إحياء علوم الدين/كتاب آداب السماع والوجد/الباب الثاني



الباب الثاني

آثار السماع وآدابه


اعلم أن أول درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع، ثم يثمر الفهم الوجد، ويثمر الوجد الحركة بالجوارح. فلينظر في هذه المقامات الثلاثة.

المقام الأول

في الفهم

وهو يختلف باختلاف أحوال المستمع. وللمستمع أربعة أحوال، إحداها: أن يكون سماع بمجرد الطبع أي لا حظ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات، وهذا مباح وهو أخسر رتب السماع، إذ الإبل شريكه له فيه وكذا سائر البهائم بل لا يستدعى هذا الذوق إلا الحياة، فلكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة.

الحالة الثانية: أن يسمع بفهم ولكن ينزله على صورة مخلوق إما معيناً وإما غير معين، وهو سماع الشباب وأرباب الشهوات ويكون تنزيلهم للمسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم، وهذا الحالة أخس من أن نتكلم فيها إلا ببيان خستها والنهي عنها.

الحالة الثالثة: أن ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله تعالى وتقلب أحواله في التمكن مرة والتعذر أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيما المبتدئين، فإن للمريد لا محالة مراداً هو مقصده، ومقصد معرفة الله سبحانه ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء، وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته. فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو رد أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهف على فائت أو تعطش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو عدة الوصال أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري ذلك مجرى القدح الذي يورى زناد قلبه، فتشتعل به نيرانه ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه ويهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله. وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه، بل لكل كلام وجوه، ولكل ذي فهم في اقتباس المعنى منه حظوظ. ولنضرب لهذه التنزيلات والفهوم أمثلة كي لا يظن الجاهل أن المستمع لأبيات فيها ذكر الفم والخد والصدغ إنما يفهم منها ظواهرها. و لا حاجة إلى ذكر كيفية فهم المعاني من الأبيات ففي حكايات أهل السماع ما يكشف عن ذلك. فقد حكى أن بعضهم سمع قائلاً يقول: قال الرسول غداً تـزو ر فقلت تعقل ما تقول

فاستفزه اللحن والقول وتواجد وجعل يكرر ذلك ويجعل مكان التاء: نوناً. فيقول: قال الرسول غدا نزور، حتى غشى عليه من شدة الفرح واللذة والسرور. فلما أفاق سئل عن وجده مم كان? فقال: ذكرت قول الرسول "إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة، و حكى الرقى عن ابن الدراج أنه قال: كنت أنا وابن الفوطى مارين على دجلة بين البصرة والأبلة فإذا بقصر حسن له منظرة وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول: كل يوم تتـلـون? غير هذا بك أحسن

فإذا شاب حسن تحت المنظرة وبيده ركوة وعليه مرقعة يستمع فقال: يا جارية بالله وبحياة مولاك إلا أعدت علي هذا البيت. فأعادت فكان الشاب يقول: هذا والله تلوني مع الحق في حالي، فشهق شهقة ومات. قال: فقلنا قد استقبلنا فرض. فوقفنا، فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرة لوجه الله تعالى قال ثم إن أهل البصرة خرجوا فصلوا عليه. فلما فرغوا من دفنه قال صاحب القصر: أشهدكم أن كل شيء لي في سبيل الله، وكل جواري أحرار، وهذا القص للسبيل. قال: ثم رمى بثيابه واتزر بإزار وارتدى بآخر ومر على وجهه والناس ينظرون إليه حتى غاب عن أعينهم، وهم يبكون. فلم يسمع له بعد خبر. والمقصود أن هذا الشخص كان مستغرق الوقت بحاله مع الله تعالى ومعرفة عجزه عن الثبوت على حسن الأدب في المعاملة وتأسفه على تقلب قلبه وميله عن سنن الحق، فلما قرع سمعه ما يوافق حاله سمعه من الله تعالى كأنه يخاطبه ويقول له: كل يوم تتـلـون? غير هذا بك أحسن

ومن كان سماعه من الله تعالى وعلى الله وفيه. فينبغي أن يكون قد أحكم قانون العلم في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته. وإلا خطر له من السماع في حق الله تعالى ما يستحيل عليه ويكفر به. ففي سماع المريد المبتدي خطر إلا إذا لم ينزل ما يسمع إلا على حاله من حيث لا يتعلق بوصف الله تعالى. ومثال الخطأ فيه هذا البيت بعينه فلو سمعه في نفسه وهو يخاطب به ربه عز وجل فيضيف التلون إلى الله تعالى فيكفر، وهذا قد يقع عن جهل محض مطلق غير أحوال سائر العالم من الله وهو حق، فإنه تارة يبسط قلبه وتارة يقبضه وتارة ينوره، وتارة يظلمه وتارة يقسيه وتارة يلينه وتارة يثبته على طاعته ويقويه عليها وتارة يسلط الشيطان عليه ليصرفه عن سنن الحق، وهذا كله من الله تعالى. ومن يصدر منه أحوال مختلفة في أوقات متقاربة فقد يقال له في العادة: إنه ذو بداوات وإنه متلون. ولعل الشاعر لم يرد به إلا نسبة محبوبة إلى التلون في قبوله ورده وتقريبه وإبعاده وهذا هو المعنى. فسماع هذا كذلك في حق الله تعالى كفر محض بل ينبغي أن يعلم أنه سبحانه وتعالى يلون ولا يتلون ويغير ولا يتغير بخلاف عباده. وذلك العلم يحصل للمريد باعتقاد تقليدي إيماني. ويحصل للعارف البصير بيقين كشف حقيقي. وذلك من أعاجيب أوصاف الربوبية وهو المغير من غير تغير، ولا يتصور ذلك إلا في حق الله تعالى، بل كل مغير سواه فلا يغير ما لم يتغير. ومن أرباب الوجد من يغلب عليه حال مثل السكر المدهش، فيطلق لسانه بالعتاب مع الله تعالى، ويستنكر اقتهاره للقلوب، وقسمته للأحوال الشريفة على تفاوت. فإنه المستصفى لقلوب الصديقين، والمبعد لقلوب الجاحدين والمغرورين، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولم يقطع التوفيق عن الكفار لجناية متقدمة، ولا أمد الأنبياء عليهم السلام بتوفيقه ونور هدايته لوسيلة سابقة، ولكنه قال: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين" وقال عز وجل: "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" وقال الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" فإن خطر ببالك أنه لم اختلفت السابقة وهم في ربقه العبودية مشتركون نوديت من سرادقات الجلال لا تجاوز حد الأدب "فإنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون" ولعمري تأدب اللسان والظاهر مما يقدر عليه الأكثرون. فأما تأدب السر عن إضمار الاستبعاد بهذا الاختلاف الظاهر في التقريب والإبعاد والإشقاء، والإسعاد مع بقاء السعادة والشقاوة أبداً لآباد فلا يقوى عليه إلا العلماء الراسخون في العلم. ولهذا قال الخضر عليه السلام لما سئل عن السماع في المنام: إنه الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء لأنه محرك لأسرار القلوب ومكامنها، ومشوش لها تشويش السكر المدهش الذي يكاد يحل عقدة الأدب عن السر إلا ممن عصمه الله تعالى بنور هدايته ولطيف عصمته. ولذلك قال بعضهم: ليتنا نجونا من هذا السماع رأساً برأس. ففي هذا الفن من السماع خطر يزيد على خطر السماع المحرك للشهوة، فإن غاية ذلك معصية وغاية الخطأ ههنا كفر.

