد كيف وإن ما ذكره يوجب أن يكون الأمر أيضاً مستغنياً عن التحديد كاستغناء الخبر وهذا القائل بعينه قد عرف الأمر بالتحديد حيث قال: الأمر هو طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء وأيضاً فإن الكلام إنما هو واقع في مفهوم الخبر اللفظي وحقائق أنواع الألفاظ وانقسامها إلى أمر ونهى وخبر وغير ذلك مما لا سبيل إلى القول بكونه معلوماً بالضرورة لكونه مبنياً على الوضع والاصطلاح. ولهذا فإن العرب لو أطلقوا اسم الأمر على المفهوم من الخبر الآن واسم الخبر على مفهوم الأمر لما كان ممتنعاً وما يتبدل ويختلف باختلاف الاصطلاحات فالعلم بمعناه لا يكون ضرورياً وإذا عرف ذلك فقد أجمع الباقون على أن العلم بمفهوم الخبر إنما يعرف بالحد والنظر لكن اختلفوا في حده فقالت المعتزلة كالجبائي وابنه وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وغيرهم: إن الخبر هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب وقد أورد عليه إشكالات أربعة: الأول أنه منتقض بقول القائل: محمد ومسيلمة صادقان في دعوى النبوة ولا يدخله الصدق وإلا كان مسيلمة صادقاً ولا الكذب وإلا كان محمد كاذباً وهو خبر وكذلك فإن من كذب في جميع أخباره فقال: جميع أخباري كذب فإن قوله هذا خبر ولا يدخله الصدق وإلا كانت جميع أخباره كذباً وهو من جملة أخباره ولا يدخله الكذب وإلا كانت جميع أخباره مع هذا الخبر كذباً وصدق في قوله جميع أخباري كذب. الثاني أن تعريف الخبر بما يدخله الصدق والكذب يقضي إلى الدور لأن تعريف الصدق والكذب متوقف على معرفة الخبر من حيث إن الصدق هو الخبر الموافق للمخبر والكذب بضده وهو ممتنع. الثالث إن الصدق والكذب متقابلان ولا يتصور اجتماعهما في خبر واحد ويلزم من ذلك إما امتناع وجود الخبر مطلقاً وهو محال وإما وجود الخبر مع امتناع اجتماع دخول الصدق والكذب فيه فيكون المحدود متحققاً دون ما قيل بكونه حداً له وهو أيضاً محال. الرابع أن الباري تعالى له خبر ولا يتصور دخول الكذب فيه.
وقد أجاب الجبائي عن قول القائل محمد ومسيلمة صادقان بأن هذا الكلام يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر فكأنه قال أحدهما صادق حال صدق الآخر ولو قال ذلك كان قوله كاذباً فكذلك إذا قال هما صادقان وهو إنما يصح أن لو كان معنى هذا الكلام ما قيل وليس كذلك بل قوله هما صادقان أعم من كون أحدهما صادقاً حال صدق الآخر وقبله وبعده والأعم غير مشعر بالأخص ولا يلزم من كذب الأخص كذب الأعم. وأجاب أبو هاشم بأن هذا الخبر جار مجرى خبرين: أحدهما خبر بصدق الرسول والآخر خبر بصدق مسيلمة والخبران لا يوصفان بالصدق ولا بالكذب فكذلك هاهنا وإنما الذي يوصف بالصدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر وليس بحق أيضاً فإنه إنما ينزل منزلة الخبر من حيث إنه أفاد حكما واحداً لشخصين وهو غير مانع من وصفه بالصدق والكذب بدليل الكذب في قول القائل: كل موجود حادث وإن كان يفيد حكماً واحداً لأشخاص متعددة. وأجاب عنه القاضي عبد الجبار بأن قال: المراد من قولنا: ما دخله الصدق والكذب أن اللغة لا تحرم أن يقال للمتكلم به: صدقت أو كذبت وهو أيضاً غير صحيح فإن حاصله يرجع إلى التصديق والتكذيب وهو غير الصدق والكذب في نفس الخبر. وأجاب عنه أبو عبد الله البصري بأنه كذب لأنه يفيد إضافة الصدق إليهما معاً وهو الحق وإن كان كما ذكر غير أنه إذا كان كاذباً فلا يدخله الصدق وقد قيل الخبر ما يدخله الصدق والكذب والحق في الجواب أن يقال حاصل هذا وإن كانت صورته صورة خبر واحد يرجع إلى خبرين أحدهما صادق وهو إضافة الصدق إلى محمد والثاني كاذب وهو إضافته إلى مسيلمة. وأما الإلزام الثاني فلا يخلو الخبر فيه إما أن يكون مطابقاً للمخبر عنه أو غير مطابق فإن كان الأول فهو صدق وإن كان الثاني فهو كذب لاستحالة الجمع بين المتناقضين في السلب أو الإيجاب. وأما الإشكال الثاني فقد أجاب عنه القاضي عبد الجبار بأن الخبر معلوم لنا وما ذكرناه لم نقصد به تعريف الخبر بل فصله وتمييزه عن غيره فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا يكون دوراً وهو غير صحيح لأنه إذا كان تمييز الخبر عن غيره إنما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب فتمييز الصدق والكذب بالخبر يوجب توقف كل واحد من الأمرين في تمييزه عن غيره على الآخر وهو عين الدور بل لو قيل إن الصدق والكذب وإن كان داخلاً في حد الخبر ومميزاً له فلا نسلم أن الصدق والكذب مفتقر في معرفته إلى الخبر بل الصدق والكذب معلوم لنا بالضرورة لكان أولى. وأما الإشكال الثالث فقد قيل في جوابه إن المحدود إنما هو جنس الخبر وهو قابل لدخول الصدق والكذب فيه كاجتماع السواد والبياض في جنس اللون وهو غير صحيح فإن الحد وإن كان لجنس الخبر فلا بد وأن يكون الحد موجوداً في كل واحد من آحاد الأخبار وإلا لزم منه وجود الخبر دون حد الخبر وهو ممتنع ولا يخفى أن آحاد الأخبار الشخصية مما لا يجتمع فيه الصدق والكذب والحق في ذلك أن الواو وإن كانت ظاهرة في الجمع المطلق غير أن المراد بها الترديد بين القسمين تجوزاً. وأما الإشكال الرابع فقد قيل في جوابه مثل جواب الإشكال الذي قبله وقد عرف ما فيه. ومن الناس من قال: الخبر ما دخله الصدق أو الكذب ويرد عليه الإشكالان الأولان من الإشكالات الواردة على الحد الأول دون الأخيرين وقد عرف ما فيهما ويرد عليه إشكال آخر خاص به وهو أن الحد معروف للمحدود وحرف أو للترديد وهو مناف للتعريف ويمكن أن يقال في جوابه: إن الحكم بقبول الخبر لأحد هذين الأمرين من غير تعيين جازم لا تردد فيه وهو المأخوذ في التحديد وإنما التردد في اتصافه بأحدهما عيناً وهو غير داخل في الحد ومنهم من قال: هو ما يدخله التصديق والتكذيب وقيل ما يدخله التصديق أو التكذيب. ويرد عليهما تعريف الخبر بالتصديق والتكذيب المتوقف على معرفة الصدق والكذب المتوقف على معرفة الخبر والترديد وقد عرف ما في كل واحد منهما. وقال أبو الحسين البصري: الخبر كلام يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر نفياً أو إثباتاً واحترز بقوله بنفسه عن الأمر فإنه يستدعي كون الفعل المأمور به واجباً لكن لا بنفسه بل بواسطة ما استدعاه الأمر بنفسه من طلب الفعل الصادر من الحكم وهو منتقض بالنسب التقييدية كقول القائل: حيوان ناطق فإنه أفاد بنفسه إثبات النطق للحيوان وليس بخبر.
فإن قال: إن ذلك ليس بكلام ونحن فقد قيدنا الحد بالكلام قلنا: هذا منه لا يصح فإن حد الكلام بما انتظم من الحروف المسموعة المميزة من غير اعتبار قيد آخر وحد الكلام بهذا الاعتبار متحقق فيما نحن فيه فكان على أصله كلاماً. والمختار فيه أن يقال: الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها. أما قولنا اللفظ فهو كالجنس للخبر وغيره من أقسام الكلام ويمكن أن يحترز به عن الخبر المجازي مما ذكرناه أولاً وقولنا الدال احتراز عن اللفظ المهمل وقولنا بالوضع احتراز عن اللفظ الدال بجهة الملازمة وقولنا على نسبة احتراز عن أسماء الأعلام وعن كل ما ليس له دلالة على نسبة وقولنا معلوم إلى معلوم حتى يدخل فيه الموجود والمعدوم وقولنا سلباً أو إيجاباً حتى يعم ما مثل قولنا: زيد في الدار ليس في الدار وقولنا يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام احتراز عن اللفظ الدال على النسب التقييدية وقولنا مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها احتراز عن صيغة الخبر إذا وردت ولا تكون خبراً كالواردة على لسان النائم والساهي والحاكي لها أو لقصد الأمر مجازاً كقوله تعالى: "والجروح قصاص" "المائدة 45" وقوله "والوالدات يرضعن أولادهن" "البقرة 233" "والمطلقات يتربصن" "البقرة 228" "ومن دخله كان آمناً" "آل عمران 97" ونحوه حيث إنه لم يقصد بها الدلالة على النسبة ولا سلبها وإذا عرف معنى الخبر فهو ينقسم ثلاث قسم. القسمة الأولى: إن الخبر ينقسم إلى صادق وكاذب لأنه لا يخلو إما أن يكون مطابقاً للمخبر به أو غير مطابق فإن كان الأول فهو الصادق وإن كان الثاني فهو الكاذب. وقال الجاحظ الخبر ينقسم ثلاثة أقسام: صادق وكاذب وما ليس بصادق ولا كاذب وقد احتج على ذلك بالنص والمعقول. أما النص فحكاية القرآن عن الكفار قولهم عن النبي عليه السلام "افترى على الله كذباً أم به جنة" "سبأ 8" حصروا دعواه النبوة في الكذب والجنة وليس إخباره بالنبوة حالة جنونه كذباً لأنهم جعلوها في مقابلة الكذب ولا صدقاً لأنهم لم يعتقدوا صدقه على كل تقدير فإخباره حالة جنة ليس بصدق ولا كذب وأما المعقول فمن وجهين. الأول أنه ليس الصادق هو الخبر المطابق للمخبر فإن من أخبر بأن زيداً في الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وكان فيها فإنه لا يوصف بكونه صادقاً ولا يستحق المدح على ذلك وإن كان خبره مطابقاً للمخبر ولا يوصف بكونه كاذباً لمطابقة خبره للمخبر وكذلك ليس الكذب هو عدم مطابقة الخبر للمخبر لوجهين: الأول أنه كان يلزم منه الكذب في كلام الله تعالى بتخصيص عموم خبره وتقييد مطلقه لعدم المطابقة وهو محال الثاني أنه لو أخبر مخبر أن زيداً في الدار على اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها فإنه لا يوصف بكونه كاذباً ولا يستحق الذم على ذلك ولا يوصف بكونه صادقاً لعدم مطابقة الخبر للمخبر وإنما الصادق ما طابق المخبر مع اعتقاد المخبر أنه كذلك والكذب ما لم يطابق المخبر مع اعتقاده أنه كذلك الثاني أنه إذا جاز أن يفرض في الاعتقاد واسطة بين كونه علماً أو جهلاً لا يوصف بكونه علماً ولا جهلاً مركباً كاعتقاد العامي المقلد وجود الإله تعالى جاز أن يفرض بين الصادق والكاذب خبر ليس بصادق ولا كاذب. والجواب عن الآية أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبراً والمجنون ليس له قصد صحيح فصار كالنائم والساهي إذا صدرت منه صيغة الخبر فإنه لا يكون خبراً وحيث لم يعتقدوا صدقه لم يبق إلا أن يكون كاذباً أو لا يكون ما أتى به خبراً وإن كانت صورته صورة الخبر أما أن يكون خبراً وليس صادقاً فيه ولا كاذباً فلا.
وعن الوجه الأول من المعقول: أنا لا نسلم أن من أخبر عن كون زيد في الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وهو فيها أن خبره لا يكون صادقاً وإن كان لا يستحق المدح على الصدق وكذلك لا نسلم أن من أخبر بأن زيداً في الدار على اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها أنه ليس كاذباً وإن كان لا يستحق الذم على كذبه لأن المدح والذم ليس على نفس الصدق والكذب لا غير بل على الصدق مع قصده والكذب مع قصده ولهذا فإن الأمة حاكمة بأن الكافر الذي علم منه اعتقاد بطلان رسالة محمد عليه السلام صادق بإخباره بنبوة محمد لما كان خبره مطابقاً للمخبر وإن لم يكن معتقداً لذلك ولا قاصداً للصدق وحاكمة بكذبه في إخباره أنه ليس برسول وإن كان معتقداً لما أخبر به لما كان خبره غير مطابق للمخبر وأما تخصيص عموم خبر القرآن وتقييد مطلقه فإنما لم يكن كذباً وإن لم يكن الخبر محمولاً على ظاهره من العموم والإطلاق لأنه مصروف عن حقيقته إلى مجازه وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كذباً وسواء كان ذلك اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولاته دون البعض كما لو قال رأيت عيناً وأراد به العين الجارية دون الباصرة وبالعكس فإنه لا يعد كاذباً وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة فإنه لا يعد كاذباً وذلك كما لو قال رأيت أسداً وأراد به المحمل المجازي دون الحقيقي وهو الإنسان. وعن الوجه الثاني أنه لا يلزم من انقسام الاعتقاد إلى علم وجهل مركب وحالة متوسطة ليست علماً ولا جهلاً مركباً انقسام الخبر إلى صدق وكذب وما ليس بصدق ولا كذب إذ هو قياس تمثيلي من غير جامع ولو كان ذلك كافياً لوجب أن يقال إنه أيضاً يلزم من ذلك أن يكون بين النفي والإثبات واسطة وهو محال. وبالجملة فالنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الخصمين يطلق اسم الصدق والكذب على ما لا يطلقه الآخر إلا بشرط زائد. القسمة الثانية إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه. فأما ما يعلم صدقه فمنه ما يعلم صدقه بمجرد الخبر كخبر التواتر وما يعلم صدقه لا بنفس الخبر بل بدليل يدل على كونه صادقاً كخبر الله وخبر الرسول فيما يخبر به عن الله تعالى وخبر أهل الإجماع وخبر من أخبر الله تعالى عنه أو رسوله أو أهل الإجماع أنه صادق وخبر من وافق خبره خبر الصادق أو دليل العقل وأما ما وراء ذلك مما ادعي أنه معلوم الصدق ففيه اختلاف وتفصيل يأتي ذكره في أخبار الآحاد. وأما ما يعلم كذبه فما كان مخالفاً لضرورة العقل أو النظر أو الحس أو أخبار التواتر أو النص القاطع أو الإجماع القاطع أو ما صرح الجمع الذين لا يتصور تواطؤهم على الكذب بتكذيبه ومن ذلك قول من لم يكذب قط فيما أخبر به أنا كاذب فخبره ذلك كاذب لأن المخبر عنه ليس هو نفس هذا الخبر لأن الخبر يجب أن يكون غير المخبر عنه ولا ما لم يوجد من أخباره فإنها لا توصف بصدق ولا كذب فلم يبق غير الأخبار السالفة وقد كان صادقاً فيها فخبره عنها بأنه كاذب فيها يكون كذباً وقد اختلف في أخبار قيل إنها معلومة الكذب وسيأتي الكلام فيها بعد هذا في أخبار الآحاد. وأما ما لا يعلم صدقه ولا كذبه فمنه ما يظن صدقه ككثير من الأخبار الواردة في أحكام الشرائع والعادات ممن هو مشهور بالعدالة والصدق ومنه ما يظن كذبه كخبر من اشتهر بالكذب ومنه ما هو غير مظنون الصدق ولا الكذب بل مشكوك فيه كخبر من لم يعلم حاله ولم يشتهر أمره بصدق ولا كذب. فإن قيل كل خبر لم يقم الدليل على صدقه قطعاً فهو كاذب لأنه لو كان صادقاً لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل عليه ولهذا فإن المتحدي بالنبوة إذا لم تظهر على يده معجزة تدل على صدقه فإنا نقطع بكذبه قلنا: جوابه من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم امتناع الخلو من نصب دليل يدل على صدقه بتقدير أن يكون صادقاً في نفس الأمر ومن أوجب ذلك فإنما بناه على وجوب رعاية الصلاح أو الأصلح وقد أبطلناه في علم الكلام. الثاني أنه مقابل بمثله وهو أن يقال: ولو كان كاذباً لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل على كذبه.
