إحياء علوم الدين/كتاب آداب تلاوة القرآن/الباب الرابع



الباب الرابع

في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل


لعلك تقول: عظمت الأمر فيما سبق في فهم أسرار القرآن وما ينكشف لأرباب القلوب الزكية من معانيه فكيف يستحب ذلك وقد قال "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"? وعن هذا شنع أهل العلم بظاهر التفسير على أهل التصوف من المقصرين المنسوبين إلى التصوف في تأويل كلمات في القرآن على خلاف ما نقل عن ابن عباس وسائر المفسرين وذهبوا إلى أنه كفر فإن صح ما قاله أهل التفسير فما معنى فهم القرآن سوى حفظ تفسيره? وإن لم يصح ذلك فما معنى قوله "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"? فاعلم أن من زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، ولكنه مخطىء في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعاً لأرباب الفهم قال علي رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن. فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم? وقال "إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً" ويروى أيضاً عن ابن مسعود موقوفاً عليه وهو من علماء التفسير.

فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع? وقال علي كرم الله وجهه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب. فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار? وقال أبو الدرداء. لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً. وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر. وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم. ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع. وترديد رسول الله "بسم الله الرحمن الرحيم عشرين مرة" لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها وإلا فترجمتها وتفسيرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن. وذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر. وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته: وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها. والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن. ومجرد ظاهره التفسير لا يشير إلى ذلك، بل كل ما أشكل فيه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها. فكيف يفي بذلك ترجمة ظاهره وتفسيره? ولذلك قال "اقرءوا القرآن والتمسوا غرائبه" وقال في حديث علي كرم الله وجهه "والذي بعثني بالحق نبياً ليفترقن أمتي عن أصل دينها وجماعتها على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة ومضلة يدعون إلى النار فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله عز وجل فإن فيه نبأ من كان قبلكم ونبأ ما يأتي بعدكم وحكم ما بينكم، من خالفه من الجبابرة قصمه الله عز وجل ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله عز وجل وهو حبل الله المتين ونوره المبين وشفاؤه النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستقيم ولا تتقضي عجائبه ولا بخلقه كثرة الترديد" الحديث وفي حديث حذيفة "لما أخبره رسول الله بالاختلاف والفرقة بعده قال: فقلت يا رسول الله فماذا تأمرني إن أدركت ذلك? فقال: تعلم كتاب الله واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه ذلك ثلاثاً، فقال ثلاثاً.

تعلم كتاب الله عز وجل واعمل بما فيه ففيه النجاة" وقال علي كرم الله وجهه: من فهم القرآن فسر به جمل العلم، أشار به إلى أن القرآن يشير إلى مجامع العلوم كلها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" يعني الفهم في القرآن. وقال عز وجل "ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً" سمى ما آتاهما علماً وحماً وخصص ما انفرد به سليمان بالتفطن له باسم الفهم وجعله مقدماً على الحكم والعلم. فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه. فأما قوله : "من فسر القرآن برأيه" ونهيه عنه وقول أبي بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي? إلى غير ذلك مما ورد في الأخبار والآثار في النهي عن تفسير القرآن بالرأي، فلا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط والاستقلال بالفهم. أو المراد به أمراً آخر. وباطل قطعاً أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه لوجوه أحدها أنه يشترط أن يكون ذلك مسموعاً من رسول الله ومسنداً إليه وذلك مما لا يصادف إلا في بعض القرآن. فأما ما يقوله ابن عباس وابن مسعود من أنفسهم فينبغي أن لا يقبل ويقال هو تفسير بالرأي لأنهم لم يسمعوه من رسول الله وكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. والثاني أن الصحابة والمفسرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات فقالوا فيها أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها، وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان الواحد مسموعاً لرد الباقي فتبين على القطع أن كل مفسر قال في المعنى بما ظهر له باستنباطه، حتى قالوا في الحروف التي في أوائل السور سبعة أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها فقيل: إن "الر" هي حروف من الرحمن، وقيل إن الألف الله واللام لطيف والراء رحيم وقيل غير ذلك. والجمع بين الكل غير ممكن فكيف يكون الكل مسموعاً? والثالث أنه "دعا لابن عباس رضي الله عنه وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل ومحفوظاً مثله فما معنى تخصيصه بذلك? والرابع أنه قال عز وجل "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" فأثبت لأهل العلم استنباطاً. ومعلوم أنه وراء السماع. وجملة ما نقلناه من الآثار في فهم القرآن يناقض هذا الخيال فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله.