واعلم أن الفهم قد يختلف بأحوال المستمع فيغلب الوجد على مستمعين لبيت واحد وأحدهما مصيب في الفهم والآخر مخطئ، أو كلاهما مصيبان وقد فهما معنيين مختلفين متضادين، ولكنه بالإضافة إلى اختلاف أحوالهما لا يتناقض. كما حكى عن عتبة الغلام أنه سمع رجلاً يقول: سبحان جبار السما إن المحب لفي عنا

فقال: صدقت. وسمعه رجل آخر فقال: كذبت. فقال بعض ذوي البصائر: أصابا جميعاً وهو الحق فالتصديق كلام محب غير ممكن من المراد بل مصدود متعب بالصد والهجر. والتكذيب كلام مستأنس بالحب مستلذ لما يقاسيه بسبب فرط حبه غير متأثر به، أو كلام محب غير مصدود عن مراده في الحال ولا مستشعر بخطر الصد في المآل. وذلك لاستيلاء الرجل وحسن الظن على قلبه. فباختلاف هذه الأحوال يختلف الفهم.

وحكى عن أبي القاسم بن مروان: وكان قد صحب أبا سعيد الخراز رحمه الله وترك حضور السماع سنين كثيرة فحضر دعوة وفيها إنسان يقول: واقف في الماء عطشا ن ولكن ليس يسقـى

فقام القوم وتواجدوا، فلما سكنوا سألم عن معنى ما وقع لهم من معنى البيت، فأشاروا إلى التعطش إلى الأحوال الشريفة والحرمان منها مع حضور أسبابها، فلم يقنعه ذلك فقالوا له: فماذا عندك فيه? فقال: أن يكون في وسط الأحوال ويكرم بالكرامات ولا يعطى منها ذرة. وهذه إشارة إلى إثبات حقيقة وراء الأحوال، والكرامات والأحوال سوابقها، والكرامات تسنح في مباديها، والحقيقة بعد لم يقع الوصول إليها. ولا فرق بين المعنى الذي فهمه وبين ما ذكروه إلا في تفاوت رتبة المتعطش إليه، فإن المحروم عن الأحوال الشريفة أولاً يتعطش إليها، فإن مكن منها تعطشى إلى ما وراءها، فليس بني المعنيين اختلاف في الفهم بل الاختلاف بين الرتبتين. وكان الشبلي رحمه الله كثيراً ما يتواجد على هذا البيت: ودادكم هجر وحبكـم قـلـى ووصلكم صرم وسلمكم حرب

وهذا البيت يمكن سماعه على وجوه مختلفة بعضها حق وبعضها باطل، وأظهرها: أن يفهم هذا في الخلق بل في الدنيا بأسرها بل في كل ما سوى الله تعالى. فإن الدنيا مكارة خداعة قتالة لأربابها معادية لهم في الباطن ومظهرة صورة الود، فما امتلأت منها دار حبرة إلا امتلأت عبرة، كما ورد في الخبر وكما قال الثعلبي في وصف الدنيا: تنح عن الدنيا فلا تخطـبـنـهـا ولا تخطبن قتالة من تـنـاكـح

فليس يفي مرجوها بمخوفـهـا ومكروهها أما تأملـت راجـح

لقد قال فيها الواصفون فأكثـروا وعندي لها وصف لعمري صالح

سلاف قصاراها زعاف ومركب شهى إذا استذللته فهو جـامـح

وشخص جميل يؤثر الناس حسنه ولكن له أسرار سـوء قـبـائح

والمعنى الثاني: أن ينزله على نفسه في حق الله تعالى فإنه إذا تفكر فمعرفته جهل إذ ما قدروا اله حق قدره. وطاعته رياء إذ لا يتقى الله حق تقاته، وحب معلول إذ لا يدع شهوة من شهواته في حبه. ومن أراد الله به خيراً بصره بعيوب نفسه فيرى مصداق هذا البيت في نفسه، وإن كان على المرتبة بالإضافة إلى الغافلين، ولذلك قال "لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" وقال عليه الصلاة والسلام: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" وإنما كان استغفاره عن أحوال هي درجات بعد بالإضافة إلى ما بعدها، وإن كانت قربا بالإضافة إلى ما قبلها، فلا قرب إلا ويبقى وراءه قرب لا نهاية له، إذ سبيل السلوك إلى الله تعالى غير متناه، والوصول إلى أقصى درجات القرب محال. والمعنى الثالث أن ينظر في مبادئ أحواله فيرتضيها ثم ينظر في عواقبها فيزدريها لإطلاعه على خفايا الغرور فيها، فيرى ذلك منن الله تعالى فيستمع البيت في حق الله تعالى شكاية من القضاء والقدر وهذا كفقر - كما سبق بيانه - وما من بيت إلا ويمكن تنزيله على معان، وذلك بقدر غزارة علم المستمع وصفاء قلبه.

الحالة الرابعة: سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعرب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها، وكان كالمدهوش الغائض في بحر عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف عليه السلام حتى دهشن وسقط إحساسهن. وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فنى عن نفسه. ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى فكأنه فنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود. وفنى أيضاً عن الشهود فإن القلب أيضاً إذا التفت إلى الشهود وإلى عينه التي بها رؤيته ولا إلى قلبه الذي به لذته، فالسكران لا خبر له من سكره، والمتلذذ لا خبر له من التذاذه، وإنما خبره من المتلذذ به فقط. ومثاله العلم بالشيء: فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء فالعالم بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضاً عن الشيء.ومثل هذه الحالة قد تطرأ في حق المخلوق وتطرأ أيضاً في حق الخالق، ولكنها في الغالب تكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم، وإن دام لم تطقه القوة بالبشرية، فربما اضطرب تحت أعبائه اضطراباً تهلك به نفسه.