الثالث أنه يلزم مما ذكروه أن يقطع بكذب كل شاهد لم يقم الدليل القاطع على صدقه وكفر كل مسلم وفسقه إذا لم يقم دليل قاطع على إيمانه وعدالته وهو محال. وأما المتحدي بالرسالة إذا لم تظهر المعجزة الدالة على صدقه إنما قطعنا بكذبه بالنظر إلى العادة لا بالنظر إلى العقل وذلك لأن الرسالة عن الله تعالى على خلاف العادة والعادة تقضي بكذب من يدعي ما يخالف العادة من غير دليل ولا كذلك الصدق في الأخبار عن الأمور المحسوسة لأنه غير مخالف للعادة. القسمة الثالثة إن الخبر ينقسم إلى متواتر وآحاد ولما كان النظر في كل واحد من هذين القسمين هو المقصود الأعظم من هذا النوع وجب رسم الباب الثاني في المتواتر والباب الثالث في الآحاد. الباب الثاني في المتواتر ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي بيان معنى التواتر والمتواتر. أما التواتر في اللغة فعبارة عن تتابع أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة ومنه قوله تعالى: "ثم أرسلنا رسلنا تترى" "المؤمنون 44" أي واحداً بعد واحد بمهلة. وأما في اصطلاح الأصوليين فقد قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن خبر جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم وهو غلط فإن ما ذكره إنما هو حد الخبر المتواتر لا حد نفس التواتر وفرق بين التواتر والمتواتر وإنما التواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن تتابع الخبر عن جماعة مفيد للعلم بمخبره. وأما المتواتر فقد قال بعض أصحابنا أيضاً إنه الخبر المفيد للعلم اليقيني بمخبره وهو غير مانع لدخول خبر الواحد الصادق فيه كيف وفيه زيادة لا حاجة إليها وهي قوله العلم اليقيني فإن أحدهما كاف عن الآخر. والحق أن المتواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه للعلم بمخبره فقولنا خبر كالجنس للمتواتر والآحاد وقولنا جماعة احتراز عن خبر الواحد وقولنا مفيد للعلم احتراز عن خبر جماعة لا يفيد العلم فإنه لا يكون متواتراً وقولنا بنفسه احتراز عن خبر جماعة وافق دليل العقل أو دل قول الصادق على صدقهم كما سبق وقولنا بمخبره احتراز عن خبر جماعة أفاد العلم بخبرهم لا بمخبره فإنه لا يسمى متواتراً. وإذ أتينا على بيان المقدمة فلا بد من ذكر المسائل المتعلقة بخبر التواتر وهي ست مسائل. المسألة الأولى اتفق الكل على أن خبر التواتر مفيد للعلم بمخبره خلافاً للسمنية والبراهمة في قولهم: لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين بما يرد علينا من الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس ومن أنكر ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته. فإن قيل ما ذكرتموه فرع تصور اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير على الإخبار بخبر واحد وذلك غير مسلم مع اختلافهم في الأمزجة والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب كما لا يتصور اتفاق أهل بلد من البلاد على حب طعام واحد معين وحب الخير أو الشر وإن سلمنا تصور اتفاق الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد إلا أن كل واحد منهم يجوز أن يكون كاذباً في خبره بتقدير انفراده كما يجوز عليه الصدق فلو امتنع ذلك عليه حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعاً وهو محال وإذا جاز ذلك على كل واحد واحد والجملة لا تخرج عن الآحاد كان خبر الجملة جائز الكذب وما يجوز أن يكون كاذباً لا يكون العلم بما يخبر به واقعاً وإن سلمنا أنه لا يلزم أن ما ثبت للآحاد يكون ثابتاً للجملة غير أن القول بحصول العلم بخبر التواتر يلزم منه أمر ممتنع فيمتنع وبيانه من ستة أوجه: الأول أنه لو جاز أن تخبر جماعة بما يفيد العلم لجاز على مثلهم الخبر بنقيض خبرهم كما لو أخبر الأولون بأن زيداً كان في وقت كذا ميتاً ونقل الآخرون حياته في ذلك الوقت بعينه فإن حصل العلم بالخبرين لزم اجتماع العلم الضروري بموته وحياته في وقت واحد معين وهو محال وإن حصل العلم بأحد الخبرين دون الآخر فلا أولوية مع فرض تساوي المخبرين في الكمية والكيفية. الثاني أنه لو حصل العلم بخبر الجماعة الكثيرة لحصل العلم بما ينقله اليهود عن موسى والنصارى عن عيسى من الأمور المكذبة لرسالة نبينا التي دلت المعجزة القاطعة على صدقه فيها ووجوب علمنا بها واجتماع علمين متناقضين محال. الثالث أنه لو حصل العلم الضروري بخبر التواتر لما خالف في نبوة نبينا أحد لأن ما علم بالضرورة لا يخالف وحيث وقع الخلاف في ذلك من الخلق الكثير علمنا أن خبر التواتر لا يفيد العلم. الرابع أنه لو كان العلم الضروري حاصلاً بخبر التواتر لما وقع التفاوت بين علمنا بما أخبر به أهل التواتر من وجود بعض الملوك وعلمنا بأنه لا واسطة بين النفي والإثبات واستحالة اجتماع الضدين وأن الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين لأن الضروريات لا تختلف ولا يخفى وجه الاختلاف في سكون النفس إليهما. الخامس هو أن ما يحصل من الاعتقاد الجازم بما يخبر به أهل التواتر لا يزيد على الاعتقاد الجازم بأن ما شاهدناه بالأمس من وجود الأفلاك الدائرة والكواكب السيارة والجبال الشامخة أنه الذي نشاهده اليوم مع جواز أن يكون الله تعالى قد أعدم ذلك وما نشاهده الآن قد خلقه الله تعالى على مثاله فإذا لم يكن هذا يقينياً فما لا يزيد عليه في الجزم والاعتقاد أيضاً لا يكون يقينياً. السادس أنه لو كان العلم الضروري حاصلاً من خبر التواتر لما خالفناكم فيه لأن الضروري لا يخالف والجواب من جهة الإجمال والتفصيل. أما الإجمال فهو أن ما ذكروه تشكيك على ما علم بالضرورة فلا يكون مقبولاً وأما التفصيل. فأما السؤال الأول فجوابه بما سبق في بيان تصور الإجماع فيما تقدم. وأما السؤال الثاني فلأنه لا يلزم أن ما كان ثابتاً لآحاد الجملة وجائزاً عليها أن يكون ثابتاً للجملة وجائزاً عليها ولهذا فإنه ما من واحد من معلومات الله إلا وهو متناه وجملة معلوماته غير متناهية وكذلك كل واحد من آحاد الجملة فإنه جزء من الجملة والجملة ليست جزءاً من الجملة وكذلك كل لبنة أو خشبة داخلة في مسمى الدار وهي جزء منها وليست داراً والمجتمع من الكل دار وكذلك العشرة مركبة من خمسة وخمسة وكل واحدة من الخمستين ليست عشرة والمجموع منهما عشرة ونحوه. وأما ما ذكروه في السؤال الثالث من الإلزام الأول فهو فرض محال فإنه مهما أخبر جمع بما يحصل منه العلم بالمخبر فيمتنع إخبار مثلهم في الكمية والكيفية وقرائن الأحوال بما يناقض ذلك. وأما الإلزام الثاني فإنما يصح أن لو قلنا إن العلم يحصل من خبر كل جماعة وإن خبر كل جماعة تواتر وليس كذلك وإنما دعوانا أن العلم قد يحصل من خبر الجماعة ولا يلزم أن يكون خبر كل جماعة محصلاً للعلم. وأما الإلزام الثالث فغير صحيح لأن التواتر إنما يفيد العلم في الإخبار عن المحسوسات والمشاهدات والنبوة حكم فلذلك لم يثبت بخبر التواتر كيف وإنا لا ندعي أن كل تواتر يجب حصول العلم بمخبره مطلقاً لكل أحد لتفاوت الناس في السماع وقوة الفهم والاطلاع على القرائن المقترنة بالأخبار المفيدة للعلم فمخالفة من يخالف غير قادحة فيما ندعيه من حصول العلم به لبعض الناس. وأما الإلزام الرابع والخامس فإنما يصح أن لو ادعينا أن ما يحصل من العلم بخبر التواتر من الأمور البديهية وليس كذلك بل إنما ندعي العلم العادي وعلى هذا فلا يخرج عن كونه علماً بتقاصره عن العلوم البديهية ولا بمساواته لما قيل من العلوم العادية. وأما الإلزام السادس فحاصله يرجع إلى المكابرة والمجاحدة وذلك غير متصور في العادة في خلق لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ ثم لو كان الخلاف مما يمنع من كونه علماً ضرورياً لكان خلاف السوفسطائية في حصول العلم بالمحسوسات مما يخرجه عن كونه علماً ضرورياً وهو خلاف مذهب السمنية وما هو اعتذارهم في خلاف السوفسطائية في العلم بالمحسوسات يكون عذراً لنا في خلافهم لنا في المتواترات. المسألة الثانية اتفق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضروري وقال الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة والدقاق من أصحاب الشافعي أنه نظري وقال الغزالي إنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج في حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضرورياً بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا: القديم لا يكون محدثاً والموجود لا يكون معدوماً فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة ولكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه ومنهم من توقف في ذلك كالشريف المرتضى من الشيعة. وإذ أتينا على تفصيل المذاهب فلا بد من ذكر حججها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. أما حجج القائلين بالضرورة فأولها وهي الأقوى أنه لو كان حصول العلم بخبر التواتر بطريق الاستدلال والنظر لما وقع ذلك لمن ليس له أهلية النظر والاستدلال كالصبيان والعوام وهو واقع لهم لا محالة ولقائل أن يقول: لا نسلم أن الصبيان والعوام الذين يحصل لهم العلم بخبر التواتر ليس لهم أهلية النظر في مثل هذا العلم وإن لم يكونوا من أهل النظر فيما عداه من المسائل الغامضة كحدوث العالم ووجود الصانع ونحوه وذلك لأن العلم النظري منقسم إلى ما مقدماته المفضية إليه نظرية فيكون خفياً وإلى ما مقدماته المفضية إليه نظرية فيكون خفياً وإلى ما مقدماته المفضية إليه ضرورية غير نظرية وعند ذلك فلا يمتنع أن يكون العلم بخبر التواتر من القبيل الثاني دون الأول وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون العلم بأحوال المخبرين التي يتوقف عليها العلم بمخبرهم حاصلة بالضرورة للصبيان والعوام ويكون العلم بالنتيجة اللازمة عنها ضرورياً وإنما تتم الحجة المذكورة أن لو بين أن العلم بمخبرهم من قبيل ما مقدماته نظرية لا ضرورية وذلك مما لا سبيل إلى بيانه. الحجة الثانية أن كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة وبغداد والبلاد النائية عند خبر التواتر بها مع أنه لا يجد من نفسه سابقة فكر ولا نظر فيما يناسبه من العلوم المتقدمة عليه ولا في ترتيبها المفضي إليه ولو كان نظرياً لما كان كذلك ولقائل أن يقول إنما يحتاج ذلك إلى الفكر والنظر في المقدمات وترتيبها إن لو لم يكن العلم بتلك الأمور حاصلاً بالضرورة على ما بيناه في إبطال الحجة الأولى وأما إذا كان حاصلاً بالضرورة فلا. الحجة الثالثة أن العلم بخبر التواتر لا ينتفي بالشبهة وهذه هي أمارة الضرورة ولقائل أن يقول: المنفي بالشبهة العلم النظري الذي مقدماته نظرية أو الذي مقدماته ضرورية الأول مسلم والثاني ممنوع. الحجة الرابعة أنه لو كان نظرياً لأمكن الإضراب عنه كما في سائر النظريات وحيث لم يمكن ذلك دل على كونه ضرورياً ولقائل أن يقول: الذي يمكن الإضراب عنه من العلوم النظرية إنما هو العلم المفتقر إلى المقدمات النظرية وأما ما لزمه من مقدمات حاصلة بالضرورة فلا. الحجة الخامسة أنه لو كان نظرياً لوقع الخلاف فيه بين العقلاء وحيث لم يقع إلا من معاند كما سبق كان ضرورياً كالعلم بالمحسات ونحوه. ولقائل أن يقول: تسويغ الخلاف عقلاً إنما يكون في العلوم النظرية التي مقدماتها نظرية وأما مقدماتها ضرورية فلا كما في المحسات. وأما حجج القائلين بالنظر فأولها وهي ما استدل بها أبو الحسين البصري أن قال الاستدلال ترتيب علوم يتوصل بها إلى علم آخر فكلما وقف وجوده عل ترتيب فهو نظري والعلم الواقع بخبر التواتر كذلك فكان نظرياً وذلك لأنا إنما نعلم ذلك إذا علمنا أن المخبر لم يخبر عن رواية بل عن أمر محسوس لا لبس فيه وأنه لا داعي له إلى الكذب فيعلم أنه لا يكون كذباً وإذا لم يكن كذباً تعين كونه صدقاً ومهما اختل شيء من هذه الأمور لم نعلم صحة الخبر ولا معنى لكونه نظرياً سوى ذلك. ولقائل أن يقول: سلمنا أن النظر عبارة عما ذكر لكن لا نسلم تحققه فيما نحن فيه وما المانع أن يكون اتفاقهم على الكذب لا لغرض مع كونه مقدوراً لهم فإن قال بأن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على الكذب لا لغرض ومقصود.