وأما النهي فإنه ينزل على أحد وجهين، أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا تارة يكون مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك ولكن يلبس به على خصمه. وتارة يكون مع الجهل ولكن إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسر برأيه أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وتارة قد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه مما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى الاستغفار بالأسحار فيستدل بقوله "تسحروا فإن في السحور بركة" ويزعم أن المراد به التسحر بالذكر وهو يعلم أن المراد به الأكل، وكالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله عز وجل "اذهب إلى فرعون إنه طغى" ويشير إلى قلبه ويومىء إلى أنه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع وهو ممنوع. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعاً أنها غير مرادة به. فهذه الفنون أحد وجهي المنعب من التفسير بالرأي.. ويكون المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح والرأي يتناول الصحيح والفاسد والموافق للهوى قد يخصص باسم الرأي. والوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم بظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من يفسر بالرأي.

والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ونحن نرمز إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولاً. ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب. أو يدعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك. فإن ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لابد منها للفهم. وما لابد فيه من السماع فنون كثيرة: منها الإيجار بالحذف والإضمار كقوله تعالى "وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها" معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، ولم يدر أنهم بماذا ظلموا غيرهم أو أنفسهم. وقوله تعالى "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" أي حب العجل، فحذف الحب وقوله عز وجل "إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات" أي ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى فحذف العذاب، وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة والموت وكل ذلك جائز في فصيح اللغة. وقوله تعالى "واسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها" أي أهل العير فالأهل فيهما محذوف مضمر. وقوله عز وجل "ثقلت في السموات والأرض" معناه خفيت على أهل السموات والأرض والشيء إذا خفي ثقل فأبدل اللفظ به وأقيم في مقام على وأضمر الأهل وحذف. وقوله تعالى "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" أي شكر رزقكم وقوله عز وجل "آتنا ما وعدتنا على رسلك" أي على ألسنة رسلك فحذف ألسنة وقوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" أراد القرآن وما سبق له ذكر. وقال عز وجل "حتى توارت بالحجاب" أراد الشمس وما سبق لها ذكر. وقوله تعالى "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" أي يقولون ما نعبدهم. وقوله عز وجل "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك" معناه لا يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك من حسنة فمن الله فإن لم يرد هذا كان مناقضاً لقوله "قل كل من عند الله" وسبق إلى الفهم منه مذهب القدرية. ومنها المنقول كقوله تعالى "وطور سينين" أي طور سيناء "سلام على آل ياسين" أي على الياس وقيل إدريس، لأن في حرف ابن مسعود "سلام على إدراسين" ومنها المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر كقوله عز وجل "وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن" وقوله عز وجل "قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم" معناه: الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا ومنها المقدم والمؤخر وهو مظنة الغلط كقوله عز وجل "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى" معناه لولا الكلمة وأجل مسمى لكان لزاماً ولولاه لكان نصباً كاللزام وقوله تعالى "ويسألونك كأنك حفي عنها" أي يسألونك عنها كأنك حفي بها وقول عز وجل "لهم مغفرة ورزق كريم كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" فهذا الكلام غير متصل وإنما هو عائد إلى قوله السابق "قل الأنفال لله والرسول - كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" أي فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راض بخروجك وهم كارهون فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره ومن هذا النوع قوله عز وجل "حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه" الآية. ومنها المبهم وهو اللفظ المشترك بين معان من كلمة أو حرف. أما الكلمة فكالشيء والقرين والأمة والروح ونظائرها قال الله تعالى "ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء" أراد به النفقة مما رزق وقوله عز وجل "وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء" أي الأمر بالعدل والاستقامة وقوله عز وجل "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء" أراد به من صفات الربوبية، وهو العلوم التي لا يحل السؤال عنها حتى يبتدىء بها العارف في أوان الاستحقاق. وقوله عز وجل "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" أي من غير خالق فربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء. وأما القرين فكقوله عز وجل "وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار" أراد به الملك الموكل به وقوله تعالى "قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان" أراد به الشيطان. وأما الأمة فتطلق على ثمانية أوجه، الأمة: الجماعة كقوله تعالى "وجد عليه أمة من الناس يسقون" وأتباع الأنبياء كقولك عن أمة محمد ورجل جامع للخير يقتدى به كقوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله" والأمة: الدين كقوله عز وجل "إنا وجدنا آباءنا على أمة" والأمة: الحين والزمان كقوله عز وجل "إلى أمة معدودة" وقوله عز وجل "وادكر بعد أمة" والأمة: القامة يقال فلان حسن الأمة أي القامة، وأمة: رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد قال "يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده" والأمة يقال هذه أمة زيد أي أم زيد. والروح أيضاً ورد في القرآن على معان كثيرة فلا نطول بإيرادها.