كما روى عن أبي الحسن النوري أنه حضر مجلساً فسمع هذا البيت: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نـزولـه

فقام وتواجد وهام على وجهه. فوقع في أجمة قصب قد قطع وبقيت أصوله مثل السيوف فصار يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يخرج من رجليه، حتى ورمت قدماه وساقاه وعاش بعد ذلك أياماً ومات رحمه الله. فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد فهي أعلى الدرجات لأن السماع على الأحوال نازل عن درجات الكمال وهي ممتزجة بصفات البشرية، وهو نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله؛ أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنسوة التفات إلى الأيدي والسكاكين. فيسمع لله وبالله وفي الله ومن الله وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد بصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص، فلم يبق فيه منه شيء أصلاً، بل خمدت بالكلبة بشريته وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأساً، ولست أعني بفنائه فناء جسده بل فناه قلبه، ولست أعني بالقلب اللحم والدم بل سر لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفية وراءها سر الروح الذي هو من أمر الله عز وجل. - عرفها من عرفها وجهلها من جهلها - ولذلك السر وجود. وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر. ومثاله المرآة المجلوة إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها، وكذلك الزجاجة فإنها تحكى لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها. وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصور، ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان، ويعرب عن هذه الحقيقة - أعني سر القلب بالإضافة إلى ما يحضر فيه - قول الشاعر: رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكـل الأمـر

فكأنا خـمـر ولا قـدح وكأنما قدح ولا خـمـر

وهذا مقام من مقامات علوم المكاشفة منه نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد، وقال أنا الحق وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدرعها بها أو حلولها فيها على ما اختلف فيهم عباراتهم وهو غلط محض يضاهي غلط من يحكم على المرآة بصورة الحمرة إذ ظهر فيها لون الحمرة مقابلها وإذا كان هذا لا غير لائق بعلم المعاملة فلنرجع إلى الغرض؛ فقد ذكرنا تفاوت الدرجات في فهم المسموعات.

المقام الثاني بعد الفهم والتنزيل

الوجد

وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد. - أعني الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح - فلننقل من أقوالهم ثم لنكشف عن الحقيقة فيه.

أما الصوفية فقد قال ذو النون المصري رحمه الله في السماع: إنه وارد حق جاء يزعج القلوب إلى الحق، فمن أصغى إليه بحق تحقق، ومن أصغى إليه بنفسه تزندق. فكأنه عبر عن الوجود بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذي يجده عند ورود وارد السماع إذ سمي السماع وارد حق. وقال أبو الحسين الدارج مخبراً عما وجده في السماع: الوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجودا الحق عند العطاء فسقاني بكأس الصفاء فأدكت به منازل الرضاء وأخرجني إلى رياض التنزه والقضاء. وقال الشبلي رحمه الله: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة؛ فمن عرف الإشارة حل له استماع العبارة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية. وقال بعضهم: السماع غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدق عن سائر الأعمال ويدرك برقة الطبع لرقته وبصفاء السر لصفائه ولطفه عند أهله. وقال عمرو بن عثمان المكي: لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنه سر الله عند عباده المؤمنين الموقنين وقال بعضهم: الوجد مكاشفات من الحق. وقال أبو سعيد بن الأعرابي: الوجد رفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وإيناس المفقود، وهو فناؤك من حيث أنت، وقال أيضاً: الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب فلما ذاقوه وسطع في قلوبهم نوره زال عنهم كل شك وريب. وقال أيضاً: الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب؛ لأن النفس محجوبة بأسبابها فإذا انقطعت الأسباب وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا ونجحت الموعظة فيه وحل من المناجاة في محل قريب وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر ظاهر فشاهد ما كان منه خالياً؛ فذلك هو الوجد لأنه قد وجد ما كان معدوماً عنده. وقال أيضاً: الوجد ما يكون عند ذكر مزعج أو خوف مقلق أو توبيخ على زلة أو محادثة بلطيفة أو إشارة إلى فائدة أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت أو ندم على ماض أو استجلاب إلى حال أو داع إلى واجب أو مناجاة بس، وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن والغيب بالغيب والسر بالسر واستخراج مالك مما عليك مما سبق للسعي فيه فيكتب ذلك لك بعد كونه منك، فيثبت لك قدم لا قدم وذكر بلا ذكر، إذ كان هو المبتدئ بالنعم والمتولى وإليه يرجع الأمر كله فهذا ظاهر علم الوجد وأقوال الصوفية من هذا الجنس في الوجد كثيرة.

وأما الحكماء فقال بعضهم: في القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرت وطربت إليها فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر. وقال بعضهم: نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الأفكار وحدة الكال من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح فيؤ كل رأي ونية، فيصيب ولا يخطئ ويأتي ولا يبطئ. وقال آخر: كما إن الفكر يطرق العلم إلى المعلوم فالسماع يطرق القلب إلى العالم الروحاني. وقال بعضهم وقد سئل عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات فقال: ذلك عشق عقلي والعقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة، وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية، وأما العاشق البهيمي فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف. وقال آخر: من حزن فليسمع الألحان. فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها فيظهر الحنين بقدر قبول القابل وذلك بقدر صفائه ونقائه من الغش والدنس.

والأقاويل المقررة في السماع والوجد كثيرة ولا معنى للاستكثار من إيرادها، فلنشتغل بتفهيم المعنى الذي الوجد عبارة عنه فنقول: إنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه، وتلك الحالة لا تخلو عن قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتنبيهات، وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم بل هي كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض، وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها؛ فإن ضعف بحيث لم يؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجداً، وإن ظهر على الظاهر سمي وجداً إما ضعيفاً وإما قوياً، بحسب ظهوره وتغييره للظاهر وتحريكه بحسب قوة وروده، وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرته على ضبط جوارحه؛ فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه؛ وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك. وإلى معنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب، ولا يبعد أن يكون السماع سبباً لكشف ما لم يكن مكشوفاً قبله، فإن الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه والسماع منبه، ومنها تغير الأحوال ومشاهدتها وإدراكها فإن إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لمن تكن معلومة قبل الورود، ومنها صفاء القلب والسماع يؤثر في تصفية القلب والصفاء يسبب الكشف، ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى به على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته، كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله. وعمل القلب الاستكشاف وملاحظة أسرار الملكوت، كما أن عمل البعير حمل الأثقال فبواسطة هذه الأسباب يكون سبباً للكشف، بل القلب إذا صفا ربما يمثل له الحق في صورة مشاهة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة، وبالرؤيا إذا كان في المنام، وذلك جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة وذلك كما روى عن محمد بن مسروق البغدادي أنه قال: خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغني هذا البيت: بطور سيناء كرم ما مررت به إلا تعجبت ممن يشرب الماء

فسمعت قائلاً يقول: وفي جهنم ماء ما تـجـرعـه خلق فأبقى له في الجوف أمعاء

قال: فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعم والعبادة. فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم في لفظ مفهوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر? وروى عن مسلم العباداني أنه قال? قدم علينا صالح المري وعتبة الغلام وعبد الواحد بن زيد ومسلم الأسواري فنزلوا على الساحل، قال: فهيأت لهم ذات ليلة طعاماً فدعوتهم إليه فجاؤا فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا بقائل يقول رافعاً صوته هذا البيت: وتلهيك عن دار الخلود مطاعم ولذة نفس غيها غير نـافـع

قال: فصاح عتبة الغلام صيحة وخر مغشياً عليه وبكى القوم، وما ذاقوا والله منه لقمة.

وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضاً بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة. وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة. وقد رأى رسول الله جبريل عليه السلام مرتين في صورته وأخبر عنه بأنه سد الأفق وهو المراد بقوله تعالى: "علمه شديد القوة ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى" إلى آخر هذه الآيات. وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الإطلاع على ضمائر القلوب، وقد يعبر عن ذلك الإطلاع بالتفرس. ولذلك قال : "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" وقد حكى أن رجلاً من المجوس كان يدور على المسلمين ويقول ما معنى قول النبي " اتقوا فراسة المؤمن" فكان يذكر له تفسيره فلا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية. فسأله، فقال له معناه: أن تقطع الزنار الذي على وسطك تحت ثوبك. فقتال: صدقت هذا معناه وأسلم، وقال: الآن عرفت أنك مؤمن وأن إيمانك حق. وكما حكى عن إبراهيم الخواص قال: كنت بغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه فقلت لأصحابي: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال؛ أي شيء قال الشيخ في? فاحتشموه فألح عليهم فقالوا له: قال إنك يهودي، قال: فجاءني وأكب على يدي وقبل رأسي وأسلم، وقال: نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطئ فراسته فقلت: امتحن المسلمين فتأملتهم فقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة؛ لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه؛ فلبست عليكم فلما اطلع على الشيخ وتفرس في علمت أنه صديق قال، وصار الشاب من كبار الصوفية.

وإلى مثل هذا الكشف الإشارة بقوله عليه السلام: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة فإنها مرعى الشيطان وجنده. ومن خلص قليه من تلك الصفات وصفاء لم يطف الشيطان حول قلبه. وإليه الإشارة بقوله تعالى: "إلا عبادك منهم المخلصين" وبقول تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" والسماع سبب لصفاء القلب وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء.

وعلى هذا يدل ما روى أن ذا النون المصري رحمه الله دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال؛ فاستأذنوه في أن يقول لهم شيئاً. فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول: صغير هواك عذبنيفكيف به إذا احتنكاًوأنت جمعت في قلبي

هوى قد كان مشتركاًأما ترثى لمكتتبإذا ضحك الخلي بكـى

فقام ذو النون وسقط على وجهه، ثم قام رجل آخر فقال ذو النون: الذي يراك حين تقوم. فجلس ذلك الرجل وكان ذلك إطلاعاً من ذي النون على قلبه. أنه متكلف متواجد، فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى ولو كان الرجل صادقاً لما جلس. فإذاً قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات وإلى حالات واعلم أن كل واحد منهما ينقسم إلى ما يمكن التعبير عنه عند الإقامة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلاً، ولعلك تستبعد حالة أو علماً لا تعلم حقيقته ولا يمكن التعبير عنه عن حقيقته، فلا تستبعد ذلك فإنك تجد في أحوالك القريبة لذلك شواهد.

أما العلم فكم من فقيه تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك الفقيه بذوقه أن بينهما فرقاً في الحكم? وإذا كلف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير وإن كان من افصح الناس، فبدرك بذوقه الفرق ولا يمكنه التعبير عنه، وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق و لا يشك في أن لوقوعه في قلبه سبباً وله عند الله تعالى حقيقة؛ ولا يمكنه الإخبار عنه لا لقصور في لسانه بل لدقة المعنى في نفسه عن أن تناله العبارة. وهذا مما قد تفطن له المواظبون على النظر في المشكلات.

وأما الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت الذي يصبح فيه قبضاً أو بسطاً ولا يعلم سببه، وقد يتفكر إنسان في شيء فيؤثر في نفسه أثراً فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحس به، وقد تكون الحالة التي يحسها سرورات ثبت في نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور، أو حزناً فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه. وقد تكون تلك الحالة حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود، بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختص به بعض الناس دون بعض، وهي حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها - أعني التفرقة بين الموزون والمنزحف - فلا يمكنه التعبير عنها بما يتضح مقصوده لمن لا ذوق له. وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم، وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيراً عجيباً، والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق? ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمراً ليس يدري ما هو? حتى يقع ذلك للعوام ومن لا يغلب على قلبه لا حب آدمي ولا حب الله تعالى. وهذا له سر وهو أن كل شوق فله ركنان: أحدهما: صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه.

والثاني: معرفة المشتاق إليه، فإن وجدت الصفة التي بها الشوق ووجد العلم بصورة المشتاق إليه كان الأمر ظاهراً، وإن لم يوجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها أو رث ذلك دهشة وحيرة لا محالة.

ولو نشأ آدمى وحده بحيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولكن لا يدري أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدري صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء: فكذلك في نفسه الآدمي مناسبة مع العالم الأعلى واللذات التي وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا؛ إلا أنه لم يتخيل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء، كالذي سمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة، فالسماع يحرك منه الشوق والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقره الذي إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمراً ليس يدري ما هو? فيدهش ويتحير ويضطرب ويكون كالمختنق الذي لا يعرف طريق الخلاص فهذا، وأمثاله من الأحوال التي لا يدرك تمام حقائقها ولا يمكن المتصف بها أن يعبر عنها. فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره.

واعلم أيضاً أن الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلف ويسمى التواجد، وهذا التواجد المتكلف فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها، ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة، فإن للكسب مدخلاً في جلب الأحوال الشريفة ولذلك أمر رسول الله من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها ثم تتحقق آواخرها. وكيف لا يكون التكلف سبباً في أن يصير المتكلف في الآخرة طبعاً، وكل من يتعلم القرآن أو لا يحفظه تكلفاً، ويقرؤه تكلفاً مع تمام التأمل وإحضار الذهن؛ ثم يصير ذلك ديدناً للسان مطرداً حتى يجري به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل؛ فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه إلى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته?. وكذلك الكاتب يكتب في الابتداء بجهد شديد ثم تتمرن على الكتابة يده فيصير الكتب له طبعاً فيكتب أوراقاً كثيرة وهو مستغرق القلب بفكر آخر? فجميع ما تحتمله النفس والجوارح من الصفات لا سبيل إلى اكتسابه إلا بالتكلف والتصنع أولاً ثم يصير بالعادة طبعاً، وهو المراد بقول بعضهم: العادة طبيعة خامسة. فكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغي أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغي أن يتكلف اجتلابها بالسماع وغيره، فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصاً ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرر على نفسه الأوصاف المحبوبة والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخاً خرج عن حد اختياره، فاشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلص. فكذلك حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة؛ إذا فقدها الإنسان فينبغي أن يتكلف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها ومشاهدة أحوالهم وتحسين صفاتهم في النفس وبالجلوس معهم في السماع وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحلة بأن ييسر له أسبابها.

ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحسنين والمشتاقين والخاشعين. فمن جالس شخصاً سرت إليه صفاته من حيث لا يدري. ويدل على إمكان تحصيل الحب وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله في دعائه: "اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب من يقربني إلى حبك" فقد فزع عليه السلام إلى الدعاء في طلب الحب. فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال وانقسامه إلى ما يمكن الإفصاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلف وإلى المطبوع.