قلنا: والعادة أيضاً تحيل اتفاقهم على الصدق لا لغرض ومقصود فلم قلت بعدم الغرض في الصدق دون الكذب وإذا لم يكن غرض فليس الصدق أولى من الكذب فإن قلنا: الغرض في الصدق كونه صدقاً لكونه حسناً ولا كذلك الكذب لكونه قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه. فإن قال: المراد إنما هو التحسين والتقبيح العرفي دون العقلي ولا شك أن أهل العرف يعدون الكذب قبيحاً والصدق حسناً قلنا: التحسين والتقبيح العرفي راجع إلى موافقة الغرض ومخالفته وعلى هذا فلعل الكذب من حيث هو كذب فيما أخبروا به موافق لأغراضهم دون الصدق فكان حسناً كما في اتفاقهم على الصدق في بعض ما أخبروا به سلمنا أنهم لا يجمعون على الكذب إلا لغرض ولكن ما المانع منه؟ فإنا قد نجد الجمع الكثير متفقين على وضع الأحاديث والأخبار لحكمة عائدة إليهم وذلك كأهل مدينة أو جيش عظيم اتفقوا على وضع خبر لا أصل له إما لدفع مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به وهذا مما يغلب مثله في كل عصر وزمان حتى إن أكثر الأخبار العامة الشائعة الواقعة في المعتاد كذلك. فإن قال بأن ذلك وإن كان واقعاً إلا أن العادة تحيل دوامه وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان قلنا: فإذا آل الأمر إلى التمسك بالعادة في استحالة اتفاقهم على الكذب دائماً فما المانع أن يقال بأن العادة موجبة لصدق المخبرين إذا كانوا جمعاً كثيراً وحصول العلم بخبرهم وليس القول بأن العادة تحيل اتفاقهم على الكذب ويلزم من ذلك الصدق أولى من أن يقال العادة توجب اتفاقهم على الصدق ويلزم من ذلك امتناع اتفاقهم على الكذب وعند ذلك فيخرج العلم بخبر التواتر عن كونه نظرياً سلمنا أنه لا بد في حصول العلم بخبر التواتر من حصول العلم بامتناع الكذب على المخبرين ولكن لا نسلم أن ذلك يكون كافياً في كون العلم الحاصل من التواتر نظرياً إلا أن يكون العلم بالمقدمات قد علم معه أنها مرتبطة بالعلم الحاصل بخبر التواتر وأنها الواسطة المفضية إليه وذلك غير مسلم الوجود فيما نحن فيه كما ذهب إليه الغزالي. الحجة الثانية أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضرورياً لنا لكنا عالمين بذلك العلم على ما هو عليه كما في سائر العلوم الضرورية وذلك لأن حصول علم للإنسان وهو لا يشعر به محال فإذا كان ذلك العلم ضرورياً وجب أن يعلم كونه ضرورياً وليس كذلك. ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا كان ضرورياً لا بد وأن يعلم أنه ضروري بل جاز أن يكون أصل العلم بالمخبر بالضرورة والعلم بصفته وهي الضرورة غير ضروري كيف وأنه معارض بأنه لو كان نظرياً لعلمناه على صفته نظرياً على ما قرروه وليس كذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. الحجة الثالثة أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضرورياً لما اختلف العقلاء فيه كما في غيره من الضروريات. ولقائل أن يقول: الاختلاف فيه لا يدل على أنه غير ضروري وإلا كان خلاف السوفسطانية في حصول العلم بالضروريات مانعاً من كونها ضرورية وليس كذلك بالاتفاق من الخصمين هاهنا بل ولكان خلاف السمنية في حصول أصل العلم بخبر التواتر مانعاً منه وليس كذلك. الحجة الرابعة أن خبر التواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى وخبر رسوله بل هو مماثل أو أدنى والعلم بخبر الله ورسوله غير حاصل بالضرورة بل بالاستدلال فما هو مثله كذلك والأدنى أولى. ولقائل أن يقول: حاصل ما ذكر راجع إلى التمثيل وهو غير مفيد لليقين كما عرفناه في مواضعه كيف وإن العلم بخبر التواتر من حيث هو علم وإن كان لا يقع التفاوت بينه وبين العلم الحاصل من خبر الله والرسول فكذلك لا تفاوت بين العلوم الضرورية المتفق على ضروريتها كالعلم بأن لا واسطة بين النفي والإثبات والعلم بأن الواحد أقل من الاثنين ونحوه وبين العلم الحاصل بخبر الله وخبر رسوله من حيث إن كل واحد منهما علم ومع ذلك ما لزم من كون العلوم الضرورية ضرورية أن يكون العلم الحاصل من خبر الله وخبر رسوله ضرورياً ولا من كون خبر الله ورسوله غير ضروري أن تكون العلوم الضرورية غير ضرورية وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين وتفاوت الكلام بين الطرفين فقد ظهر أن الواجب إنما هو الوقف عن الجزم بأحد الأمرين. المسألة الثالثة اتفقت الأشاعرة والمعتزلة وجميع الفقهاء على أن خبر التواتر لا يولد العلم خلافاً لبعض الناس وقد اعتمد القائلون بامتناع ذلك على مسلكين ضعيفين: الأول أنهم قالوا: لو كان خبر التواتر مولداً للعلم فالعلم إما أن يكون متولداً من الخبر الأخير أو منه ومن جملة الأخبار المتقضية: فإن كان الأول فهو محال وإلا لتولد منه بتقدير انفراده وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن الأخبار متعددة والمسبب الواحد لا يصدر عن سببين كما لا يكون مخلوق بين خالقين. ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون متولداً عن الخبر الأخير مشروطاً بتقدم ما وجد من الأخبار قبله وعدمت وإن كان متولداً عن الجميع فما المانع أن يكون متولداً عن الهيئة الاجتماعية وهي شيء واحد لا أنه متولد عن كل واحد واحد من تلك الأخبار وهذا مما مدفع له. نعم لو قيل إن تولده من جميع الأخبار ممتنع ضرورة أن ما تقضي من الأخبار معدوم ولا تولد عن المعدوم كان متجهاً. المسلك الثاني أنهم قالوا قد استقر من مذهب القائلين بالتولد أن كل ما هو طالب لجهة من الجهات فإنه يجوز أن يتولد عنه شيء في غير محله كالاعتمادات والحركات وما ليس كذلك لا يتولد عنه شيء في غير محله والقول والخبر ليس له جهة فلا يتولد عنه العلم لأنه لو تولد عنه العلم لتولد في غير محله وهو ممتنع وذلك مما لا اتجاه له مهما عرف من مذاهب الخصوم أن إرعاب الإنسان لغيره مما يولد فيه الوجل المولد للاصفرار بعد الاحمرار وأن تهجينه له مما يولد فيه الخجل المولد للاحمرار بعد الاصفرار وإن كان ما تولد عن القول المرهب والمهجن في غير محله. والمعتمد في إبطال ذلك ليس إلا ما حققناه في أبكار الأفكار من الدليل الدال على امتناع موجود غير الله تعالى وأن كل موجود ممكن فوجوده ليس إلا بالله تعالى فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا. فإن قيل: اختياركم في المسألة المتقدمة إنما هو الوقف عن الجزم بكون الحاصل عن خبر التواتر ضرورياً أو نظرياً وما ذكرتموه هاهنا من كونه مخلوقاً لله تعالى يوجب كونه اضطرارياً للعبد وهو تناقض كيف وإنه لو كان مخلوقاً لله تعالى لأمكن حصوله عن خبر الجماعة المفروضين بسبب خلق الله تعالى له وأمكن أن لا يحصل بسبب عدم خلقه فلما كان ذلك واجب الحصول بخبر التواتر علم أنه غير موجود بالاختيار مباشرة بل بالتولد عما هو مباشر بالقدرة. قلنا: أما التناقض فمندفع فإنا سواء قلنا إن العلم مكتسب للعبد أو هو حاصل له ضرورياً فلا يخرج بذلك عن كونه مخلوقاً لله تعالى على ما عرف من أصلنا. قولهم: لو كان مخلوقاً لله تعالى لأمكن أن يحصل وأن لا يحصل قلنا: ذلك ممكن عقلاً غير أن الله تعالى قد أجرى العادة بخلقه للعلم عند خبر التواتر كما أجرى العادة بالشبع عند أكل الخبز والري عند شرب الماء ونحوه. المسألة الرابعة اتفق القائلون بحصول العلم عن الخبر المتواتر على شروط واختلفوا في شروط فأما المتفق عليه فمنها ما يرجع إلى المخبر ومنها ما يرجع إلى المستمعين فأما ما يرجع إلى المخبرين فأربعة شروط: الأول أن يكونوا قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب. الثاني أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين. الثالث أن يكون علمهم مستنداً إلى الحس لا إلى دليل العقل. الرابع أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه فكانت هذه الشروط معتبرة فيه. وأما ما يرجع إلى المستمعين فأن يكون المستمع متأهلاً لقبول العلم بما أخبر به غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل غير أن من زعم أن حصول العلم بخبر التواتر نظري شرط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور لأن العلم عنده حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى فإن خلق العلم له علم أن الخبر مشتمل على هذه الشروط وإن لم يخلق له العلم علم اختلال هذه الشروط أو بعضها فضابط العلم بتكامل هذه الشروط حصول العلم بخبر التواتر عنده لا أن ضابط حصول العلم بخبر التواتر سابقة حصول العلم بهذه الشروط.
ثم اختلف هؤلاء في أقل عدد يحصل معه العلم: فقال بعضهم هو خمسة لأن ما دون ذلك كالأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين بالإجماع لتحصيل غلبة الظن ولو كان العلم حاصلاً بقول الأربعة لما كان كذلك وقد قطع القاضي أبو بكر بأن الأربعة عدد ناقص وتشكك في الخمسة ومنهم من قال: أقل ذلك اثنا عشر بعدد النقباء من بني إسرائيل على ما قال تعالى: "وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً" "المائدة 12" وإنما خصهم بذلك العدد لحصول العلم بخبرهم ومنهم من قال أقله عشرون تمسكاً بقوله تعالى "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" "الأنفال 65" وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به. ومنهم من قال: أقل ذلك أربعون أخذاً من عدد أهل الجمعة ومنهم من قال: أقلهم سبعون تمسكاً بقوله تعالى: "واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا" "الأعراف 155" وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به ومنهم من قال: أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر نظراً إلى عدد أهل بدر إنما خصوا بذلك ليعلم ما يخبرون به للمشركين ومنهم من قال: أقل عدد يحصل به العلم معلوم لله تعالى غير معلوم لنا وهذا هو المختار وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد الذي حصل علمنا بوجود مكة وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده ولو كلفنا أنفسنا معرفة ذلك عند توارد المخبرين بأمر من الأمور بترقب الحالة التي يكمل علمنا فيها بعد تزايد ظننا بخبر واحد بعد واحد لم نجد إليه سبيلاً عادة كما لم نجد من أنفسنا العلم بالحالة التي يحصل فيها كمال عقولنا بعد نقصها بالتدريج الخفي لقصور القوة البشرية عن الوقوف على ذلك بل يحصل لنا العلم بخبر التواتر وإن كنا لا نقف على أقل عدد أفاده كما نعلم حصول الشبع بأكل الخبز والري بشرب الماء وإن كنا لا نقف على المقدار الذي حصل به الشبع والري وما قيل من الأقاويل في ضبط عدد التواتر فهي مع اختلافها وتعارضها وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة فإنه ما من عدد يفرض حصول العلم به لقوم إلا وقد يمكن فرض خبرهم بعينه غير مفيد للعلم بالنظر إلى آخرين بل ولو أخبروا بأعيانهم بواقعة أخرى لم يحصل بها العلم لمن حصل له العلم بخبرهم الأول ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف وإنما وقع الاختلاف بسبب الاختلاف في القرائن المقترنة بالخبر وقوة سماع المستمع وفهمه وإدراكه للقرائن. وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من أقوال المخبرين لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص وعلى هذا فما من عدد يفرض كان أربعة أو ما زاد إلا ويمكن أن يحصل به العلم ويمكن أن لا يحصل ويختلف ذلك باختلاف القرائن وما ذكر في كل صورة من أن تعيين ذلك العدد فيها إنما كان لحصول العلم بخبرهم تحكم لا دليل عليه بل أمكن أن يكون لأغراض أخر غير ذلك أو أن ذلك واقع بحكم الاتفاق وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه وإنما المرجع فيه إلى الوجدان هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها وأما الشروط المختلف فيها فستة: الأول: ذهب قوم إلى أن شرط عدد التواتر أن لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد ومذهب الباقين خلافه وهو الحق وذلك لأنه قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت وحادثة حدثت مع أنهم محصورون. الثاني: ذهب قوم إلى اشتراط اختلاف أنساب المخبرين وأوطانهم وأديانهم وهو فاسد لأنا لو قدرنا أهل بلد اتفقت أديانهم وأنسابهم وأخبروا بقضية شاهدوها لم يمتنع حصول العلم بخبرهم. الثالث: ذهب بعضهم إلى أن شرط المخبرين أن يكونوا مسلمين عدولاً لأن الكفر عرضة للكذب والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق والتحقيق في القول ولهذه العلة اختص المسلمون بدلالة إجماعهم على القطع ولأنه لو وقع العلم بتواتر خبر الكفار لوقع العلم بما أخبر به النصارى مع كثرة عددهم عن قتل المسيح وصلبه وما نقلوه عنه من كلمة التثليث وهو باطل فإنا نجد من أنفسنا العلم بأخبار العدد الكثير وإن كانوا كفاراً كما لو أخبر أهل قسطنطينية بقتل ملكهم وليس ذلك إلا لأن الكثرة مانعة من التواطيء على الكذب وإن لم يكن ذلك ممتنعاً فيما كان دون تلك الكثرة وأما الإجماع فإنما اختص علماء الإسلام بالاحتجاج به للأدلة السمعية دون الأدلة العقلية كما سبق بخلاف التواتر وأما أنه لم يحصل لنا العلم بما أخبر به النصارى من قتل المسيح وصلبه وكلمة التثليث فيجب أن يكون ذلك محالاً على عدم شرط من شروط التواتر وهو إما اختلال استواء طرفي الخبر ووسطه فيما ذكرناه من الشروط قبل أو لأنهم ما سمعوا كلمة التثليث صريحاً بل سمعوا كلمة موهمة لذلك فنقلوا التثليث ويجب اعتقاد ذلك نفياً للكفر عن المسيح على ما قال تعالى "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" "المائدة 73" أو لأن المسيح شبه لهم فنقلوا قتله وصلبه ولا بعد في ذلك وإن كان الغلط فيه غير معتاد إذا وقع في زمان خرق العوائد وهو زمان النبوة وإن كان بعيداً في غير زمانه ويجب اعتقاد ذلك عملاً بقوله تعالى: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" "النساء 157". فإن قيل: فخرق العوائد جائز في غير زمان النبوة بكرامات الأولياء فليجز في كل ما أخبر به أهل ذلك العصر عن المحسات ووقوع الغلط فيه. قلنا: إن حصل لنا العلم بخبرهم علمنا استحالة الغلط عليهم وإن لم يحصل لنا العلم به علمنا أنه قد اختل شرط من شرائط التواتر وإن لم يكن ذلك الشرط معيناً عندنا. الرابع: ذهب قوم إلى أن شرطه أن لا يكونوا محمولين على أخبارهم بالسيف وهو باطل فإنهم إن حملوا على الصدق لم يمتنع حصول العلم بقولهم كما لو لم يحملوا عليه ولهذا فإنه لو حمل الملك أهل مدينة عظيمة على الإخبار عن أمر محس وجدنا أنفسنا عالمة بخبرهم حسب علمنا بخبرهم من غير حمل وإن حملوا على الكذب فيمتنع حصول العلم بخبرهم لفوات شرط وهو إخبارهم عن معلوم محس. الخامس: شرطت الشيعة وابن الراوندي وجود المعصوم في خبر التواتر حتى لا يتفقوا على الكذب وهو باطل أيضاً لما بيناه من أنه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار على الأخبار عن قتل ملكهم أو أخذ مدينة فإن العلم يحصل بخبرهم مع كونهم كفاراً فضلاً عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم ثم لو كان كذلك فالعلم يكون حاصلاً بقول الإمام المعصوم بالنسبة إلى من سمعه لا بخبر التواتر. السادس: شرطت اليهود في خبر التواتر أن يكون مشتملاً على أخبار أهل الذلة والمسكنة لأنه إذا لم يكن فيهم مثل هؤلاء فلا يؤمن تواطيهم على الكذب لغرض من الأغراض بخلاف ما إذا كانوا أهل ذلة ومسكنة فإن خوف مؤاخذتهم بالكذب يمنعهم من الكذب ولو صح لهم هذا الشرط لثبت غرضهم من إبطال العلم بخبر التواتر بمعجزات عيسى ونبينا عليه السلام حيث أنهم لم يدخلوا في الأخبار بها وهم أهل الذلة والمسكنة لكنه باطل بما نجده من أنفسنا من العلم بأخبار الأكابر والشرفاء العظماء إذا أخبروا بأمر محس وكانوا خلقاً كثيراً بل ربما كان حصول العلم من خبرهم أسرع من حصول العلم بخبر أهل المسكنة والذلة لترفع هؤلاء عن رذيلة الكذب لشرفهم وقلة مبالاة هؤلاء به لخستهم. وبالجملة لا يمتنع أن يكون شيء من هذه الشروط إذا تحقق كان حصول العلم بخبر التواتر معه أسرع من غيره أما أن يكون ذلك شرطاً ينتفي العلم بخبر التواتر عند انتفائه فلا. المسألة الخامسة ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى أن كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص لا بد وأن يكون مفيداً للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه وهذا إنما يصح على إطلاقه إذا كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجرداً عما احتف به من القرائن العائدة إلى أخبار المخبرين وأحوالهم واستواء السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله مع فرض التساوي في القرائن مع أن القرائن قد تفيد آحادها الظن وبتضافرها واجتماعها العلم كما سنبينه فلا يمتنع أن يحصل العلم بمثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض لما اختص به من القرائن التي لا وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرانها لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في قوة الإدراك والفهم للقرائن إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً حتى أن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير كد ولا تعب ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والاجتهاد في ذلك ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين وهذا أمر واضح لا مراء فيه ومع التفاوت في هذه الأمور يظهر أن ما ذكره القاضي وأبو الحسين البصري مما لا سبيل إلى تصحيحه على إطلاقه. المسألة السادسة إذا عرف أن التواتر يفيد العلم بالخبر الواحد كالإخبار عن قتل ملك أو هجوم بلد كما ذكرناه فلو بلغ عدد المخبرين إلى حد التواتر لكن اختلفت أخبارهم والوقائع التي أخبروا عنها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى كلي مشترك بين مخبراتهم فالكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخبارهم عن جريانه إما بجهة التضمن أو الالتزام فكان معلوماً من أخبارهم وذلك كالأخبار التي وردت خارجة عن الحصر عن وقائع عنتر في حروبه ووقائع حاتم في هباته وضيافاته وإن اختلفت وقائع هذه الأخبار فكلها دالة على القدر المشترك من شجاعة هذا وكرم هذا غير أنه ربما كان حصول العلم بها مثل التواتر الأول لاتحاد لفظه ومعناه أسرع حصولاً من الثاني لاختلاف ألفاظه وما طابقها من المعاني وإن اتحد مدلولها من جهة التضمن أو الالتزام وهذا آخر باب التواتر. الباب الثالث في أخبار الآحاد ويشتمل على أربعة أقسام: أولها: النظر في حقيقة خبر الواحد وما يتعلق به من المسائل. وثانيها: النظر في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد وما يتعلق به من المسائل. وثالثها: النظر في مستند الراوي وكيفية روايته وما يتعلق به من المسائل. ورابعها: النظر فيما اختلف في رد خبر الواحد به ومسائله. القسم الأول في حقيقة خبر الواحد ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي حقيقة خبر الواحد وشرح معناه قال بعض أصحابنا: خبر الواحد ما أفاد الظن وهو غير مطرد ولا منعكس. أما أنه غير مطرد فلأن القياس مفيد للظن وليس هو خبر واحد فقد وجد الحد ولا محدود. وأما أنه غير منعكس فهو أن الواحد إذا أخبر بخبر ولم يفد الظن فإنه خبر واحد وإن لم يفد الظن فقد وجد المحدود ولا حد كيف وإن التعريف بما أفاد الظن تعريف بلفظ متردد بين العلم كما في قول الله تعالى: "الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم" "البقرة 46" أي يعلمون وبين ترجح أحد الاحتمالين على الآخر في النفس من غير قطع والحدود مما يجب صيانتها عن الألفاظ المشتركة لإخلالها بالتفاهم وافتقارها إلى القرينة. والأقرب في ذلك أن يقال: خبر الآحاد ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر وهو منقسم إلى ما لا يفيد الظن أصلاً وهو ما تقابلت فيه الاحتمالات على السواء وإلى ما يفيد الظن وهو: ترجح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع فإن نقله جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة سمي مستفيضاً مشهوراً وإذا عرف ذلك فلنذكر ما يتعلق به من المسائل وهي سبع: المسألة الأولى اختلفوا في الواحد العدل إذا أخبر بخبر هل يفيد خبره العلم؟ فذهب قوم إلى أنه يفيد العلم ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال إنه يفيد العلم بمعنى الظن لا بمعنى اليقين فإن العلم قد يطلق ويراد به الظن كما في قوله تعالى "فإن علمتموهن مؤمنات" "الممتحنة 10" أي ظننتموهن. ومنهم من قال إنه يفيد العلم اليقيني من غير قرينة لكن من هؤلاء من قال: ذلك مطرد في خبر كل واحد كبعض أهل الظاهر وهو مذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ومنهم من قال إنما يوجد ذلك في بعض أخبار الآحاد لا في الكل وإليه ذهب بعض أصحاب الحديث ومنهم من قال إنه يفيد العلم إذا اقترنت به قرينة كالنظام ومن تابعه في مقالته. وذهب الباقون إلى أنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقاً لا بقرينة ولا بغير قرينة والمختار حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن ويمتنع ذلك عادة دون القرائن وإن كان لا يمتنع خرق العادة بأن يخلق الله تعالى لنا العلم بخبره من غير قرينة. أما أنه لا يفيد العلم بمجرده فقد احتج القائلون بذلك بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها والإشارة بعد ذلك إلى ما هو المعتمد في ذلك. الحجة الأولى: من الحجج الواهية قولهم: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لأفاد كل خبر واحد كما أن خبر التواتر لما كان موجباً كان كل خبر متواتر كذلك. ولقائل أن يقول: هذا قياس تمثيلي وهو غير مفيد للعلم كيف وإن خبر التواتر قبل العلم به ضروري غير مكتسب فلا يمتنع أن يخلقه الله تعالى عند كل تواتر لعلمه بما يشتمل عليه من مصلحة مختصة به أو لا لمصلحة كما يشاء ويختار ومثل ذلك غير لازم في أخبار الآحاد. وإن قيل إنه نظري مكتسب فلا مانع من استواء جميع أخبار التواتر فيما لا بد منه في حصول العلم ولا يلزم من ذلك استواء جميع أخبار الآحاد في ذلك. الحجة الثانية: أن تأثيرات الأدلة في النفوس بحسب المؤثر ولا نجد من أنفسنا من خبر الواحد وإن بلغ الغاية في العدالة سوى ترجح صدقه على كذبه من غير قطع وذلك غير موجب للعلم. وهذه الحجة في غاية الضعف لأن حاصلها يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير دلالة ومع ذلك فهي مقابلة بمثلها وهو أن يقول الخصم: وأنا أجد في نفسي العلم بذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. الحجة الثالثة: أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما روعي فيه شرط الإسلام والعدالة كما في خبر التواتر. وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع إلى التمثيل وهو غير مفيد لليقين ثم ما المانع أن يكون حصول العلم بخبر التواتر لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم عنده. إن قيل إن العلم بخبر التواتر ضروري وذلك غير لازم في خلقه عند خبر من ليس بمسلم ولا عدل أو أن يكون التواتر من حيث هو تواتر مشتمل على ما يوجب العلم إن قيل بأن العلم بخبر التواتر كسبي وخبر من ليس بمسلم ولا عدل غير مشتمل على ذلك والمعتمد في ذلك أربع حجج: الحجة الأولى: أنه لو كان خبر الواحد الثقة مفيداً للعلم بمجرده فلو أخبر ثقة آخر بضد خبره فإن قلنا خبر كل واحد يكون مفيداً للعلم لزم اجتماع العلم بالشيء وبنقيضه وهو محال وإن قلنا خبر أحدهما يفيد العلم دون الآخر فإما أن يكون معيناً أو غير معين فإن كان الأول فليس أحدهما أولى من الآخر ضرورة تساويهما في العدالة والخبر وإن لم يكن معيناً فلم يحصل العلم بخبر واحد منهما على التعيين بل كل واحد منهما إذا جردنا النظر إليه كان خبره غير مفيد للعلم لجواز أن يكون المفيد للعلم هو خبر الآخر كيف وأنه لا مزية لأحدهما على الآخر حتى يقال بحصول العلم بخبره دون خبر الآخر. الحجة الثانية: إن كل عاقل يجد من نفسه عند ما إذا أخبره واحد بعد واحد بمخبر واحد يزيد اعتقاده بذلك المخبر ولو كان الخبر الأول والثاني مفيداً للعلم فالعلم غير قابل للتزيد والنقصان. فإن قيل: كيف يقال بأن العلم غير قابل للزيادة والنقصان مع أن بعض العلوم قد يكون أجلى من بعض وأظهر كالعلم الضروري فإنه أقوى من العلم المكتسب والعلم بالعيان أقوى من العلم بالخبر. قلنا: لا نسلم تصور التفاوت بين العلوم من حيث هي علوم بزيادة ولا نقصان لانتفاء احتمال النقيض عنها قطعاً ولو لم يكن كذلك لما كانت علوماً بل ظنوناً والتفاوت الواقع بين العلم النظري والعلم الضروري ليس في نفس العلم بالمعلوم بل من جهة أن أحدهما مفتقر في حصوله إلى النظر دون الآخر أو أن أحدهما أسرع حصولاً من الآخر لتوقفه على النظر والتفاوت الواقع بين العلم بالخبر والعلم بالنظر غير متصور فيما تعلقاً به وإنما التفاوت بينهما من جهة أن ما لا يدرك بالخبر يكون مدركاً بالعيان والنظر.
الحجة الثالثة: أنه لو كان الخبر الواحد بمجرده موجباً للعلم لكان العلم حاصلاً بنبوة من أخبر بكونه نبياً من غير حاجة إلى معجزة دالة على صدقه ولوجب أن يحصل للحاكم العلم بشهادة الشاهد الواحد وأن لا يفتقر معه إلى شاهد آخر ولا إلى تزكيته لما فيه من طلب تحصيل الحاصل إذ العلم غير قابل للزيادة والنقصان كما سبق تقريره. الحجة الرابعة: أنه لو حصل العلم بخبر الواحد بمجرده لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد وتفسيقه وتبديعه إن كان ذلك فيما يبدع بمخالفته ويفسق ولكان مما يصح معارضته بخبر التواتر وأن يمتنع التشكيك بما يعارضه كما في خبر التواتر وكل ذلك خلاف الإجماع. فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول والأثر: أما النص فقوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" "الإسراء 36" نهى عن اتباع غير العلم وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع ولزوم العلم به فلو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم لكان الإجماع منعقداً على مخالفة النص وهو ممتنع وأيضاً فإن الله تعالى قد ذم على اتباع الظن بقوله تعالى: "إن يتبعون إلا الظن" "النجم 28" وقوله تعالى "وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" " يونس 36" فلو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم بل للظن لكنا مذمومين على اتباعه وهو خلاف الإجماع. وأما من جهة المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم لما أوجبه وإن كثر العدد إلى حد التواتر لأن ما جاز على الأول جاز على من بعده الثاني أنه لو لم يكن خبره موجباً للعلم لما أبيح قتل المقر بالقتل على نفسه ولا بشهادة اثنين عليه ولا وجبت الحدود بأخبار الآحاد لكون ذلك قاضياً على دليل العقل وبراءة الذمة. وأما من جهة الأثر ونخص مذهب من فرق بين خبر وخبر كبعض المحدثين فهو أن علياً كرم الله وجه قال ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته سوى أبي بكر صدق أبا بكر وقطع بصدقه وهو واحد. قلنا: أما الآيات فالجواب عنها من وجهين: الأول أن وجوب العمل بخبر الواحد واتباعه في الشرعيات إنما كان بناء على انعقاد الإجماع على ذلك والإجماع قاطع فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس بعلم ولا اتباعاً للظن الثاني أنه يحتمل أن يكون المراد من الآيات إنما هو المنع من اتباع غير العلم فيما المطلوب منه العلم كالاعتقادات في أصول الدين من اعتقاد وجود الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز ويجب الحمل على ذلك عملاً بما ذكرناه من الأدلة. وأما ما ذكروه من الوجه الأول من جهة المعقول فغير لازم لأن حكم الجملة قد يغاير حكم الآحاد على ما سبق مراراً وأما الوجه الثاني فمبني على أن أحكام الشرع لا تبنى على غير العلم وهو غير مسلم وعلى خلاف إجماع السلف قبل وجود المخالفين. وما ذكروه من الأثر فغايته أن يدل على أن علياً صدق أبا بكر رضي الله عنهما من غير يمين لحصول ظنه بخبره من غير يمين دون خبر غيره لكون ما اختص به من زيادة الرتبة وعلو الشأن في العدالة والثقة في مقابلة يمين غيره والتصديق بناء على غلبة الظن جائز في باب الظنون وإن لم يكن الصدق معلوماً. وأما جواز وقوع العلم بخبر الواحد إذا احتفت به القرائن فيدل عليه أن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر وذلك كما إذا رأينا إنساناً يكثر من النظر إلى شخص مستحسن فإنا نظن حبه له فإذا اقترن بذلك ملازمته له زاد ذلك الظن ولا يزال في التزايد بزيادة خدمته له وبذل ما له وتغير حاله إلى غير ذلك من القرائن حتى يحصل العلم بحبه له كما في تزايد الظن بأخبار الآحاد حتى يصير تواتراً وكذلك علمنا بخجل من هجن ووجل من خوف باحمرار هذا واصفرار هذا وبهذا الطريق نعلم عند ارتضاع الطفل وصول اللبن إلى جوفه بكثرة امتصاصه وازدراده وحركة حلقه مع كون المرأة شابة نفساء وبسكون الصبي بعد بكائه إلى غير ذلك من القرائن. وإذا كانت القرائن المتضافرة بمجردها مفيدة للعلم فلا يبعد أن تقترن بالخبر المفيد للظن قرينة مفيدة للظن قائمة مقام اقتران خبر آخر به ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن إلى أن يحصل العلم كما في خبر التواتر.
وإذا ثبت الجواز فبيان الوقوع أنه لو أخبر واحد أن ولد الملك قد مات واقترن بذلك علمنا بمرضه وأنه لا مريض في دار الملك سواه وما شاهدناه من الصراخ العالي في داره والنحيب الخارج عن العادة وخروج الجنازة محتفة بالخدم والجواري حاسرات مبرحات يلطمن خدودهن وينقضن شعورهن والملك ممزق الثوب حاسر الرأس يلطم وجهه وهو مضطرب البال مشوش الحال على خلاف ما كان من عادته من التزام الوقار والهيبة والمحافظة على أسباب المروءة فإن كل عاقل سمع ذلك الخبر وشاهد هذه القرائن يعلم صدق ذلك المخبر ويحصل له العلم بمخبره كما يعلم صدق خبر التواتر ووقوع مخبره. وكذلك إذا أخبر واحد مع كمال عقله وحسه بحياة نفسه وكراهته للألم وهو في أرغد عيشة نافذ الأمر قائم الجاه أنه قتل من يكافئه عمداً عدواناً بآلة يقتل مثلها غالباً من غير شبهة له في قتله ولا مانع له من القصاص كان خبره مع هذه القرائن موجباً للعلم بصدقه عادة. وكذلك إذا كان في جوار إنسان امرأة حامل وقد انتهت مدة حملها فسمع الطلق من وراء الجدار وضجة النسوان حول تلك الحامل ثم سمع صراخ الطفل وخرج نسوة يقلن إنها قد ولدت فإنه لا يستريب في ذلك ويحصل له العلم به قطعاً وإنكار ذلك مما يخرج المناظرة إلى المكابرة. فإن قيل العلم الحاصل بموت ولد الملك في الصورة المفروضة إما أن يكون حاصلاً من نفس الخبر أو من نفس القرائن أو من الخبر مشروطاً بالقرائن أو بالقرائن مشروطاً بالخبر الأول أو من الأمرين معاً لا جائز أن يكون من مجرد الخبر لما ذكرتموه أولاً ولا جائز أن يكون من الخبر مشروطاً بالقرائن ولا من القرائن بشرط الخبر ولا من الخبر والقرائن معاً لاستقلال تلك القرائن المذكورة بإفادة العلم بالموت سواء وجد الخبر أو لم يوجد فلم يبق إلا أن يكون حاصلاً من نفس القرائن ولا أثر للخبر. ثم ما ذكرتموه معارض بما ذكرتموه من الحجج الدالة على امتناع وقوع العلم بخبر الواحد مجرداً عن القرائن فإنها متجهة بعينها هاهنا. والجواب عن السؤال الأول أنه لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد الملك فجأة فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه كان اعتقاد موته آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر وعن المعارضات أنها غير لازمة فيما نحن فيه. أما الحجة الأولى فلأنا إذا فرضنا حصول العلم بخبر من احتفت بخبره القرائن فيمتنع تصور اقتران مثل تلك القرائن أو ما يقوم مقامها بالخبر المناقض له وإن كان نفس الخبر مناقضاً بخلاف ما إذا كان الخبر بمجرده مفيداً للعلم فإن ذلك غير مانع من خبر آخر مناقض له على ما هو معلوم في الشاهد. وأما الحجة الثانية فلأن ما نجده من التزيد عند أخبار الآحاد إنما يكون فيما لم يحصل العلم فيه بخبر الأول والثاني وأما متى كان العلم قد حصل بخبر الأول فالتزيد من ذلك يكون ممتنعاً ولا كذلك فيما إذا أخبر واحد بخبر فإنا إذا جردنا النظر إلى خبره من غير قرينة وجدنا أنفسنا مما يزيد فيها الظن بما أخبر به باقتران خبر غيره بخبره. وأما الحجة الثالثة فلأنا إذا قلنا إن خبر الواحد يفيد العلم بمخبره لزم تصديق مدعي النبوة في خبره ولا كذلك إذا قلنا إن الخبر لا يفيد العلم إلا بالقرائن فخبر الواحد بنبوته لا يكون مفيداً للعلم بصدقه دون اقتران القرائن بقوله والمعجزة من القرائن. وأما الحجة الرابعة فغايتها أنها تدل على أنه لم يوجد خبر من أخبار الآحاد في الشرعيات موجباً للعلم بمجرده ولا يلزم منه انتفاء ذلك مطلقاً. المسألة الثانية إذا أخبر واحد بين يدي رسول الله ﷺ بخبر ولم ينكر عليه هل يعلم كونه صادقاً فيه؟ منهم من قال بأن ذلك دليل العلم بصدقه فيما أخبر به فإنه لو كان كاذباً لأنكر النبي عليه السلام عليه وإلا كان مقراً له على الكذب مع كونه محرماً وذلك محال في حق النبي ﷺ وهو غير صحيح فإنه من الجائز أن يكون النبي ﷺ غير سامع له بل هو ذاهل عنه وإن غلب على الظن السماع وعدم الغفلة وبتقدير أن يعلم سماعه له وعدم غفلته عنه فمن الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول وإن غلب على الظن فهمه له وبتقدير أن يكون فاهماً له فلا يخلو إما أن يكون ما أخبر به متعلقاً بالدين أو الدنيا فإن كان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه فيحتمل أن يكون قد بينه له وعلم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه فلم ير في الإنكار عليه فائدة ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر وبتقدير عدم ذلك كله احتمل أن يكون كذبه في ذلك صغيرة وعدم الإنكار عليه في ذلك غايته أن يكون صغيرة في حق النبي ﷺ وانتفاء الصغائر عن النبي ﷺ غير مقطوع به على ما بيناه في كتبنا الكلامية. هذا إن كان إخباره بأمر ديني وأما إن كان إخباره بأمر دنيوي فيحتمل أن النبي ﷺ لم يعلم بكونه كاذباً فيما أخبر به وإن ظن علمه به وبتقدير أن يكون عالماً بكذبه فيحتمل أنه امتنع من الإنكار لمانع أو لعلمه بأنه لا فائدة في إنكاره وبتقدير عدم ذلك كله فيحتمل أن يكون ذلك من الصغائر والصغائر غير ممتنعة على الأنبياء كما علم وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً وإن دل عليه ظناً. المسألة الثالثة إذا أخبر واحد بخبر عن أمر محس بين يدي جماعة عظيمة وسكتوا عن تكذيبه قال قوم: علم من ذلك صدقه لأنه يمتنع عادة أن لا يطلع واحد منهم على كذبه وبتقدير الاطلاع يمتنع عادة سكوت الجمع العظيم عن التكذيب مع اختلاف أمزجتهم وطباعهم واختلاف دواعيهم فحيث سكتوا عن التكذيب دل على صدقه وليس بحق لأنه من الجائز أن لا يكون لهم اطلاع على ما أخبر به ولا يعلمون كونه صادقاً ولا كاذباً ولا واحد منهم ولا العادة مما تحيل اطلاع بعض الناس على أمر لم يطلع عليه غيره وبتقدير أن يعلم واحد منهم أو اثنان كذبه فالعادة لا تحيل سكوت الواحد والاثنين عن تكذيبه وبتقدير أن يعلم الكل بكذبه فيحتمل أن مانعاً منعهم من تكذيبه ومع هذه الاحتمالات يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً. المسألة الرابعة إذا روى واحد خبراً ورأينا الأمة مجمعة على العمل بمقتضاه قال جماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إن ذلك يدل على صدقه قطعاً وإلا كان عملهم بمقتضاه خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وهو باطل وذلك لأنه من المحتمل أنهم لم يعملوا به بل بغيره من الأدلة أو بعضهم به وبعضهم بغيره وبتقدير عمل الكل به فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً لأنه إذا كان مظنون الصدق فالأمة مكلفة بالعمل بموجبه وعملهم بموجبه مع تكليفهم بذلك لا يكون خطأ لأن خطأهم إنما يكون بتركهم لما كلفوا به أو العمل بما نهوا عنه ومع هذه الاحتمالات فصدقه لا يكون مقطوعاً وإن كان مظنوناً وعلى هذا لو روى واحد خبراً واتفق أهل الإجماع فيه على قولين فطائفة عملت بمقتضاه وطائفة اشتغلت بتأويله فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً وذلك لأن الطائفة التي عملت بمقتضاه لعلها لم تعمل به بل بغيره كما سبق وبتقدير أن تكون عاملة به فاتفاقهم على قبوله لا يوجب كونه صادقاً قطعاً لما ذكرناه من تكليفهم باتباع الظني. المسألة الخامسة اختلفوا فيما لو وجد شيء بمشهد من الخلق الكثير لتوفرت الدواعي على نقله إذا انفرد الواحد بروايته عن باقي الخلق كما إذا أخبر بأن الخليفة ببغداد قتل في وسط الجامع يوم الجمعة بمشهد من الخلق ولم يخبر بذلك أحد سواه فذهب الكل إلى أن ذلك يدل على كذبه خلافاً للشيعة وهو الحق وذلك لأن الله تعالى قد ركز في طباع الخلق من توفير الدواعي على نقل ما علموه والتحدث بما عرفوه حتى إن العادة لتحيل كتمان ما لا يؤبه له مما جرى من صغار الأمور على الجمع القليل فكيف على الجمع الكثير فيما هو من عظائم الأمور ومهماتها والنفوس مشرئبة إلى معرفته وفي نقله صلاح للخلق بل السكوت عن نقل ذلك وإشاعته في إحالة العادة له أشد من إحالة العادة لسكوتهم وتواطيهم على عدم نقل وجود مكة وبغداد فلو جاز كتمان ذلك لجاز أن يوجد مثل مصر وبغداد ولم يخبر أحد عنهما وذلك محال عادة وبمثل هذا عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن والتنصيص على إمام بعينه من حيث إنه لو وجد ذلك لشاع وتوفرت الدواعي على نقله. فإن قيل: العادة إنما تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما جرى بمشهد منهم من الأمور العظيمة إذا لم يتحقق الداعي إلى الكتمان معارضا لداعي الإظهار ولا بعد في ذلك إما لغرض واحد يعم الكل نظراً إلى مصلحة تتعلق بالكل في أمر الولاية وإصلاح المعيشة أو خوف ورهبة من عدو غالب وملك قاهر أو لأغراض متعددة كل غرض لواحد ويدل على ذلك الوقوع وهو أن النصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن الحصر لم ينقلوا كلام المسيح في المهد مع أنه من أعجب حادث حدث في الأرض ومن أعظم ما تتوفر الدواعي على نقله وإشاعته ونقلوا ما دون ذلك من معجزاته وأيضاً فإن الناس نقلوا أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب وغيره من الرسل وأيضاً فإن آحاد المسلمين قد انفردوا بنقل ما تتوفر الدواعي على نقله مع شيوعه فيما بين الصحابة والجمع الكثير كنقل ما عدا القرآن من معجزاته كانشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع إليه وتسليم الغزالة عليه وكدخول مكة عنوة أو صلحاً وتثنية الإقامة وإفرادها وإفراده في الحج وقرانه ونكاحه لميمونة وهو حرام وقبوله لشهادة الأعرابي وحده في هلال رمضان ورفع اليدين في الصلاة والجهر بالتسمية إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى. قلنا: قد بينا أن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما يجري بينهم من الوقائع العظيمة. قولهم ذلك إنما يصح أن لو لم يوجد الداعي إلى الكتمان قلنا: والكلام فيه وذلك أن العادة أيضاً تحيل اشتراك الخلق الكثير في الداعي إلى الكتمان كما يستحيل اشتراكهم في الداعي إلى الكذب وإلى أكل طعام واحد في يوم واحد وما ذكروه من صور الاستشهاد. أما كلام عيسى في المهد فإنما تولى نقله الآحاد لأنه لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير حيث لم يكن أمره قد ظهر ولا شأنه قد اشتهر ولا عرف برسالة ولا نبوة وذلك بخلاف إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص فإنه كان وقت اشتهاره ودعواه الرسالة مستدلاً بذلك على صدقه وتطلع الناس إليه وامتداد الأعين إلى ما يدعيه فلذلك لم يقع اتفاقهم على كتمانه. وأما أعلام شعيب وغيره من الأنبياء فإنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى يستدلوا عليها بالمعجزات ولا كان لهم شريعة انفردوا بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم من الرسل كدعوى غيرهم من الأئمة وآحاد العلماء. وأما نقل باقي معجزات الرسول غير القرآن فإنما تولاه الآحاد لأنه لم يوجد شيء من ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منهم بحضور طائفة يسيرة ولا سيما انشقاق القمر فإنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل في لمح البصر ولم يكن النبي ﷺ قد دعاهم إلى رؤيته ولا نبههم على ذلك سوى من رآه من النفر اليسير ولهذا فإنه كم من أمر مهول يقع في الليل من زلزلة أو صاعقة أو ريح عاصف أو انقضاض شهاب عظيم ولا يشعر به سوى الآحاد وهذا بخلاف القرآن فإنه كان ﷺ يردده بين الخلق في جميع عمره فلم يبق أحد من الجمع العظيم في زمانه إلا وقد علمه وشاهده فلذلك استحال تواطؤهم على عدم نقله.
وأما دخول مكة فقد نقله الجمع الكثير وهو مستفيض مشهور أنه دخلها عنوة متسلحاً بالألوية والأعلام على سبيل القهر والغلبة مع بذل الأمان لمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة ودار أبي سفيان وإنما خالف بعض الفقهاء لما اشتبه عليه ذلك بأداء دية من قتله خالد بن الوليد ولا يبعد ظن ذلك من الآحاد. وأما تثنية الإقامة وإفرادها فإنما اختلفوا فيه لاحتمال أن المؤذن كان يفرد تارة ويثني أخرى فنقل كل بعض ما سمعه وأهمل الباقي لعلمه بأنه من الفروع المتسامح فيها وهو الجواب عن الجهر بالتسمية ورفع اليدين في الصلاة. وأما إفراد النبي وقرانه في الحج فإنما نقله الآحاد لأن ذلك مما يتعلق بالنية وليس ذلك مما يجب ظهوره ومناداة النبي ﷺ به. وأما نكاحه ميمونة وهو حرام فليس ذلك أيضاً مما يجب إظهاره بل جاز أن يكون قد وقع ذلك بمحضر جماعة يسيرة فلذلك انفرد به الآحاد وهو الجواب عن قبول شهادة الأعرابي وحده. المسألة السادسة مذهب الأكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلاً خلافاً للجبائي وجماعة من المتكلمين ودليل جوازه عقلاً أنا لو فرضنا ورود الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال كونه كاذباً أو مخطئاً وذلك لا يمنع من التعبد به بدليل اتفاقنا على التعبد بالعمل بقول المفتي والعمل بقول الشاهدين مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا به. فإن قيل: وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع بذلك لم يلزم عنه لذاته محال وأنه ليس محالاً لذاته عقلاً لكنه محال عقلاً باعتبار أمر خارج عن ذاته وذلك لأن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به فإذا أخبر بخبر عن رسول الله بسفك دم واستحلال بضع محرم مع احتمال كونه كاذباً فلا يكون في العمل بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة وهو خلاف وضع الشرع ولهذا امتنع ورود التعبد بالعمل بخبر الفاسق والصبي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعاً وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين فالفرق بين الشهادة والخبر من ثلاثة أوجه: الأول أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ولا كذلك الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد. الثاني أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة. الثالث هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع والشهادة شرط لا مثبت بخلاف خبر الواحد فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي. ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة المنقول والمعقول. أما المنقول فقوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" "الإسراء 36" وقوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" "البقرة 169" وقوله تعالى: "وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً" "يونس 36" وأما المعقول فمن أربعة أوجه: الأول أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول عند ظننا بصدقه لاحتمال كونه مصلحة لجاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية وذلك دون اقتران المعجزة بقوله محال. الثاني أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع لجاز ورود التعبد به في الأصول وليس كذلك. الثالث أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن وهو محال. الرابع أن أخبار الآحاد قد تتعارض فلو ورد التعبد بالعمل بها لكان وارداً بالعمل بما لا يكن العمل به ضرورة التعارض وهو ممتنع على الشارع. والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات الثاني أن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود وقول المفتي وما ذكروه من الفروق فباطلة. أما الفرق الأول فمن وجهين: الأول أنه لا يطرد في الأخبار المتعلقة بأنواع المعاملات الثاني أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه الصلح كالدماء والفروج. وأما الفرق الثاني فمن جهة أن الخبر كما يستلزم إثبات أمر شرعي كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك يستلزم إثبات أمر شرعي وهو وجوب القتل والقطع.
وأما دخول مكة فقد نقله الجمع الكثير وهو مستفيض مشهور أنه دخلها عنوة متسلحاً بالألوية والأعلام على سبيل القهر والغلبة مع بذل الأمان لمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة ودار أبي سفيان وإنما خالف بعض الفقهاء لما اشتبه عليه ذلك بأداء دية من قتله خالد بن الوليد ولا يبعد ظن ذلك من الآحاد. وأما تثنية الإقامة وإفرادها فإنما اختلفوا فيه لاحتمال أن المؤذن كان يفرد تارة ويثني أخرى فنقل كل بعض ما سمعه وأهمل الباقي لعلمه بأنه من الفروع المتسامح فيها وهو الجواب عن الجهر بالتسمية ورفع اليدين في الصلاة. وأما إفراد النبي وقرانه في الحج فإنما نقله الآحاد لأن ذلك مما يتعلق بالنية وليس ذلك مما يجب ظهوره ومناداة النبي ﷺ به. وأما نكاحه ميمونة وهو حرام فليس ذلك أيضاً مما يجب إظهاره بل جاز أن يكون قد وقع ذلك بمحضر جماعة يسيرة فلذلك انفرد به الآحاد وهو الجواب عن قبول شهادة الأعرابي وحده. المسألة السادسة مذهب الأكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلاً خلافاً للجبائي وجماعة من المتكلمين ودليل جوازه عقلاً أنا لو فرضنا ورود الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال كونه كاذباً أو مخطئاً وذلك لا يمنع من التعبد به بدليل اتفاقنا على التعبد بالعمل بقول المفتي والعمل بقول الشاهدين مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا به. فإن قيل: وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع بذلك لم يلزم عنه لذاته محال وأنه ليس محالاً لذاته عقلاً لكنه محال عقلاً باعتبار أمر خارج عن ذاته وذلك لأن التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به فإذا أخبر بخبر عن رسول الله بسفك دم واستحلال بضع محرم مع احتمال كونه كاذباً فلا يكون في العمل بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة وهو خلاف وضع الشرع ولهذا امتنع ورود التعبد بالعمل بخبر الفاسق والصبي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعاً وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين فالفرق بين الشهادة والخبر من ثلاثة أوجه: الأول أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ولا كذلك الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد. الثاني أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة. الثالث هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع والشهادة شرط لا مثبت بخلاف خبر الواحد فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي. ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة المنقول والمعقول. أما المنقول فقوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" "الإسراء 36" وقوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" "البقرة 169" وقوله تعالى: "وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً" "يونس 36" وأما المعقول فمن أربعة أوجه: الأول أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول عند ظننا بصدقه لاحتمال كونه مصلحة لجاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية وذلك دون اقتران المعجزة بقوله محال. الثاني أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع لجاز ورود التعبد به في الأصول وليس كذلك. الثالث أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن وهو محال. الرابع أن أخبار الآحاد قد تتعارض فلو ورد التعبد بالعمل بها لكان وارداً بالعمل بما لا يكن العمل به ضرورة التعارض وهو ممتنع على الشارع. والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات الثاني أن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود وقول المفتي وما ذكروه من الفروق فباطلة. أما الفرق الأول فمن وجهين: الأول أنه لا يطرد في الأخبار المتعلقة بأنواع المعاملات الثاني أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه الصلح كالدماء والفروج. وأما الفرق الثاني فمن جهة أن الخبر كما يستلزم إثبات أمر شرعي كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك يستلزم إثبات أمر شرعي وهو وجوب القتل والقطع.
فأما من قال بكونه حجة فقد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. الحجة الأولى: من جهة المعقول وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة وهي أنهم قالوا: العقلاء يعلمون وجوب العلم بخبر الواحد في العقليات ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ولا علة لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل وبيان ذلك أنه قد علم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني وأن لا نفصد وأن لا نقوم من تحت حائط مستهدم فقد ظننا تفصيلا لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن المضار. وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجوداً وعدماً وذلك بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات فوجب العمل به وذلك لأنا قد علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي ﷺ فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنا فإذا ظننا بخبر الواحد أن النبي ﷺ قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة فوجب العمل به. ولقائل أن يقول: أما أولاً: فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات بل غايته إذا ظننا صدقه أن يكون العمل بخبره أولى من تركه وكون الفعل أولى من الترك أمر أعم من الواجب لشموله للمندوب فلا يلزم منه الوجوب سلمنا أن العمل بخبره واجب في العقليات ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه وما ذكرتموه من الدوران فلا يدل على أن المدار علة للدائر لجواز أن تكون علة الوجوب غير ما ذكرتموه من ظن تفصيل جملة معلومة بالعقل وذلك بأن تكون العلة معنى ملازماً لما ذكرتموه لا نفس ما ذكرتموه ولا يلزم من التلازم بينهما في العقليات التلازم بينهما في الشرعيات بجواز أن يكون ذلك التلازم في العقليات اتفاقياً وإن سلمنا أن علة الوجوب ما ذكرتموه لكن لا يلزم أن يكون ذلك علة في الشرعيات لجواز أن يكون خصوص ما ظن تفصيل جملته في العقليات داخلاً في التعليل وتلك الخصوصية غير محققة في الشرعيات سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه علة بجهة عمومه لكن قطعاً أو ظناً الأول ممنوع والثاني مسلم غير أنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه فإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع متحقق فيه وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب العمل به في الشرعيات سلمنا عدم الانتقاض لكن غاية ما ذكرتموه أنه استعمال لقياس ظني في إفادة كون خبر الواحد حجة في الشرعيات مع كونه أصلاً من أصول الفقه وإنما يصح ذلك أن لو لم يكن التعبد في إثبات مثل ذلك بالطرق اليقينية وهو غير مسلم. الحجة الثانية أنهم قالوا: صدق الواحد في خبره ممكن فلو لم يعمل به لكنا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط. ولقائل أن يقول: صدق الراوي وإن كان ممكناً وراجحاً فلم قلتم بوجوب العمل به والاحتياط بالأخذ بقوله وإن كان مناسباً ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار ولا شاهد له سوى خبر التواتر وقول الواحد في الفتوى والشهادة ولا يمكن القياس على الأول لأن ذلك مفيد للعلم ولا يلزم من إفادته للوجوب إفادة الخبر الظني له ولا يمكن قياسه على الثاني وذلك لأن براءة الذمة معلومة وهي الأصل وغاية قول الشاهد والمفتي إذا غلب على الظن صدقه مخالفة البراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد ولا يلزم من العمل بخبر الشاهد والمفتي مع مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الناس وإن سلمنا صحة القياس فغايته أنه مفيد لظن الإلحاق وهو غير معتبر في إثبات الأصول كما تقدم في الحجة التي قبلها كيف وأنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه. الحجة الثالثة: أنهم قالوا إذا وقعت واقعة ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع وذلك ممتنع.