وكذلك قد يقع الإبهام في الحروف مثل قوله عز وجل "فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً" فالهاء الأولى: كناية عن الحوافر وهي الموريات أي أثرن بالحوافر نقعاً والثانية؛ كناية عن الإغارة وهي المغيرات صبحاً فوسطن به جمعاً جمع المشركون فأغاروا بجمعهم وقوله تعالى "فأنزلنا به الماء" يعني السحاب "فأخرجنا به من كل الثمرات" يعني الماء. وأمثال هذا في القرآن لا ينحصر. ومنها التدريج في البيان كقوله عز وجل "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إذ لم يظهر به أنه ليل أو نهار، وبان بقوله عز وجل "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" ولم يظهر به أي ليلة فظهر بقوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" وربما يظن في الظاهر الاختلاف بين هذه الآيات، فهذا وأمثاله مما لا يغني فيه إلا النقل والسماع فالقرآن من أوله إلى آخره غير خال عن هذا الجنس لأنه أنزل بلغة العرب فكان مشتملاً على أصناف كلامهم من إيجاز وتطويل وإضمار وحذف وإبدال وتقديم وتأخير، ليكون ذلك مفحماً لهم ومعجزاً في حقهم. فكل من اكتفى بفهم ظاهر العربية وبادر إلى تفسير القرآن ولم يستظهر بالسماع والنقل في هذه الأمور فهو داخل فيمن فسر القرآن برأيه. مثل أن يفهم من الأمة المعنى الأشهر منه فيميل طبعه ورأيه إليه فإذا سمعه في موضع آخر مال برأيه إلى ما سمعه من مشهور معناه وترك تتبع النقل في كثير من معانيه فهذا ما يمكن أن يكون منهياً عنه دون التفهم لأسرار المعاني - كما سبق - فإذا حصل السماع بأمثال هذه الأمور علم ظاهر التفسير وهو ترجمة الألفاظ. ولا يكفي ذلك في فهم حقائق المعاني. ويدرك الفرق بين حقائق المعاني وظاهر التفسير بمثال: وهو أن الله عز وجل قال "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فظاهره تفسير واضح وحقيقة معناه غامض. فإنه إثبات للرمي ونفي له. وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمي من وجه ولم يرم من وجه ومن الوجه الذي لم يرم رماه الله عز وجل. وكذلك قال تعالى "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم" فإذا كانوا هم المقاتلين كيف يكون الله سبحانه هو المعذب? وإن كان الله تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال? فحقيقة هذا يستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير وهو أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة الحادثة. ويفهم وجه ارتباط القدرة بقدرة الله عز وجل حتى ينكشف - بعد إيضاح أمور كثيرة غامضة - صدق قوله عز وجل - "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" ولعل العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدماته ولواحقه لانقضى العمر قبل استيفاء جميع لواحقه وما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك. وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب. ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه. فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً فأسرار كلمات الله لا نهاية لها فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل. فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير وظاهر التفسير لا يغني عنه. ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" أنه قيل له اسجد واقترب فوجد القرب ف يالسجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض؛ فإن الرضا والسخط وصفان ثم زد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات فقال "أعوذ بك منك" ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله "لا أحصي ثناء عليك" ثم علم أن ذلك قصور فقال "أنت كما أثنيت على نفسك" فهذه خواطر تفتح لأرباب القلوب. ثم لها أغوار وراء هذا وهو فهم معنى القرب واختصاصه بالسجود ومعنى الاستعاذة من صفة بصفة ومنه به. وأسرار ذلك كثيرة: ولا يدل تفسير ظاهر عليه وليس اللفظ هو مناقضاً لظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر والله أعلم. تم كتاب: آداب التلاوة. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وعلى كل عبد مصطفى من كل العالمين وعلى آل محمد وصحبه وسلم.

يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب: الأذكار والدعوات. والله المستعان لا رب سواه.