فإن قلت: فما بال هؤلاء لا يظهر وجدهم عند سماع القرآن وهو كلام الله ويظهر عند الغناء وهو كلام الشعراء? فلو كان ذلك حقاً من لطف الله تعالى ولم يكن باطلاً من غرور الشيطان لكان القرآن أولى به من الغناء? فنقول: الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى وصدق إرادته والشوق إلى لقائه، وذلك يهيج بسماع القرآن أيضاً. وإنما الذي لا يهيج بسماع القرآن حب الخلق وعشق المخلوق. ويدل على ذلك قوله تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وقوله تعالى: "مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" وكل ما يوجد عقيب السماع في النفس فهو وجد. فالطمأنينة والاقشعرار والخشية ولين القلب كل ذلك وجد. وقد قال الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" وقال تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" فالوجل والخشوع وجد من قبيل الأحوال وإن لم يكن من قبيل المكاشفات. ولكن قد يصير سبباً للكاشفات والتنبيهات ولهذا قال "زينوا القرآن بأصواتكم" وقال لأبي موسى الأشعري "لقد أوتى مزماراً من مزامير آل داود عليه السلام".

وأما الحكايات الدالة على أن أرباب القلوب ظهر عليهم الوجد عند سماع القرآن فكثيرة فقوله "شيبتني هود وأخواتها" خبر عن الوجد، فإن الشيب يحصل من الحزن والخوف وذلك وجد. وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ على رسول الله سورة النساء، فلما انتهى إلى قوله تعالى "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" قال "حسبك" وكانت عيناه تذرفان بالدموع. وفي رواية أنه عليه السلام قرأ هذا الآية أو قرئ عنده "إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً" فصعق وفي رواية أنه قرأ "إن تعذبهم فإنهم عبادك" فبكى وكان عليه السلام إذا مر بآية رحمة دعا واستبشر والاستبشار وجد. وقد أثنى الله تعالى على أهل الوجد بالقرآن فقال تعالى: "إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" وروي أن رسول الله كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل.

وأما ما نقل من الوجد بالقرآن عن الصحابة رضي الله عنه والتابعين فكثير: فمنهم من صعق ومنهم من بكى ومنهم من غشي عليه ومنهم من مات في غشيته. وروى أن زرارة بن أوفى - وكان من التابعين - كان يؤم الناس بالرقة فقرأ "فإذا نقر في الناقور" فصعق ومات في محرابه رحمه الله. وسمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقرأ "إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع" فصاح صيحة وخر مغشياً عليه فحمل إلى بيته، فلم يزل مريضاً في بيته شهراً. وأبو جرير - من التابعين - قرأ عليه صالح المري فشهق ومات. وسمع الشافعي رحمه الله قارئاً يقرأ "هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون" فغشي عليه. وسمع علي بن الفضيل قارئاً يقرأ "يوم يقوم الناس لرب العالمين" فسقط مغشياً عليه، فقال الفضيل: شكر الله لك ما قد علمه منك. وكذلك نقل عن جماعة منهم.

وكذلك الصوفية: فقد كان الشبلي في مسجده ليلة من رمضان وهو يصلي خلف إمام له فقرأ الإمام "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" فزعق الشبلي زعقة ظن الناس أنه قد طارت روحه وأحمر وجهه وارتعدت فرائصه، وكان يقول: بمثل هذا يخاطب الأحباء، يردد ذلك مراراً. وقال الجنيد: دخلت على سرى السقطي فرأيت بين يديه رجلاً قد غشي عليه فقال لي: هذا رجل قد سمع آية من القرآن فغشي عليه، فقلت: اقرءوا عليه تلك الآية بعينها فقرئت فأفاق، فقال: منن أين قلت هذا? فقلت: رأيت يعقوب عليه السلام كان عماه من أجل مخلوق فبمخلوق أبصر، ولو كان عماه من أجل الحق ما أبصر بمخلوق، فاستحسن ذلك. ويشير إلى ما قاله الجنيد قول الشاعر: وكأس شربت على لـذة وأخرى تداويت منها بها

وقال بعض الصوفية: كنت أقرأ ليلة هذه الآية: "كل نفس ذائقة الموت" فجعلت أرددها فإذا هاتف يهتف بي: كم تردد هذه الآية? فقد قتلت أربعة من الجن ما رفعوا رؤوسهم إلى السماء منذ خلقوا. وقال أبو علي المغازلي للشبلي: ربما تطرق سمعي آية من كتاب الله تعالى فتجذبني إلى الإعراض عن الدنيا ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس فلا أبقى على ذلك، فقال: ما طرق سمعك من القرآن فاجتذبك به إليه فذلك عطف منه عليك ولطف منه بك، وإذا ردك إلى نفسك فهو شفقة منه عليك فإنه لا يصلح لك إلا التبري من الحول والقوة في التوجه إليه، وسمع رجل من أهل التصوف قارئاً يقرأ "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" فاستعادها من القارئ وقال: كم أقول هلا ارجعي وليست ترجع? وتواجد وزعق زعقة فخرجت روحه. وسمع بكر بن معاذ قارئاً يقرأ "وأنذرهم يوم الآزفة" الآية فاضطرب ثم صاح: ارحم من أنذرته ولم يقبل إليك بعد الإنذار بطاعتك، ثم غشى عليه. وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله إذا سمع أحداً يقرأ "إذا السماء انشقت" اضطربت أوصاله حتى كان يرتعد. وعن محمد بن صبيح قال: كان رجل يغتسل في الفرات فمر به رجل على الشاطئ يقرأ "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" فلم يزل الرجل يضطرب حتى غرق ومات. وذكر أن سلمان الفارسي أبصر شاباً يقرأ فأتى على آية فاقشعر جلده فأحبه سلمان وفقده، فسأل عنه فقيل له: إنه مريض، فأتاه يعوده فإذا هو في الموت، فقال: يا عبد الله! أرأيت تلك القشعريرة التي كانت بي? فإنها أتتني في أحسن صورة فأخبرتني أن الله قد غفر لي بها كل ذنب.

وبالجملة لا يخلو صاحب القلب عن وجد عند سماع القرآن فإن كان القرآن لا يؤثر في أصلاً ف-مثله كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون" بل صاحب القلب تؤثر فيه الكلمة من الحكمة يسمعها. قال جعفر الخلدي: دخل رجل من أهل خراسان على الجنيد وعنده جماعة فقال للجنيد: متى يستوي عند العبد حامده وذامه? فقال بعض الشيوخ: إذا دخل البيمارستان وقيد بقيدين، فقال الجنيد: ليس هذا من شأنك? ثم أقبل على الرجل وقال: إذا تحقق أنه مخلوق فشهق الرجل شهقة ومات.