ولقائل أن يقول: خلو الواقعة عن الحكم الشرعي إنما يمتنع مع وجود دليله وأما مع عدم الدليل فلا ولهذا فإنه لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة الأصلية وعلى هذا فامتناع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي عند الظفر بخبر الواحد يتوقف على كون خبر الواحد حجة ودليلاً وكونه حجة يتوقف على امتناع خلو الواقعة مع وجوده عن الحكم وهو دور ممتنع كيف وإنا لا نسلم خلو الواقعة عن الحكم الشرعي فإن حكم الله تعالى في حق المكلف عند عدم الأدلة المقتضية لإثبات الحكم الشرعي نفى ذلك الحكم ومدركه شرعي فإن انتفاء مدارك الشرع بعد ورود الشرع مدرك شرعي لنفي الحكم. الحجة الرابعة: أنه لو لم يكن خبر الواحد واجب القبول لتعذر تحقيق بعثة الرسول إلى كل أهل عصره وذلك ممتنع وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل ولا سبيل له إلى المشافهة للكل لتعذره والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد والتواتر إلى كل أحد متعذر فلو لم يكن خبر الواحد مقبولاً لما تحقق معنى التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به وهو محال مخالف لقوله تعالى: "لتبين للناس ما نزل إليهم" "النحل 44". ولقائل أن يقول: إنما يمتنع ذلك أن لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجباً وأن كل من في عصره مكلف بما بعث به وليس كذلك بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه إما بالمشافهة أو بخبر التواتر وكذلك كل واحد من الأمة إنما كلف بما أرسل به الرسول إذا علمه وإما مع عدم علمه به فلا ولهذا فإن من كان في زمن الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة ولا سبيل إلى إعلامه فإن النبي ﷺ لم يكن مكلفاً بتبليغه ولا ذلك الشخص كان مكلفاً بما أرسل به. الحجة الخامسة: قالوا قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول وغلب على الظن صدقه فإما أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معاً أو تركهما معاً أو العمل بالمرجوح دون الراجح أو بالعكس: لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث لأنه محال فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: ما المانع من القول بأنه لا يجب العمل بقوله ولا يجب تركه بل هو جائز الترك؟ والقول بأن مخالفة أمر الرسول موجبة لاستحقاق العقاب مسلم فيما علم فيه أمر الرسول وأما مع عدم العلم به فهو محل النزاع هذا ما قيل من الحجج العقلية. وأما ما قيل من الحجج النقلية الواهية فمنها قوله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" "التوبة 122" ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم" "التوبة 122" أمر بالإنذار والإنذار هو الإخبار والأمر للوجوب وإنما أمر بالإنذار طلباً للحذر بدليل قوله تعالى: "لعلهم يحذرون" "التوبة 122" ولعل ظاهرة في الترجي وهو مستحيل في حق الله تعالى فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي وهو الطلب فكان الأمر بالإنذار طلباً للتحذير فكان أمراً بالتحذير فكان الحذر واجباً وإذا ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر فالمراد من لفظ الطائفة إنما هو العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول أن لفظ الطائفة قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر كالاثنين والثلاثة وعلى العدد المنتهي إلى حد التواتر والأصل في الإطلاق الحقيقة ويجب اعتقاد اتحاد المسمى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ والقدر المشترك لا يخرج عن العدد القليل وما لازمه فكان هو المسمى. الثاني أن الثلاثة فرقة فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان.
الثالث أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ الطائفة التي وجب عليها الخروج للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر أو ما دونه لا جائز أن يقال بالأول وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة إذا كان ما دونهم لا ينتهون إلى حد التواتر أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار وذلك لا قائل به في عصر النبي ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة لزم أن يكون حجة في غيرها ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه وصيغة قوله لينذروا لا نسلم أنها للأمر وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي سلمنا أنها للوجوب ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من فعل شيء أو تركه بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة والتخويف خارج عن الإخبار سلمنا أن المراد به الإخبار ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق الفتوى في الفروع والأصول ونحن نقول به سلمنا أن المراد به الإخبار عن الرسول بما سمع عنه ومنه ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك إيجاب الحذر على من أخبر. قولكم يجب حمل قوله تعالى "لعل" على طلب الحذر لكونه ملازماً للترجي قلنا: الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى والثاني ممنوع وإذا لم يكن الحذر مأموراً به لا يكون واجباً ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في الشرعيات غير خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول والخصم مانع لصحته. ومنها قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" "الحجرات 6" ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين: الأول أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق فدل على أن خبر غير الفاسق بخلافه وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله لا جائز أن يقال الأول وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق وهو محال فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب الثاني أن سبب نزول هذه الآية أن النبي ﷺ بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعياً إلى قوم فعاد وأخبر النبي ﷺ أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا وأرادوا قتله فأجمع النبي ﷺ على غزوهم وقتلهم وذلك حكم شرعي وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ولو لم يكن جائزاً لما أراده ولا نكره الله تعالى عليه. وهذه الحجة أيضاً ضعيفة: أما الوجه الأول فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة وسنبين أنه ليس بحجة وإن كان حجة لكنه حجة ظنية فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول. وأما الوجه الثاني فمن وجهين الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم بخبر الوليد بن عقبة فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبت في أمرهم فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد بن الوليد ورأى ما يعجبه منهم فرجع إلى النبي وأخبره بذلك. الثاني أن ما ذكروه من سبب النزول من أخبار الآحاد فلا يكون حجة في الأصول ومنها قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" "البقرة 143" ووجه الحجة من ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ولا يجوز أن يجعله الله شاهداً على الناس وهو غير مقبول القول. ولقائل أن يقول: الآية خطاب مع الأمة لا مع الآحاد فلا تكون حجة في محل النزاع ومنها قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" "البقرة 159" الآية ووجه الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى وذلك يدل على إيجاب إظهار الهدى وما يسمعه الواحد من النبي ﷺ فهو من الهدى فيجب عليه إظهاره فلو لم يجب علينا قبوله لكان الإظهار كعدمه فلا يجب.
ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون المراد من قوله: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" "البقرة 159" العدد الذي تقوم به الحجة ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك وبتقدير إرادة ما دون ذلك فيحتمل أن يكون المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول حتى السنة فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول على من سمعه وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على لسان الآحاد ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه وإن كان لا يجب على سامعه قبوله وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل واحد واحد حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم ومع ذلك كله فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية فلا تكون حجة في الأصول لما سبق. ومنها قوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" "النحل 43" أمر بسؤال أهل الذكر والأمر للوجوب ولم يفرق بين المجتهد وغيره وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمعه دون الفتوى ولو لم يكن القبول واجباً لما كان السؤال واجباً. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله "فاسألوا" صيغة أمر وإن كانت أمرا فلا نسلم أنها للوجوب كما يأتي وإن كانت للوجوب فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم وأن يكون المراد من المسؤول عنه الفتوى وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر فيحتمل أن يكون المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر وذلك لأنه أوجب السؤال عند عدم العلم فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال لكان السؤال واجباً بعد حصول خبر الواحد لعدم حصول العلم بخبره فإنه لا يفيد غير الظن وذلك يدل على أن العمل بخبر الواحد غير واجب لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال فذلك إنما يتم بخبر التواتر لا بما دونه وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق فلا يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجباً بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول لكنها دلالة ظنية فلا يحتج بها في الأصول. ومنها قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" "النساء 135" أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله والأمر للوجوب ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه فقد قام بالقسط وشهد لله فكان ذلك واجباً عليه وإنما يكون ذلك واجباً إن لو كان القبول واجباً وإلا كان وجود الشهادة كعدمها وهو ممتنع. ولقائل أن يقول: لا أسلم دلالة الآية على وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي وإن سلمنا دلالتها على وجوب ذلك غير أنا نقول بموجب الآية فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون فيما يجوز العمل به وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياماً بالقسط ولا شهادة لله وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد على أنه قام بالقسط وأنه شاهد لله وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف عل قبول خبره وجواز العمل به وهو دور ممتنع وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ولكن لا نسلم أنه واجب القبول ودليله ما سبق وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول ولكن لجهة الظن فلا يصح. ومنها ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي ﷺ أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد بالدعاء إلى الإسلام وتبليغ الأخبار والأحكام وفصل الخصومات وقبض الزكوات ونحو ذلك مع علمنا بتكليف المبعوث إليه بالطاعة والانقياد لقبول قول المبعوث إليهم والعمل بمقتضى ما يقول مع كون المنفذ من الآحاد ولو لم يكن خبر الواحد حجة لما كان كذلك.
ولقائل أن يقول: وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها وذلك محل النزاع سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار الدالة على الأحكام الشرعية وتعريفهم إياها ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على كون خبر الواحد في ذلك حجة بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم للمبعوث إليهم بما تواتر بضم خبر غير ذلك الواحد إليه ومع هذه الاحتمالات فلا يثبت كون خبر الواحد حجة فيما نحن فيه. وقد أورد على هذه الحجة سؤالان آخران لا وجه لهما الأول أن النبي ﷺ كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى وتعريف الرسالة فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع. الثاني أن من الجائز أن يكون تنفيذ الآحاد بالإخبار عن أحكام شرعية كانت معلومة للمبعوث لهم قبل إرسال ذلك الواحد بها كما أنهم علموا وجوب العمل بخبر الواحد قبل إرسال ذلك الواحد إليهم على أصلكم. والجواب: عن الأول أن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول لكونه خبر واحد بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية ويعرفهم من الدلائل اليقينية التي تشهد بصحتها عقولهم ولا كذلك فيما يخبر به من الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية. وعن الثاني أنهم لو كانوا عالمين بالأحكام الشرعية التي دل عليها خبر الواحد لما احتيج إلى إرساله لتعريفهم لما قد عرفوه لما فيه من تحصيل الحاصل كيف وإن تعريف المعلوم بالخبر المظنون محال وهذا بخلاف ما إذا علم كون خبر الواحد مما يجب العمل به في الجملة فإن تنفيذ الواحد لا يعرف وجوب العمل بقوله بل إنما يعرف المخبر به على ما هو عليه وذلك لم يكن معروفاً قبل خبره فكان تنفيذه لتعريف ذلك مفيداً. والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة ويدل على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العد والحصر المتفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب العمل به فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة أن النبي أطعمها السدس فجعل لها السدس ومن ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو قوله ﷺ: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وعمل أيضاً بخبر حمل ابن مالك في الجنين وهو قوله كنت بين جاريتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً فقضى فيه رسول الله ﷺ بغرة فقال عمر: لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا وروي عنه أنه قال: كدنا نقضي فيه برأينا وأيضاً فإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ﷺ كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه وأيضاً فإنه كان يرى في الأصابع نصف الدية ويفاضل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشرة ثم رجع إلى خبر عمرو بن جزم أن في كل إصبع عشرة. ومن ذلك عمل عثمان وعلي رضي الله عنهما بخبر فريعة بنت مالك في اعتداد المتوفي عنها زوجها في منزل زوجها وهو أنها قالت: جئت إلى النبي ﷺ بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة فقال ﷺ: امكثي حتى تنقضي عدتك. ومن ذلك ما اشتهر من عمل علي عليه السلام بخبر الواحد وقوله: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته. ومن ذلك عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة. ومن ذلك عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وأبي بن كعب شراباً من فضيخ التمر إذ أتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها قال فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
ومن ذلك عمل أهل قبا في التحول من القبلة بخبر الواحد أن القبلة قد نسخت فالتفتوا إلى الكعبة بخبره ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه بلغه عن رجل أنه قال إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس: كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله ﷺ ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل وسماه عدواً لله ومن ذلك ما روي أنه لما باع معاوية شيئاً من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن ذلك فقال له معاوية: لا أرى بذلك بأساً فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله ﷺ ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبداً ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه أبو بكر الصديق من قوله: الأئمة من قريش ومن قوله الأنبياء يدفنون حيث يموتون ومن قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وعملهم بأجمعهم في الرجوع عن سقوط فرض الغسل بالتقاء الختانين بقول عائشة فعلته أنا ورسول الله ﷺ واغتسلنا وعمل جميعهم بخبر رافع بن خديج في المخابرة وذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي ﷺ نهى عن ذلك فانتهينا وإلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عدداً وكان ذلك شائعاً ذائعاً فيما بينهم من غير نكير وعلى هذا جرت سنة التابعين كعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع ابن جبير وخارجة بن زيد وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وطاوس وعطاء بن مجاهد وسعيد بن المسيب وفقهاء الحرمين والمصرين يعني الكوفة والبصرة إلى حين ظهور المخالفين. فإن قيل: ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون خبر الواحد حجة أخبار آحاد وذلك يتوقف على كونها حجة وهو دور ممتنع سلمنا عدم الدور ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس أو قرائن الأحوال أو غير ذلك من الأسباب سلمنا أنهم عملوا بها لا غير لكن كل الصحابة أو بعضهم الأول ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه والثاني مسلم لكن لا حجة فيه. قولكم لم يوجد له نكير لا نسلم ذلك وبيانه من وجوه منها رد أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة ومنها رد أبي بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله ﷺ في رد الحكم بن أبي العاص ومنها رد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستيذان وهو قوله سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف" حتى روى معه أبو سعيد الخدري ومنها رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر ومنها رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. سلمنا عدم الرد والإنكار ظاهراً غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة لما سبق في مسائل الإجماع سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه بالقبول وعملوا بموجبه أو مطلقاً في كل خبر الأول مسلم وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل على صحته قطعاً نفياً للخطأ عن الإجماع والثاني ممنوع وعلى هذا فيمتنع الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد حجة لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة وبيانه من جهة المعقول والمنقول: أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" "الإسراء 36" وقوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" "البقرة 169" وقوله تعالى: "إن يتبعون إلا الظن" "النجم 28" ذكر ذلك في معرض الذم والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن فكان ممتنعاً. وأما السنة فما روي عن النبي ﷺ أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سلم النبي ﷺ عن اثنتين وهو قوله: "أقصرت الصلاة أم نسيت" حتى أخبر أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه فأتم وسجد للسهو وأما المعقول فمن وجوه. الأول أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع لجاز ذلك في الرسالة والأصول وهو ممتنع.