فإن قلت: فإن كان سماع القرآن مفيداً للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين? فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين? وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ لا قوال? فإن كلام الله تعالى أفضل م الغناء لا محالة فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه: الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فيمن أين يناسب حاله قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" وقوله تعالى "والذين يرمون المحصنات"? وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها? وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه. والأبيات إنما يضعها الشعراء إعراباً بها عن أحوال القلب فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف. نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعاً لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ، فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى "يوصيكم اله في أولادكم" حالة الموت المحوج إلى الوصية وأن كل إنسان لا بد أن يخلف ماله وولده وهما محبوباه من الدنيا، فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعاً فيغلب عليه الخوف والجزع أو يسمع ذكر الله في قوله "يوصيكم الله في أولادكم" فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده، أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظراً لهم في حياتهم وموتهم فيقول: إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك ابشاراً وسروراً، أو يخطر له من قوله تعالى "للذكر مثل حظ الأنثيين" تفضيل الذكر بكونه رجلاً على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وأن من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقاً، فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا. فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان أحدهما حالة غالبة مستغرقة قاهرة والآخرة تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز، فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها. وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم: رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنـن

ذكرت إلفا ودهراً صـالـحـاً وبكت حزناً فهاجت حزنـي

فسكـاتـي ربـمـا أرقـهـا وبكاهـا ربـمـا أرقـنـي

ولقد أشكو فما أفـهـمـهـا ولقد تشكو فما تفـهـمـنـي

غير أني بالجوى أعـرفـهـا وهي أيضاً بالجوى تعرفنـي

قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جداً وحقاً.

الوجه الثاني: أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكلما سمع أولاً عظم أثره في القلوب، وفي الكرة الثانية يضعف أثره، وفي الثالثة يكاد يسقط أثره. ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان، في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك. ولو أبدل بيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معرباً عن عين ذلك المعنى. ولكن كون النظم واللفظ غريباً بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحداً. وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآناً غريباً في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال: كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا. ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب وأنهن كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم، ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه، إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي، ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة، ثم يرددها ويبكي، ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريباً جديداً? ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة، ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة. ولذا هم عمر رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف وقال: قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت أي يأنسوا به. ومن قدم حاجاً فرأى البيت أولاً بكى وزعق وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره، وقد يقيم بمكة شهراً ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر، فإذاً المغنى يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة.

الوجه الثالث: أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات، ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لاضطراب قلب المستمع وبطل جده وسماعه ونفر طبعه لعدم المناسبة. وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش، فالوزن إذن مؤثر فلذلك طاب الشعر.

الوجه الرابع: أن الشعر الموزن يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والاستانات وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر المدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها. وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل، فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقضتيه التلاوة حرام أو مكروه. وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان وهو سبب مستقل بالتأثير وإن لم يكن مفهوماً، كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم.

الوجه الخامس: أن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره، لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي، وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ولكل واحد منها حظ في التأثير، وواجب أن يصان القرآن عن مثل هذه القرائن لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب، والقرآن جد كله عند كافة الخلق، فلا يجوز أن يمزج بالحق المحض ما هو لهو عند العامة وصورته صورة اللهو عند الخاصة، وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث إنها لهو، بل ينبغي أن يوقر القرآن فلا يقرأ على شوارع الطرق بل في مجلس ساكن، ولا في حال الجنابة. ولا على غير طهارة ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال إلا المراقبون لأحوالهم، فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة، ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع قراءة القرآن ليلة العرس. وقد أمر رسول الله بضرب الدف في العرس فقال: "أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال" أو بلفظ هذا معناه، وذلك جائز مع الشعر دون القرآن. ولذلك لما دخل رسول الله بيت الربيع بنت معوذ وعندها جوار فسمع إحداهن تقول: وفينا نبي يعلم ما في غد. على وجه الغناء، فقال "دعي هذا وقولي ما كنت تقولين" وهذه شهادة بالنبوة فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو، لأن هذا جد محض فلا يقرن بصورة اللهو. فإذاً يتعذر بسببه تقوية الأسباب التي بها يصير السماع محركاً للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء.

الوجه السادس: أن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل كلام موافقاً لكل حال. فلو اجتمعوا في الدعوات على القارئ فربما يقرأ آية لا توافق حالهم إذ القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال، فآيات الرحمة شفاء الخائف، وآيات العذاب شفاء المغرور الآمن. وتفضيل ذلك مما يطول. فإذاً لا يؤمن أن لا يوافق المقروء الحال وتكرهه النفس فيتعرض به لخط كراهة كلام الله تعالى من حيث لا يجد سبيلاً إلى دفعه. فالاحتراز عن خطر ذلك حزم بالغ وحتم واجب إذ لا يجد الخلاص عنه إلا بتنزيله على وفق حاله ولا يجوز تنزيل كلام الله تعالى إلا على ما أراد الله تعالى. وأما قول الشاعر فيجوز تنزيله على غير مراده ففيه خطر الكراهة أو خطر التأويل الخطأ لموافقة الحال فيجب توقير كلام الله وصيانته عن ذلك، وهذا ما ينقدح في علل انصراف الشيوخ إلى سماع الغناء عن سماع القرآن.

وههنا وجه سابع ذكره أبو نصر السراج في الاعتذار عن ذلك فقال: القرآن كلام الله وصفة من صفاته وهو حق لا تطيقه البشرية، لأنه غير مخلوق فلا تطيقه الصفات المخلوقة. ولو كشف للقلوب ذرة من معناه وهيبته لتصدعت ودهشت وتحيرت. والألحان الطيبة مناسبة للطباع ونسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته نسبة الحظوظ. فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضاً كان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق المخلوق المخلوق. فما دامت البشرية باقية ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود. وهذا حاصل المقصود من كلامه واعتذاره. وقد حكى عن أبي الحسن الدراج أنه قال قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه فما دخلت الرى كنت أسأل عنه فكل من سألته عنه قال: أيش تعمل بذلك الزنديق? فضيقوا صدري حتى دخلت عله في مسجد وهو قاعد في المحراب وبين يديه رجل وبيده مصحف وهو يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه فأقبل على وقال: من أين أقبلت فقلت: من بغداد، فقال: وما الذي جاء بك? فقلت: قصدتك للسلام عليك، فقال: لو أن في بعض هذه البلدان قال لك إنسان أقم عندنا حتى نشتري لك داراً أو جارية أكان يقعدك ذلك عن المجيء? فقلت: ما امتحنني الله بشيء من ذلك ولو امتحنني ما كنت أدري كيف أكون? ثم قال لي: أتحسن أن تقول شيئاً? فقلت: نعم، فقال: هات! فأنشأت أقول:

رأيتك تبني دائماً في قطيعـتـي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني

كأني بكم والليت أفضل قولـكـم ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغـنـي

قال: فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني تلوم أهل الري يقولون يوسف زنديق، هذا أنا من صلاة الغداة أقرأ في المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين. فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن، وذلك لوزن الشعر ومشاكلته للطباع، ولكونه مشاكلاً للطبع اقتدر البشر على نظم الشعر، وأما القرآن فنظمه خارج عن أساليب الكلام ومنهاجه وهو لذلك معجز لا يدخل في قوة البشر لعدم مشاكلته لطبعه. وروي أن إسرافيل - أستاذ ذي النون المصري - دخل عليه رجل فرآه وهو ينكت في الأرض بإصبعه ويترنم ببيت فقال: هل تحسن أن تترنم بشيء? فقال: لا، قال: فأنت بلا قلب - إشارة إلى أن من له قلب وعرف طباعه علم أنه تحركه الأبيات والنغمات تحريكاً لا يصادف في غيرها فيتكلف طريق التحريك إما بصوت نفسه أو بغيره - وقد ذكرنا حكم المقام الأول في فهم المسموع وتنزيله، وحكم المقام الثاني في الوجد الذي يصادف في القلب، فلنذكر الآن أثر الوجد أعني ما يترشح منه إلى الظاهر من صعقة وبكاء وحركة وتمزيق ثوب وغيه فنقول:

المقام الثالث من السماع

نذكر فيه آداب السماع ظاهراً وباطناً

وما يحمد من آثار الوجد وما يذم

فأما الآداب فهي خمس جمل: الأول: مراعاة الزمان والمكان والإخوان. قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فهذا معنى مراعاة الزمان فيراعي حالة فراغ القلب له. وأما المكان: فقد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيجتنب ذلك. وأما الإخوان: فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلاً في المجلس واشتغل القلب به. وكذلك إذا حضر متكبر من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبته وإلى مراعاته، أو متكلف متواجد من أهل التصوف يرائي بالوجد والرقص وتمزيق الثياب، فكل ذلك مشوشات. فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى ففي هذه الشروط نظر للمستمع.

الأدب الثاني: هو نظر الحاضرين أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر، والمريد الذي يستضر بالسماع أحد ثلاثة: أقلهم درجة. وهو الذي لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع؛ فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه، فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو ولا من أهل الذوق فيتنعم بذوق السماع، فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو تضييع لزمانه.

الثاني: هو الذي له ذوق السماع ولكن فيه بقية من الحظوظ والاتفات إلى الشهوات والصفات البشرية ولم ينكسر بعد انكسار تؤمن غوائله، فربما يهيج السماع منه داعية اللهو والشهوة فيقطع عليه طريقه ويصده عن الاستكمال.

الثالث : أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حب الله تعالى ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل؛ فإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حق الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز فيكون ضرره من تلك الخواطر التي هي كفر أعظم من نفع السماع.

قال سهل رحمه الله: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. فلتا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوث بحب الدنيا وحب المحمدة والثناء، ولا لمن يسمع لأجل التلذذ والاستطابة بالطبع فيصير ذلك عادة له ويشغله ذلك عن عبادته ومراعاة قلبه وينقطع عليه طريقه. فالسماع مزلة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه. قال الجنيد: رأيت إبليس في النوم فقلت له هل تظفر من أصحابنا بشيء? قال: نعم في وقتين، وقت السماع ووقت النظر فإني أدخل عليهم به. فقال بعض الشيوخ: لو رأيته أنا لقلت له ما أحمقك من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر كيف تظفر به? فقال الجنيد: صدقت.

الأدب الثالث: أن يكون مصغياً إلى ما يقول القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد. مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره، متحفظاً عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم. بل يكون ساكن الظاهر، هادئ الأطراف متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب، ويجلس مطرقاً رأسه، كجلوس في فكر مستغرق لقلبه، متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة، ساكناً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بد فإن غلبه الوجد وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم. ومهما رجع إليه الاختيار فليعد إلى هدوئه وسكونه. ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال انقطع وجده على القرب ولا أن يتواجد خوفاً من أن يقال هو قاسي القلب عديم الصفاء والرقة.

حكى أ، شاباً كان يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوماً؛ إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان بعد ذلك يضبط نفسه حتى يقطر من كل شعرة منه قطرة ماء ولا يزعق، فحكى أنه اختنق يوماً لشدة ضبطه لنفسه فشهق شهقة فانشق قلبه وتلفت نفسه. وروي أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم ثوبه أو قميصه فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل له: مزق لي قلبك ولا تمزق ثوبك. قال أبو القاسم النصراباذي لأبي عمرو بن عبيد أنا أقول: إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوال يقول خيراً لهم من أن يغتابوا؛ فقال أبو عمرو: الرياء في السماع وهو أن ترى من نفسك حالاً ليست فيك شر من أن تغتاب ثلاثين سنة أو نحو ذلك.

فإن قلت: الأفضل هو الذي لا يحركه السماع ولا يؤثر في ظاهره أو الذي يظهر عليه? فاعلم أن عدم الظهور تارة يكون لضعف الوارد من الوجد فهو نقصان، وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن لكن لا يظهر لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال، وتارة يكون لكون حال الوجد ملازماً ومصاحابً في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال. فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده فمن هو في وجد دائم فهو المرابط للحق والملازم لعين الشهود؛ فهذا لا تغيره طوارق الأحوال ولا يبعد أن تكون الإشارة بقول الصديق رضي الله عنه: كنا كما كنتم ثم قست قلوبنا، معناه قويت قلوبنا واشتدت فصارت تطيق ملازمة الوجد في كل الأحوال فنحن في سماع معاني القرآن على الدوام فلا يكون القرآن جديداً في حقنا طارئاً علينا حتى تتأثر به. فإذاً قوة الوجد تحرك وقوة العقل والتماسك تضبط الظاهر، وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك فلا تظنن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجداً من الساكن باضطرابه، بل رب ساكن أتم وجداً من المضطرب. فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء" إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة. وقال أبو الحسن محمد بن أحمد وكان بالبصرة: صحبت سهل بن عبد الله ستين سنة فما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر أو القرآن، فلما كان في آخر عمره قرأ رجل بين يديه: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" الآية فرأيته قد ارتعد وكاد يسقط، فلما عاج إلى حاله سألته عن ذلك فقال: نعم يا حبيبي قد ضعفنا. وكذلك سمع مرة قوله تعالى: "الملك يومئذ الحق للرحمن" فاضطرب فسأله ابن سالم وكان من أصحابه، فقال: قد ضعفت. فقيل له: فإن كان هذا من مضعف فما قوة الحال فقال. أن لا يرد عليه وارد إلا وهو يلتقيه بقوة حاله، فلا تغيره الواردات وإن كانت قوية. وسبب القدرة على ضبط الظاهر مع وجود الوجد استواء الأحوال بملازمة الشهود. كان حكي عن سهل رحمه الله تعالى أنه قال: حالتي قبل الصلاة وبعدها واحدة، لأنه كان مراعياً للقلب حاضر الذكر مع الله تعالى في كل حال. فكذلك يكون قبل السماع وبعده. إذ يكون وجده دائماً، وعطشه متصلاً، وشربه مستمراً، بحيث لا يؤثر السماع في زيادته. كما روى أن ممشاد الدينوري أشرف على جماعة فيهم قوال فسكنوا فقال: ارجعوا إلى ما كنتم فيه فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم. وفضل العلم أتم من فضل الوجد.

فإن قلت: فمثل هذا لم يحضر السماع? فاعلم أن من هؤلاء من ترك السماع في كبره وكان لا يحضر إلا نادراً لمساعدة أخ من الإخوان وإدخالاً للسرور على قلبه؛ وربما حضر ليعرف القوم كمال قوته فيعلمون أنه ليس الكمال بالوجد الظاهر؛ فيتعلمون منه ضبط الظاهر عن التكلف وإن لم يقدروا على الإقتداء به في صيرورته طبعاً لهم. وإن اتفق حضورهم مع غير أبناء جنسهم فيكونون معهم بأبدانهم نائين عنهم بقلوبهم وبواطنهم. كما يجلسون من غير سماع مع غير جنسهم بأسباب عارضة تقتضي الجلوس معهم. وبعضهم نقل عنه ترك السماع ويظن أنه كان سبب تركه استغناءه عن السماع بما ذكرناه. وبعضهم كان من الزهاد ولم يكن له حظ روحاني في السماع ولا كان من أهل اللهو، فتركه لئلا يكون مشغولاً بما لا يعنيه. وبعضهم تركه لفقد الإخوان. قيل لبعضهم لم لا تسمع? فقال: ممن ومع من?

الأدب الرابع: أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح فيجوز تحريكه. ولو كان ذلك حراماً لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله وهم يزفنون هذا لفظ عائشة رضي الله عنها في بعض الروايات. وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا لما ورد عليهم سرور أوجب ذلك؛ وذلك في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها على بن أبي طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فتشاحوا في تربيتها فقال لعلي "أنت مني وأنا منك" فحجل علي وقال لجعفر "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل وراء حجل علي وقال لزيد "أنت أخوناً ومولانا" فحجل زيد وراء حجل جعفر، ثم قال عليه السلام "هي لجعفر لأن خالتها تحته والخالة والدة" وفي رواية أنه قال لعائشة رضي الله عنها "أتحبين أن تنظري إلى زفن الحبشة" والزفن والحجل هو الرقص. وذلك يكون لفرح أو شوق فحكمه حكم مهيجه، إن كان فرحه محموداً والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، وإن كان مباحاً فهو مباح، وإن كان مذموماً فهون مذموم. نعم لا يليق اعتياد ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة اللعب واللهو في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدي به لئلا يصغر في أعين الناس فيترك الإقتداء به.

وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار، و لا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سكر الوجد عيه، أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه، وتكون صورته صورة المكره إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفس، فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين، ولو كلف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختياري، فليس كل فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه، فالتنفس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلف الإنسان أن يمسك النفس ساعة لاضطر من باطنه إلى أن يختار التنفس. فكذلك الزعقة وتمزيق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم. فقد ذكر عند السري حديث الوجد الحاد الغالب فقال: نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يدري. فروجع فيه واستبعد أن ينتهي إلى هذا الحد فأصر عليه ولم يرجع. ومعناه: أنه في بعض الأحوال قد ينتهي إلى هذا الحد في بعض الأشخاص.

فإن قلت: فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة? فاعلم أن ذلك مباح إذا قطع قطعاً مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات. فإن الكرباس يمزق حتى يخاط منه القميص، ولا يكون ذلك تضييعاً لأنه تمزيق لغرض. وكذلك ترقيع الثياب لا يمكن إلا بالقطع الصغار وذلك مقصود، والتفرقة على الجميع ليعم ذلك الخير مقصود مباح، ولكل مالك أن يقطع كرباسه مائة قطعة ويعطيها لمائة مسكين، ولكن ينبغي أن يتكون القطع بحيث يمكن أن ينتفع بها في الرقاع. وإنما منعنا في السماع التمزيق المفسد للثوب الذي يهلك بعضه بحيث لا يبقى منتفعاً به فهو تضييع محض لا يجوز بالاختيار.

الأدب الخامس: موافقه القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من الموافقة، فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته. أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتمزيق؛ فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذا المخالفة موحشة ولكل قوم رسم، ولا بد من مخالفة الناس بأخلافهم كما ورد في الخبر، لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن العشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة. وقول القائل: إن ذلك بدعة لم يكن في الصحابة? فليس كل ما يحكم بإباحته منقولاً عن الصحابة رضي الله عنهم، وإنما المحذور ارتكاب بدعة تراغم سنة مأثورة، ولم ينقل النهي عن شيء من هذا.

والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب بل كان الصحابة رضي الله عنهم لا يقومون لرسول الله في بعض الأحوال كما رواه أنس رضي الله عنه، ولكن إذا مل يثبت فيه نهي عام فلا نرى به بأساً في البلاد التي جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام، فإن المقصود منه الإحترام والإكرام وتطييب القلب به. وكذلك سائر أنواع المساعدات إذا قصد بها تطييب القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها، بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فهي نهي لا يقبل التأويل، ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد هو الذي يلوح للجميع منه أثر التكلف. ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محك للصدق والتكليف.

سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال: صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالاً غير أضداد.

فإن قلت: فما بال الطباع تنفر عن الرقص ويسبق إلى الأوهام أنه باطل ولهو ومخالف للدين فلا يراه ذو جد في الدين إلا وينكره? فاعلم أن الجد لا يزيد على جد رسول الله . وقد رأى الحبشة يرفنون المسجد وما أنكره لما كان في وقت لائق به وهو العيد، ومن شخص لائق به وهو العيد، ومن شخص لائق به وهم الحبشة. نعم نفرة الطباع عنه، لأنه يرى غالباً مقروناً باللهو واللعب، واللهو واللعب مباح ولكن للعوام من الزنوج والحبشة ومن أشبههم. وهو مكروه لذوي المناصب لأنته لا يليق بهم، وما كره لكونه غير لائق بمنصب ذي المنصب فلا يجوز أن يوصف بالتحريم، فمن سأل فقيراً شيئاً فأعطاه رغيفاً كان ذلك طاعة مستحسنة، ولو سأل ملكاً فأعطاه رغيفاً أو رغيفين لكان ذلك منكراً عند الناس كافة، ومكتوباً في تواريخ الأخبار مكن جملة مساوية ويعير به أعقابه وأشياعه، ومع هذا فلا يجوز أن يقال ما فعله حرام لأنه من حيث إنه أعطى خبزاً للفقير حسن، ومن حيث أنه بالإضافة إلى منصبه كالمنع بالإضافة إلى الفقير مستقبح، فكذلك الرقص وما يجري مجراه من المباحات، ومباحات العوام سئيات الأبرار، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولكن هذا من حيث الالتفات إلى المناصب. وأما إذا نظر إليه في نفسه وجب الحكم بأنه هو في نفسه لا تحريم فيه والله أعلم، فقد خرج من جملة التفصيل السابق أن السماع قد يكون حراماً محضاً، وقد يكون مباحاً. وقد يكون مكروهاً، وقد يكون مستحباً.

أما الحرام: فهو لأكثر الناس من الشبان ومن غلبت عليهم شهوة الدنيا فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة.

وأما المكروه: فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين ولكنه يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو.

وأما المباح: فهو لم لا حظ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن.

وأما المستحب: فهو لمن غلب عليه حب الله تعالى ولم يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة والحمد الله وحده وصلى الله على محمد وآله.