الثاني أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق وهو مقطوع به فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنوناً. الثالث أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له. الرابع أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد فلا يجوز للمجتهد ذلك كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر. والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار وإن كانت آحادها آحاداً فهي متواترة من جهة الجملة كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنترة. وعن الثاني أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية لكانت العادة تحيل تواطؤهم على عدم نقله ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر من الأخبار كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا وقول ابن عمر حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي ﷺ نهى عن ذلك فانتهينا وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر عائشة في التقاء الختانين إلى غير ذلك وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع الوقائع دليل العمل بها. وعن الثالث أن عمل بعض الصحابة بل الأكثر من المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك كما سبق تقريره في مسائل الإجماع وما رووه من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها مع كونهم متفقين على العمل بها ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها. وعن الرابع أن اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه أن لو لم يكونوا متعبدين باتباع الظن وليس كذلك بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة المتواترة والعمل بالقياس على ما يأتي وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد لكونه ظنياً مضبوطاً بالعدالة كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولاً بها ضرورة بالاتفاق عليه من تلك الجهة وذلك يعم خبر كل عدل. وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً. وعن السنة أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين وعمل بموجب خبره كيف وإن عمل النبي ﷺ بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر وهو موضع النزاع وفي تسليمه تسليم المطلوب. وعن المعارضة الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة كيف والفرق حاصل وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي فلم يكن الدليل الظني معتبراً فيها بخلاف الفروع وعن الثانية من وجهين: الأول أن براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون رفع مقطوع بمظنون الثاني أنه منتقض بالشهادة والفتوى. وعن الثالث أن تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به وإلا لما ساغ التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة لأنه ما من واحد منها إلا ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له ولما ساغ أيضاً للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ولا للعامي الأخذ بفتوى المجتهد له لجواز وجود ما يعارضه وذلك خلاف الإجماع. وعن الرابع أنه إنما لم يجز تقليد العالم للعالم لاستوائهما في درجة الاجتهاد وليس تقليد أحدهما للآخر أولى من العكس ولا كذلك المجتهد مع الراوي فإنهما لم يستويا في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما رواه. وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك. وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة والله أعلم بالصواب. القسم الثاني في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد وما يتشعب عنها من المسائل أما الشروط فمنها ما لا بد منها ومنها ما ظن أنها شروط وليست كذلك أما الشروط المعتبرة فهي أربعة. الشرط الأول أن يكون الراوي مكلفاً. وذلك لأن من لا يكون مكلفاً إما أن يكون بحيث لا يقدر على الضبط والاحتراز فيما يتحمله ويؤديه كالمجنون والصبي غير المميز فلا تقبل روايته لتمكن الخلل فيها وإما أن يكون بحيث يقدر على الضبط والمعرفة كالصبي المميز والمراهق الذي لم يبق بينه وبين البلوغ سوى الزمان اليسير فلا تقبل روايته لا لعدم ضبطه فإنه قادر عليه متمكن منه ولا لما قيل من أنه لا يقبل إقراره على نفسه فلا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى لأنه منتقض بالعبد وبالمحجور عليه فإنه لا يقبل إقراره على نفسه وروايته مقبولة بالإجماع بل لأنا أجمعنا على عدم قبول رواية الفاسق لاحتمال كذبه مع أنه يخاف الله تعالى لكونه مكلفاً فاحتمال الكذب من الصبي مع أنه لا يخاف الله تعالى لعدم تكليفه يكون أظهر من احتمال الكذب في حق الفاسق فكان أولى بالرد ولا يلزم من قبول قوله في إخباره أنه متطهر حتى إنه يصح الاقتداء به في الصلاة مع أن الظن بكونه متطهراً شرط في صحة الاقتداء به وقبول روايته لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الاقتداء به في الصلاة ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند ظن طهارته ولا تقبل روايته وإن ظن صدقه ومن قال بقبول شهادة الصبيان فيما يجري بينهم من الجنايات. فإنما كان اعتماده في ذلك على أن الجنايات فيما بينهم مما تكثر وأن الحاجة ماسة إلى معرفة ذلك بالقرائن وهي شهادتهم مع كثرتهم قبل تفرقهم وليس ذلك جارياً على منهاج الشهادة ولا الرواية وهذا بخلاف ما إذا تحمل الرواية قبل البلوغ وكان ضابطاً لها وأداها بعد البلوغ وظهور رشده في دينه فإنها تكون مقبولة لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول روايته الإجماع والمعقول أما الإجماع فمن وجهين: الأول أن الصحابة أجمعت على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة مطلقاً من غير فرق بين ما تحملوه في حالة الصغر وبعد البلوغ. الثاني إجماع السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث وقبول روايتهم لما تحملوه في حالة الصبا بعد البلوغ. وأما المعقول فهو أن التحرز في أمر الشهادة أكثر منه في الرواية ولهذا اختلف في قبول شهادة العبد والأكثر على ردها ولم يختلف في قبول رواية العبد واعتبر العدد في الشهادة بالإجماع واختلف في اعتباره في الرواية وقد أجمعنا على أن ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به بعد البلوغ قبلت شهادته فالرواية أولى بالقبول. الشرط الثاني: أن يكون مسلماً. وذلك لأن الكافر إما أن لا يكون منتمياً إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني ونحوه أو هو منتم إليها كالمجسم. فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع قبول روايته لا لما قيل من أن الكفر أعظم أنواع الفسق والفاسق غير مقبول الرواية فالكافر أولى وذلك لأن الفاسق إنما لم تقبل روايته لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها وهذا المعنى غير متحقق في حق الكافر إذا كان مترهباً عدلاً في دينه معتقداً لتحريم الكذب ممتنعاً منه حسب امتناع العدل المسلم وإنما الاعتماد في امتناع قبول روايته على إجماع الأمة الإسلامية على ردها سلباً لأهلية هذا المنصب الشريف عنه لخسته. وإن كان الثاني فقد اختلفوا فيه فمذهب أكثر أصحابنا كالقاضي أبي بكر والغزالي والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنه مردود الرواية وقال أبو الحسين البصري: إن كان ذلك فيمن اشتهر بالكذب والتدين به لنصرة مذهبه فلا تقبل روايته لعدم الوثوق بصدقه وإن كان متحرجاً في مذهبه متحرزاً عن الكذب حسب احتراز العدل عنه فهو مقبول الرواية لأن صدقه ظاهر مظنون والمختار رده لا لما قيل من إجماع الأمة على رده ولا لقياسه على الكافر الخارج عن الملة بواسطة اشتراكهما في الكفر المناسب لسلب أهلية هذا المنصب عنه إذلالاً له. أما الأول فلأن للخصم منع اتفاق الأمة على رد قول الكافر مطلقاً ولا سبيل إلى الدلالة عليه والقياس على الكافر الخارج عن الملة متعذر من جهة أن كفره أشد وأغلظ وأظهر من كفر من هو من أهل القبلة لكثرة مخالفته للقاعدة الإسلامية أصولاً وفروعاً بالنسبة إلى مخالفة المتأول لها. فكان إذلاله بسلب هذا المنصب عنه أولى ومع هذه الأولوية فلا قياس بل الواجب الاعتماد في ذلك على قوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" "الحجرات 6" أمر بالتثبت عند إخبار الفاسق والكافر فاسق لأن الكفر أعلى درجات الفسق وإذا كان فاسقاً فالآية إن كانت عامة بلفظها في كل فاسق فالكافر داخل تحتها وإن لم تكن عامة بلفظها في كل فاسق فهي عامة بالنظر إلى المعنى المومي إليه وهو الفسق من حيث إنه رتب رد الخبر على كون الآتي به فاسقاً مطلقاً في كلام الشارع مع مناسبته له فكان ذلك علة للرد وهو متحقق فيما نحن فيه. فإن قيل المرتب عليه رد الأخبار إنما هو مسمى الفاسق وهو في عرف الشرع خاص بمن هو مسلم صدرت منه كبيرة أو واظب على صغيرة فلا يكون متناولاً للكافر وإن سلمنا تناوله للكافر غير أنه معارض بقوله ﷺ "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" والكافر المتأول إذا كان متحرزاً عن الكذب فقد ظهر صدقه فوجب العمل به للخبر. والجواب عن السؤال الأول بمنع اختصاص اسم الفاسق في الشرع بالمسلم وإن كان ذلك عرفاً للمتأخرين من الفقهاء وكلام الشارع إنما ينزل على عرفه لا على ما صار عرفاً للفقهاء كيف وإن حمل الآية على الفاسق المسلم مما يوهم قبول خبر الفاسق الكافر على الإطلاق نظراً إلى قضية المفهوم وهو خلاف الإجماع ولا يخفى أن حمل اللفظ على ما يلزم منه مخالفة دليل أو ما اختلف في كونه دليلاً على خلاف الأصل. وعن السؤال الثاني أن العمل بما ذكرناه أولى لتواتره وخصوصه بالفاسق وأنه غير متفق على تخصيصه ومخالفته وما ذكروه آحاد وهو متناول للكافر بعموم كون خبره ظاهراً أو هو مخالف لخبر الكافر الخارج عن الملة والفاسق إذا ظن صدقه فإن خبره لا يكون مقبولاً بالإجماع. الشرط الثالث: أن يكون ضبطه لما يسمعه أرجح من عدم ضبطه وذكره له أرجح من سهوه لحصول غلبة الظن بصدقه فيما يرويه. وإلا فبتقدير رجحان مقابل كل واحد من الأمرين عليه أو معادلته له فروايته لا تكون مقبولة لعدم حصول الظن بصدقه أما على أحد التقديرين فلكون صدقه مرجوحاً وأما على التقدير الآخر فلضرورة التساوي وإن جهل حال الراوي في ذلك كان الاعتماد على ما هو الأغلب من حال الرواة وإن لم يعلم الأغلب من ذلك فلا بد من الاختبار والامتحان. فإن قيل إنه وإن غلب السهو على الذكر أو تعادلاً فالراوي عدل والظاهر منه أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بذكره له وضبطه ولهذا فإن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته حتى قالت عائشة رضي الله عنها رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهزاراً في حديث المهراس ومع ذلك قبلوا أخباره لما كان الظاهر من حاله أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بضبطه وذكره وأيضا فإن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فتساوي الضبط والاختلال والذكر والنسيان غايته أنه موجب للشك في الصحة والشك في ذلك لا يقدح في الأصل كما إذا كان متطهراً ثم شك بعد ذلك أنه محدث أو طاهر فإن الأصل هاهنا لا يترك بهذا الشك. قلنا: إذا كان الغرض إنما هو غلبة السهو أو التعادل فالراوي وإن كان الغالب من حاله أنه لا يروي إلا ما يظن أنه ذاكر له فذلك لا يوجب حصول الظن بصحة روايته لأن من شأنه النسيان يظن أنه ما نسي وإن كان ناسياً وأما إنكار الصحابة على أبي هريرة كثرة الرواية فلم يكن ذلك لاختلال ضبطه وغلبة النسيان عليه بل لأن الإكثار مما لا يؤمن معه اختلال الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته وإن كان ذلك بعيداً.
وما قيل من أن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فلا يترك بالشك قلنا إنما يكون دليلاً والأصل فيه الصحة إذا كان مغلباً على الظن ومع عدم ترجيح ذكر الراوي على نسيانه لا يكون مغلباً على الظن فلا يكون دليلاً لوقوع التردد في كونه دليلاً لا في أمر خارج عنه ولا كذلك فيما إذا شك في الحديث ثم تيقن سابقة الطهارة فإن تيقن الطهارة السابقة لا يقدح فيه الشك الطارئ وبالنظر إليه يترجح إليه أحد الاحتمالين فلا يبقى معه الشك في الدوام حتى إنه لو بقي الشك مع النظر إلى الأصل لما حكم بالطهارة. الشرط الرابع: أن يكون الراوي متصفاً بصفة العدالة وذلك يتوقف على معرفة العدل لغة وشرعاً. أما العدل في اللغة فهو عبارة عن المتوسط في الأمور من غير إفراط في طرفي الزيادة والنقصان ومنه قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" "البقرة 143" أي عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد وقد يطلق في اللغة ويراد به المصدر المقابل للجور وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب له وترك ما لا يجب والجور في مقابلته وقد يطلق ويراد به ما كان من الأفعال الحسنة يتعدى الفاعل إلى غيره ومنه يقال للملك المحسن إلى رعيته: عادل. وأما في لسان المتشرعة فقد يطلق ويراد به أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي ﷺ وقد قال الغزالي في معنى هذه الأهلية إنها عبارة عن استقامة السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه. وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات أما الكبائر فقد روى ابن عمر عن أبيه عن النبي ﷺ أنه قال "الكبائر تسع: الشرك بالله تعالى وقتل النفس المؤمنة وقذف المحصنة والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد بالبيت الحرام". وروى أبو هريرة مع ذلك: أكل الربا والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة وروي عن علي عليه السلام أنه أضاف إلى ذلك السرقة وشرب الخمر. وأما بعض الصغائر فما يدل فعله على نقض الدين وعدم الترفع عن الكذب وذلك كسرقة لقمة والتطفيف بحبة واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث ونحوه. وأما بعض المباحات فما يدل على نقص المروءة ودناءة الهمة كالأكل في السوق والبول في الشوارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ونحو ذلك مما يدل على سرعة الإقدام على الكذب وعدم الاكتراث به. ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي ﷺ لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى أن لا يجتنب الكذب فلا يكون موثوقاً بقوله ولا خلاف أيضاً في اشتراط هذه الأمور الأربعة في الشهادة. وتختص الشهادة بشروط أخر: كالحرية والذكورة والعدد والبصر وعدم القرابة والعداوة. وإذ أتينا على تحقيق شروط الرواية فلا بد من الإشارة إلى ذكر مسائل متشعبة عن شروط العدالة جرت العادة بذكرها وهي ثمان مسائل: المسألة الأولى مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له. وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً. وقد احتج النافون بحجج الأولى: أن الدليل بنفي قبول خبر الفاسق وهو قوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" "الحجرات 6" غير أنا خالفناه فيمن ظهرت عدالته بالاختبار بمعنى لا وجود له في محل النزاع وهو ما اختص به من زيادة ظهور الثقة بقوله فوجب أن لا يقبل ولقائل أن يقول: الآية إنما دلت على امتناع قبول خبر الفاسق ومن ظهر إسلامه وسلم من الفسق ظاهراً لا نسلم أنه فاسق حتى يندرج تحت عموم الآية واحتمال وجود الفسق فيه لا يوجب كونه فاسقاً بدليل العدل المتفق على عدالته.
الحجة الثانية: أنه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية دفعاً لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات ولقائل أن يقول: وإن كان احتمال الكذب قائماً ظاهراً غير أن احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أظهر من احتمال الكذب ومع ذلك فاحتمال القبول يكون أولى من احتمال الرد ولا يمكن القياس على الشهادة لأن الاحتياط في باب الشهادة أتم منه في باب الرواية ولهذا كان العدد والحرية مشترطاً في الشهادة دون الرواية ومتعبداً فيها بألفاظ خاصة غير معتبرة في الرواية حتى إنه لو قال أعلم بدل قوله أشهد لم يكن مقبولاً وعلى هذا فلا يلزم من اشتراط ظهور العدالة في الشهادة بالخبرة الباطنة اشتراط ذلك في الرواية. الحجة الثالثة قالوا: أجمعنا على أن العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي ﷺ وعلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار فلا تقبل أخباره دفعاً للمفسدة اللازمة من فوات الشرط كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنه لا يجب على المقلد اتباعه إجماعاً. ولقائل أن يقول: المجمع على اشتراطه في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أو بمعنى آخر والأول مسلم غير أن ما هو الشرط متحقق فيما نحن فيه والثاني ممنوع كيف وإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق في الحجة المتقدمة وبتقدير ظهور مناسبة الوصف الجامع فالاعتبار بالمفتي غير ممكن وذلك لأن بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ولهذا كانت العدالة أغلب وقوعاً من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية وعند ذلك فاحتمال عدم صفة الاجتهاد يكون أغلب من عدم صفة العدالة فلا يلزم من عدم قبول قول المفتي مع الجهل بحاله القول بعدم قبول الراوي مع الجهل بحاله. الحجة الرابعة أن عدم الفسق شرط في قبول الرواية فاعتبر فيه الخبرة الباطنية مبالغة في دفع الضرر كما في عدم الصبي والرق والكفر في قبول الشهادة. ولقائل أن يقول ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق تقريره في الحجة الثانية وبتقدير مناسبته فالقياس على الشهادة غير ممكن لما تقدم. الحجة الخامسة قالوا: رد عمر رواية فاطمة بنت قيس لما كانت مجهولة الحال وعلي عليه السلام رد قول الأشجعي في المفوضة واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً. ولقائل أن يقول: أما رد عمر لخبر فاطمة إنما كان لأنه لم يظهر صدقها ولهذا قال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وما نحن فيه ليس كذلك فإن من ظهر إسلامه وسلامته من الفسق ظاهراً فاحتمال صدقه لا محالة أظهر من احتمال كذبه وأما رد علي عليه السلام لخبر الأشجعي فإنما كان أيضاً لعدم ظهور صدقه عنده ولهذا وصفه بكونه بوالاً على عقبيه أي غير محترز في أمور دينه ويجب أن يكون كذلك وإلا كان مخالفاً لقوله ﷺ "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر". والمعتمد في المسألة أنا نقول: القول بوجوب قبول رواية مجهول الحال يستدعي دليلاً والأصل عدم ذلك الدليل والمسألة اجتهادية ظنية فكان ذلك كافياً فيها فإن قيل بيان وجود الدليل من جهة النص والإجماع والمعقول: أما النص فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا" "الحجرات 6" أمر بالتثبت مشروطاً بالفسق فما لم يظهر الفسق لا يجب التثبت فيه. وأما السنة فمن وجهين: الأول قوله عليه السلام: "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وما نحن فيه فالظاهر من حاله الصدق فكان داخلاً تحت عموم الخبر الثاني أن النبي ﷺ لما جاءه الأعرابي وقال أشهد أن لا إله إلا الله وشهد برؤية الهلال عنده قبل شهادته وأمر بالنداء بالصوم لما ثبت عنده إسلامه ولم يعلم منه ما يوجب فسقاً فالرواية أولى. وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا متفقين على قبول أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من الفسق ظاهراً.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق فكان خبره مقبولاً كإخباره بكون اللحم لحم مذكي وكون الماء طاهراً أو نجساً وكون الجارية المبيعة رقيقة وكونه متطهراً عن الحدثين حتى يصح الاقتداء به ونحوه والثاني أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبراً من غير مهلة فمع ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه يمتنع رد روايته وإذا قبلت روايته حال إسلامه فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده. والجواب عن الآية أن العمل بموجبها نفياً وإثباتاً متوقف على معرفة كونه فاسقاً أو ليس فاسقاً لا على عدم علمنا بفسقه وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله وعن الخبر الأول من ثلاثة أوجه: الأول أن النبي ﷺ أضاف الحكم بالظاهر إلى نفسه ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه لا بنفس النص المذكور والقياس عليه ممتنع لأن ما للنبي ﷺ من الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية غير متحقق في حق غيره. الثاني أنه رتب الحكم على الظاهر وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة. الثالث المعارضة بقوله تعالى: "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" "يونس" وليس العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر بل العمل بالآية أولى لأنها متواترة وما ذكروه آحاد. وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن النبي ﷺ لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام. وعن الإجماع لا نسلم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق بأخبار النبي ﷺ ولهذا ردوا رواية من جهلوه كرد عمر شهادة فاطمة بنت قيس ورد علي شهادة الأعرابي. وعن الوجه الأول من المعقول بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع وذلك من وجهين: الأول أن الرواية عن النبي ﷺ أعلى رتبة وأشرف منصباً من الإخبار فيما ذكروه من الصور فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما الثاني أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور الفسق ولا كذلك فيما نحن فيه. وعن الوجه الثاني من المعقول بمنع قبول روايته دون الخبرة بحاله لاحتمال أن يكون كذوباً وهو باق على طبعه وإن قلنا: روايته في مبدأ إسلامه فلا يلزم ذلك في حالة دوامه لما بين ابتداء الإسلام ودوامه من رقة القلب وشدة الأخذ بموجباته والحرص على امتثال مأموراته واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في أمر محبوب والتزمه فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه. المسألة الثانية الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو إما أن يكون فسقه مظنوناً أو مقطوعاً به. فإن كان مظنوناً كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ فالأظهر قبول روايته وشهادته وقد قال الشافعي رضي الله عنه: إذا شرب الحنفي النبيذ أحده وأقبل شهادته. وإن كان فسقه مقطوعاً به فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول فلا نعرف خلافاً في امتناع قبول شهادته كالخطائية من الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقهم في المذهب وإن كان الثاني كفسق الخوارج الذين استباحوا الدار وقتلوا الأطفال والنسوان فهو موضع الخلاف: فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء أن روايته وشهادته مقبولة وهو اختيار الغزالي وأبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين وذهب القاضي أبو بكر والجبائي وأبو هاشم وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته وهو المختار. وقد احتج النافون بحجة ضعيفة وذلك أنهم قالوا: أجمعنا على أن الفاسق المفروض لو كان عالماً بفسقه لم يقبل خبره فإذا كان جاهلاً بفسقه معتقداً أنه ليس بفاسق فقد انضم إلى فسقه فسق آخر وخطيئة أخرى وهو اعتقاده في الفسق أنه ليس بفسق فكان أولى أن لا يقبل خبره.
ولقائل أن يقول: إذا لم يعتقد أنه فاسق وكان متحرجاً محترزاً في دينه عن الكذب وارتكاب المعصية فكان إخباره مغلباً على الظن صدقه بخلاف ما إذا علم أن ما يأتي به فسقاً فذلك يدل على قلة مبالاته بالمعصية وعدم تحرزه عن الكذب فافترقا والمعتمد في ذلك النص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا" "الحجرات 6" أمر برد نبأ الفاسق والخلاف إنما هو فيمن قطع بفسقه فكان مندرجاً تحت عموم الآية غير أنا خالفناه فيمن كان فسقه مظنوناً وما نحن فيه مقطوع بفسقه فلا يكون في معنى صورة المخالفة وأيضا قوله تعالى: "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" "يونس 36" غير أنا خالفناه في خبر من ظهرت عدالته وفيمن كان فسقه مظنوناً فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. وأما المعقول فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلاً والأصل عدمه فإن قيل: بيان وجود الدليل النص والإجماع والقياس: أما النص فقوله ﷺ "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" والفاسق فيما نحن فيه محترز عن الكذب متدين بتحريمه فكان صدقه في خبره ظاهراً فكان مندرجاً تحت عموم الخبر. وأما الإجماع فهو أن علياً عليه السلام والصحابة قبلوا أقوال قتلة عثمان والخوارج مع فسقهم ولم ينكر ذلك منكر فكان ذلك إجماعاً. وأما القياس فهو أن الظن بصدقه موجود فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده قياساً على العدل والمظنون فسقه والجواب: عن الخبر ما سبق في المسألة التي قبلها. وعن الإجماع: أنا لا نسلم أن كل من قبل شهادة الخوارج وقتلة عثمان كانوا يعتقدون فسقهم فإن الخوارج من جملة المسلمين والصحابة ولم يكونوا معتقدين فسق أنفسهم ومع عدم اعتقاد الجميع لفسقهم وإن قبلوا شهادتهم فلا يتحقق انعقاد الإجماع على قبول خبر الفاسق. وعن القياس بالفرق في الأصول المستشهد بها أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة والرواية وذلك يناسب قبوله إعظاماً له وإجلالاً بخلاف الفاسق وأما في مظنون الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان فسقه مقطوعاً به فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا. المسألة الثالثة اختلفوا في الجرح والتعديل: هل يثبت بقول الواحد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا بد في التعديل والجرح من اعتبار العدد في الرواية والشهادة وذهب آخرون إلى الاكتفاء بالواحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر. والذي عليه الأكثر إنما هو الاكتفاء بالواحد في باب الرواية دون الشهادة وهو الأشبه وذلك لأنه لا نص ولا إجماع في هذه المسألة يدل على تعيين أحد هذه المذاهب فلم يبق غير التشبيه والقياس. ولا يخفى أن العدالة شرط في قبول الشهادة والرواية والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه فكان إلحاق الشرط بالمشروط في طريق إثباته أولى من إلحاقه بغيره وقد اعتبر العدد في قبول الشهادة دون قبول الرواية فكان الحكم في شرط كل واحد منهما ما هو الحكم في مشروطه. فإن قيل: التزكية والتعديل شهادة فكان العدد معتبراً فيهما كالشهادة على الحقوق قلنا: ليس ذلك أولى من قول القائل بأنها إخبار فلا يعتبر العدد في قبولها كنفس الرواية فإن قيل: إلا أن ما ذكرناه أولى لما فيه من زيادة الاحتياط. قلنا: بل ما يقوله الخصم أولى حذراً من تضييع أوامر الله تعالى ونواهيه كيف وأن اعتبار قول الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه ولا يخفى أن ما يلزم منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته. المسألة الرابعة اختلفوا في قبول الجرح والتعديل دون ذكر سببهما: فقال قوم: لا بد من ذكر السبب فيهما أما في الجرح فلاختلاف الناس فيما يجرح به فلعله اعتقده جارحاً وغيره لا يراه جارحاً وأما في العدالة فلأن مطلق التعديل لا يكون محصلاً للثقة بالعدالة لجري العادة بتسارع الناس إلى ذلك بناء على الظاهر. وقال قوم: لا حاجة إلى ذلك فيهما اكتفاء ببصيرة المزكي والجارح وهو اختيار القاضي أبي بكر. وقال الشافعي رضي الله عنه لا بد من ذكر سبب الجرح لاختلاف الناس فيما يجرح به بخلاف العدالة فإن سببها واحد لا اختلاف فيه ومنهم من عكس الحال واعتبر ذكر سبب العدالة دون الجرح.
والمختار إنما هو مذهب القاضي أبي بكر وذلك لأنه إما أن يكون المزكي والجارح عدلاً بصيراً بما يجرح به ويعدل أو لا يكون كذلك فإن لم يكن عدلاً أو كان عدلاً وليس بصيراً فلا اعتبار بقوله وإن كان عدلاً بصيراً وجب الاكتفاء بمطلق جرحه وتعديله إذا الغالب مع كونه عدلاً بصيراً أنه ما أخبر بالعدالة والجرح إلا وهو صادق في مقاله فلا معنى لاشتراط إظهار السبب مع ذلك. والقول بأن الناس قد اختلفوا فيما يجرح به وإن كان حقاً إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بجهات الجرح والتعديل أنه أيضاً يكون عارفاً بمواقع الخلاف في ذلك والظاهر أنه لا يطلق الجرح إلا في صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلساً ملبساً بما يوهم الجرح على من لا يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة والدين وبمثل هذا يظهر أنه ما أطلق التعديل إلا بعد الخبرة الباطنة والإحاطة بسريرة المخبر عنه ومعرفة اشتماله على سبب العدالة دون البناء على ظاهر الحال. المسألة الخامسة إذا تعارض الجرح والتعديل فلا يخلو إما أن يكون الجارح قد عين السبب أو لم يعينه: فإن لم يعينه فقول الجارح يكون مقدماً لاطلاعه على ما لم يعرفه العدل ولا نفاه لامتناع الشهادة على النفي وإن عين السبب بأن يقول تقديراً: رأيته وقد قتل فلاناً فلا يخلو إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك أو يتعرض لنفيه. فإن كان الأول فقول الجارح يكون مقدماً لما سبق وإن تعرض لنفيه بأن قال: رأيت فلاناً المدعي قتله حياً بعد ذلك فهاهنا يتعارضان ويصح ترجيح أحدهما على الآخر بكثرة العدد وشدة الورع والتحفظ وزيادة البصيرة إلى غير ذلك مما ترجح به إحدى الروايتين على الأخرى كما سيأتي تحقيقه. المسألة السادسة في طرق الجرح والتعديل. أما طرق التعديل فمتفاوتة في القوة والضعف وذلك لأنه لا يخلو إما أن يصرح المزكي بالتعديل قولاً أو لا يصرح به فإن صرح به بأن يقول هو عدل رضاً فإما أن يذكر مع ذلك السبب بأن يقول لأني عرفت منه كذا وكذا أو لا يذكر السبب فإن كان الأول فهو تعديل متفق عليه وإن كان الثاني فمختلف فيه والأظهر منه التعديل كما سبق في المسألة المتقدمة فهذا الطريق مرجوح بالنسبة إلى الأول للاختلاف فيه ولنقصان البيان فيه بخلاف الأول. وأما إن لم يصرح بالتعديل قولاً لكن حكم بشهادته أو عمل بروايته أو روى عنه خبراً. فإن حكم بشهادته فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان الحاكم فاسقاً بشهادة من ليس بعدل عنده وهذه الطريق أعلى من التزكية بالقول من غير ذكر سبب لتفاوتهما في الاتفاق والاختلاف اللهم إلا أن يكون الحاكم ممن يرى الحكم بشهادة الفاسق وأما بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب فالأشبه التعادل بينهما لاستوائهما في الاتفاق عليهما والأول وإن اختص بذكر السبب فهذا مختص بإلزام الغير بقبول الشاهد بخلاف الأول. وأما إن عمل بروايته على وجه علم أنه لا مستند له في العمل سواها ولا يكون ذلك من باب الاحتياط فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان عمله برواية من ليس بعدل فسقاً وهذا الطريق وإن احتمل أن يكون العمل فيه مستنداً إلى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً كما في التعديل بالقول من غير ذكر السبب فهو راجح على التعديل بالقول من غير ذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في ذلك ومرجوح بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب وبالنسبة إلى الحكم بالشهادة لأن باب الشهادة أعلى من باب الرواية ولذلك اشترط فيه ما لم يشترط في باب الرواية كما سيأتي تعريفه فكان الاحتياط والاحتراز فيها أتم وأوفى وأما إن روى عنه فهذا مما اختلف فيه هل هو تعديل أو لا. ومنهم من فصل وقال: إن عرف من قول المزكي أو عادته أنه لا يروي إلا عن العدل فهو تعديل وإلا فلا وهو المختار وذلك لأن العادة جارية بالرواية عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها ولا يلزم من روايته عنه مع عدم معرفته بعدالته أن يكون ملبساً مدلساً في الدين كما قيل لأنه إنما يكون كذلك إن لو أوجبت روايته عنه على الغير العمل بها وليس كذلك بل غايته أنه قال سمعته يقول كذا فعلى السامع بالكشف عن حال المروي عنه إن رام العمل بمقتضى روايته وإلا كان مقصراً وهذا الطريق يشبه أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى باقي الطرق.
أما بالنسبة إلى التصريح بالتعديل فظاهر ولا سيما إن اقترن بذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في هذا الطريق ولهذا يكون مرجوحاً بالنسبة إلى الحكم بالشهادة للاتفاق عليه ولاختصاص الشهادة بما ذكرناه قبل. وأما بالنسبة إلى العمل بالرواية فلاشتراكهما في أصل الرواية واختصاص أحدهما بالعمل بها. وأما طرق الجرح فهو أن يصرح بكونه مجروحاً ويذكر مع ذلك سبب الجرح وإن لم يذكر معه سبب الجرح فهو جرح كما سبق في المسألة المتقدمة لكنه دون الأول للاختلاف فيه وللاتفاق على الأول وليس من الجرح ترك العمل بروايته والحكم بشهادته لجواز أن يكون ذلك بسبب غير الجرح وذلك إما لمعارض وإما لأنه غير ضابط أو لغلبة النسيان والغفلة عليه ونحوه ولا الشهادة بالزنا وكل ما يوجب الحد على المشهود عليه إذا لم يكمل نصاب الشهادة لأنه لم يأت بصريح القذف وإنما جاء ذلك محيي الشهادة ولا بما يسوغ فيه الاجتهاد وقد قال به بعض الأئمة المجتهدين كاللعب بالشطرنج وشرب النبيذ ونحوه ولا بالتدليس وذلك كقول من لم يعاصر الزهري مثلاً ولكنه روى عمن لقيه قولاً يوهم أنه لقيه ولقوله: حدثنا فلان وراء النهر موهماً أنه يريد جيحان وإنما يشير به إلى نهر عيسى مثلاً لأنه ليس بكذب وإنما هو من المعاريض المغنية عن الكذب. المسألة السابعة اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة وقال قوم إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية ومنهم من قال إنهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع من الاختلاف والفتن فيما بينهم وبعد ذلك فلا بد من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة ومنهم من قال بأن كل من قاتل علياً عالماً منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة لخروجهم عن الإمام الحق ومنهم من قال برد رواية الكل وشهادتهم لأن أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معين ومنهم من قال بقبول رواية كل واحد منهم وشهادته إذا انفرد لأن الأصل فيه العدالة وقد شككنا في فسقه ولا يقبل ذلك منه مع مخالفة التحقق فسق أحدهما من غير تعيين. والمختار إنما هو مذهب الجمهور من الأئمة وذلك بما تحقق من الأدلة الدالة على عدالتهم ونزاهتهم وتخييرهم على من بعدهم فمن ذلك قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" "البقرة 143" أي عدولاً وقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" "آل عمران 110" وهو خطاب مع الصحابة الموجودين في زمن النبي ﷺ ومنها قوله ﷺ: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" والاهتداء بغير عدل محال وقوله ﷺ: "إن الله اختار لي أصحاباً وأصهاراً وأنصاراً" واختيار الله تعالى لا يكون لمن ليس بعدل ومنها ما ظهر واشتهر بالنقل المتواتر الذي لا مراء فيه من مناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور الدين وإقامة القوانين والتشدد في امتثال أوامر الشرع ونواهيه والقيام بحدوده ومراسيمه حتى إنهم قتلوا الأهل والأولاد حتى قام الدين واستقام ولا أدل على العدالة أكثر من ذلك. وعند ذلك فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة أما بتقدير الإصابة فظاهر وأما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع وإذ أتينا على ما أردناه من بيان عدالة الصحابة فلا بد من الإشارة إلى بيان من يقع عليه اسم الصحابي. المسألة الثامنة اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي ﷺ وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته وذهب آخرون إلى أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي ﷺ واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه وذهب عمر بن يحيى إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي ﷺ وأخذ عنه العلم. والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلاً إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول ويدل على ذلك ثلاثة أمور. الأول أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة. الثاني أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة. الثالث أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر من ذلك وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام. فإن قيل: إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال: أصحاب القرية وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك وأصحاب الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم ويدل على ذلك أيضاً أنه يصح أن يقال فلان لم يصحب فلاناً لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله. والأصل في النفي أن يكون محمولاً على حقيقته بل ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة من أخذ العلم والرواية عنه ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحباً أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما طويلاً ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما. والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة نظراً إلى ما وقع به الاشتراك نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ وصحة النفي إنما كان لأن الصاحب في أصل الوضع وإن كان لمن قلت صحبته أو كثرت غير أنه في عرف الاستعمال لمن طالت صحبته فإن أريد نفي الصحبة بالمعنى العرفي فحق وإن أريد نفيها بالمعنى الأصلي فلا يصح. وهذا هو الجواب عما قيل من اشتراط أخذ العلم والرواية عنه أيضاً. وإذا عرف ذلك فلو قال من عاصر النبي ﷺ أنا صحابي مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه بحق. هذا ما أردناه من الشروط المعتبرة وأما الشروط التي ظن أنها شروط وليست كذلك فشروط منها أنه ليس من شرط قبول الخبر العدد بل يكفي في القبول خبر العدل الواحد خلافاً للجبائي فإنه قال: لا يقبل إلا أن يضاف إليه خبر عدل آخر أو موافقة ظاهراً وإن يكون منتشراً فيما بين الصحابة أو عمل به بعض الصحابة ونقل عنه أيضاً أنه لا يقبل الخبر في الزنا إلا من أربعة والوجه في الاحتجاج والانفصال ما سبق في مسألة وجوب التعبد بخبر الواحد وأيضاً فليس من شرطه الذكورة لما اشتهر من أخذ الصحابة بأخبار النساء كما سبق بيانه ولا البصر بل يجوز قبول رواية الضرير إذا كان حافظاً لما يسمعه وله آلة إدائه ولهذا كانت الصحابة تروي عن عائشة ما تسمعه من صوتها مع أنهم لا يرون شخصها ولا عدم القرابة بل تجوز رواية الولد عن الوالد وبالعكس لاتفاق الصحابة على ذلك ولا عدم العداوة لأن حكم الرواية عام فلا يختص بواحد معين حتى تكون العداوة مؤثرة فيه ولا الحرية بل هذه الأمور إنما تشترط في الشهادة ولا يشترط أيضاً في الراوي أن يكون مكثراً من سماع الأحاديث مشهور النسب لاتفاق الصحابة على قبول رواية من لم يرو سوى خبر واحد وعلى قبول رواية من لا يعرف نسبه إذا كان مشتملاً على الشرائط المعتبرة ولا يشترط أيضاً أن يكون فقيهاً عالماً بالعربية وبمعنى الخبر وسواء كانت روايته موافقة للقياس أو مخالفة خلافاً لأبي حنيفة فيما يخالف القياس لقوله ﷺ: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها" إلى قوله "فرب حامل فقه ليس بفقيه" دعا له وأقره على الرواية ولو لم يكن مقبول القول لما كان كذلك ولأن الصحابة سمعوا أخبار آحاد لم يكونوا فقهاء كما ذكرناه فيما تقدم ولأن الاعتماد على خبر النبي ﷺ والظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديناً أنه لا يروي إلا ما يتحققه على الوجه الذي سمعه.